زاوية الشعراني
لعبت الزوايا والمساجد في تاريخ الإسلام دورًا كبيرًا خطيرًا، فقد كان المسجد مكتبة ومدرسة ومُصلًّى، كان معهدًا لتربية العقول، ومعبدًا لتطهير القلوب، بل لقد كان مسجد رسول الله — صلوات الله وسلامه عليه — في المدينة كلية حربية يتعلم فيها الصحابة — تحت رعاية نبيهم — القتال، من ضرب الرماح إلى رشق السهام.
والذين تربوا تحت ظلال المساجد في تاريخ الإسلام هم علماؤه وفقهاؤه، بل وفرسانه ومقاتلوه أيضًا.
ولقد خطا أحمد بن طولون خطوة أخرى في واجبات المساجد، فألحق بمسجده الكبير صيدلية تداوي المرضى، وتوزع الدواء بالمجان على الفقراء والمحتاجين، وبذلك غدت المساجد محور القوى الروحية والفكرية والبدنية في العالم الإسلامي، وهل ينسى تاريخ الإسلام، بل تاريخ الحضارة العالمية الأعمال الخالدة التي حققتها المدارس الكاملية والنظامية والطولونية والأزهر؟
فمن تلك المساجد شعت أنوار المعرفة التي حملت للعالم أزكى الحضارات، وأطهر الدراسات، أنوار المعرفة التي صاغت العقول الإسلامية، وأضاءت لها الحياة أكثر من عشرة قرون، ومكنت للقوة الإسلامية في الأرض حتى كانت وحدها صاحبة القول الفصل في شئون الكوكب الأرضي.
وزاوية الشعراني كانت في القرن العاشر الهجري منافسًا خطيرًا للأزهر، بل لقد كانت الناحية التعبدية فيها أكبر مما يطيق الأزهر، وكانت سبل العيش لطلابها أيسر وأهنأ. وزاوية الشعراني جزء لا يتجزأ من تاريخه، بل إن تاريخه ليفقد جانبًا مضيئًا ساحرًا لو أهملنا الحديث عنها.
والحديث عن زاوية الشعراني يترقرق ويتشعب لمن يريد أن يحيط بألوانها وصورها، بل هو حديث في حاجة إلى كتاب خاص، ودراسة مستقلة، فلقد نهضت تلك الزاوية بما يساوي جهد وزارتين من الوزارات التي نعرفها، أعني وزارتي الشئون والمعارف.
ونحن هنا نحاول أن نعطي صورة سريعة لحياة الشعراني داخل زاويته، وصورة سريعة لأثرها في المجتمع المصري.
حول الشعراني الزاوية التي بناها له القاضي محيي الدين إلى رباط للعباد، ومدرسة للعلم والتعليم، وزاوية للصوفيين المستجدين، ومسجد للصلاة وإقامة الشعائر، وتكية للفقراء والمحتاجين، وكان هو قطب الرحى لتلك الحركة الدائبة.
ولقد أوقف عليها القاضي محيي الدين أوقافًا وأرزاقًا كفلت الحياة لموظفيها من المؤذنين والفقراء والأئمة والخطباء.
ولكن الحياة قد اتسعت داخل الزاوية، فقد كفل اسم الشعراني لزاويته مكانة عالية، فأقبل عليها الراغبون من كل حدب ينسلون.
أقبل عليها الأمراء والسادة يوقفون عليها أملاكهم وأموالهم، ويقدمون إلى طلابها المنح والهدايا على اختلاف أنواعها.
وأقبل عليها آلاف المريدين والطالبين للعلم من الفقراء الذين أعسروا فلم يستطيعوا طلبًا للعلم، بل لم يستطيعوا الحياة الكريمة، فكفل لهم الشعراني داخل زاويته العلم، العلم بشقيه من تثقيف وتعبد، كما كفل لهم الحياة الكريمة بأوسع معاني تلك الكلمة.
حتى لقد أفسح للمتزوجين منهم مكانًا في زاويته، يقيمون فيه مع أولادهم وزوجاتهم طاعمين كاسين ممتعين، لا يحملون من هموم الرزق كثيرًا ولا قليلًا ما داموا قد انقطعوا للعلم، وما دامت أخلاقهم وعباداتهم مما يرضى عنه الله. ولقد بلغ عددُ طلاب الزاوية في أول أمرها مائتين، بينهم تسعة وعشرون كفيفًا.
ويحدثنا التاريخ حديثًا عجبًا عن ميزانية تلك الزاوية، وعن الخيرات والنعم التي تجري في ساحاتها، فلقد كان يُعدُّ لطلابها من الخُبْز كلَّ صباح إردب وثلث الإردب من أنقى أنواع القمح.
أما ميزانيتها عن عام: فعشرة قناطير من عسل النحل، وعشرين قنطارًا من عسل القصب، وأربعين إردبًّا من الفول، ومن الكشك سبعة، ومن الأرز مثلها، ومن البسلة والعدس خمسة وعشرين إردبًّا … وهكذا.
