إلى الملأ الأعلى
حدثنا الشعراني عن سلوكه إلى الله على يد شيخه الخواص، وكيف أجلسه الخواص في محاريب الطهارة والتعبد، وأخذ عليه العهد ولقَّنه الذكْر، وأعطاه الورد، وأخلاه عما سوى الله، وأنبأه بأن الفتح الإلهي والهبات الربانية اللدنية ستكون بدايتها في مكان معلوم مُقدَّر بروضة المقياس على شاطئ النيل.
ثم حدثنا عن أحاسيسه القلبية في أيام ترقبه وانتظاره، وكيف تسللت العلوم الوهبية إلى قلبه فكتب منها ما شاء الله أن يكتب، ثم عرضها على شيخه فأنبأه بأنها لا تخلو من علوم ظاهرية، وطلب إليه محوها وانتظار علوم أكثر صفاء وثباتًا.
وتكرر الأمر بينه وبين شيخه حتى جاء الفتح الإلهي، وكانت بدايته أن أُلهِم علم آداب العبودية في يوم الاثنين، السابع عشر من شهر رجب، سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة للهجرة.
فلما عرض ما وهبه الله له في هذا اليوم على شيخه قال له: «تم أمرك، وعلا شأنك، وروي قلبك، فابقَ على ما تكتب.» فسجَّل الشعراني فتوحاته الأولى في كتابه «الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية».
وتوالت المنح والفتوحات على الشعراني، فقد تم أمره، وعلا قدره، وروي قلبه، وآن له أن يهب الفكر الإسلامي شيئًا مما منحه الله، فانطلق ينثر علومه في مجالسه العلمية، ويجعل من زاويته منارة عالمية، ومحفلًا من محافل العلم الكبرى، ومنهلًا عذبًا سلسبيلًا للأمة المحمدية.
ثم أقبل الشعراني على التحرير والتأليف في شتى فروع المعرفة، حتى وهب المكتبة الإسلامية أكثر من مائة كتاب في التصوف والفقه والأصول والتفسير والحديث والنحو والطب والكيمياء والأخلاق، وغيرها من ألوان العلوم والمعارف. وقد استغرق بعضها خمسة مجلدات، ووقع الكثير منها في مجلدين، وأكثر هذه المؤلفات لا يزال محفوظًا وموزعًا على دور الكتب في أرجاء العالم.
ولقد أحصى المستشرق «بروكلمان» أكثر من ستين كتابًا مخطوطًا متناثرة في دور العلم العالمية، ويذكر لنا علي مبارك باشا بأن الكتب التي رآها للشعراني أكثر من سبعين كتابًا.
وبلغ الشعراني في عصره مكانة علمية حسبُنا في الدلالة عليها أن أحد شانئيه كتب سؤالًا عن فقرات وردت في كتاب «العهود المحمدية» للشعراني، وقدمه إلى شيخ الإسلام الفتوحي الحنبلي، فامتنع الشيخ الفتوحي عن التعليق عليه قائلًا: «إن الشعراني قد أحاط من العلم بما لم نحط به، وقد قرأ من الكتب ما لا يَعرِف له اسمًا، وأنه لو ادَّعى تأليفها ما وجد في مصر منازعًا.» تلك لمحة عن مكانة الشعراني الذي قال له شيخه الأكبر علي الخواص: «تم أمرك، وعلا شأنك، وروي قلبك.»
وكان من تمام الأمر للشعراني أو من تمام المقابلة في حياته أن مكانته العلمية مشت جنبًا إلى جنب مع مكانته الدنيوية.
فقد أصبحت زاويته تسهم بنفوذها في توجيهات الحكم في مصر، بل وفي الإمبراطورية التركية بأسرها.
وبلغ من اعتزاز الشعراني بمكانته الدينية أن يأتي إليه الوزير الأعظم علي باشا قبيل سفره إلى تركيا ليقول له: «نحن مقربون للخليفة، فهل لك من حاجة ترفعها إليه؟» فيهتف الشعراني غاضبًا: «ألك حاجة عند الله؟ إننا مقربون إلى حضرته.»
ونرى حاكمًا من حكام مصر هو الأمير حسن بك صنجق يتتلمذ على الشعراني، ثم يقبل على حبه، ويقبل على درسه، حتى يلازمه في زاويته ليلًا ونهارًا تاركًا الإمارة والحكم.
ولكن الشعراني لا يرضى عن تلك الصحبة؛ لأن فيها استخفافًا بمصالح الرعية وهي أمانة في عنق الأمير، وواجبه الأول أن يتخصص لها، ويتفرغ لشئونها.
ولكن حب الأمير لشيخه الشعراني كان أكبر من حبه للإمارة وجاهها، والحكم وسلطانه ونفوذه، فعزَّ عليه وكبُر لديه أن يفارق الشعراني ومجالسه وما فيها من أنس وعلم وتقوى، فاعتزم أمرًا عجبًا سرُّه الأكبر يُلتمس لدى التصوف والمحبة في الله.
وفي اليوم التالي تجلى هذا الأمر، فمع الشمس فرَّق الأمير أمواله، وأعتق عبيده، وأوقف أملاكه على وجوه الخير، واستبقى من هذا الثراء العريض رخام بيت من بيوتاته، وكان تحفة نادرة، وقليلًا من المال، أما الرخام الفخم النادر والمال القليل فقد اعتزم الأمير أن يبني بهما ضريحًا ومزارًا لشيخه الشعراني وفاء وحبًّا.
وأقبل الأمير على أستاذه فقيرًا متجردًا ليسلك على يديه طريق الهدى واليقين بلا عائق من حكم، ولا مانع من إمارة.
وبكى الشعراني، فها هو رجل يترك من الدنيا شيئًا لم يتركه الشعراني، ويزهد زهدًا يتضاءل حياله كل زهد، ثم طلب من تلميذه أن يتريث قليلًا في بناء الضريح، حتى إذا أحس الشعراني بأن ساعة صعود روحه إلى باريها وهاديها قد دنت، طلب من الأمير أن يقيم الضريح الذي اعتزم إقامته.
ولما شيد الضريح وارتفعت منارته وانتهى البناءون من آخر قطعة فيه، في نفس اللحظة انعقد لسان الشعراني، وجمدت أطرافه؛ فقد استوفى أنفاسه.
وكانت وفاته في الثاني عشر من جُمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة للهجرة، وكانت آخر كلماته: أنا ذاهب إلى ربي الرحيم الكريم.