الشعراني والخواص
الخواص رجال من رجال الله، وعلم من الأعلام الهداة، ومحجة ومنارة من المنارات التي يهبها الله لعباده لتكون للسالكين إليه نورًا وسلمًا.
ولكل رجل من رجال الله مقام، ولكل رجل من رجال الله رسالة في الحياة، فمنهم من رسالته في التربية والتوجيه القلم والبيان، ومنهم من رسالته الكرامات وخوارق العادات للتثبيت واليقين، ومنهم من رسالته تربية المريدين، ومن رسالته تربية العارفين.
والمربون للعارفين هم الكمل السادة، ومنهم من يظهره الله، ومنهم من يحجبه، ومنهم بين هؤلاء وهؤلاء.
فالخواص في الطريق وعند أهله كامل من السادة، وإن جهله الناس، وإن أنكره العوام؛ العوام رغم علمهم، ورغم ما بأيديهم من أقلام وكتب.
الخواص كامل من السادة، وحجته على مكانته عند أهل الطريق معروفة واضحة، وحجته عند غيرهم أنه صنع العارف بالله عبد الوهاب الشعراني.
ولقد صنع الخواص عبد الوهاب الصوفي، وعبد الوهاب خلد بتصوفه؛ أي الجانب الذي تولاه الخواص، وحسب الخواص هذا عند من لا يعرفه.
ولقد عاش الشعراني طوال حياته الصوفية وعاءً من أوعية الخواص، فالخواص إمامه وهاديه، وأستاذه وملقنه ومربيه.
والخواص هو معراج الشعراني وسلَّمه الذي صعد عليه إلى أبواب الفتح، وسموات المنح، ومناطق الإلهام والنور، وليس في هذا ما ينقص الشعراني، بل في هذا مفخرته؛ لأن به كان خلوده.
وصلة الخواص بالشعراني هي آية الآيات على مقام الشيخ في الطريق، وهي آية كونية على مقام العلم اللدني؛ فلقد كان الخواص أميًّا، وكان الشعراني عالمًا، ذلك هو حكم الظاهر. أما حكم الباطن فلقد كان الخواص عالمًا، وكان الشعراني أميًّا.
علم الأول كان الوهب، وعلم الثاني كان الكتب، والعلم الحقيقي عند الصوفية العلم الذي يقول صاحبه بملء فيه: إنه علمي. هو علوم الفتح؛ لأنها خاصة بصاحبها. أما علوم الكسب فهي ليست علوم صاحبها؛ إنما هي علوم الكتب، أو كما يقول الخواص: «علوم الرجل حقيقة» هو ما لم يُسبق إليه، وأما من كان علمه مستفادًا من النقل؛ فليس ذلك له بعلم، إنما هو صاحب لصاحب العلم.
والشعراني يقول: إن من منن الله عليه أن كان وصوله وفتحه على يد أمي لا يعرف القراءة والكتابة، ويقول في وصف هذا الأمي: «رجل غلب عليه الخفاء فلا يكاد يعرفه بالولاية والعلم إلا العلماء العاملون؛ لأنه رجل كامل عندنا بلا شك، والكامل إذا بلغ مقام الكمال في العرفان صار غريبًا في الأكوان.»
ولنترك الشعراني يحدثنا بحديثه الروحي العذب عن وصوله إلى معارج المعارف العلوية على يدي شيخه، ثم يحدثنا عن بحار علوم شيخه ومرشده:
«وكانت مجاهداتي على يدي سيدي علي الخواص كثيرة متنوعة، منها أنه أمرني أول اجتماعي عليه ببيع جميع كتبي والتصدق بثمنها على الفقراء، ففعلتُ — وكانت كتبها نفيسة مما يساوي عادة ثمنًا كثيرًا — فبِعْتُها وتصدقتُ بثمنها، فصار عندي التفات إليها لكثرة تعبي فيها وكتابة الحواشي والتعليقات عليها، حتى صرت كأنني سُلبت العلم، فقال لي: اعمل على قطع التفاتك إليها بكثرة ذكر الله — عز وجل — فإنهم قالوا: ملتفت لا يصل، فعمِلتُ على قطع الالتفات إليها مدة حتى خلصت بحمد الله من ذلك.
ثم أمرني بالعزلة عن الناس مدة حتى صفا وقتي، وكنت أهرب من الناس وأرى نفسي خيرًا منهم، فقال لي: اعمل على قطع أنك خير منهم، فجاهدت نفسي حتى صرت أرى أرذلهم خيرًا مني.
ثم أمرني بالاختلاط بهم، والصبر على أذاهم، وعدم مقابلتهم بالمثل، فعملت على ذلك حتى قطعته، فرأيت نفسي حينئذ أنني صرتُ أفضل مقامًا منهم، فقال لي: اعمل على قطع ذلك أيضًا، فعملت حتى قطعته.
ثم أمرني بالاشتغال بذكر الله سرًّا وعلانية والانقطاع بالكلية إليه، وكل خاطر خطر لي مما سوى الله — عز وجل — صرفته عن خاطري فورًا، فمكثت على ذلك عدة أشهر.
