الحكومة الموطدة
تمهيد
استطاع محمد علي تذليل الصعوبات التي اعترضت الحكم منذ أن نُودي بولايته في مايو ١٨٠٥، إلى وقت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في سبتمبر ١٨٠٧، فتخطى في سلامٍ العاصفةَ التي كادت تودي بباشويته، وتسنى له بعد هذا الانتصار أن يبدأ ذلك النشاط السياسي الذي سبق وصفه، والذي استهدف الظفر بالحكم الوراثي لتأمين الباشوية ولضمان استقرار الحكم، ودعم أركان الولاية، ولقد تميز هذا النشاط السياسي بأنه صار يشتد ويقوى في اطراد، تتزايد سرعته تبعًا لما كان محمد علي يحرزه من نجاح في الميدان الداخلي، بالتغلب على العناصر المناوئة لسلطانه في باشويته ذاتها، والعلة في ذلك، أنه بالرغم من اجتياز الأزمات السابقة بسلام، لم يكن في مقدور محمد علي عند انسحاب «حملة فريزر» من الإسكندرية، الاطمئنان إلى أن الحكم قد صار له يقينًا، وأن أسباب السلطة قد اجتمعت في يده هو وحده، بحيث يستطيع المضي قدمًا في تحقيق مشروع استقلاله دون أن يشغله شاغل.
فقد استمرت تتنازع السلطة الداخلية معه منذ المناداة بولايته، جماعاتٌ ثلاث: الجند، والمشايخ، والمماليك، الجند الذين قال بشأنهم «دروفتي» في كتاب له إلى حكومته في ٨ أبريل ١٨٠٨: «إنه وإن تظاهر محمد علي بالسلطان والسيادة، فهو عاجز عن التحرر من الاعتماد على جيشه، ذلك الجيش الذي جنده على أهبة القيام بالثورة وشق عصا الطاعة دائمًا إذا تأخرت مرتباتهم وعلائفهم.» والمشايخ الذين استندوا على ما كان لهم من زعامة بين الأهلين، جعلتهم يسهمون في إنهاء الأزمات الماضية، ليتطلعوا إلى المشاركة فعلية، تُجرِّد محمد علي لو أنهم حققوا مبتغاهم، من السلطة التي لا غنى له عن ممارستها لضمان استقرار الحكم في الولاية. والمماليك الذين ظل يجمعهم، بالرغم من اختلافاتهم ونزعاتهم غرض واحد، هو إقصاء محمد علي من الولاية واسترجاع الحكم والسلطان في القاهرة.
وزيادة على ذلك، فقد استمرت حاجة محمد علي إلى المال شديدة، في السنوات التي تلت خروج الإنجليز من الإسكندرية، فهو وإن كان قد استطاع تدبير المال الذي استعان به على اجتياز الأزمات السابقة، وتعطل موارد البلاد لكساد التجارة، وانصراف العمال الزراعيين عن فلاحة الأرض، وإقفار كثير من القرى من أهلها، وبقاء الصعيد بإيراداته الوفيرة ملكًا للبكوات المماليك، تعذَّر عليه إجراء أي تنظيم مالي، على أساس مساحة الأرض المنزرعة، وتحديد فئات الضرائب المفروضة عليها، وتعيين أوقات تحصيل هذه الضرائب بصورة رتيبة منظمة، ثم تحديد أبواب الإنفاق في نطاق الإيرادات المتحصلة، ولقد ظلت أبواب الإنفاق في السنوات الأربع التالية كما كانت عليه في الفترة السابقة، ولم يكن هناك نُدحة عن أن يلجأ الباشا الآن إلى نفس الأساليب التي اعتمد عليها في الحصول على المال قبل ذلك.
صحيح أن محمد علي جنى ربحًا وفيرًا من تجارة الغلال، ولكن نفقاته كانت جسيمة، بسبب التجريدات التي بعث بها لمطاردة البكوات المماليك في الصعيد، والاستعدادات العسكرية المستمرة، وتحصين الإسكندرية وغيرها من الثغور الشمالية، وكثير من المواقع الداخلية، لا سيما تقوية وسائل الدفاع عن القاهرة، في وقت ساد فيه الخوف — كما شهدنا — من أن يأتي على البلاد غزو أجنبي، ثم لم يلبث أن جد باب آخر للإنفاق عندما عهد الباب العالي بمهمة الحرمين الشريفين إلى محمد علي، وشرع الباشا يتجهز جديًّا لإنفاذ جيشه إلى الحجاز منذ أن صح عزمه على الاضطلاع بهذه المصلحة الخيرية.
ولقد كانت هذه الحاجة المزمنة إلى المال، ولجوء محمد علي إلى طرائق لم تكن معروفة من قبل لتدبير المال الذي يريده، السببَ المباشرَ لتأزم الأمور بينه وبين المشايخ ووقوع الاصطدام معهم، ثم إقصاء هؤلاء من الحياة العامة، وإبعاد السيد عمر مكرم ونفيه من القاهرة؛ لأن هذه الطرائق الجديدة آذت مصالح هؤلاء الأشياخ المادية، وهددت بالانتقاص من أسباب الحياة المادية والمترفة التي نعموا بها ردحًا طويلًا من الزمن على حساب الفلاحين وسائر المواطنين الكادحين والمكدودين.
وأما عنوان هذه الخطة التي سار عليها محمد علي، من حيث تطويع الجند، وإقصاء المشايخ والقضاء على المماليك بعد أن استنفد كل الوسائل لمصالحتهم، فهو الانفراد بالسلطة، ولا يعني الانفراد بالسلطة، أن الباشا كان مدفوعًا إلى الاستئثار بكل أسبابها عن نزعة استبدادية، جعلته بطبعه يؤثر الطغيان على الشورى، ويستحل بعض الإقطاعات التي تمكنهم من العيش في هدوء وتحت كنفه ورعايته، ويعمد إلى إبعاد رؤساء الجند البارزين ليتخلص من منافسين يبغون مشاركته الحكم والسلطان في البلاد.
بل إن الانفراد بالسلطة، كان الدعامة التي يقوم عليها استقرار الحكم، ولا معدًى عن استقرار الحكم إذا شاء محمد علي دعم أركان ولايته، وإنقاذ البلاد من شرور الفوضى الماضية، وبدء عهد من الإصلاح والإنعاش الداخلي، يرقى بأهلها إلى مصاف الأمم الفتية الحديثة، ولا يتسنى دعم أركان الولاية إلا إذا رضخ الجيش لسلطان صاحب الحكم في الولاية، واستطاع الحاكم إدارة شئون الحكم بما يكفل له تحقيق الأغراض التي توخاها، وقدر على بسط سلطانه حتى يشمل كل ركن في باشويته، ولقد أثبتت الحوادث أثناء فترة التجربة والاختبار الماضية، كما سوف تثبت في السنوات التي تتناولها هذه الدراسة، أن الجيش المتمرد، سواء بسبب تأخر مرتبات الجند، أم لتحريض بعض كبار الضباط والقواد المغامرين لهؤلاء الجند على الثورة والعصيان، أم لأن الجند أنفسهم، وكلهم من المرتزقة، كان حب السلب والنهب مغروزًا في طبائعهم؛ أثبتت الحوادث أن هذا الجيش المتمرد عامل اضطراب وقلقلة، ومصدر خطر على الباشوية ذاتها، ثم إن هذه الحوادث أثبتت كذلك، أنه وإن كانت الفرصة قد تهيأت ليلعب الأشياخ والمتصدرون للزعامة الشعبية دورًا هامًّا على مسرح الفوضى السياسية السابقة، فقد أظهر هؤلاء العجز كل العجز عن تفهم كنه الزعامة التي ينشدونها، وأقاموا الدليل بتحاسدهم وانقسامهم من جهة، وتكالبهم على الدنيا وإيثارهم لمصالحهم المادية والذاتية على كل ما عداها، ثم عدم فهمهم لدقائق السياسة، وقصورهم عن استشفاف ما وراء أعمال الباشا من مقاصد قريبة أو بعيدة من جهة أخرى، على أنهم لا يصلحون للزعامة التي ينشدونها، وأن اشتراكهم في الحكومة عن طريق إبداء النصح والمشورة معرقل لدولابها، ومعطل لمشروعات الباشا. وأما البكوات المماليك، فقد ظلوا خطرًا يهدد بتقويض عروش الباشوية ذاتها، ولا سبيل إلى دفع هذا الخطر إلا بتقرير سلطان الباشوية في أرجاء الولاية بأسرها، وأثبتت الوقائع أن لا نُدحة عن استئصال شأفة البكوات المماليك لبلوغ هذه الغاية.
ذلك إذًا كان معنى الانفراد بالسلطة، وفي هذا المعنى أضحى الانفراد بالسلطة بمثابة حجر الزاوية في البرنامج الذي توفرت كل جهود محمد علي لتحقيقه، والذي استهدف رفع مصر إلى مرتبة وجاقات الغرب على أساس الحكم الوراثي في أسرته، وبينما سعى محمد علي سواء في علاقاته مع الباب العالي أم مع إنجلترة وفرنسا لبلوغ مقصده بالوسائل الدبلوماسية، فقد صار يعمل من أجل استقرار الحكم، وتشييده على دعائم ثابتة، حتى يخلق من الولاية المستقرة قوة تؤازره بثبوت وجودها فيما يبذل من مساعٍ سياسية، فارتبط لذلك شقَّا برنامجه الخارجي والداخلي بعضهما ببعض ارتباطًا وثيقًا. وكما تكللت جهوده الخارجية بالنجاح، من حيث ظفره بوعد قاطع من الباب العالي برفع إيالة مصر إلى مرتبة الباشوية الوراثية عند إنفاذه جيشه إلى الحجاز والانتصار على الوهابيين، واستخلاص الحرمين الشريفين من أيدي هؤلاء، فقد أسفرت جهوده الداخلية عن استقرار الحكم ودعم أركان الولاية بفضل تطويعه الجند، وإخماد فتنتهم وعصيانهم، وإقصاء المشايخ عن شئون الحكم وسياسة الدولة والقضاء على البكوات المماليك.
(١) تطويع الجند
ولقد كانت أولى المشكلات التي صادفت محمد علي عقب جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وكانت مبعث خطر كبير — لا على باشويته فحسب، بل وعلى حياته هو نفسه كذلك — عصيان الجند وتمردهم على سلطانه، وقد شهدنا كيف بدأت حركة العصيان هذه والباشا لا يزال في الإسكندرية، وخشي كثير من المعاصرين المتطيرين أن يكون هذا الحادث نذير شؤم على حكومة الباشا، وقوى تشاؤمهم بسبب انقلاب السفينة التي نزل منها محمد علي وحسن باشا طاهر وسليمان آغا (وكيل دار السعادة سابقًا) حال رجوع الباشا من الإسكندرية، وذلك عند زفتية، ثم ما حدث عند دخول محمد علي القاهرة؛ حيث كبا به حصانه وأصابته رضوض شديدة، فضلًا عن حادث آخر ذكره «دروفتي» في كتابه إلى «سباستياني» في ١٠ أكتوبر، هو سطو اللصوص على غرف الباشا التي ينام فيها وسرقتهم أشياء ثمينة بجواره، ومما كان عليه هو نفسه.
وحق لهؤلاء المتطيرين أن يتشاءموا من هذه الحوادث، وبخاصة من تمرد الجند؛ لأن الجيش هو الذي أنزل الهزيمة بالبريطانيين، وهو القوة التي اعتمد عليها محمد علي دائمًا في مطاردة البكوات المماليك، ثم كان بفضل وثوقه من ولاء كبار ضباطه وتعاون هؤلاء معه أن أمكن طرد حكومة البكوات من القاهرة، وإقصاء أحمد خورشيد من الولاية، وتأييد محمد علي نفسه في منصب الحكم والسلطان بعد المناداة بباشويته، علاوة على أن مؤازرة الجيش له في أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، جعله يقدر على نبذ أوامر الباب العالي ظهريًّا وإبطال مسعى الألفي خصوصًا من أجل استرداد الحكم في القاهرة، ويعلن أنه لن يتخلى عن باشويته إلا بحد السيف، وإذا أُرغم على ذلك إرغامًا. فإذا انتقض الجيش عليه الآن، وتناسى البكوات خلافاتهم وأحقادهم، وجمعوا كلمتهم على انتهاز هذه الفرصة السانحة لمهاجمة غريهم، لاستطاعوا هدم باشويته، ناهيك بما قد يفعله الباب العالي، وهو الذي لن يتوانى عن انتهاز الفرصة هو الآخر، لبسط سلطانه على الولاية، الغاية التي يسعى إليها دائمًا.
وحقيقة الأمر، أن الباشا كان من واجبه تطويع الجند، لضمان بقاء الجيش مواليًا له، لأسباب عدة، غير التي ذكرناها، أهمها ما ظل يذيع عن الغزو الأجنبي المرتقب، بعد جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وحاجة الباشا إلى جيش قوي لدفع هذا الغزو إذا وقع، فمع أنه كان قد أراد إنقاص الجيش إلى العدد الذي يكفي لضمان استتباب الأمن الداخلي، والقضاء على العناصر المناوئة لحكمه، لا سيما البكوات المماليك، واستخدام العدد الذي لا يعجز الباشا عن دفع مرتباته وعلائفه ولا يسبب بقاؤه إرهاقًا لميزانيته، فقد اضطر منذ أواخر عام ١٨٠٧ وأوائل العام التالي، إلى إلغاء الإجراءات التي كان قد اتخذها لترحيل أعداد كبيرة من جنده إلى الشام، وذلك منذ أن تطايرت الشائعات عن قرب خروج حملة من المواني الفرنسية لغزو هذه البلاد، ومنذ أن راح «بتروتشي» وسائر الوكلاء الإنجليز يؤكدون قرب وصولها، وكان هؤلاء الجند الذين أراد إبعادهم الباشا الآن، من الذين اشتركوا في حركة العصيان الخطيرة التي وقعت في القاهرة في أكتوبر ١٨٠٧ على نحو ما سنذكره، وقد ظلت هذه الشائعات تتجدد بصورة مستمرة في الشهور التالية، وعمد الجند إلى إزعاج الإفرنج في القاهرة والإسكندرية، والاعتداء على الأهلين في كل مكان، على مألوف عادتهم في كل مرة يُطلب إليهم التهيؤ للخروج إلى الثغور والشواطئ للدفاع عنها، أو التأهب لصد غارات المغيرين على القاهرة ذاتها، أو الذهاب في تجريدة لمطاردة البكوات المماليك.
ثم إنه كان لا مناص من تطويع الجند، إذا شاء الباشا إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وقد لقي صعوبات جمة في حشد الجند برئاسة محمد طاهر باشا منذ أن طلب إليه الباب العالي النجدة، فلم يستقم أمر الجيش إلا بعد أن قضى محمد علي على محركي الفتنة بين الجند، وأخرجهم من البلاد، واستبدل بهم قوادًا على جيشه من أهله وعشيرته والموثوق في إخلاصهم وولائهم له.
وفضلًا عن ذلك، فقد ساهم الجيش في كل الانقلابات التي أطاحت بحكومات الباشوات منذ خروج الفرنسيين من البلاد، فالأرنئود ساهموا في طرد محمد خسرو، والإنكشارية قتلوا طاهر باشا ونصَّبوا مكانه أحمد باشا، والأرنئود هم الذين طردوا هذا الأخير، ثم اعتمد عليهم محمد علي في تقويض عروش حكومة البكوات في القاهرة، بعد أن ضلعوا مع المماليك في قتل علي باشا الجزائرلي، ثم قضى الجيش على ولاية خسرو باشا الثانية المعروفة بالكناية، وكان بفضل اعتماد محمد علي عليه أن تولى أحمد خورشيد، ثم اشترك الأرنئود والدلاة في عزل هذا الأخير بعد ذلك، وكان اشتراك الجيش في هذه الانقلابات الكثيرة من أسباب زيادة الفوضى في صفوفه، وجنوحه إلى العصيان عن أول بادرة، أضف إلى هذا، ما أحدثه الانقلاب الذي قام به الإنكشارية (أو الينكرجية) في قصر الخلافة والسلطنة ذاتها، وهو الانقلاب الذي أسفر عن مقتل السلطان سليم، وانتهى بالمناداة بمحمود الثاني سلطانًا للدولة في الظروف التي عرفناها، فقد قوَّى هذا الانقلاب من اعتداد الجند وكبار ضباطهم بأنفسهم، فتزايدت روح التمرد والعصيان في صفوف الجيش.
