الشعراني والخليفة
وجاء السلطان سليم، خليفة العالم الإسلامي، إلى مصر زائرًا، فكان يومه عيدًا، وكانت أيامه بمصر تاريخًا، وكان القرب منه أو التشرف برؤيته عزًّا وجاهًا ومطلبًا عاليًا.
وحف به الأمراء، ولاذ به الكبراء، وهرع إليه العلماء والفقهاء، يأملون في القبول، ويرفعون آيات الولاء.
وبقي رجل واحد لا يسعى إلى أمير المؤمنين، ولا يمشي في الركاب، ولا يحني رأسه تلك الانحناءات الذليلة التي عرفت في المراسيم التركية.
وارتفع همس إلى السلطان سليم بتخلفه، وتضخم الهمس فغدا دويًّا، فاسم الشعراني يزاحم الشمس، فلا يمكن أن يختفي، ولا يمكن أن يتوارى، ولا يمكن ألا يلمس الزائر العظيم تخلفه.
وحدثت الكرامة أو حدثت الآية التي طالما أكرم الله بها رجاله وعباده الذين عفُّوا عن الدنيا، فسعت إليهم الدنيا.
أجل لقد سعت الدنيا، سعت الخلافة التركية بجلالها وبهائها إلى الرجل العابد القانت المتواضع المعرض عن الدنيا وأساليب الحياة.
سعى الخليفة العظيم إلى الصوفي العظيم، فكان ما بينهما رمزًا إلى الدنيا والآخرة، وبين دهشة الحاشية وعجب الأمراء وذهول العلماء والفقهاء، التمس السلطان سليم طريقه إلى الشعراني.
وكان يومًا عظيمًا تاريخيًّا للرجلين الكبيرين، ومن هذا اليوم لم يستطع حاكم في القاهرة أن يعصي للشعراني أمرًا، أو يرد له طلبًا.
وكان القضاء في مصر خلال تلك الحقبة من التاريخ للقاضي محيي الدين عبد القادر الأزبكي، وكان في طبعه حدة، فاصطدم بنائب السلطان سليم على مصر، فأهدر النائب دمه، وخصص جائزة لقتله.
واختفى القاضي طويلًا حتى إذا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت به حياته انطلق إلى الشعراني شاكيًا لائذًا، وتعهد للشعراني أن يقيم مسجدًا لله إن أنقذه من شر خصمه ونجاه من تلك المحنة.
وابتسم الشعراني وتناول عودًا رفيعًا من الأرض وقال له: اذهب فألقِ الحاكم بهذا العود، ولا تخش سوءًا ولا شرًّا.
فتردد القاضي وأذهله هذا الأمر، فقد تشفع له الأمراء والسادة فلم تقبل شفاعتهم، فكيف يستجيب الحاكم بعد ذلك، ولا شفاعة اليوم ولا وساطة إلا عود صغير من الشيخ.
ولاحظ أتباع الشيخ تردده فثار ثائرهم، وهتفوا به: اذهب وسترى عجبًا، فالشيخ لا يمزح وإن بدا الأمر شاذًّا غريبًا، وأسرار الشيخ ونفحاته لا تنكر ولا تجحد. ومضى القاضي على وجل للقاء الحاكم، حتى إذا دنا من مجلسه ألقى العود أمامه، وبين عجبه ودهشته خفَّ الباشا لاستقباله والاحتفاء به، وأعاده إلى منصبه، وأصدر أمرًا بالعفو عنه.
تلك رواية كتب المناقب، وفي رواية أخرى أن الشعراني التمس من السلطان سليم العفو عن القاضي المهدر الدم، فأجاب طلبه وقبل شفاعته.
وسواء كانت الرواية الأولى أو الثانية، فقد غدا القاضي يدين بحياته للشعراني، ويدين أيضًا ببناء مسجد لله يُخصص للشعراني ولمجالسه العلمية والتعبدية.
وابتاع القاضي أرض فضاء في أطراف حي باب الشعرية ليقيم فيها المسجد الذي وعد به، وقبل أن يبدأ القاضي في البناء عدا أحد الأمراء الأتراك على الأرض فاغتصبها، واعتزم أن يقيم عليها بيتًا له.
وتصدى للأمير التركي رجل من أصحاب الأحوال، فأنذره بسوء العاقبة إن لم يترك هذه الأرض التي قدر لها أن تكون مسجدًا لله، ومقرًّا للشعراني حيًّا وميتًا.
وضحك الأمير التركي، وأعلن لحاشيته وسط السخرية اللاذعة أنه لا يؤمن بالمجاذيب، ولا يعتقد في الكرامات، وأن الاهتمام بمثل هذه الأمور صغار لا يليق بالسادة الأمراء.
ومضى ركب الحياة، فإذا بالشلل يأخذ جسد الأمير بعد أيام، ثم يسلمه للموت ولم يمض أسبوع واحد على هذا العدوان.
وأسرع القاضي محيي الدين إلى الأرض، فشاد عليها مسجدًا عظيمًا فخمًا واسع الرحاب، هو المسجد الذي عرف في التاريخ باسم مسجد الشعراني، وابتنى في المسجد زاوية انتقل إليها الشعراني بأهله، بعد أن جعلها القاضي وقفًا عليه وعلى أسرته، وغدت الزاوية بعد ذلك جزءًا من تاريخ الشعراني؛ لأن بها كانت أعظم أيامه، ولأنها غدت من أعظم مراكز العلم والتعبد في العالم الإسلامي.
وحفر البناءون كثيرًا من الآبار لهذه الزاوية، ولكنهم لم يعثروا على الماء، فطلب الشعراني من شيخه «نور الدين الشوني» حلًّا لهذا الأمر، والشوني يتحدث عنه الرواة بأنه كان يجتمع برسول الله — صلوات الله عليه —يقظة ومنامًا.
وبعد أيام جاء نور الدين الشوني ليقول للشعراني بأن البئر يجب أن تُحفر في مكان حدده وعينه، وقال: إن هذا بناء عن إذن من رسول الله — صلوات الله وسلامه عليه.
وحفرت البئر فكان ماؤها سلسبيلًا عذبًا، حتى لقد تطايرت الشائعات بأن ماءها يتصل ببئر زمزم، وأقبلت الجماهير عليها التماسًا لبركات مائها وأسراره.