فإذا أقبل العيد؛ عيد الفطر، كانت ميزانيتها من الكعك خمسة أرادب غير الهدايا، ومن الجوز والبندق والخروب والتمر والزبيب والتين ما قُدِّر بخمسة قناطير، ومن الفواكه شيء لا يقع تحت حصر. ويكفي أن نذكر أن ميزانية الزاوية من البطيخ في العام كانت أكثر من ألفين.
ولم يقتصر الأمر على هذا النعيم فقط، بل شملت رعاية الشعراني مريديه وتلامذته في أوسع الآفاق، فهم أبناؤه وأحبابه في الله، ومن حقهم عليه أن يُدبِّر أمورهم كافة، ومن تدبير أمرهم أن ينظر في أمر استكمال دينهم، ومن كمال الدينِ الزواجُ؛ ولهذا زوَّج الشعراني في زاويته أربعين رجلًا من مريديه، قام عنهم بالمهر ونفقات الزواج، وحرص على تزويد زوجاتهم بكل شيء يخطر على العقل من شئون النساء ولوازمهن، حتى اللبان الشامي والحجازي والشمع والخضاب، وغرائب أنواع الزينة، وألوان العطور، وأدوات التطرية والتجميل.
ومن كمال الدين الحجُّ إلى بيت الله؛ ولهذا أرسل الشعراني أفواجًا من تلامذته إلى الأرض المقدسة، باذلًا في سبيل راحتهم والعناية بأمرهم مثل ما بذل في أمر زواجهم من الاهتمام العجيب بكل دقيقة وصغيرة، مما يدل على شفافية ذلك الروح الكبير الذي شمل حبُّه وحنانه كلَّ مَن أحاط به أو لاذ برحابه.
ولم تقف مكارم الشعراني عند هذا الحد، بل تحدثنا كتب المناقب بأنه كان يقوم بتزويد العلماء والفقهاء والمشايخ في مصر وغيرها بالغذاء والكساء والماء، حتى لكأن كل فقير من أهل العلم أمانة في عنقه. ويحدثنا الشعراني بأنه قد كسا بالثياب عددًا لا يحصيه عد، ولا يحيط به حصر من الشيوخ الفقراء آلافًا مؤلفة.
أما ضيوف الشعراني ورُوَّاده في زاويته، والذين قدروا في كتب التاريخ بحوالي مائة زائر يوميًّا، فقد كان الشيخ معهم سخي اليد، سخي القلب، سخي العاطفة.
ومع هذا العبء العظيم، وهذه النفقات الطائلة التي حمَلها الشعراني، لم يَغضْ نبع الخيرات في زاويته، بل كان دفَّاقًا جيَّاشًا دائمًا، وفي وسط هذا النعيم والخير المقيم، كان الشعراني يعيش يومه على جرعة من ماء وتمرات يُقمنَ صلبَه.
تلك هي الناحية المادية من زاوية الشعراني. أما الحياة الروحية فيها، فهي الوجه الأكثر وضاءة وإشراقًا؛ فلقد تحدَّث مؤرخوه من معاصريه بأن زاويته كانت أعظم المنارات العلمية والتعبدية في العالم الإسلامي خلال القرن العاشر الهجري.
فقلد كان الشعراني أوسع أهل عصره علمًا، وأعلاهم كعبًا في التصوف والنفحات اللدنية، كما كان ذروة في التعبد والخلق لا تطاولها ذروة. وبتلك العملاقية العلمية والروحانية التعبدية طبع الشعراني زاويته، وربَّى مريديه وتلامذته، فدرسوا على يديه العلوم الشرعية على اختلاف أنواعها، وتلقوا منه المعارف الصوفية على اتساع آفاقها وشمولها، ودقائق أسرارها، ومكارم أخلاقها.
وكان قراء القرآن الكريم فيها يواصلون القراءة ليلا ونهارًا حتى لا تخلو الزاوية دقيقة واحدة من قراءة القرآن.
وبجوار قراءة القرآن، المجالس العلمية، فلا يفرغ قارئ في الحديث حتى يبدأ قارئ في التفسير، وما ينتهي حتى يشرع ثالث في قراءة التصوف، ولا ينتهي حتى يليه قارئ في الفقه، وهكذا آناء الليل وأطراف النهار من غير انقطاع.
ويحدثنا المناوي وصاحب «طبقات الشاذلية» بأن الناس كانوا يسمعون لزاويته دويًّا كدوي النحل ليلًا ونهارًا.
وبجوار هؤلاء وهؤلاء كان العباد والذاكرون المنقطعون للذكر والعبادة، حتى ليقول الشبلي المؤرخ بأنه لم ير في مشارق الأرض ومغاربها خيرًا من زاوية الشعراني علمًا وفضلًا وتصوفًا وأدبًا.
ولقد أخرجت تلك الزاوية الخالدة أعظم علماء القرن العاشر الهجري، وأكبر متصوفيه. لقد كانت زاوية خالدة، وكانت زاوية الخالدين.