وساعد على انتشار الفوضى بين الجند، أن هؤلاء كانوا خليطًا من أجناس منوعة، فمنهم التركي والأرنئودي، والكردي، والشامي، والمغربي، والنوبي، واليوناني، عدا جماعة من الفرنسيين والليفانتيين الذين انضم منهم فريق كذلك إلى البكوات المماليك، ولقد كانوا جميعًا من المرتزقة، لا يربطهم بقوادهم وقائدهم الأعلى سوى المرتبات والعلوفات التي ينالونها، ولا صلة تربطهم بالبلاد حتى يعنيهم أمرها، استقامت الأمور بها في ظل حكومة مستقرة موطدة، أم سادت بها الفوضى، وكثرت الانقلابات، طالما ضمنوا حصولهم على مرتباتهم ممن يئول إليه الحكم، وكانوا غرباء عن المصريين، ولم يمتزجوا بهم إلا في حالات شاذة معينة، كان مبعثها إما الخوف من ثورة الأهلين عليهم، وهذا ما ندر حدوثه، وإما الطمع في أموال الأهلين وأرزاقهم؛ ولنهب متاعهم ودورهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وتلك كانت القاعدة المعمول بها، ولطالما انبث هؤلاء المرتزقة في كل مكان بالقاهرة ينهبون ويسلبون، ولطالما انتشروا في القرى يُهلِكون الحرث والضرع، ويُنزِلون الكوارث بالفلاحين، فاتخذوا من خروجهم في أية تجريدة من التجريدات، أو عودتهم منها، أو مجرد تهيؤهم لمغادرة القاهرة، والذهاب إلى ميدان القتال، ذريعة للاعتداء على الأهلين وإيذائهم وقتل من يعترض طريقهم منهم، كما أنهم ألحقوا بالأوروبيين وسائر الأجانب خصوصًا بالقاهرة والإسكندرية، مختلف الإهانات، ولم يسلم هؤلاء من أذاهم وشرهم، ووجد الجند فيما حدث من انقلابات حكومية فرصًا مواتية للمضي في إفراط، في أعمال السلب والنهب، والاعتداء على سكان البلاد من مصريين وأجانب على السواء.
ولم يكن الضباط ورؤساء هذا الجيش يقلون جشعًا وحبًّا للمال عن جنودهم، أو لا يطمعون في نهب الأهلين وسلبهم دورهم ومتاعهم وأرزاقهم وأموالهم، فلم تربطهم هم الآخرين أية صلة بالبلاد التي وفدوا إليها مرتزقة كسائر الجند، ولم يعنِهم شيئًا أمر أهلها وهم الغرباء عنهم، ولم يشعروا بأي ولاء لشاغل منصب الولاية، فهم يشتركون مع سائر صفوف الجيش في كل الانقلابات التي تحدث، وينبذون سلطان الباب العالي وأوامره بسهولة، طالما استولوا هم على مرتباتهم ومخصصاتهم، وكانت هذه جسيمة، وينالونها وفق نظام سبق ذكره، حصل كل كبير من هؤلاء بفضله على مرتبات لعدد من الجند يربو على ثلاثة أمثال العدد الموجود فعلًا تحت قيادته، بل إن هؤلاء كثيرًا ما احتفظوا بهذه المرتبات لأنفسهم ولم يدفعوا إلا النزر اليسير منها لجنودهم، مما كان من أسباب ثورة هؤلاء وعصيانهم، ولم تهتم أكثرية هؤلاء الكبار إلا بالثراء السريع في أثناء خدمتهم، شأن كل مرتزقة، ولقد شاهدنا كيف أن عديدين من هؤلاء صاروا يزمعون مغادرة البلاد بالثروات التي جمعوها، وكيف استطاع بعضهم العودة إلى بلاده غنيًّا، بينما حالَ الجند دون سفر الآخرين حتى يدفعوا لهم مرتباتهم المتأخرة، وفطن محمد علي من مبدأ الأمر، ومنذ أن صح عزمه على الوصول إلى الولاية، إلى ضرورة ضمان ولاء الجند له، وجذب رؤسائهم إليه، بالحرص على دفع مرتباتهم وعلائفهم في أوقاتها، كما صار ديدنه بعد أن تسلم أَزِمَّة الحكم، السهر على دفع هذه المرتبات كذلك دون تأخير، وكان الشاغل الأكبر له في سنوات التجربة والاختبار التي مرت به، تدبير المال بكل الوسائل لدفع هذه المرتبات منه.
زد على ذلك، أن المصلحة الذاتية وحدها هي التي جعلتهم يُقبلون على مؤازرة محمد علي، عندما أغدق الباشا عليهم النعم والعطايا، وأقطعهم الأرض التي صادرها من البكوات المماليك خصوصًا، ووجد كبار الضباط أنهم ينعمون في مصر بعيش لم يكن ليتسنى لهم التمتع به لو أنهم بقوا في أوطانهم أو غادروا هذه البلاد، ومع ذلك، فقد ظل جماعة منهم ينفَسون على الباشا المركز الذي بلغه، ومنافسة حسن باشا طاهر الأرنئودي، وعمر بك الأرنئودي وأضرابهما له معروفة مشهورة، وقد استطاع محمد علي كبح جماح هذه المنافسة، بفضل ما أظهره من حنكة في مداراته لهم، حتى إذا تخطى بسلام العواصف التي كادت تطيح بولايته، وتدعمت أركان باشويته رويدًا رويدًا، تخلى هؤلاء عن أطماعهم، ورضخوا في آخر الأمر لسلطانه، بل وعاونه جماعة منهم على اجتياز الأزمات التي واجهته، ولو أن فريقًا من هؤلاء الحاقدين عليه، كياسين بك الأرنئودي ورجب آغا، ظلوا يحرِّكون الفتنة عليه، بل إن عمر بك الأرنئودي نفسه لم يلبث أن شقَّ عصا الطاعة (في عام ١٨٠٩)، وأعلن صالح آغا قوج (قوش) تمرده، ولما تمضِ شهور قليلة على بدء الحرب ضد الوهابيين في الحجاز، وكان تطويع الجند ضروريًّا، لضمان الانتصار على هؤلاء الرؤساء المتمردين.
وكان مما زاد في خطورة انتشار روح التمرد والعصيان في الجيش، تأهب العربان البدو دائمًا للانضمام إلى كل كبير من الضباط يخرج على سلطان محمد علي، ويجمع حوله طائفة الفارين من الجيش، والذين يعقدون آمالًا عظيمة على قدرتهم على المضي في أعمال السلب والنهب على نطاق واسع تحت راية العصيان التي يرفعونها، ووجد العربان هم الآخرون في هذا العصيان فرصة مواتية لإشباع نهمهم، والمضي في أعمال السلب والنهب دون رادع، وقد تذوق العربان طعم هذه الحياة التي خلقتها الفوضى السياسية في مصر، نتيجة للتطاحن بين البكوات المماليك ومختلف الباشوات الذين تولوا الحكم في السنوات الماضية، ثم تطاحن هؤلاء الباشوات أنفسهم مع كبار ضباط الجيش وجنده، وعلى رأس كبار الضباط هؤلاء محمد علي نفسه، فامتزج العربان بالجند المتمردين، وعملت طوائف منهم تحت لواء القواد المغامرين، حتى إن قصة هؤلاء وأولاء سرعان ما صارت قصة واحدة، وتوزع العربان أنفسهم طوائف، بعضها يعمل مع الضباط العصاة، والآخر يعمل مع البكوات المماليك، والفريق الثالث يؤيد حكومة محمد علي، كل طائفة حسبما تمليه عليها مصالحها، التي لا تعدو توقع الظفر بالمغانم والأسلاب الكثيرة.
ومنذ حادث المناداة بولاية محمد علي، وعزل أحمد خورشيد من الولاية، كتب الشيخ الجبرتي في حوادث شهر أغسطس من عام ١٨٠٥، عن الدلاة الذين استقدمهم خورشيد للاستعانة بهم على غريمه، ثم خذلوه، أن «هؤلاء كانوا إذا وردوا قرية نهبوها، وأخذوا ما وجدوه فيها، فأخذوا الأولاد والبنات وارتحلوا.» ثم يستطرد الشيخ من ذلك إلى ذكر دور العربان، فيقول: إنه لا يلبث أن يأتي العرب الناهبون خلفهم، فيطلبون الكلف والعليق، وينهبون أيضًا ما أمكنهم، ثم يرتحلون أيضًا خلفهم. ولكنه ما إن يرتحل هؤلاء وأولئك، حتى يأتي جند الحكومة أو التجريدة فيفعلون أقبح من الفريقين من النهب والسلب، حتى ثياب النساء. وتكرر عدوان العربان على الأهلين أثناء نضال الألفي وسائر البكوات، فقد انتهز عربان أولاد علي فرصة حضور جماعة من الألفية إلى الجيزة، وجمعهم الكلف من أهلها، فأغاروا بدورهم على هذا الإقليم من ناحية البحيرة في ديسمبر ١٨٠٥ وعاثوا بأراضي الجيزة، حتى إن محمد علي عيَّن لتعقبهم محمد طاهر باشا الذي كان يتهيأ وقتئذٍ للخروج إلى الحجاز ولم يخرج — على نحو ما عرفنا — ثم إن العربان التحموا كذلك مع جند الباشا في المعركة التي دارت رحاها في ١٢ ديسمبر من العام نفسه، في جهة مصر القديمة، وأسفرت عن ذهاب جماعة من الأرنئود إلى الأخصام والانضمام إليهم، وقد سبق ذكر هذه المعركة. وفي مارس من العام التالي (١٨٠٦)، انضم طائفة من العربان إلى مماليك شاهين الألفي للإغارة على إقليم الجيزة، وأخذ الكلف من أهله، واضطر محمد علي إلى الخروج إلى ناحية بولاق وعدى طاهر باشا إلى بر إنبابة وبصحبته عساكر كثيرة لمطاردتهم.
وفي عام ١٨٠٦ تعددت حوادث عصيان الجند من جهة، واشتراك العربان مع البكوات المماليك في الإغارة على مختلف الأقاليم من جهة أخرى، فمن الحوادث البارزة، اتحاد العربان مع أجناد المماليك في أبريل، في الإغارة على جزيرة السبكية، وحضور عمر بك الأرنئودي إلى القاهرة (في ١٨ أبريل) من بني سويف يخبر بعصيان رجب آغا وفريق من الجند خامروا عليه وانضموا إلى الأمراء القبليين، وبلغ عدد هؤلاء العصاة نحو الستمائة، وتمرد الجند الذين كانوا مع حسن باشا طاهر الأرنئودي وأخيه عابدين بك، بسبب تأخر مرتباتهم، ومنع الباشا دخول طائفة منهم وصلوا إلى بولاق ومصر القديمة، من الدخول إلى القاهرة، واستعان الباشا بالعربان لإخماد حركتهم، فجمع من عربان الحويطات والعائد وغيرهم أعدادًا كثيرة، وأقام هؤلاء بناحية شبرا ومنية السيرج، واستمروا يحتشدون في هذين المكانين أربعة أيام بتمامها، وكانوا جملة كبيرة، وطلب محمد علي من رؤساء الجند المتمردين مغادرة البلاد، ولكن هؤلاء أبوا حتى يقبضوا المنكسر لهم من مرتباتهم، ولكن الباشا استطاع أن يبذر بذور التفرقة بينهم، فدسَّ إلى أصاغرهم مَن خدعهم واستمالهم، حتى تفرقوا في خدمة المستوطنين، ولم يبقَ مع كبارهم المعاندين إلا القليل، فلم يسَعَهم بعد ذلك إلا الامتثال وارتحلوا في ١٨ مايو ١٨٠٦ من بولاق، وسافر معهم «حسن آغا الشماشرجي» ومَن بصحبته من المصريين وحولهم العربان، وساروا على طريق دمياط (وكانوا اثنين وخمسين شخصًا من كبار طائفة الأرنئود)، وعلَّق الشيخ الجبرتي على حادث الاستعانة بالعربان في إخراجهم بقوله: إنه قد «حصل من العرب في مدة تجمعهم ما لا خير فيه، وكذلك في مدة إقامتهم من الخطف والتعرية، وقطع الطريق على المسافرين.»
وأما رجب آغا وياسين بك، فقد انضما بمن معهما من الجند المتمردين إلى البكوات المتحصنين بالمنيا، وأنشأا المتاريس في جهة المنيا البحرية ليحولا دون وصول مراكب الذخيرة إليها، وأنقذ المنيا وصول محو بك بالذخيرة إلى بني سويف؛ حيث اصطحب منها حسن باشا طاهر وعابدين بك، وهزموا ثلاثتهم رجب آغا وياسين بك، واقتحم جيشهم المتاريس، ودخلوا البلدة.
وفي أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، أراد الألفي — وصلته الوثيقة بالعربان معروفة — استثارة هؤلاء ضد حكومة محمد علي واستنهاضهم لمعاونته في إقصاء الباشا من الولاية، فبعث بالكتب إلى مشايخ الحويطات والعائد، وإلى شيخ الجزيرة وسائر رؤسائهم، ولكن هؤلاء — كما عرفنا — آثروا إطلاع الباشا على هذه الكتب، منذ أن توطدت علاقاته معهم أثناء حادث إبعاد كبار الأرنئود المتمردين، فأحضر ابن شديد وابن شعير هذه الكتب التي أتتهم من الألفي إلى محمد علي، ثم إن الباشا عند تصميمه في يوليو ١٨٠٦، على الخروج لمناجزة الألفي، لم يلبث أن أرسل أوراقًا لتجمع العربان، وعيَّن لذلك حسن آغا محرم، وعلي كاشف الشرقية، وفي ٢٤ يوليو وصل كثيرون من عرب الحويطات ونصف حرام من ناحية شبرا إلى بولاق، وأُطلقت المدافع احتفاء بقدومهم، وقد تقدم كيف أن جيش الألفي كان يضم عدة آلاف من عربان أولاد علي وغيرهم.
ولقد كان وجه الخطورة بعد ذلك، أن يجنح الجند إلى العصيان، إبان حملة «فريزر»، أو يُقبل العربان على معاونة البريطانيين، فيسدون حاجة هؤلاء إلى الفرسان، وقد انتظر الإنجليز دون طائل أن يسد المماليك هذا النقص في جيشهم، ولكن الباشا الذي أرضى الجند بدفع مرتباتهم إليهم، استطاع أن يجهز الجيش الذي أوقع بالإنجليز الهزيمة الساحقة في معركة الحماد المعروفة، ثم إن العربان امتنعوا عن نجدة الإنجليز أثناء العمليات العسكرية، ولم يستطع «فريزر» والوكلاء الإنجليز استمالة العربان إلى تموين الإسكندرية، إلا بعد انسحابهم إليها وتحصنهم بها. على أن متاعب الباشا من ناحية الجند والعربان سرعان ما تجددت به جلاء الإنجليز عن الإسكندرية.
(٢) عصيان ٢٦ أكتوبر سنة ١٨٠٧
فقد ظهرت بوادر عصيان الجند عقب رحيل جيش «فريزر» من الإسكندرية، وأثناء وجود الباشا بها، وقد سبق الحديث عن أسباب هذا العصيان، ثم نجاح الباشا في إخماد هذه الحركة، ولكن روح التمرد التي سرت في الجيش بأسره وقتئذٍ، لم تلبث أن ظهرت آثارها كذلك في القاهرة، وكان مبعث جنوح الجند إلى التمرد في هذه المرة، الغرور الذي ملأ نفوسهم نتيجة لانتصارهم على البريطانيين، ولاعتقادهم أنهم أصحاب الفضل في إجلاء هؤلاء عن البلاد، وتوهمهم أنه قد صار من حقهم لذلك أن يقتضوا من أهل البلاد ثمنًا لتخليصهم من شرور الاحتلال الأجنبي، لا سيما وقد خُيل لهم أن المصريين كانوا يتمنون هزيمتهم والخلاص منهم على يد الغزاة الأجانب، ووجدوا على كل حال في هذا الاعتقاد، سواء أكان صحيحًا أم وهمًا وخيالًا، ذريعة لإطلاق العنان لنزواتهم، والاعتداء على الأهلين دون رقيب أو وازع.