ثم أمرني بترك أكل الشهوات مطلقًا فتركتها، واكتفيت بما يسد الرمق ويمسك الحياة، حتى صرت أكاد أصعد بالهمة في الهواء، وصارت العلوم النقلية تزاحم العلوم الوهبية، ثم أمرني بالتوجه إلى الله — تبارك وتعالى — في أن يُطلعني على أدلتها الشرعية، فلما اطلعت عليها وصار لوح قلبي ممسوحًا من العلوم النقلية لاندراجها تحت الأدلة، ترادفت عليَّ حينئذ العلوم الوهبية.»
ثم يتحدث الشعراني حديثًا طويلًا عن ترقُّبه للواردات والإلهامات والفتح، وكيف أمره شيخه الخواص بضروب من المجاهدات لصفاء قلبه، واستكمال قطع علائقه الدنيوية، وأخيرًا أخبره شيخه بأن بداية فتحه ستكون على شاطئ النيل في مكان حدده له، فإذا انتهى الشعراني من ذلك قال: «فبينما أنا واقف على ساحل النيل عند بيوت البرابرة وسواقي القلعة أنتظر وأترقب، إذا بأبواب من العلوم اللدنية انفتحت لقلبي، كل باب أوسع مما بين السماء والأرض، فصرت أتكلم على معاني القرآن والحديث، واستنبط منها الأحكام وقواعد النحو والأصول وغير ذلك من العلوم، حتى استغنيت عن النظر في كتب المؤلفين، فكتبت على ذلك نحو مائة كراسة، فلما عرضتها على سيدي علي الخواص أمرني بغسله وقال: هذا علم مخلوط بفكر وكسب، وعلوم الوهب منزهة عن مثل ذلك، فغسلتها، وأمرني بالعمل على تصفية القلب من شوائب الفكر، وقال: بينك وبين علم الوهب الخالص ألف مقام، فصرت أعرض عليه كل شيء فتح به عليَّ وهو يقول: أعرض عن هذا، واطلب ما فوقه، إلى أن كان ما كان، فهذا صورة فتحي بهذه المجاهدة على يدي شيخي. فالحمد لله رب العالمين.»
ثم يصور لنا الشعراني بعد ذلك فيما يصور، من صلاته بالخواص، بحر العلم الخاص بشيخه، فيصفه بأنه مبسوط الرحاب، عميق القاع، أمواجه الكشف الصحيح، وعبابه التعريف الإلهي.
ولقد غطس الشعراني — كما يقول — في بحر شيخه خمس مرات — ومن حق المريد أن يغترف من بحر المعرفة الخاص بشيخه — فلمَّا همَّ بالسادسة استحال البحر حجرًا.
وقد وجد الشعراني في كل مرة غاص فيها صيدًا ثمينًا، صيدًا هو خزانة من خزائن العلم اللدني.
ففي المرة الأولى وجد خزانة على بابها قفل، ففتحها بقول: «لا إله إلا الله»، فوجد فيها عجبًا، وجد العلوم التي برزت من اللوح المحفوظ إلى هذا العالم على اختلاف طبقاته، من الصديقية الكبرى إلى آخر درجات الولاية.
وتلك الخزانة تشتمل على علوم لا تحصى ولا تدرك إلا بتعريف من الله — عز وجل — ووجد الشعراني علوم تلك الخزانة مرتبة منسقة، وعلى كل علم اسمه.
ولقد أخرج الشعراني كما يقول جميع تلك العلوم من الخزانة، وجعلها من جملة ذخائره ومعارفه، وأضافها إلى ما عنده.
فلما غطس في المرة الثانية وجد خزانة أخرى على بابها قفلان، ففتحها باسم «الله»، فوجد فيها جملة من آيات القرآن العظيم من أول سورة الحاقة إلى آخر القرآن، ووجد تفسير كل آية من تلك الآيات مكتوبًا، وهو علم لا تدركه العقول، ولا يستفاد من كتب.
وأخرج الشعراني أيضًا علوم تلك الخزانة وأضافها إلى معارفه وذخائره، وضمها إلى ثروته وكنوزه.
وهكذا يمضي الشعراني مصورًا لنا بحار شيخه ومعارفه اللدنية، شارحًا للخزن المملوءة بالكنوز التي عثر عليها في تلك البحار، وكيفية فتحها، وما فيها من علوم استحوذ عليها واستفاد بها، وهو تصوير برعت فيه الأقلام الصوفية، ومرن عليه الذوق الصوفي.
والمراد بالخزن وأقفالها وما كتب عليها وطرائق فتحها هو — فيما نعتقد — الرمز إلى أسرار الذكر، وأسرار أسماء الله الحسنى، وفتوحات تلاوتها.
والذكر هو سر التصوف وروحه، كما أنه عندهم بداية الإلهام ونهايته، وليس بصوفي من غفل قلبه لحظة عن ذكر الله، أو التفكير في آياته.
وعلى هذا النهج تصوف الشعراني، فكان تصوفه بداية خلوده، وكان تصوفه فتحًا ربانيًّا — كما يقولون — لعصره والعصور المتعاقبة.
فلقد ربَّى الشعراني آلافًا من المريدين والتلاميذ المعاصرين له، وجعل منهم مدرسة إيمانية تذكر الله، وتدعو إلى هداه، ولا تزال كتبه تربي وتمنح الهدى واليقين للآلاف من التلاميذ والمريدين.