الزعيم الروحي والشعبي
في الشعراني تمثلت خصائص الزعيم الشعبي والمكافح على أكمل ما تكون هذه الخصائص من قوة نفسية متمردة على الظلم، وقوة بيانية تثير العواطف، وتلهب الحس، وفوق هذا وذاك الحاسة الشعبية الساحرة التي تشعر بأحاسيس الجماهير، وتتفاعل معها — حتى كأنها منها — وهي تقودها وتهيمن عليها.
وفي الشعراني تمثلت خصائص الزعيم الديني الملهم على أوضح ما تكون تلك الخصائص، من قوة إيمانية لا يرهبها الظلم، ولا ينال منها الإغراء، وقوة أخلاقية لا تلين للشهوات، ولا تميل مع الأهواء، وفوق هذا وذاك ذلك السحر الصوفي الأخاذ الذي يضفي على صاحبه هالات القداسة، وأضواء الحب والإجلال.
وقل بين رجال التاريخ من جمع بين هذين اللونين من ألوان الزعامة، فلا غرو إذا رأينا الشعراني يظفر بين معاصريه بالقيادة العامة التي لا تطاولها زعامات، ولا تدنو منها مقامات.
ولقد كان موقف الشعراني في وجه القوة التركية، ممثلًا في الولاة والوزراء، البداية الحقيقية لبناء الشخصية المصرية المستقلة، التي توارت طويلًا تحت حكم المماليك والأتراك، حتى وجدت في الشعراني فجرها وصاحبها، فتركزت حوله آمالها وأمانيها، وأخذت تتكون حوله شيئًا فشيئًا أولى المجموعات الشعبية المصرية بخصائصها ومميزاتها؛ لتأخذ دورها التاريخي الذي تجلَّى مشرقًا غلابًا خلال حملة نابليون على مصر وما تلاها من أحداث.
وحول الشعراني أيضًا تركزت الآمال في نهضة دينية تعيد للدين شبابه الأول، وقداسته السابقة، وحرارته الإيمانية التي أضعفتها أحداث التاريخ، ونال منها جمود العلماء، وجهل الجماهير.
وكان من زكاة هذه الزعامة الشعبية أنه أعرض عن الوظائف الحكومية؛ لأنه ثائر، ولأنه زعيم قائد، والوظائف الحكومية دائمًا تنال من ثورة الزعيم كما تنال من مكانته.
وكان من علامات النجاح لهذه الزعامة الدينية أنه ابتعد بزاويته عن الأزهر، وبذلك أنقذها من الجمود الفكري والجدل اللفظي الذي خيم عليه في تلك العصور، كما حرر أتباعه وتلامذته من أساطير أدعياء التصوف ومباذلهم، ليرتفع بهم إلى جوهر الدين، وليعود بهم إلى صفائه الأول، وانطلاقه العلمي، وجهاده العملي، وغايته المقدسة التي تهدف إلى خير الإنسانية بتلقينها أسمى المبادئ الأخلاقية، وأنبل الفضائل الاجتماعية.
وجهاد الشعراني الديني في سبيل تحرير العقول الإسلامية من الجمود والأساطير لم يشغله يومًا عن جهاده الشعبي في سبيل إنقاذ الجماهير من ظلم الولاة واستعباد الأمراء.
وبذلك ربط الشعراني بين الدين والدنيا، وأحيا الصلة التي لا تنفصم بين رسالة الإسلام التعبدية العلمية ورسالته السياسية الشعبية.
هاجم الفقهاء وأدعياء التصوف باسم الدين وباسم الجماهير الإسلامية، وكافح الولاة والأمراء باسم الدين أيضًا، ولحساب الكتلة الشعبية؛ لأن هدف المجاهد الإسلامي والقائد الشعبي هدف موحد مشترك.
يقول الشعراني: «هاكم السادة العلماء، للواحد منهم عدة وظائف: هو واعظ في المسجد، وموظف في الحكومة، وطبيب للعائلة، ولا يقوم بإحدى هذه الوظائف على الوجه الذي يرضي الله، بل هي سبيل للمال الحلال أو الحرام. لقد عزمنا نحن المتصوفة على رفض الخدمة الحكومية لنتفرغ لخدمة الناس كافة.»
ولا ينسيه هذا النقد العنيف للعلماء الذين كان واجبهم الأول هو إرشاد الناس لا جمع المال من أوجهه الحلال والحرام، أن يوجه قلمه إلى نقد الظالمين من الحكام الذين أحالوا حياة الفلاح المصري إلى جحيم لا يطاق، يقول الشعراني: «كان الفلاح عند موته في أحلك الأيام السابقة يترك شيئًا من الدراهم لأولاده، ولكنه الآن بفعل الظالمين من الولاة لا يستطيع إلى ذلك سبيلًا. هو يبيع الحاصلات والبقرة والثور لتسديد ما عليه من الضرائب، وإذا لم يتمكن من تسديد ما عليه سجن مع زوجته وأولاده.»
ومن أجل تلك الصورة الصارخة لحياة الفلاح المصري المؤلمة، نذر الشعراني نفسه للجهاد في سبيل المظلومين كلية، أو كما يقول الشعراني: «لقد عزمنا نحن المتصوفة على رفض الخدمة الحكومية لنتفرغ لخدمة الناس كافة.»
ولقد ظل الشعراني إلى آخر نفس له في الحياة مجاهدًا لا تلين له قناة، ولا تخفض له راية، ولا تزلزله أحداث، ولا ترهبه قوى. إنه مجاهد في سبيل الله فلا يخشى سواه، شعاره دائمًا كلمته الخالدة: «لو انفض الناس جميعًا من حولي واهتزت شعرة مني؛ فقد كفرت بالله.»