ولقد سبقت الإشارة إلى الفعال المنكرة التي صار يرتكبها الأرنئود في القاهرة بمجرد عودتهم إليها بعد انقضاء معارك رشيد والحماد، وكان أهم ما عُني به هؤلاء الاستيلاء قسرًا على بيوت الناس وطرد أصحابها منها بعد سلب فُرُشهم وأمتعتهم، بدعوى أن متاعهم قد استُهلك منهم في السفر والجهاد ودفع الكفار عنهم؛ أي القاهريين، بينما هؤلاء مستريحون في بيوتهم وعند حريمهم؛ ولأن القاهريين ليسوا بمسلمين؛ لأنهم كانوا يتمنون تملك النصارى لبلادهم، ويقولون إنهم خير من الأرنئود، ولم يكن في مقدور الباشا أو كتخداه كبح جماح هؤلاء البغاة، وهم إلى جانب انغراس الميل إلى السلب والنهب في طباعهم، لا يزالون منتشين بخمرة النصر، فحرص كلاهما على تهدئة خواطر القاهريين وتسكينهم خوفًا من وقوع الاصطدام بين هؤلاء وبين الجند، وعزَّز الكتخذا بك دعاوى الجند، فراح يقول: «أناس جاهدوا وقاتلوا أشهرًا وأيامًا، وقاسوا ما قاسوه في الحر والبرد والطل، حتى طردوا عنكم الكفار وأجلوهم عن بلادكم، أفلا تسعونهم في السكنى، ونحو ذلك من القول»، وهكذا أفحش الجند في التعدي على الناس وغصب البيوت من أصحابها، ثم إنهم تعدوا إلى الحارات والنواحي التي لم يتقدم لهم السكنى بها قبل ذلك، مثل نواحي المشهد الحسيني، وقلعة الجامع المؤيدي، والخرنفش والجمالية، حتى ضاقت المساكن بالناس لقلتها، وصار بعض المحتشمين إذا سكن بجواره عسكر يرتحل من داره ولو كانت ملكه، بعدًا من جوارهم، وخوفًا من شرهم، ولم يستثنوا بيوت المشايخ، بل وأهانوا مَن احتج منهم على فعالهم إهانات بالغة.
على أن هذا العصيان سرعان ما استفحل شره حتى صار خطرًا على الباشا نفسه وعلى حكومته، وظهرت بوادر هذه الخطورة في محاولة قام بها بعض الجند السكارى والمجانين للاعتداء على حياة محمد علي، فقد عمد الباشا منذ عودته من الإسكندرية إلى القاهرة، إلى الطواف في شوارع القاهرة، يبذل قصارى جهده لوقف اعتداءات الجند على الأهلين، وتوطيد الأمن وقطع دابر الفوضى التي اتضح أنها بلغت غايتها في العاصمة أثناء غيابه عنها، فحدث (يوم ١٦ أكتوبر) أثناء مروره في ناحية سوق (أو سويقة) العزى، سائرًا إلى ناحية بلغيا أن صادف في أحد الشوارع حفنة من الراقصات، منهمكات في تسلية بعض الجند الأرنئود، لم يمنعهن عن الرقص مرور الباشا، بل ضاعفن نشاطهن، وصارت (لصاجاتهن) فرقعة كبيرة، فأراد بعض حاشيته، إلزامهن بالسكوت، احترامًا لموكب الباشا، فعزَّ على بعض الجند من المخمورين، أن يسلبهم الباشا متعتهم، فانتحى منهم اثنان جانبًا، وطلعا إلى مكتب فوق سبيل كان قائمًا بين الطريقين تجاه من يأتي من تلك الناحية — سوق العزى — يرصدان الباشا في مروره، فحينما أتى الباشا مقبلًا لذلك المكتب أطلقا في وجهه بارودتين، فأخطأتاه، وأصابت إحدى الرصاصتين فرس فارس من الملازمين حوله، فسقط، ونزل الباشا عن جواده على مصطبة حانوت مغلوقة، وأمر الخدم بإحضار الكامنين بذلك المكتب، فطلعوا إليهما، وقبضوا عليهما، واستبد الغضب بالباشا وأمر بإحراق المكتب، وتدخل سكان الحي جميعهم، يلتمسون العفو، ثم حضر كبير هؤلاء الجند من دار قريبة من ذلك المكان، واعتذر إلى الباشا بأنهما مجنونان وسكرانان، فعدل عن حرق المكتب، وأمر كبير الجند بإخراجهما وسفرهما من مصر، وركب الباشا وذهب إلى داره.
وقد عزا «دروفتي» في كتابه إلى «سباستياني» من القاهرة في ٢٠ أكتوبر ١٨٠٧ هذا الحادث إلى ازدياد عجرفة الجند، منذ عودتهم إلى القاهرة، بعد انتصاراتهم الأخيرة على الإنجليز، بدعوى أنهم هم الذين طردوا هؤلاء، وأرغموهم على ترك الإسكندرية، وقد راح «دروفتي» يشكو من الإهانات التي لحقت بالأوروبيين على أيديهم، وشيوع الفوضى في القاهرة، وانعدام الأمن، حتى إن أحدًا من الأهلين ما صار في وسعه الاطمئنان على حياته، ولو لزم داره، وعاش بين أهله وعشيرته؛ وذلك لأن الجند دأبوا على الاعتداء على البيوت وأصحابها، وسعيد الحظ هو الذي يتسنى له الفرار بعياله وحريمه، فكان من أثر انتشار روح التمرد والعصيان هذه أن كاد محمد علي نفسه يقع فريسة لاختلال النظام بين جنوده، ويقول «دروفتي»: إن الذين أطلقوا عليه الرصاص، كانوا من الجند المأجورين لفعل ذلك، وإن البيت الذي أُطلق منه الرصاص كان معروفًا بأن قاطنيه من القتلة المأجورين، وأن الرصاص جرح حصان الباشا وأحد ضباطه.
وكان سبب التمرد المباشر، أو على الأصح، الذريعة التي تذرع بها الجند للمضي في اعتداءاتهم، تأخر مرتباتهم؛ ولذلك فقد عمد الباشا إلى فرض الإتاوات وعقد القروض لدفع هذه المرتبات منها، وكان محمد علي منذ ٦، ١٣ أكتوبر قد أمر بفتح الطلب من الملتزمين ببواقي الميري على أربع سنوات ماضية ثم أمر بفتح دفاتر الطلب بميري السنة القابلة، كما كان منذ ٦ أكتوبر قد أمر بكتابة أوراق البشارة بذهاب الإنكليز وسفرهم من الإسكندرية وأُرسلت هذه إلى البلاد والقرى، ولكن هذه كانت إجراءات، لا بد من مضي بعض الوقت، قبل أن تأتي ثمرتها، ولقي الباشا صعوبات في استدانة كل المال الذي يريده، وهكذا تعذر عليه إرضاء الجند، وصار هؤلاء — كما قال «دروفتي» — يقابلون كل معترض على فعالهم بازدياد صياحهم مطالبين بمرتباتهم المتأخرة.
ولذلك فإنه لم تنقضِ عشرة أيام على حادث سوق العزى، حتى تجمهر حوالي الخمسمائة من الأرنئود والعثمنلي أمام قصر الباشا بالأزبكية، صبيحة يوم ٢٦ أكتوبر، يطلبون علائفهم، وحاول الباشا استنزال شيء منها، فأبى الجند، فوعد بالدفع عندما يتجمع لديه المال اللازم لسدادها فقالوا لا نصبر، ثم إنهم استولوا على مدفعين وآخر من نوع الهاون وقاذفة للقنابر، كانت جميعها بفناء القصر، ثم بادروا بإطلاق الرصاص على نوافذ الحجرات التي يقطنها الباشا، وضربوا بنادق كثيرة، وكان في وسع محمد علي أن يأمر رجاله بإطلاق النار عليهم؛ لتوفر الرصاص في المكان الذي كان موجودًا به وقتئذٍ، ولكنه امتنع، تجنبًا لوقوع حوادث وخيمة، وارتجَّت البلد وأرسل السيد عمر مكرم إلى أهل الغورية والعقادين والأسواق يأمرهم برفع بضائعهم من الحوانيت ففعلوا وأغلقوها، وتوسط سلحدار الباشا، والدفتردار أحمد أفندي (الملقب بجديد) لدى الجند، وقدما نفسيهما رهينة في يد الثوار لتهدئتهم وتسكينهم، حتى يفي الباشا بوعده لهم؛ حيث قطع على نفسه عهدًا بدفع مرتباتهم في أيام قليلة، ولما كان الثوار قد فرغت ذخيرتهم، فقد انصرفوا، آخذين معهم السلحدار والدفتردار ويعتدون في طريق انسحابهم على الأهلين بوحشية قاسية.
ولكنه ما إن انسحب هؤلاء، حتى حضر الدلاة بدورهم، قبل الغروب يمنون النفس بنيل مثل الوعود التي نالها الثوار السابقون، فضربوا أيضًا بنادق، ولكنهم قُوبلوا بغير ما قُوبل به زملاؤهم؛ إذ ضربت عليهم عسكر الباشا، وتُبودل إطلاق النار من الجانبين، وانزعجت القاهرة أيما انزعاج، وساد الرعب والفزع بالمدينة، وقُتل من الدلاة أربعة، وجُرح أفراد منهم، فانكفوا ورجعوا، وبات الناس متخوفين، وخصوصًا نواحي الأزهر، فأغلقوا البوابات من بعد الغروب، وسهروا خلفها بالأسلحة، ولم تُفتح إلا بعد طلوع الشمس.
وكان من المتوقع أن يعيد الدلاتية الكرة في هذا اليوم الثاني (٢٧ أكتوبر)، يؤيدهم بعض العسكر من العثمنلي والأرنئود الذين لم يشتركوا في حوادث اليوم السابق، ولم تسرِ فيهم روح التمرد بعدُ، ولكن النهار مضى دون أن يقع جديد، ولو أن الحال ظل على ما هو عليه من الاضطراب.
وبمجرد أن وقف العصاة على ما حدث، هاجموا قصر الباشا ونهبوه، ولم يحترموا سوى الحريم، «وأُشيع في البلدة أن العساكر نهبوا بيت الباشا، وزاد اللغط والاضطراب، ولم يعلم أحد من الناس حقيقة الحال، حتى ولا كبار العسكر، وزاد تخوف الناس من العسكر الذين حصلت منهم عربدات، وخُطف عمائم وثياب، وقُتل أشخاص، وأصبح يوم (٢٩ أكتوبر) وباب القلعة مفتوح، والعساكر مرابطون به، وواقفون بأسلحتهم، وطلع أفراد من كبار العسكر بدون طوائفهم، ونزلوا، وكل طائفة متخوفة من الأخرى، والأرنئود فرقتان: فرقة تميل إلى الأتراك، وفرقة تميل إلى جنسها، والدلاة تميل إلى الأتراك وتكره الأرنئود، وهم كذلك، والناس متخوفة من الجميع، ومنهم (الجند) يخشى من قيام الرعية (الشعب) ويُظهر التودد لهم، وقد صاروا مختلطين بهم في المساكن والحارات، وتأهلوا وتزوجوا منهم.»
ولم يكن هناك معدًى عن انتقال محمد علي إلى القلعة؛ لأنه طالما بقي في سرايه بالأزبكية، انعدم كل رجاء في إمكان إخماد عصيان الجند؛ وذلك لأن هذه السراي، كانت تقع في ميدان الأزبكية، وهو الميدان الرئيسي في القاهرة وقتئذٍ، ولم يكن من المتيسر الدفاع عنها، بل على العكس من ذلك، كان التغلب على أية مقاومة تأتي من جانب أهلها سهلًا ميسورًا، إذا وقع هجوم منظم عليها، وكان لا نُدحة للباشا عن الالتجاء إلى مكان أمين يحتمي به، بعد الهجومين اللذين حدثا يوم ٢٦ أكتوبر، ناهيك بالمؤامرات والمكائد التي عرف أن بعض رؤساء جنده يحيكونها ضده، حتى إن الشيخ الجبرتي ذكر يعلل انسحاب الباشا إلى القلعة، أنه «يُقال إن طائفة من العسكر الذين معه بالدار أرادوا غدره في تلك الليلة (ليلة ٢٧-٢٨ أكتوبر)، وعلم ذلك منهم بإشارة بعضهم لبعض رمزًا، فغالطهم وخرج مستخفيًا من البيت، ولم يعلم بخروجه إلا بعض خواصه الملازمين له، وأكثرهم أقاربه وبلدياته.» وقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في ٣١ أكتوبر: «إن المسألة لم تكن لتقف عند هذا الحد لولا أن السيد عمر مكرم — وهو موالٍ دائمًا للباشا — لم يعمد لتسليح الأهالي، ولولا أن بعض زعماء الجيش، مثل حسن باشا طاهر وعمر بك الأرنئودي، وصالح آغا قوج (قوش) لزموا الحياد.
وأما القلعة فكانت مزودة بكل وسائل الدفاع اللازمة، والاستيلاء عليها — عدا أن من شأنه إعطاء الباشا الملجأ الأمين الذي يطلبه — يجعله قادرًا بفضل التحصن بها، على الإشراف والسيطرة على القاهرة بأسرها، والحيلولة دون استيلاء الثوار عليها؛ إذ لو وقعت هذه في أيديهم لاستفحل شرهم كثيرًا، أضف إلى هذا أنه سوف يتسنى له من معقله بالقلعة، أن يتفاوض مع رؤساء المتمردين وإنهاء عصيان الجند الذين سوف يتضح لهم عجزهم عندئذٍ عن إلحاق الأذى بالباشا، وفي وسع محمد علي أن يبذر بينهم بوسائله المجربة بذور التفرقة، حتى إذا تصدعت صفوفهم، عاقب محركي الفتنة عقابًا صارمًا، وذلك هو عين ما حدث.
ومما يجدر ذكره أن الباشا ظل بعد هذه الحوادث يتخذ من القلعة مكانًا لسكناه وإقامته، ولم يكن سبب ذلك أنه قد بيَّت العزم — كما يرى بعض الكتاب — على الاستبداد برعيته، ذلك الاستبداد الذي يرى هؤلاء عنوانًا له، انفراد محمد علي بالسلطة في تلك الصورة الرتيبة التي تبدأ في زعمهم بإقصاء المشايخ عن شئون الحكم، وتنتهي بالفتك بالمماليك في مذبحة القلعة، بل إن حوادث العصيان والتمرد ظلت تقع من حين لآخر في الأعوام التالية، ولو أنها لم تكن بمثل هذه الخطورة؛ حيث كان قد استطاع عند نهاية الفترة التي نعنى بدراستها، الهيمنة على الجيش، كما بدأ يعمل لإنشاء النظام الجديد، كما استمرت مكائد كبار الضباط ضد حكومته وضد شخصه، وكان آخرها في هذه الفترة حادث أو كائنة لطيف باشا في ديسمبر ١٨١٣، وقد حاول هذا تحريك الفتنة ضد حكومة الباشا فانتهى الأمر بقتله، وفضلًا عن ذلك، فإن محمد علي لم يعش في عزلة بالقلعة، وقد وزَّع إقامته بينها وبين سرايه بميدان الأزبكية، وصار يصرف شئون الحكم من المكانين، وإن كثر انعقاد ديوانه بالقلعة، وقد قطنَ بسراي الأزبكية بعض حريمه وأهله منذ أن استقدم من قولة زوجه الأولى وسائر أفراد أسرته.
على أن انتقال الباشا إلى القلعة، ونهب سرايه بالأزبكية كان بمثابة الإشارة لانتشار أعمال السلب والنهب في القاهرة على يد الجند الذين تراوح عددهم وقتئذٍ بين الثمانية والعشرة آلاف، فانطلق هؤلاء في شوارع المدينة وأحيائها، يعتدون على النساء، ويفتكون بالأزواج، ولا ينجو من سلب متجره وحانوته إلا من دفع فدية كبيرة، واستمر الحال على ذلك أسبوعًا كاملًا، فأُوذي القاهريون إيذاءً بليغًا، وتوقفت الأعمال وانتشر الرعب والفزع في القاهرة. وفي ليلة أول نوفمبر — وكانت ليلة رؤية هلال رمضان — لم يمكن عمل الموسم المعتاد، وهو الاجتماع ببيت القاضي، وما يُعمل به من الحراقة والنفوط والشنك وركوب المحتسب ومشايخ الحرف والزمور والطبول واجتماع الناس للفرجة بالأسواق والشوارع وبيت القاضي، فبطل ذلك كله … ولم تثبت الرؤية تلك الليلة.»
ولم يمكن احتمال هذا الحال طويلًا، وسعى «دروفتي» لدى الرؤساء لتأمين حياة وأموال الرعايا الفرنسيين، فتحدث في هذا الشأن على وجه الخصوص مع عمر بك الأرنئودي، وصالح آغا قوج (قوش) والسيد عمر مكرم، وحصل من هؤلاء على تأكيدات قاطعة باهتمامهم بصالح الرعايا الفرنسيين، وكتبوا له في ذلك قائلين: «إنهم سوف يتخذون كل ما ينبغي من وسائل لمنع وقوع أية إهانات على مبنى القنصلية الفرنسية وحارة الفرنساوية، (حي الإفرنج) بالمدينة»، وأكدوا أن في وسع «دروفتي» أن يعتمد كل الاعتماد على إمكان البحث معهم في أي أمر قد يبدو له ضرورة بحثه معهم، ثم إن له أن يعتمد كذلك على مساعدتهم له عند الحاجة.
وكان محمد علي منذ ٢٨ أكتوبر قد عقد ديوانًا بالقلعة، حضره رؤساء الجند وكبار القواد، كما حضره صغار الضباط، وتحدث فيهم بلهجة حازمة، وحاول أن يفرِّق بين صغار الضباط والرؤساء، فألقى مسئولية ما يشكو الجند منه من عدم حصولهم على مرتباتهم على كاهل الرؤساء الذين يتقاضون ما يزيد مائة مرة على ما يستحقونه عدلًا وقانونًا، بينما يتركون جندهم في عوز وحاجة، وأظهر الباشا استعداده لإجابة مطالب الجند، على شريطة أن يقدم هؤلاء الرؤساء حسابًا عن المبالغ الطائلة التي أخذوها. وأما إذا كان الجيش يريد تنحيته عن الحكم، فلهم أن يختاروا باشا غيره، فيعود هو حينئذٍ إلى رتبته العسكرية القديمة، أو يرحل عن البلاد كلية، ولكنه طالما بقي في الحكم، فإنه لن يتحول عن عزمه في ضرورة إصلاح المالية العسكرية، ثم استطرد الباشا من ذلك يقول: «ولقد حان الآن الوقت لإنهاء الإهانات والاعتداءات التي يتعرض لها الإفرنج واليهود والمسيحيون، وإبطال السلب والنهب الذي يقع على أهل القرى، لا لشيء سوى إشباع نهم بعض الرؤساء وإرواء جشعهم، وذلك كله محافظة على سمعة الجيش نفسه، ولتوفير السعادة لسكان وأهل البلاد»، ثم اختتم الباشا مقالته بإظهار ضرورة طرد جميع المحرضين على الثورة، وأعلن أنه لن يصرف سوى مرتبات ثلاثة شهور فحسب لكل الجيش عن استحقاقات سنة كاملة، إلا إذا خرج الجند إلى الصعيد لمناجزة البكوات المماليك وصار الباشا سيدًا للصعيد، فعندئذٍ ينالون مكافأة طيبة.
وأثَّر كلام الباشا في صغار الضباط تأثيرًا كبيرًا، ووجد هؤلاء مقترحاته عادلة ومعقولة، فرفضوا الإصغاء لحجج ودعاوى رؤسائهم، وعجز هؤلاء عن استمالتهم إلى المضي في التمرد والعصيان، وتشاور الرؤساء في الأمر، ولما كانوا لا يجرءون على تقديم الحساب المطلوب منهم؛ لأنه لن يكون في صالحهم، فقد قر رأيهم على قبول التسوية التي اقترحها الباشا، ثم إنهم أمروا في اليوم نفسه بإرجاع المنهوبات التي أُخذت من سراي الأزبكية، وانفرجت الأزمة، وانصرف الاهتمام إلى تدبير المال اللازم لدفع المرتبات التي وعد بها محمد علي.
ولما كان الناس قد أُوذوا بسبب هذه الفتنة، وأُوذيت على وجه الخصوص مصالح المشايخ وأعيان القاهريين، وكلهم صاحب ثروة، ويخشى على أمواله من الضياع، فقد عقد هؤلاء العزم على وقف الفتنة بكل وسيلة، يدفعهم إلى ذلك حرصهم على مصالحهم الذاتية، قبل أي اعتبار آخر، ثم إلحاح العامة فطلع طائفة من المشايخ (يوم ٣١ أكتوبر) إلى القلعة، وتكلموا وتشاوروا في تسكين هذا الحال، بأي وجه كان، ثم نزلوا، واستطال الأخذ والرد في طرائق تدبير المال، وتعددت اجتماعات المشايخ بكبار الضباط في منزل السيد عمر مكرم، وكثرت المؤتمرات كذلك في بيت السيد محمد المحروقي، وعند غيره.
ولكنه كان من الواضح أن الواجب يقتضيهم أن يفصلوا في هذه المسألة بكل سرعة، فقد استمر الاضطراب والشغب. وفي ٢ نوفمبر بين العصر والمغرب، ضربوا مدافع كثيرة من القلعة، وأردفوا ذلك بالبنادق الكثيرة المتتابعة، وكذلك العسكر الكائنون بالبلدة، فعلوا كفعلهم من كل ناحية، ومن أسطحة الدور والمساكن، وكان شيئًا هائلًا، واستمر ذلك إلى بعد الغروب وتهكم الشيخ الجبرتي، فقال: «وذلك شنك لقدوم رمضان، في دخوله وانقضائه.»
وعلى ذلك فإنه لم تنقضِ أيام قلائل على هذا الحادث، حتى كانت قد أسفرت المباحثات والمشاورات في يوم ٥ نوفمبر عن ترتيب لتدبير المال اللازم، كان فريدًا في نوعه، يدل على حرص المشايخ على مصالحهم الذاتية، وقصورهم عن إدراك معنى الزعامة الشعبية التي طمعوا فيها، وعجزهم عن تحمل مسئولياتها، وقد شرح الشيخ الجبرتي هذا الترتيب في قوله: وفي هذا اليوم «انكشفت القضية عن طلب مبلغ ألفي كيس بعد جمعيات في مشاورات تارة ببيت السيد عمر النقيب، وتارة في أمكنة أخرى، كبيت السيد المحروقي وخلافه، حتى رتَّبوا ذلك ونظَّموه، فوزِّع منه جانب على رجال دائرة الباشا، وجانب على المشايخ الملتزمين، نظير مسموحهم في فرض حصصهم التي أكلوها، وهي مبلغ مائتي كيس، وزِّعت على القراريط، على كل قيراط ثلاثة آلاف نصف فضة على سبيل القرض؛ لأجل أن تُرد أو تُحسب لهم في الكشوفات، من رفع المظالم، ومال الجهات، يأخذونها من فلاحيهم، وفرض من ذلك مبلغ على أصحاب الحرف وأهل الغورية، ووكالة الصابون ووكالة القرب، والتجار الآفاقية، واستقر الطلب ببيت ابن الصاوي بما يتعلق بالفقهاء، وإسماعيل الطوبجي، بالمطلوب من طائفة الأتراك وأهل خان الخليلي، والمرجع في الطلب والدفع والرفع إلى السيد عمر النقيب.»
ومعنى ذلك، أن هذا الترتيب قد كفل للمشايخ — وقد صاروا في هذا العهد من كبار الملتزمين — استرداد ما يدفعونه، باحتسابه من مسموحهم في فرض حصصهم، وتفسير ذلك أن المشايخ الملتزمين؛ أي أولئك الذين التزموا بدفع الضريبة (الميري) عن حصة الأرض التي اعتُبروا مسئولين عن تأدية المال (أو الميري) عنها إلى الحكومة، كانت الحكومة قد أعفتهم في نظير التزامهم من دفع الضريبة عن جزء من أراضيهم وأملاكهم الخاصة الداخلة في حصة التزامهم، فعُرف ذلك باسم مسموح المشايخ، وكان المفروض أن يُعفى الفلاحون في هذا الجزء المعفي من الضريبة، من دفع الضرائب كذلك، ولكن المشايخ درجوا — بالرغم من ذلك — على جمع الضرائب وسائر الفرض والإتاوات الحكومية من الفلاحين الموجودين بالأرض المعفاة منها حسب هذا النظام؛ وعلى ذلك، فإنه عندما أراد المشايخ والزعماء القاهريون — ويكادون يكونون جميعًا من المشايخ الملتزمين، وهم كذلك أغنياء القاهرة وسراتها — إنهاءَ فتنة الجند التي آذت أشد ما آذت — كما ذكرنا — مصالح هذه الطبقة، رتَّبوا احتساب المبالغ التي يدفعونها من مسموحهم من الفرض على حصص التزامهم، فتُرد هذه المبالغ إليهم أو تُحتسب لهم في كشوف الضرائب، والإتاوات التي يحصلونها — دون وجه حق أصلًا — من الفلاحين في أرضهم أو حصص التزامهم، وبهذه الطريقة ضمن المشايخ استرداد ما دفعوه.
ولم يأبه المشايخ والرؤساء الشعبيون لمصالح الفريق الآخر، من صغار التجار وأرباب الحرف والصناعات الصغيرة، الذين قصمت ظهورهم الضرائب الفادحة والإتاوات المتكررة، فوقع على كاهلهم عبء دفع قسط كبير من المبلغ المطلوب، دون أي ضمان لاستردادهم إياه أو لاستنزاله من الضرائب أو الإتاوات التي تُحصَّل منهم، وهكذا أثبتت المشايخ والرؤساء الشعبيون أنهم لا يعنون إلا بصون مصالحهم الذاتية فحسب.
ومع أن كبار الضباط ورجال الباشا قد اشتركوا مع المشايخ في بحث الأمر، فقد كان من الواضح أن الذي عنى به الباشا وقتئذٍ، هو وصول مبلغ الألفي كيس إليه ليدفع منه مرتبات الجند حسبما وعد به، كما كان من الواضح أن كبار الضباط إنما يهمهم وصول المال لأيديهم حتى يدفعوه بدورهم للجند؛ ولذلك فقد كان ترتيب توزيع المبلغ على الطوائف والهيئات — وبعد أن دفع رجال دائرة الباشا قسمًا منه — من شأن المشايخ والرؤساء الشعبيين أنفسهم.
وعلى ذلك فإنه ما إن جرى تحصيل هذا المبلغ، حتى «اجتمع الكثير من أهل الحرف كالصرماتية وأمثالهم، والتجأوا إلى الجامع الأزهر، وأقاموا به ليالي وأيامًا فلم ينفعهم ذلك، وانبث المعينون بالطلب، وبأيديهم الأوراق بمقدار المبلغ المطلوب من الشخص، وعليها حق الطريق، وهم قواسة أتراك وعسكر ودلاة، وقواسة بلدي، ودهي الناس بهذه الداهية في الشهر المبارك، فيكون الإنسان نائمًا في بيته ومفتكرًا في قوت عياله، فيدهمه الطلب، ويأتيه المعين قبل الشروق، فيزعجه ويصرخ عليه، بل ويطلع إلى جهة حريمه، فينتبه كالمفلوج من غير اصطباح، ويلاطف المعين، ويوعده ويأخذ بخاطره، ويدفع له كراء طريقه المدفوع له في الورقة المعيَّن بها المبلغ المطلوب قبل كل شيء، فما يفارقه إلا ومعين آخر واصل إليه على النسق المتقدم، وهكذا.»
(٣) الضرب على أيدي المحرضين
(٣-١) نفي رجب آغا
وما إن سكنت فتنة الجند، حتى شرع الباشا يعمل بحزم وشدة للضرب على أيدي رؤساء الجند الذين تزعموا هذه الفتنة، وعقوبة الثوار الظاهرين، والمغامرين الذين يحركون القلاقل والاضطرابات؛ ليعيثوا فسادًا في القاهرة خصوصًا؛ وليسلبوا القاهريين ويعتدوا عليهم، والذين كان وجودهم — كما كتب الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية عن هذه الحوادث في نوفمبر من العام نفسه — مصدر خطر لا على سلطانه وحكومته فحسب، بل وعلى حياته هو نفسه كذلك، حتى إذا شاء الاعتماد على ولاء الجيش له، وجب عليه — كما قال هؤلاء — أن يتخذ إجراءات سريعة وحاسمة للتخلص منهم.
وكان واضحًا أن تركَ الجند يَسدَرون في غوايتهم، دون وقف اعتداءاتهم على الأهلين، سوف يترتب عليه انعدام الأمن في القاهرة، وإفلات زمام الأمور من يد الباشا في آخر الأمر، ومن المحتمل كثيرًا قيام القاهريين بالثورة، صحيح أن الفتنة الأخيرة مرَّت دون أن يحرك القاهريون ساكنًا للانتقام من الأرنئود والدلاة الذين آذوهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم، وذلك بفضل الإجراءات التي اتخذها عمر مكرم وغيره من المتصدرين، لإغلاق الحوانيت، ومنع تسلح الأهلين، وإلزامهم بالمكوث في بيوتهم، وإغلاق البوابات وحراستها، ولكن الخطر كان كامنًا، ولا ضمان لدوام هذا السكون إذا وقعت فتنة أخرى من طراز هذا العصيان والتمرد. ولقد عبَّر الشيخ الجبرتي عن كراهية الشعب لجند الباشا، فقال: «ولشدة قهر الخلائق منهم، وقبح أفعالهم، تمنوا مجيء الإفرنج من أي جنس كان، وزوال هؤلاء الطوائف الخاسرة، الذين ليس لهم ملة ولا شريعة، ولا طريقة يمشون عليها، فكانوا يصرخون بذلك بمسمع منهم، فيزداد حقدهم وعداوتهم، ويقولون أهل هذه البلاد ليسوا مسلمين؛ لأنهم يكرهوننا ويحبون النصارى، ويتوعدونهم إذا خلصت لهم البلاد، ولا ينظرون لقبح أفعالهم.»
وكان أخطر المحرضين على التمرد والعصيان، رجب آغا، وكان من الذين انضموا إلى الألفي سابقًا وصار أحد قواد مشاته، وقد تقدم ذكر حادث مخامرة رجب آغا على عمر بك الأرنئودي ومقاومته مع ياسين بك في المنيا، وتظاهر بالولاء لمحمد علي بعد ذلك، ولكنه صار يدبِّر الثورة ضده، وكان من كبار المحرضين على الفتنة الأخيرة، فأصدر الباشا أمرًا بعد سكون الفتنة بنفيه، فلم يمتثل رجب آغا لهذا الأمر، وجهر بالعصيان، وكادت تقوم الفتنة من جديد، لولا أن تغلب جند الباشا عليه، وأُوذي الأهلون في هذا الحادث كذلك إيذاءً بليغًا. ويقص الشيخ الجبرتي تفاصيل ما وقع في قوله في حوادث يوم ١٩ نوفمبر ١٨٠٧: «قصد الباشا نفي رجب آغا الأرنئودي وأرسل إليه يأمره بالخروج والسفر، بعد أن قطع خرجه، وأعطاه علوفته، فامتنع من الخروج، وقال أنا لي عنده خمسين كيسًا، ولا أسافر حتى أقبضها، وذلك أنه في حياة الألفي الكبير، اتفق مع الباشا بأن يذهب عند الألفي وينضم إليه، ويتحيل في اغتياله وقتله، فإن فعل ذلك وقتله وتمت حيلته عليه، أعطاه خمسين كيسًا، فذهب عند الألفي والتجأ إليه، وأظهر أنه راغب في خدمته، وكره الباشا وظلمه، فرحَّب به وقبله وأكرمه مع التحذر منه، فلما طال به الأمد ولم يتمكن من قصده، ورجع إلى الباشا، فلما أمره بالذهاب الآن أخذ يطالبه بالخمسين كيسًا، فامتنع الباشا، وقال: جعلت له ذلك في نظير شيء يفعله، ولم يخرج من يده فعله، فلا وجه لمطالبته به، واستمر رجب آغا في عناده، وذلك أنهم لا يهون بهم مفارقة مصر التي صاروا فيها أمراء وأكابر، بعد أن كانوا يحتطبون في بلادهم، ويتكسبون بالصنائع الدنيئة … ثم إنه جمع جيشه إليه من الأرنئود بناحية سكنه، وهو بيت حسن كتخدا الجربان بباب اللوق، فأرسل إليه الباشا مَن يحاربه.
فحضر حسن آغا سر ششمه من ناحية قنطرة باب الخرق، وحضر أيضًا الجم الكثير من الأتراك وكبرائهم من ناحية المدابغ، وعمل كل منهم متاريس من الجهتين، وتقدموا قليلًا حتى قربوا من مساكن الأرنئود تجاه بيت البارودي، فلم يتجاسروا على الإقدام عليهم من الطريق، بل دخلوا من البيوت التي في صفهم، ونقبوا من بيت إلى آخر، حتى انتهوا إلى أول منزل من مساكنهم، فبغتوا البيت الذي يسكن به الشيخ محمد سعد البكري، ونفذوا منه إلى المنزل الذي بجواره، ثم منه إلى منزل علي آغا الشعراوي، ثم إلى بيت سيدي محمد وأخيه سيدي محمود المعروف بأبي دفية، الملاصق لمسكن طائفة من الأرنئود، وعبثوا في الدور وأزعجوا أهلها بقبيح أفعالهم.
فإنهم عندما يدخلون أول بيت يصعدون إلى الحريم بصورة منكرة، من غير دستور ولا استئذان، وينقبون من مساكن الحريم العليا، فيهدمون الحائط ويدخلون منها إلى محل حريم الدار الأخرى، وتصعد طائفة منهم إلى السطح، وهم يرمون بالبنادق في الهواء في حال مشيهم وسيرهم وهكذا، ولا يخفى ما يحصل للنساء من الانزعاج، ويصرن يصرخن ويصحن بأطفالهن، ويهربن إلى الحارات الأخرى، مثل حارة قواديس، وناحية حارة عابدين، بظاهر الدور المذكورة، بغاية الخوف والرعب والمشقة، وطفقت العساكر تنهب الأمتعة والثياب والفُرُش، ويكسرون الصناديق ويأخذون ما فيها، ويأكلون ما في القدور من الأطعمة في نهار رمضان من غير احتشام.
ولقد شاهدت أثر قبيح فعلهم ببيت أبي دفية المذكور من الصناديق المكسرة، وانتشار حشو الوسائد والمراتب التي فتقوها وأخذوا ظروفها، ولم يسلم لأصحاب المساكن سوى ما كان لهم خارج دورهم، وبعيدًا عنها، أو وزَّعوه قبل الحادثة، وأُصيب محمد أفندي أبو دفية برصاصة أطلقها بعضهم من النقب الذي نقب عليهم، نفذت من كتفه، وكذلك فعل العساكر التي أتت من ناحية المدابغ بالبيوت الأخرى.
واستمروا على هذه الأفعال ثلاثة أيام بلياليها.
وتدخَّل عمر بك الأرنئودي، وصالح قوج (قوش) لإنهاء الفتنة، وتوليا رجب آغا بحمايتهما، فحضر عمر بك كبير الأرنئود الساكن ببولاق ليلة ٢٣ نوفمبر، وكذلك صالح قوج إلى رجب آغا المذكور، وأركباه وأخذاه إلى بولاق، وبطل الحرب بينهم، ورفعوا المتاريس في صبحها، وانكشفت الواقعة عن نهب البيوت ونقبها، وإزعاج أهلها، ومات فيما بينهم أنفار قليلة، وكذلك مات أناس وانجرح أناس، من أهل البلد.» وفي ٢٦ نوفمبر سافر رجب آغا، وتخلَّف عنه كثير من عساكره وأتباعه، وذهب من ناحية دمياط وطُرد رجب آغا من البلاد نهائيًّا.
وعمد الباشا إلى التخلص رويدًا رويدًا من سائر متزعمي العصيان والمحرضين عليه، أولئك الذين لم يدُر في ذهنهم قط أن يسوِّدوا عليهم سيدًا يأتمرون بأمره، ويطيعون نواهيه، بل اعتقدوا أن من حقهم أن يختاروا الزعيم الذي يرضخ لأهوائهم، ويخضع لنزواتهم، وصار إطلاق الرصاص والعصيان ديدنهم كلما واتتهم الفرصة للإفصاح عن تذمرهم، وإعلان غضبهم وسخطهم على حكومة الباشا، ولما لم يكن مركز محمد علي قد توطَّد بالدرجة التي تجعله قادرًا على الاقتصاص من الثوار بالطرق العادية المألوفة خشية أن يؤدي إنزال العقوبة بالمحرضين على العصيان إلى هياج الجنود وسريان روح التمرد بين سائر صفوف الجيش، وثورة الجيش بأسره، فقد لجأ الباشا إلى وسائل صامتة للخلاص منهم، فجرى إعدام كثيرين من قادة العصيان بالقلعة سرًّا، واتخذ من واجب تحصين الإسكندرية، وسائر الثغور والمواقع في الشاطئ الشمالي، ذريعة لإبعاد الآخرين من القاهرة، وتوزيعهم على مختلف الحاميات، بحيث لا تظل قوات كبيرة من الجيش مجتمعة في مكان واحد، وبحيث ينالون علائفهم ومرتباتهم من الأماكن التي يُرسلون إليها، فيخف كذلك عبء نفقاتهم عن خزانته، فضلًا عن أن توزيعهم هذا لا ينال من قوته شيئًا، لبقاء الجيش قائمًا، وفي ديسمبر من السنة نفسها قطع الباشا رواتب طوائف الدلاة وأُمروا بالسفر إلى بلادهم.
ولم يظهر أثر هذه الإجراءات التي اتخذها محمد علي لتطويع الجند إلا شيئًا فشيئًا، فقد بقيت بطبيعة الحال طائفة من الجند بالقاهرة، للدفاع عنها، واستمرت اعتداءات هؤلاء على الأهلين، فلا يمر يوم دون وقوع اعتداءات جديدة، حتى لاحظ الوكلاء الفرنسيون أن أصحاب الأسمال البالية هم الذين في وسعهم وحدهم أن يشعروا بأي أمن وطمأنينة عند سيرهم في شوارع العاصمة.
(٣-٢) حادث ساحرة دمنهور
وكان من العوامل التي ساعدت على زيادة الفوضى بين طوائف الجند، اعتقاد هؤلاء في المشعوذين والسحرة، يحتفون بهم ويسيرون في ركابهم؛ تكريمًا لهم وتلمسًا للبركة منهم، في مواكب ذات جلبة وضوضاء، يطوفون بهم في شوارع القاهرة، ويعتدون على القاهريين، ويسلبون الحوانيت والدكاكين. وكان أخطر مَن ظهر مِن هؤلاء المشعوذين الذين اعتقد فيهم كثيرون من الأرنئود على وجه الخصوص، امرأة من نواحي دمنهور ادعت أن لها صلة مباشرة بعالم الأرواح، يخاطبها روح يُسمى الشيخ علي، ويجيب على ما يسأله السائلون بواسطتها، وفي وسع هؤلاء كذلك أن يلمسوا يده في جلسات خاصة في ظلام الليل، واشتُهر أمر هذه الساحرة، وصار لها آلاف من المؤمنين بها، ومن بينهم عدد عظيم من الأرنئود، فصارت تتجول في شوارع القاهرة على حصان، يحيط بها الأرنئود حراسًا لها. وخشي الباشا أن تكون هذه المرأة أداة في يد أعدائه، يستخدمونها لتأليب الجند، بل وتحريك الشعب نفسه على الثورة، فسعى جهده لكشف خديعتها وإظهار كذب ادعائها، والتخلص منها بصورة لا تستفز جنده الأرنئود. فاستدعى الباشا إليه أربعة من الحواة، ووعدهم بمبلغ من المال إذا استطاعوا إحضار الساحرة، فوجدها هؤلاء عند باش آغاة التبديل، أو رئيس خفراء الحراسة الليلية، يحيط بها المعجبون من الجند وغيرهم، فلما أرادوا القبض عليها انتصر لها الجند وهددوا الحواة وطردوهم بدعوى أن البيت سوف يسقط على رءوسهم إذا مس أحدٌ بشرٍّ شخصَ هذه المرأة المقدسة. وتزايد خطرها يومًا بعد آخر، وصار لا نُدحة عن إنهاء مسألة هذه الساحرة بكل سرعة، فأمر الباشا رئيس الشرطة بإحضارها؛ حتى يُظهِر كغيره إعجابه بفعالها الخارقة، واستقبلها الباشا أمام سرايه في ميدان الأزبكية قبل الغروب، وهو جالس تحت شجرة كبيرة من الجميز يدخن نارجيلته بالقرب من ساقية، يحيط به المعجبون بها والمؤمنون بسحرها، ورجاها إحضار الروح، ووقف جمهور كبير يشهد ما يجري بين الباشا وبينها. ولما كان الليل لم يرخِ سدوله بعد، والمكان خلاء، فقد اعتذرت الساحرة بأن اتصال الروح لا يحدث إلا في الظلام، وعلاوة على ذلك، فقد ذهب الشيخ علي للصلاة في جامع الإمام الحسين، وأنه سيعود بعد قليل، فدخل الباشا إلى قصره، وتبعه كبار الضباط ورؤساء الجند لمشاهدة المعجزة، فلما جاء الليل جلس الباشا وحوله هؤلاء الرؤساء، ويجاوره طبيبه الخاص «بوزاري» وترجمانه؛ لأنه لا يتكلم العربية، وادعت الساحرة أنها تجهل التركية، و«بوزاري» يعرف اللغتين، فأُطفئت الأنوار، وأجاب الشيخ علي على الأسئلة التي وجِّهت إليه في صوت مكبوت، وبدا كأنما الباشا قد غُلب على أمره، ولكنه لم يلبث أن طلب أن يقبل يد الروح، وكان بعد لأي وعناء أن رضي الشيخ علي أن يمد أطراف أصابعه حتى يقبلها الباشا، فقبض عليها بشدة وأُحضرت الأضواء، واتضح أن اليد هي يد الساحرة ذاتها، التي ثبت أنها ذات قدرة على إخراج الأصوات من بطنها، وقرَّر الباشا إغراقها في النيل فورًا، فقام صخب وقامت ضجة حتى شعر الباشا بالخوف لحظة، ولكن سرعة بديهته وشجاعته أنقذتا الموقف، فقال: «لا شك في أن هذه المرأة يمتلكها روح ذو قدرة خارقة، وهذا الروح لن يدعها تهلك، أما إذا كان لا وجود لهذا الروح أصلًا، واتضح أنها كانت تخدع الناس وتغشهم، فإنها سوف تغرق.» وأمام هذا المنطق القوي إذًا، رضي المعارضون بأخذها إلى النيل؛ حيث أُلقيت الساحرة به، وانتظروا — بعض الوقت — خروجها من النهر، ولكن دون جدوى، فانصرفوا لشأنهم.
على أنه كان من أثر ما ظهر من تصميم محمد علي، على ردع حركات العصيان، وأخذه جنده بالشدة، للقضاء على عوامل الفوضى واختلال النظام في جيشه، أن فرَّ كثيرون من الصفوف، وقصدوا إلى الأرنئودي الثائر الآخر ياسين بك، يعملون تحت لوائه، وكان خطر هذا قد أخذ يستفحل منذ حوادث عصيانه الأخيرة والتي ذكرناها، ووجب على الباشا القضاء على حركته بكل وسيلة.
(٣-٣) نفي ياسين بك الأرنئودي
فقد استفحل شر ياسين بك وأخذ يعيث فسادًا في أقاليم مصر الوسطى، وانضم إليه كثيرون من رؤساء العثمنلي والأرنئود الذين أصاب كبرياءهم تصميم الباشا على جمع أسباب السلطة في يده، كما فرَّ إليه كثيرون من الجند؛ لنقمتهم — كما ذكرنا — على النظام الذي يريد الباشا إدخاله في الجيش، أضف إلى هذا أن العربان الذين من دأبهم انتهاز الفرص السانحة للسلب والنهب، سرعان ما صاروا يتوافدون على معسكره في أعداد عظيمة واجتمع لدى ياسين بك من القوة ما جعله قادرًا على إبراز جيش في الميدان يضارع في أعداده وسلاحه ما لدى محمد علي نفسه من مشاة، وداعب الأمل ياسين بك في إمكان انتزاع الباشوية من محمد علي، ولا جدال في أنه كان في وسعه أن يفعل ذلك، لو أنه أُوتي إلى جانب أطماعه هذه وقدرته على النضال في جلد ومثابرة — وقد شهد المعاصرون له بالقدرة على الكفاح القوي — شيئًا من الحكمة وبُعد النظر، فعرف كيف ينحاز بالقوات التي لديه لإحدى القوتين المتناضلتين وقتئذٍ: محمد علي أو البكوات المماليك، فيسير في نفس الطريق الذي سار فيه الباشا نفسه، في أوائل عهده، ومنذ أن صح عزمه على الوصول إلى الحكم والولاية، حتى إذا استعان بإحدى هاتين القوتين في القضاء على جماعة من خصومه، استطاع منازلة الجماعة الأخرى، وكان من الواضح أن من صالحه الاتحاد مع البكوات المماليك إذا شاء القضاء على حكومة محمد علي؛ لأن انضمام فرسانهم إلى جيشه — لا شك — يجعل كفته الراجحة في أية معارك يخوض غمارها مع الباشا.
ولكن ياسين بك كان مغامرًا تنقصه الحنكة السياسية، عجز عن ابتداع سياسة أو تدبير خطة محكمة للوصول إلى غايته، واعتمد في جذب الجند إليه على كرمه وسخائه معهم، وهو الذي تسنى له أن يجمع ثروة طائلة بأعمال السلب والنهب التي انغمس فيها، فأجزل لجنده العطاء، وكان مرحًا بطبعه، وذا شخصية محببة للنفوس، كثير التسامح مع جنده، حتى أحبه هؤلاء، ورضوا بالعمل تحت لوائه وتزايدت أعداد الوافدين منهم إلى معسكره يومًا بعد يوم، ولكنه أخطأ خطأً جسيمًا عندما اعتبر أعداء له، كل مَن رفضوا الانضواء تحت لوائه، وبدلًا من الاتحاد مع البكوات الذين بالصعيد، جلب سخطهم عليه، واستثار عداءهم ضده بسبب مضي عصاباته في النهب والسلب والتخريب، مما أثار عليه أسياد الصعيد الثلاثة: إبراهيم بك، وعثمان بك حسن، وشاهين بك المرادي خليفة عثمان البرديسي، فاتحدوا ضده وقرروا مهاجمته.
فقد انتهز في سبتمبر وأكتوبر ١٨٠٧ وقوع الخلاف بين البكوات، بسبب إغارة سليمان بك البواب على بعض القرى التابعة لشاهين بك المرادي ونهبها، فاستولى ياسين على بني سويف والمنيا؛ حيث تحصن بها، ولم يتورع أثناء مناوشاته مع المماليك عن مهاجمة ملوي وأخذِ مبلغ كبير من المال من أهلها، بالرغم من أنها تتبع محمد بك المنفوخ المرادي حامي ياسين بك نفسه. وفي نوفمبر كان لا يزال ياسين متحصنًا بالمنيا، وفي مناوشات مستمرة مع البكوات من الألفية والمرادية على السواء، ويتخذ العدة لإخضاع إقليم الفيوم كذلك.
وكان البكوات وقتئذٍ يتفاوضون من أجل الصلح مع الباشا — على نحو ما سيجيء ذكره في موضعه — وكان شاهين بك الألفي يعيش مستأمنًا في الجيزة والقاهرة، ومنذ أن صالحه الباشا في ديسمبر ١٨٠٧، فاستعان محمد علي به في استثارة أسياد الصعيد لقتال ياسين، وكان هؤلاء يسخطون عليه سخطًا عظيمًا، فأوقعوا به هزيمة كبيرة بالقرب من منفلوط في يناير ١٨٠٨، ونهبوا حملته ومتاعه وانسحب في حوالي المائتين فحسب إلى المنيا؛ حيث تحصن بها، وحضر أبوه إلى القاهرة مستسلمًا. وشرع محمد علي يجهز تجريدة لمطاردته من حوالي السبعمائة أو الثمانمائة، بقيادة بونابرتة الخازندار (أحمد آغا)، وتقدم التجريدة سليمان بك الألفي من رجال شاهين الألفي في قوة أخرى، وانضم بكوات الصعيد إلى جيش حسن باشا طاهر الأرنئودي للقضاء على ياسين، فهاجموا المنيا من الناحية القبلية، بينما صوَّب الأرنئود مدافعهم عليها من الناحية البحرية. وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته في أول فبراير ١٨٠٨، أن هذه الحملة عند انضمامها إلى قوات المماليك بالصعيد سوف تغدو قوة عظيمة في وسعها طرد ياسين بك من المنيا والسيطرة عليها، «ولا جدال في أن إخضاع هذا الثائر — الذي أُتيح له خلق سلطة ثالثة في مصر أشد خطرًا مما قد تبلغه سلطة الباشا، أو سلطة البكوات المماليك؛ لأن أكثرية العربان منحازون إليه — من شأنه بسط الهدوء، وفتح المواصلات لاستئناف النشاط التجاري الذي تعطل من مدة طويلة بين الوجهين البحري والقبلي.»
ويصف الشيخ الجبرتي ما وقع بعد خروج هذه التجريدة، فيقول في حوادث يوم ١٠ فبراير ١٨٠٨: «ورد الخبر بأن سليمان بك الألفي لما وصل إلى المنيا، ونزل بفنائها، خرج إليه ياسين بك بجموعه، وعساكره وعربانه، فوقع بينهما وقعة عظيمة، وانهزم ياسين بك وولَّى هاربًا إلى المنيا، فتبعه سليمان بك في قلة، وعدى الخندق خلفه، فأُصيب من كمين بداخل الخندق ووقع ميتًا، بعد أن نهب متاع ياسين بك وجماله وأثقاله، وشتَّت جموعه، وانحصر هو وعربانه وما بقي منهم بداخل المنيا، وكانت الواقعة (يوم ٤ فبراير ١٨٠٨). فلما ورد الخبر بذلك على الباشا، أظهر أنه اغتم على سليمان بك، وتأسف على موته، وأقام العزاء عليه خشداشينه بالجيزة، وفي بيوتهم، وطفق الباشا يلوم على جراءة المصريين (البكوات المماليك) وإقدامهم، وكيف أن سليمان بك يخاطر بنفسه، ويلقى بنفسه مَن داخل الخندق، ويقول أنا أرسلت إليه أحذِّره، وأقول له أن ينتظر بونابرتة الخازندار، ويراسل ياسين بك، ويطلعه على ما بيده من المراسيم، فإذا أبى وخالف ما في ضمنها، فعند ذلك يجتمعون على حربه، وتتقدم عسكر الأتراك لمعرفتهم وصبرهم على محاصرة الأبنية، فلم يستمع لما قلت، وأغرى بنفسه، وأيضًا ينبغي لكبير العسكر التأخر عن عسكره، فإن الكبير عبارة عن المدبِّر الرئيسي، وبمصابه تنكسر قلوب قوَّته، وهؤلاء القوم بخلاف ذلك، يُلقون بأنفسهم في المهالك.
ولما أرسل جماعة سليمان بك يخبرون بموت كبيرهم، وأنهم مجتمعون على حالتهم، ومقيمون بعرضيهم ومحطتهم على المنيا، وأنهم منتظرون مَن يقيمه الباشا رئيسًا مكانه، فعند ذلك أرسل الباشا إلى شاهين بك الألفي يعزيه، ويلتمس منه أن يختار مِن خشداشينه مَن يقلده الباشا إمارة سليمان بك، فيتشاور شاهين بك مع خشداشينه، فلم يرضَ أحد من الكبار أن يتقلد ذلك، ثم وقع اختيارهم على شخص من المماليك يُسمى يحيى، وأرسلوه إلى الباشا، فخلع عليه، وأمره بالسفر إلى المنيا، فأخذ في قضاء أشغاله وعدى إلى بر الجيزة.»
ولكن أمد مقاومة ياسين بك في المنيا لم يطل، فقد شجعه بعد مقتل سليمان بك على الصمود، فرارُ قسم من جند بونابرتة الخازندار من جيشه، وانضمامهم إلى ياسين بك عند وصولهم إلى المنيا، واستنادًا على هذه النجدة التي جاءته، قرَّر ياسين القيام بحركة خروج مسلح من المنيا، تكللت بالنجاح، وفقد المماليك أربعة من رؤسائهم، وقُتل كثيرون من رجال شاهين الألفي، بيد أن قصور تفكيره السياسي سرعان ما أوقعه فريسة لأطماعه؛ فقد أرسل إليه بونابرتة الخازندار «يستدعيه إلى الطاعة، وأطلعه على المكاتبات والمراسيم التي بيده من الباشا خطابًا له وللأمراء الحاضرين والغائبين المصرية؛ أي البكوات المماليك، وفي ضمنها إنْ أبى ياسين بك عن الدخول في الطاعة، واستمر على عناده وعصيانه، فإن بونابرتة والأمراء المصرية يحاربونه.» غير أن هذا التهديد ما كان يكفي وحده لإقناع ياسين بك بالتسليم، فقال «دروفتي»: إن هذا إنما أغراه على التسليم، والوقوع في الشرك الذي نصبه له الباشا، وعدُ محمد علي له بإعطائه باشوية جدة، وتوليته قيادة الجيش الذاهب لقتال الوهابيين في الحجاز، فانخدع ياسين بهذه الوعود، ونزل على حكم بونابرتة، وحضر عنده بعد أن استوثق منه بالأمان. وفي ١٣ فبراير «وصلت الأخبار بذلك إلى مصر (القاهرة)، وخرجت العربان المحصورة بالمدينة، بعد أن صالحوا على أنفسهم، وفتحوا لهم طريقًا، وذهبوا إلى أماكنهم، واستلم بونابرتة المنيا، فأقام بها يومين، وارتحل عنها وحضر إلى مصر.»
ووصل ياسين إلى ثغر بولاق في ١٦ فبراير، وركب صبيحة اليوم التالي، وطلع إلى القلعة، ولم يلقَ الترحيب الذي انتظره، بل على العكس من ذلك، عوَّقه الباشا في القلعة وأراد قتله، ولكن مثلما تدخل عمر بك الأرنئودي وصالح قوج، في مسألة رجب آغا وأنقذاه، فقد تدخلا وغيرهما من الأرنئود في مسألة ياسين بك، وتعصبوا له، «وطلعوا إلى القلعة يوم ٢٠ فبراير، وقد رتَّب الباشا عساكره وجنده، وأوقفهم بالأبواب الداخلية والخارجية، وبين يديه، وتكلم عمر بك وصالح آغا مع الباشا في أمره، وأن يقيم بمصر، فقال الباشا: لا يمكن أن يقيم بمصر، والساعة أقتله، وأنظر أي شيء يكون، فلم يسَع المتعصبين له إلا الامتثال، ثم أحضر الباشا ياسين بك وخلع عليه فروة، وأنعم عليه بأربعين كيسًا، ونزلوا بصحبته بعد الظهر إلى بولاق، وسافر إلى دمياط، ليذهب إلى قبرص، ومعه محافظون.»
وهكذا، كما كتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية في ٢٧ فبراير: «تخلصت مصر من هذا الزعيم الذي قسَّم وجوده مصر إلى مناطق ثلاث، يتناضل رؤساؤها على السلطة، وحقيقة الأمر أن محمد علي ذو عبقرية تمكنه من إفساد مشروعات أعدائه وخططهم، بالمفاوضة تارة، والكيد تارة أخرى للأحزاب والجماعات الطامعة في السلطة»، وتوقع كثيرون — وقد قضى على ياسين بك الآن، ورضي شاهين الألفي بالاعتراف بسلطان محمد علي وعاش تحت رقابته مع سائر بكوات بيت الألفي، بينما ظل سائر البكوات مبعثرين في الصعيد، وتدور المفاوضات بينهم وبين محمد علي — توقعوا أن تنجح مفاوضات الباشا مع هؤلاء، وأن يستقيم له الأمر، فينفرد بالسلطان في أرجاء باشويته، بل اعتقد كثيرون، «أن الباشا صار متحررًا الآن، وللمرة الأولى، منذ وصوله إلى الحكم والولاية، من خطر كل عداوة جدية، صحيح، هناك أعداء لا نُدحة عن النضال معهم، ولكن هؤلاء كانوا مهزومين، ولا حاجة لبذل جهود كبيرة للقضاء عليهم، إذا أظهر الباشا المهارة التي عالج بها الأمور حتى هذا الوقت.»
(٣-٤) تطويع العربان
على أن الحوادث سرعان ما أثبتت أنه لا معدَى عن بذل جهود شاقة مضنية، ليس فقط لإخضاع البكوات المماليك — كما سيأتي ذكره في موضعه — بل وكذلك لاجتثاث تمرد الجند وعصيانهم من أصوله من جهة، ولتطويع العربان من جهة أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى انحياز طوائف العربان إلى البكوات المماليك، ورؤساء الجند العصاة، ومن أشهر هؤلاء: أولاد علي، والجهنة، والهنادي، وعائد، والهوارة، والماعزة، والحويطات.
وكان العربان يُشْبهون الجند العصاة ورؤساءهم المتمردين، من حيث ميلهم إلى السلب والنهب، ويشبهون المماليك، من حيث انتشار الخلافات والانقسامات بينهم، واتبع الباشا في كسر حدة شرهم، نفس الأساليب التي اتبعها مع جنده المتمردين ومع خصومه المماليك، فهو يسيِّر جيشه ضدهم تارة، ويغير على قوافل تجارتهم، ويستميل إليه طوائف منهم، ويتدخل في خصوماتهم، ويوسط لديهم المشايخ والسيد عمر مكرم، وينتصر لفريق منهم على فريق تارة أخرى، ويبذر بذور الشقاق والتفرقة بينهم كل الوقت، وكان لا مندوحة عن تطويع العربان كرهًا أو سلمًا، إذا شاء أن يمنع أذاهم عن الأهلين، في القاهرة وضواحيها وسائر الأقاليم التي خضعت لسلطانه، وإذا شاء أن يصرفهم عن مؤازرة خصومه الألداء، البكوات المماليك.
وقد أُتيحت الفرصة للباشا للتدخل في شئونهم، وتجربة أساليبه معهم، عندما قوي الخصام بين الحويطات والعيايدة في سبتمبر ١٨٠٦، ودار القتال بين الفريقين خارج أسوار القاهرة وحولها، وانقطعت السبل بسبب ذلك، فانتصر الباشا للحويطات، وخرج إلى العادلية جهة القبة أو قبة النصر، خارج باب النصر عند قبر الملك العادل طومان باي في قوة لفض هذه الخصومة ووقف القتال، واجتمع مشايخ الحويطات والعيايدة عند عمر مكرم الذي أصلح بينهم. وفي يناير ١٨٠٧ انتقم الباشا من عرب المعازة الذين استمروا ينقلون التجارة بين الصعيد والقاهرة، بالرغم من محاولة محمد علي منع كل إمدادات عن البكوات بالصعيد، في وقت كان الخطر فيه على حكومته عظيمًا، من احتمال اتحاد الألفي مع زملائه بالصعيد، والذي حال دون وقوعه وفاة الألفي في الأيام الأخيرة من هذا الشهر نفسه، فحدث يوم ١١ يناير أن وصلت قوافل الصعيد من ناحية جبل المقطم وبها أحمال كبيرة وبضائع مع عرب المعازة وغيرهم، فركب الباشا ليلًا وكبسهم على حين غفلة، ونهبهم وأخذ جمالهم وأحمالهم ومتاعهم، حتى أولاد العربان والنساء والبنات، ودخلوا بهم إلى المدينة، يقودونهم أسرى في أيديهم، ويبيعونهم فيما بينهم.
وكان من نتائج صلح الباشا مع شاهين بك الألفي في ديسمبر ١٨٠٧، ومجيء هذا إلى القاهرة أن حضر معه عربان الهوارة الذين كانوا بمعسكره، ثم إن الباشا انتفع من صلحه مع شاهين عندما توسط هذا بين طوائف العربان المتخاصمة في إقليم البحيرة: الهنادي والجهنة وأولاد علي، وكان للألفية صلات وثيقة بهم من أيام الألفي الكبير الذي أصهر من الهنادي والجهنة، وأراد شاهين مناصرتهم على أولاد علي. وتفصيل ما وقع بين هؤلاء العربان، أن أولاد علي كانوا قد تغلبوا على هذا الإقليم، وعاثوا فيه فسادًا كبيرًا، وأخرجوا الهنادي والجهنة من قطاعاتهم، فحضر هؤلاء الآن إلى القاهرة يشكون مما نزل بهم، ويقدمون خضوعهم للباشا في أوائل مارس ١٨٠٨، فتوسط شاهين الألفي في الأمر، وتم الاتفاق على عودتهم إلى منازلهم بالبحيرة، وأن يطردوا أولاد علي، وخرج معهم شاهين وخشداشينه، فقصدوا إلى دمنهور، وارتحل أولاد علي إلى حوش ابن عيسى، ثم التحم الفريقان في معركة كبيرة، سقط في أثنائها اثنان من كبار الأجناد والألفية، وانجلت عن هزيمة أولاد علي الذين أُسر منهم نحو الأربعين، كما غنمت منهم غنائم كثيرة من جمال وأغنام، وتفرقوا وتشتتوا، واضطروا إلى الانسحاب صوب الفيوم والصعيد، ومكَّن شاهين الهنادي والجهنة ورجع إلى الجيزة في أوائل مايو بعد أن عمر الهنادي والجهنة ورجع إلى الجيزة في أوائل مايو بعد أن عمر الهنادي والجهنة بأرض البحيرة.
ولم يرضَ أولاد علي بهزيمتهم، فاتصلوا ببعض أهل الدولة يوسطونهم لدى الباشا؛ حتى يأذن بعودتهم إلى البحيرة، وعرضوا مائة ألف ريال، لقاء رجوعهم للبحيرة وإخراج الهنادي، فأجاب ملتمسهم، ولكن الهنادي والجهنة رفضوا الإذعان، وحاربوا أولاد علي، ونهبوا ونالوا منهم، بعد أن كانوا ضيقوا عليهم، وحصلت اختلافات، فامتنع أولاد علي عن دفع المال الذي قرَّروه على أنفسهم، واجتمعوا بحوش عيسى، فأنفذ الباشا إليهم تجريدة يؤلف الدلاة قسمًا منها، سلَّم قيادتها إلى عمر بك الألفي من رجال شاهين الألفي، فخرجت هذه التجريدة في ٢١ أكتوبر ١٨٠٨ واشترك معها الهنادي في قتال أولاد علي الذين ظهروا عليهم وهزموهم، وقُتل من الدلاة أكثر من مائة، وكذلك من العسكر، ونحو الخمسة عشر من المماليك.
وعندئذٍ أنفذ الباشا تجريدة أخرى يصحبها نعمان بك وغيره من البكوات والمماليك الألفية لمنازلة أولاد علي في حوش ابن عيسى، ولما كان بعض هؤلاء قد انسحبوا إلى الفيوم، فقد أرسل الباشا لمطاردتهم تجريدة أخرى، كما سافر أيضًا شاهين بك وباقي الألفية ما عدا عمر بك الذي ظل مقيمًا بالجيزة وكان ذلك في نوفمبر، ثم لم يلبث أن لحق بهم حسن الشماشرجي، وتغلبت هذه التجريدات على أولاد علي، فارتحل هؤلاء عن البحيرة، وتجمعوا في الفيوم.
وفي أوائل فبراير ١٨٠٩، خرجت عساكر كثيرة … بقصد الذهاب إلى الفيوم، صحبة شاهين بك والألفية لمطاردتهم.
وقد ظل أولاد علي عدائهم للباشا، حتى مايو ١٨١٠، وكان — بعد أن نقض إبراهيم بك الصلح، ونكث شاهين الألفي عهده، وخرج في ١٧ مايو جميع من كانوا بمصر (القاهرة) من الأمراء والأجناد المصرية قاصدين إلى الصعيد في ظروف سوف يأتي ذكرها — أن طلب أولاد علي الصلح والاتفاق مع الباشا، فقد عوَّل الهنادي على اللحاق بشاهين الألفي ومغادرة إقليم البحيرة للانضمام إلى البكوات بالصعيد، وحاول الباشا أن يعترض طريقهم فركب ليلًا وسافر إلى ناحية كرداسة (في ٢٣ مايو) على جرائد الخيل، ولكنه لم يجد أحدًا، فكان من أثر خروج الهنادي إلى الصعيد، أن حضر مشايخ عربان أولاد علي للباشا (في ٢٧ مايو)، فكساهم وخلع عليهم، وألبسهم شالات كشميري عدتها ثمانية شالات، وأنعم عليهم بمائة وخمسين كيسًا.
غير أن العامل الحاسم في تطويع العربان، وانفضاضهم على وجه الخصوص من حول البكوات المماليك، كان هزيمة هؤلاء في معركة اللاهون والبهنسا في يوليو وأغسطس ١٨١٠، ثم الإجهاز عليهم في مذبحة القلعة في أول مارس ١٨١١، وتعقب بقاياهم وفلولهم في أنحاء القطر بالتقتيل والتشريد، والرعب الذي قذفته هذه المذبحة في قلوب العربان وغيرهم، وتيقن هؤلاء أن حكومة الباشا قد تدعمت أركانها نهائيًّا، وصار محمد علي سيد القطر، وانبسط سلطانه على أرجائه، فدانوا بالطاعة والخضوع التامين له، أضف إلى هذا أن الباشا عرف كيف يطمئن العربان على عاداتهم وتقاليدهم، وشرع يدير شئونهم في نطاق نظام يرعى هذه العادات والتقاليد.
وقد شرح «دروفتي» لحكومته في ٢٠ يونيو ١٨١١، مسألة العربان هذه، والإجراءات التي اتخذها أو يزمع الباشا اتخاذها معهم في قوله: «أرى من واجبي أن أذكر بعض ما يعن لي من آراء بشأن العربان المعتقد أنهم منحازون إلى الباشا، فقد بذل محمد علي جهده لربط هؤلاء به بروابط تخضِعهم بشكل ما لسلطانه، وذلك بعد حملته الأخيرة ضد البكوات التي ساهم بعض العربان في إنزال الهزيمة التي حلت بهم، فقد أراد قبل كل شيء أن يستبدل حياة التوطن والاستقرار، بحياة الظعن والانتقال التي يعيشونها، فأعطاهم عددًا من القرى، ثم إنه عيَّن بعد ذلك أحد ضباطه ليقوم بدور الحكم الوحيد لفض كل الخلافات التي تنشأ بينهم، وهذا الضابط مكلف كذلك بمعالجة شئونهم لدى الحكومة، ويرجو الباشا أن يقيم عليها رئيسًا، وكان العربان قد بدءوا يعتادون على هذه الأوضاع عندما بعثت فيهم مذبحة المماليك روح الحرية والمقاومة القديمة، فانحازت قبيلتان منهم إلى جانب البكوات، واتخذ الباقون مواقفهم على حافة الصحراء؛ حيث صاروا يسلكون — على مألوف عادتهم — مسلكًا مبهمًا يبعث على الشك في صدق نواياهم في علاقاتهم مع الباشا، ولكن محمد علي لا يبدو أنه متأثر بذلك، وفي كل مرة تحدث إلي في هذا الموضوع، أظهر لي أنه لا يحب أن يكون هذا السلوك المبهم موضع شكوك من ناحيتهم، بل يعتبرهم الباشا قوات عسكرية مساعدة في وسعه استخدامهم عند الحاجة، بدفع المرتبات لهم كما يجري مع طوائف الجند الأخرى، ولو أنه لا يعتمد عليهم في حالة وقوع غزو أجنبي، وعندما طفق منذ ثمانية أيام مضت يذكر لي الأعداد التي يتألف منها جيشه، لم يُشِر بشيء إلى العربان؛ لأنه يعرف جيدًا أن العربان لن يتخلوا بتاتًا عن المبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه مناورتهم: الانحياز دائمًا إلى جانب المنتصر، ومحمد علي مشغول دون هوادة بالحملة المزمعة ضد الوهابيين … وأما البكوات المماليك، فسوف يرغمهم فيضان النيل القريب على الانسحاب صوب الواحات، ويعتمد الباشا على هذا الظرف المناسب في جذب العربان إليه، وإغراء الأرنئود والعثمنلي وغيرهم الذين لا يزالون مع البكوات على الفرار من جيشهم وتركهم.»
(٣-٥) فتنة عمر بك الأرنئودي
وواقع الأمر، أن تطويع العربان لم يستأثر من اهتمام محمد علي بمثل القدر الذي استأثر به تطويع الجند؛ لأنه كان من المتعذر القضاء على عناصر الشغب دفعة واحدة، وإخماد روح التمرد والعصيان التي تأصلت جذورها في صفوف الجيش من مدة بعيدة، لا سيما وأن حاجة الباشا الملحة إلى المال، وعجزه المستمر عن دفع مرتبات الجند بانتظام، أو سدادها برمتها، قد أمد هؤلاء بالذريعة التي يتذرعون بها لعصيان أوامره، أضف إلى هذا أن تصميم الباشا على أخذ الجند بالشدة بعد فتنة أكتوبر ١٨٠٧، للقضاء على عوامل الإخلال بالنظام في صفوف الجيش، أساء كثيرين من الرؤساء وكبار الضباط والجند العاديين، حتى إن نفرًا من هؤلاء وأولاء، لم يلبثوا أن آزروا فتنة رجب آغا، أو غادروا الصفوف للالتحاق بمعسكر ياسين بك الأرنئودي، أو بمعسكر بكوات الصعيد، أو أنهم اتخذوا من تأخر مرتباتهم ذريعة للبقاء في القاهرة التي استمرأوا العيش بها، ينهبون ويسلبون، وصعب عليهم مغادرتها، في تجريدات لم يكن لهم بها حاجة ولا مأرب.
وقد ظهر هذا التمرد عقب حادث ياسين بك، وإخراجه من البلاد، عندما انتشر الخبر وراجت الإشاعات عن نزول جيش فرنسي في الشاطئ الشمالي، وأنفذ الباشا قسمًا كبيرًا من الأرنئود وسائر أصناف الجند إلى دمياط ورشيد ودمنهور وسائر المواقع الهامة في الشاطئ وفي الدلتا عمومًا، فقد امتنع كثيرون من رؤساء الجند أنفسهم عن مغادرة القاهرة حتى يحصلوا على مرتباتهم المتأخرة، ولجأ الباشا إلى شتى الطرق لجمع المال لدفعها، حتى يستطيع إبعادهم وتفريقهم في شتى الأماكن النائية.
وكانت أولى الخطوات التي اتخذها الباشا لتطهير الجيش بعد ذلك، أن قطع مرتب الدلاة وأمر بإخراج جماعة منهم وترحيلهم، على اعتبار أنهم أعراب؛ أي ليسوا من الأرنئود، ولا حاجة له بهم ولعيثهم وإفسادهم وضجيج الأهلين بالشكوى منهم، وعزل كبيرهم «كردي بوالي»، وقلَّد مصطفى بك — من أقرباء الباشا — رياسة الباقين منهم، ثم ضم إليه طائفة من الأتراك، ألبسهم طراطير، وجعلهم دلاتية. وفي ٨ أغسطس ١٨٠٨، سافر كردي بوالي، وخرج صحبته عدة كبيرة من الدلاة.
ثم واتت الفرصة بعد ذلك للتخلص من عمر بك الأرنئودي، الذي تعصب لرجب آغا، وياسين بك، وكان عمر بك من كبار الأرنئود، ذوي الكلمة النافذة بينهم، اشترك في حوادث فترة الفوضى السياسية التي سبقت المناداة بولاية محمد علي، كما أسهم في الحوادث التالية، خلال الأزمات التي تعرضت لها حكومة محمد علي بعد ذلك، واعتقد أنه لا يقل عن الباشا نفسه جاهًا ومرتبة، وعرف الباشا بما أُوتي من حنكة سياسية وعبقرية لإفساد خطط خصومه أو منافسيه في الحكم، كيف يتفادى شره بمداراته، حتى إذا انتهت أزمة الجند بسلام في أكتوبر ١٨٠٧، وشرع محمد علي يتخذ الإجراءات التي نفرت جمهرة الرؤساء والجند منه، والتي وجب اتخاذها لكبح جماح الجند وتطويعهم، أظهر عمر الأرنئودي ميوله الصحيحة، وما يعتقده في نفسه من قدرة على معارضة الباشا ومناوأته.
وكان الحادث الذي أفضى إلى إخراجه من البلاد، أن الباشا في أوائل عام ١٨٠٩ كان قد أنفذ رجاله يجمعون السفن في النيل، في بولاق وفي فروع النهر في الدلتا، استعدادًا لإرسال تجريدة ضد بكوات الصعيد، فعثر أحد رجاله (قبودان بولاق) عند صهرجت، على مركب مشحونة بالغلال لأحد الأرنئود للتجارة فيها، وأصر القبودان على أخذ المركب قبل أن يبيع صاحبها غلاله ويعود بها إلى بولاق، فتشاجر الرجلان، وقُتل القبودان، وأراد جماعته القبض على القاتل، ففرَّ إلى قرية بها طائفة من الدلاة حموه، وخشي ملتزم البلدة، مصطفى آغا، من مغبة استطالة النزاع بين الفريقين، وما يلحق قريته من تخريب، فاقترح على الفريقين الذهاب إلى الباشا ليرى رأيه، وحضر المتنازعون إلى بولاق، ولكن القاتل لم يلبث أن هرب منهم، والتجأ إلى عمر بك الأرنئودي القاطن بها، فلما طالبه مصطفى آغا بتسليمه، امتنع عمر بك، وقال له: «اذهب إلى الباشا وأخبره أنه عندي، وأنت لا بأس عليك.»
ولكن الباشا عندما بلغه ذلك، استشاط غضبًا، وأنَّب مصطفى آغا؛ لأنه لم يحتفظ بالقاتل وتركه يهرب، فاعتذر مصطفى آغا بعدم قدرته على ذلك من الدلاتية الملتجئ القاتل إليهم، وكأنهم هم الذين أفلتوه، فأمر الباشا بحبسه، وأرسل مصطفى آغا بالخبر إلى عمر بك، «فحضر إلى الباشا، وترجى في إطلاقه، فوعد أنه في غد يطلقه إذا حضر القاتل، فقال عمر بك: إنه عند أزمير آغا، وهو لا يسلم فيه، وركب إلى داره.»
فلما كان صباح اليوم التالي (٢٨ مارس)، أمر الباشا بقتل مصطفى آغا، «فأنزلوه إلى الرميلة، ورموا رقبته عند باب القلعة، ثم قتلوا شخصًا من الدلاة بسبب هذه الحادثة. وفي يوم ٢٩ مارس قتل الأرنئود شخصين من الدلاة أيضًا.» وفي ٣٠ مارس، شدَّد الباشا في مطالبة عمر بك بإرسال القاتل (الأرنئودي)، وقال: «إن لم يرسله، وإلا أحرقت عليه داره، فامتنع من إرساله، وجمع إليه طائفة من الأرنئود، وصالح آغا قوج جاره، وركب الباشا وذهب إلى ناحية الشيخ فرج، وحصل ببولاق قلقلة وانزعاج، ثم ركب الباشا راجعًا إلى داره بالأزبكية وقت الغروب، وكثرت الأرجاف والقلقلة بين الأرنئود والدلاتية.»
وفي أول أبريل قتل الأرنئود اثنين من الدلاتية، جهة قنطرة السباع، والتجأ القاتل إلى كبير من كبار الأرنئود، فأرسل الباشا إلى حسن باشا طاهر طلب منه ذلك الكبير، «وأكد في طلبه، وأنه يقطع رأس القاتل ويرسلها، فكأنه فعل، وأرسل إليه حسن باشا برأس ملفوفة في ملاية تسكينًا لحدته، وبردت القضية، وسكنت الحدة، وراحت على من راحت عليه.»
«ولكن الباشا قد صمَّم على إخراج عمر بك من البلاد، فأمره بالسفر من مصر، وقطع خرجه ورواتبه هو وعسكره، فلم تسعه المخالفة، وحاسب على المنكسر له ولعساكره من العلائف، وكذلك حلوان البلد التي في تصرفه، فبلغ نحو ستمائة كيس، وزِّعت على دائرة الباشا وخلافهم، وكان الباشا ضبط جملة من حصص الناس، واستولى عليها من بلاد القليوبية بحري شبرا، واختصها لنفسه، فلما استولى على حصص عمر بك، ودفع لها حلوانها، وهي بالمنوفية والغربية والبحيرة، عوض بعض من يراعي جانبه من ذلك.
وأخذ عمر بك ومن يلوذ به في تشهيل أنفسهم وقضاء حوائجهم. وفي ١٦ يونيو نزل عمر بك إلى المراكب من بيته من بولاق، وسافر على طريق دمياط، ليذهب إلى بلاده، وسافر معه نحو المائة، وهم الذين جمعوا الأموال، واجتمع لعمر بك المذكور من المال والنوال أشياء كثيرة، عباها في صناديق كثيرة، وأخذها معه، وذلك خلاف ما أرسله إلى بلاده، في دفعات قبل تاريخه.»
ومما تجدر ملاحظته أن عمر بك لم يلقَ تأييدًا من الجند في فتنته هذه مثل ما لقي رجب آغا قبل ذلك بعام واحد فحسب، ودل ذلك على أن كبار الرؤساء قد بدءوا يفقدون قدرتهم على تحريك الفتنة بين الجند ضد الباشا، وأن الباشا قد بدأ يسيطر على الجند، وشعر هؤلاء أنه وحده صاحب الحكم والسلطان في البلاد، صحيح ظلت تقع بعض حوادث التمرد والعصيان بعد ذلك، لكن هذه كانت فردية، لم تشترك فيها طوائف الجند، كما فشلت بسهولة كل حركة عصيان قام بها الرؤساء أنفسهم.
وأما عن محاولات الاعتداء الفردية على الباشا، فقد حدث في شهر يونيو ١٨١٠، أن «عمل الباشا ميدان رماحة بالجيزة، فتقنطر به الحصان، ووقع على الأرض، فأقاموه» وأُصيب في أثناء ذلك غلام من مماليكه برصاصة فمات. وسجَّل الشيخ الجبرتي في تاريخه أنه يُقال إن الضارب لها كان قاصدًا الباشا فأخطأه، وأصابت ذلك المملوك، والأجل حصن. وكان كل ما تعرَّض له محمد علي من أخطار بعد ذلك، مبعثه مكائد البكوات المماليك الذين حاولوا اغتياله في هذا العام نفسه والعام الذي يليه، أثناء انشغاله بالحملة المعدة لحرب الوهابيين، وقد اكتشف الباشا أمر هذه المكائد في حينها، وأخفق المتآمرون على نحو ما سيأتي ذكره.
وكان السبب في تطويع الجند — عدا الشدة التي أخذ بها الباشا هؤلاء للقضاء على عوامل الفوضى في جيشه، وإبعاده المحرضين على العصيان والثورة — حرصه على إرضاء الجند بدفع مرتباتهم لهم، ثم استقدام جندٍ جددٍ من الدلاة (المجانين) من الشام، ووضعهم تحت إمرته مباشرة، وتحت قيادة أقربائه، والرؤساء الذين يثق في ولائهم له، وهذا إلى جانب أجناد من العثمنلي، وغرضه من ذلك موازنة قوى الأرنئود في جيشه. فحضر في نوفمبر ١٨٠٩ طائفة من الدلاتية من ناحية الشام، ودخلوا مصر؛ أي القاهرة، كما حضر غيرهم. وفي يونيو ويوليو ١٨١٠ حضر كثير من عسكر الدلاة من الجهة الشامية، وكذلك حضر أتراك على ظهر البحر كثيرون.
وشُغل الجند ورؤساؤهم بالتجريدات التي أُرسلت إلى الصعيد لقتال المماليك في غضون عامي ١٨٠٩، ١٨١٠، وزاد انتصار الباشا على هؤلاء، خصوصًا في معركتي اللاهون والبهنسا من دعم سيطرته على الجند، ثم إنه ما إن دانت بعض أقاليم الصعيد له بعد هذه الانتصارات حتى عيَّن كبار ضباطه حكامًا على الأقاليم، ومنهم صالح قوج (قوش) الذي عيَّنه حاكمًا على أسيوط، وقد ظل هذا في الصعيد حتى استدعاه الباشا إلى القاهرة عند تدبير مذبحة المماليك، فوصلها في فبراير ١٨١١.
ولقد دلَّ إحكام تدبير هذه المذبحة ونجاحها، على أن الجند وكبار ضباطهم قد صاروا طواعية طائعين للباشا، وأما أولئك الذين أراد محمد علي إقصاءهم، فقد استطاع عزلهم من مناصبهم بسهولة، من هذا القبيل عزله ثلاثة من الرؤساء الأرنئود. قال «سانت مارسيل» في كتابه إلى حكومته في ١٨ أغسطس ١٨١٢، إن الباشا اكتشف تآمرهم عليه، ومحاولتهم تحريض الجند على الثورة ضده، فقطع خرجهم وعلائفهم، وأعطاهم المنكسر لهم، وهو حوالي الثلاثة آلاف كيس، وأمرهم بمغادرة البلاد، ومع أن «سانت مارسيل» توقع عصيان الجند ونشوب الثورة في القاهرة بسبب هذا الحادث فإن شيئًا من ذلك لم يقع.
(٣-٦) نفي صالح قوش وأحمد آغا لاظ
وأما تفصيل هذه الواقعة، فهو أنه كان قد ظهر من الخلاف والخذلان بين بعض رؤساء الأرنئود في الحرب الوهابية ما سبَّب هزيمة جيش طوسون باشا في وادي الصفراء، وولى أكثر الجنود وكبار ضباطهم هاربين، وقصد من هؤلاء الأخيرين تامر كاشف وحسين بك دالي باشا وغيرهما إلى المويلح ينتظرون بها إذن الباشا في رجوعهم إلى مصر أو عدم رجوعهم، ثم إنه كان من بين الذين غادروا الجيش، صالح قوج (قوش) ولكن هذا عندما نزل في السفينة من ينبع كرَّ راجعًا إلى القصير، واستقل برأيه؛ لأنه يرى في نفسه العظمة، وأنه الأحق بالرياسة. وصار يسفِّه رأي السيد محمد المحروقي الذي ذهب مع الجيش ليشرف على لوازمه واحتياجاته وأمور العربان ومشايخهم، كما صار يسفِّه رأي طوسون باشا، ويقول هؤلاء الصغار كيف يصلحون لتدبير الحروب، ويصرح بمثل هذا الكلام، وأزيد منه، وكان هو أول منهزم، وعلم كل ذلك الباشا بمكاتبات ولده طوسون، فحقد في نفسه، وتمم (صالح قوج) ذلك بسرعة رجوعه إلى القصير، ولم ينتظر إذنًا في الرجوع أو المكث.
وفي ٢٥ يناير ١٨١٢ حضر إلى القاهرة حسين بك دالي باشا وغيره كثيرون من كبار الضباط الذين كانوا في المويلح، «ودخلت عساكرهم المدينة شيئًا فشيئًا، وهم في أسوأ حال من الجوع، وتغير الألوان، وكآبة المنظر ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم، وقد سخط الباشا عليهم، ومنع ألَّا يأتيه منهم أحد ولا يراه. وفي ٢٣ مارس، حضر تامر كاشف ومحو بك وعبد الله آغا، وهم الذين كانوا حضروا إلى المويلح بعد الهزيمة في وادي الصفراء فأقاموا مدة، ثم ذهبوا إلى ينبع عند طوسون باشا، ثم حضروا في هذه الأيام باستدعاء الباشا. وفي ١٠ يوليو وصل صالح قوج، وسليمان آغا وخليل آغا من ناحية القصير. وفي ١٣ يوليو طلع الجماعة الواصلون إلى القلعة، وسلَّموا على الباشا، وخاطره منهم منحرف، ومتكدر عليهم؛ لأنه طلبهم للحضور مجردين بدون عساكرهم ليتشاور معهم، فحضروا بجملة عساكرهم، وقد ثبت عنده أنهم هم الذين كانوا سببًا للهزيمة لمخالفتهم على ابنه، واضطراب رأيهم، وتقصيرهم في نفقات العساكر، ومبادرتهم للهرب، والهزيمة عند اللقاء، ونزولهم بخاصتهم إلى المراكب، وما حصل بينهم وبين ابنه طوسون باشا من المكالمات، فلم يزالوا مقيمين في بيوتهم ببولاق ومصر، والأمر بينهم وبين الباشا على السكوت نحو العشرين يومًا، وأمرهم في ارتجاج واضطراب، وعساكرهم مجتمعة حولهم، ثم إن الباشا أمر بقطع خرجهم وعلائفهم، فعند ذلك تحققوا من المقاطعة.»
وقد دفع الباشا ما كان منكسرًا لهم في ٣ أغسطس، وقدره ألف وثمانمائة كيس، وأمرهم بالسفر، ولم يتقدم جندي واحد من جنودهم لمؤازرتهم، فشرعوا في بيع بلادهم؛ أي الأراضي والقرى التي كانت أُعطيت لهم التزامًا وكشوفية، وتعلقاتهم. ويصف الشيخ الجبرتي ضيقهم بهذا الأمر الذي عجزوا عن معارضته، فيقول: إنهم قد «ضاق ذرعهم، وتكدر طبعهم إلى الغاية، وعسر عليهم مفارقة أرض مصر، وما صاروا فيه من التنعم والرفاهية والسيادة والإمارة، والتصرف في الأحكام، والمساكن العظيمة، والزوجات والسراري، والخدم والعبيد والجواري، فإن الأقل منهم له البيتان والثلاثة من بيوت الأمراء ونسائهم التي قتلت أزاوجهن على أيديهم، وظنوا أن البلاد صفت لهم، حتى إن النساء المترفهات، ذوات البيوت والإيرادات والالتزامات صرن يعرضن أنفسهن عليهم، ليحتمين فيهم، بعد أن كن يَعُفْنهم، ويأنفن من ذكرهم، فضلًا عن قربهم.»
وفي ٢٤ أغسطس فرَّ سليمان آغا ومحو بك، وفي ٢٨ منه «سافر صالح آغا قوج وصحبته نحو المائتين ممن اختارهم من عساكره الأرنئودية، وتفرَّق عنه الباقون، وانضموا إلى حسن باشا وأخيه عابدين بك وغيرهما.»
وكان لهذا الحادث ذيول، خلصت الباشا من سائر زملائه القدامى، الذين اشتركوا — كما فعل عمر بك الأرنئودي وصالح قوج — في كل ما وقع من حوادث، من أيام فترة الفوضى السياسية، ووصول محمد علي إلى الولاية.
فقد أساء أحمد بك الأرنئودي، من كبار عظماء الأرنئود القدامى، وزميل عمر بك وصالح قوش، أن يتم إبعاد الأخير وصحبه، فطلب من الباشا أن يقطع خرجه، ويعطيه علوفة عساكره حتى يسافر مع إخوانه، وكان هؤلاء الإخوان علاوة على تخاذلهم وفرارهم بعساكرهم من ميدان القتال في واقعة الصفراء، قد بيَّتوا النية فيما بينهم على إشعال الثورة وإحداث انقلاب يطيح بمحمد علي، ويعهد بالحكم والباشوية إلى أحمد بك الأرنئودي، ولكن خاب سعيهم؛ لأن أحدًا من الجند وسائر الضباط والرؤساء لم يعضدهم، ووقف الباشا على تدابيرهم وحقيقة نواياهم، فبادر بإقصاء صالح قوج وزملائه؛ ولذلك فإنه عندما أُسقط في يد أحمد بك، طلب السفر، ولكن الباشا تظاهر بالعطف عليه، ومنعه، وأظهر الرأفة به، فتغيَّر طبعه، وزاد قهره، وتمرض جسمه، فأرسل إليه الباشا حكيمه، فسقاه شربة وافتصده، فمات من ليلته في ٥ أغسطس.
ويذكر «دروفتي» هذه الحوادث في نشرته الإخبارية عن شهر أغسطس ١٨١٢، إلى حكومته، فيقول: إن هؤلاء الضباط الذين أُبعدوا كانوا قد تآمروا لتسليم أَزِمَّة الحكم إلى أحمد بك الأرنئودي، ولكن مؤامرتهم فشلت تمامًا، ووقف عليها الباشا، وأما أحمد بك فقد مات مسمومًا، وأما الثلاثة الزعماء العصاة فقد أُرغموا على ترك القاهرة، فمنهم من ارتحل بطريق الصحراء إلى الشام، وذهب صالح قوج إلى أبي قير للإبحار منها إلى القسطنطينية.
وأما الحادث الآخر من ذيول واقعة صالح قوج وزملائه، فكان إبعاد أحمد آغا لاظ، وهو لا ينتمي إلى كتخدا بك محمد آغا لاظ، ولو أنه من بلده، وكان صاحب شجاعة وجرأة وهمة، وله نفوذ كبير بين كبار الرؤساء الأرنئود، ويتمتع بسمعة عظيمة في الجيش، لبسالته، وإليه يعود أكبر الفضل في تمهيد الصعيد وإخلائه من الأجناد المماليك، وقد عيَّنه محمد علي حاكمًا على قنا ونواحيها، ولكنه اشترك في المؤامرة التي ذكرناها، وعرف الباشا ذلك، فكتب «دروفتي» منذ ٥ سبتمبر، تعقيبًا على إبعاد صالح قوج وإخوانه: «ولا يزال هناك موضوع يدور البحث في شأنه، هو نفي أحمد آغا لاظ، قائد قسم من الجيش بالصعيد، وهذا الزعيم الذي يتمتع بسمعة عالية في الجيش، ويخشى من نفوذه، وجسارته، وإقدامه، هو الوحيد الآن الذي ظل في استطاعته الانتقاض على سلطان محمد علي.»
ويفصل الشيخ الجبرتي كائنة أحمد آغا لاظ، بصورة تكشف عن أصول هذه المؤامرة التي ذكرها «دروفتي» و«سانت مارسيل»، وأسباب فشلها، وكذلك الطرائق التي تحيل بها الباشا لاستقدام أحمد آغا لاظ إلى القاهرة؛ حيث ضرب عنقه بها، فيقول الشيخ في حوادث آخر سبتمبر وأول أكتوبر ١٨١٢، «وفي تلك الليلة حضر (إلى القاهرة) أحمد آغا لاظ، حاكم قنا ونواحيها، وكان من خبره أنه لما وصلت إليه الجماعة الذين سافروا ونُفوا في الشهر الماضي، وهم: صالح آغا (قوج) وسليمان آغا ومحو بك، ومَن معهم واجتمعوا على المذكور، بثوا شكواهم، وأسرُّوا نجواهم، وأضمروا في نفوسهم أنهم إذا وصلوا إلى مصر، ووجدوا الباشا منحرفًا منهم، أو أمرهم بالخروج والعود إلى الحجاز، امتنعوا عليه وخالفوه، وإن قطع خرجهم وأعطاهم علائفهم بارزوه ونابذوه وحاربوه، واتفق أحمد آغا المذكور معهم على ذلك، وأنه متى حصل هذا المذكور، أرسلوا إليه فيأتيهم على الفور بعسكره وجنده، وينضم إليه الكثير من المقيمين بمصر (القاهرة) من طوائف الأرنئود كعابدين بك وحسن باشا وغيرهم بعساكرهم، لاتحاد الجنسية.
فلما حصل وصول المذكورين، وقطع الباشا راتبهم وخرجهم، وأعطاهم علائفهم المنكسرة، وأمرهم بالسفر، أرسلوا لأحمد آغا لاظ المذكور بالحضور بحكم اتفاقهم معه، فتقاعس وأحب أن يبدي لنفسه عذرًا في شقاقه مع الباشا، فأرسل إليه مكتوبًا يقول فيه: إن كنت قطعت خرج إخواني، وعزمت على سفرهم من مصر وإخراجهم منها، فاقطع أيضًا خرجي، ودعني أسافر معهم.
فأخفى الباشا تلك المكاتبة، وأخَّر عود الرسول، ويُقال له الخجا، لعلمه بما أضمروه فيما بينهم، حتى أعطى للمذكورين علائفهم على الكامل، ودفع لصالح آغا (قوج) كل ما طلبه وادعاه ولم يترك لهم مطالبة يحتجون بها في التأخير، وأعطى الكثير من رواتبهم لحسن باشا وعابدين بك أخيه، فمالوا عنهم، وفارقهم الكثير من عسكرهم، وانضموا إلى أجناسهم المقيمين عند حسن باشا وأخيه، فرتَّبوا لهم العلائف معهم، وأكثرهم مستوطنون ومتزوجون، بل ومتناسلون، ويصعب عليهم مفارقة الوطن، وما صاروا فيه من التنعم، ولا يهون بمطلق الحيوان استبدال النعيم بالجحيم، ويعلمون عاقبة ما هم صائرون إليه؛ لأنه فيما بلغنا، أن من سافر منهم إلى بلاده قبض عليه حاكمها، وأخذ منه ما معه من المال الذي جمعه من مصر، وما معه من المتاع، وأودعه السجن، ويفرض عليه قدرًا فلا يطلقه حتى يقوم بدفعه، على ظن أن يكون أودع شيئًا عند غيره، فيشتري نفسه به، أو يشتريه أو يرسل إلى مصر مراسلة لعشيرته وأقاربه، فتأخذهم عليه الغيرة، فيرسلون له ما فُرض عليه ويفتدونه، وإلا فيموت بالسجن، أو يُطلق مجردًا ويرجع إلى حالته التي كان عليها في السابق، من الخدم الممتهنة والاحتطاب من الجبل، والتكسب بالصنائع الدنيئة، ببيع الأسقاط والكروش، والمؤاجرة في حمل الأمتعة ونحو ذلك؛ فلذلك يختارون الإقامة، ويتركون مخاديمهم، خصوصًا والخسة من طباعهم.
هذا، والباشا يستحث صالح آغا (قوج) ورفقاءه في الرحيل؛ حيث لم يبقَ له عذر في التأخير، فعندما نزلوا في المراكب وانحدروا في النيل، أحضر الباشا الخجا المذكور، وهو عبارة عن الأفندي المخصوص بكتابة سره وإيراده ومصرفه، وأعطاه جواب الرسالة، مضمونها: تطمينه وتأمينه، ويذكر له أنه صعب عليه وتأثر من طلبه المقاطعة، وطلبه المفارقة، وعدَّد له أسباب انحرافه عن صالح آغا (قوج) ورفقائه، وما استوجبوا به ما حصل لهم من الإخراج والإبعاد، وأما هو فلم يحصل منه ما يوجب ذلك، وأنه باقٍ على ما يعهده من المحبة، فإن كان ولا بد من قصده وسفره، فهو لا يمنعه من ذلك، فيأتي بجميع أتباعه، ويتوِّجه بالسلامة أينما شاء، وإلا بأن صرف عن نفسه هذا الهاجس، فليحضِر في القنجة في قلة، ويترك وطاقه وأتباعه، ليواجهه ويتحدث معه في مشورته، وانتظام أموره التي لا يتحملها هذا الكتاب، ويعود إلى محل ولايته وحكمه.
فراج عليه؛ أي أحمد آغا لاظ ذلك التمويه، وركن إلى زخرف القول، وظن أن الباشا لا يصله بمكروه، ولا يواجهه بقبيح من القول، فضلًا عن الفعل؛ لأنه كان عظيمًا فيهم، ومن الرؤساء المعدودين، وصاحب همة وشهامة وإقدام، جسورًا في الحروب والخطوب، وهو الذي مهَّد البلاد القبلية، وأخلاها من الأجناد المصرية (المماليك)، فلما خلت الديار منهم، واستقر هو بقنا وقوص، وهو مطلق التصرف، وصالح آغا (قوج) بالأسيوطية، ثم إن الباشا وجَّه صالح آغا إلى الحجاز، وقلَّد ابنه إبراهيم باشا ولاية الصعيد، فكان يناقض عليه أحمد آغا المذكور في أفعاله، ويمانعه التعدي على أطيان الناس، وأرزاق الأوقاف والمساجد، ويحل عقد إبراماته، فيرسل إلى أبيه بالأخبار، فيحقد ذلك في نفسه، ويظهر خلافه ويتغافل، وأحمد آغا المذكور على جليته وخلوص نيته.
فلما وصلته الرسالة، اعتقد صدقه؛ أي محمد علي، وبادر بالحضور في قلة من أتباعه، حسب إشارته، وطلع إلى القلعة ليلة السبت، وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان ١٢٢٧ (٣-٤ أكتوبر ١٨١٢)، فعبر عند الباشا وسلَّم عليه، فحادثه وعاتبه، ونقم عليه أشياء، وهو يجاوبه ويرادده، حتى ظهر عليه الغيظ، فقام كتخدا بك وإبراهيم آغا، فأخذاه وخرجا من عند الباشا، ودخلا إلى مجلس إبراهيم آغا، وجلسوا يتحدثون، وصار الكتخدا وإبراهيم آغا يلطفان معه القول، وأشارا عليه بأن يستمر معهما إلى وقت السحور وسكون حدة الباشا، فيدخلون إليه، ويتسحرون معه، فأجابهم إلى رأيهم، وأمر مَن كان بصحبته من العسكر، وهم نحو الخمسين بالنزول إلى محلهم، فامتنع كبيرهم، وقال: لا نذهب ونتركك وحيدًا، فقال الكتخدا: وما الذي يصيبه، وهو همشري، ومن بلدي، وإن أُصيب بشيء كنت أنا قبله، فعند ذلك نزلوا وفارقوه، وبقي عنده مَن لا يستغني عنه في الخدمة.
فعند ذلك أتاه من يستدعيه إلى الباشا، فلما كان خارج المجلس، قبضوا عليه، وأخذوا سيفه وسلاحه، ونزلوا به إلى تحت سلم الركوب، وأشعل الضوى المشعل، وأداروا أكتافه، ورموا رقبته، ورفعوه في الحال، وغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه، وذلك في سادس ساعة من الليل، وأصبح الخبر شائعًا في المدينة.
وأحضر الباشا الخجا، وطُولب بالتعريف عن أمواله وودائعه، وعُين في الحال باشجاويش ليذهب إلى قنا، ويختم على داره، ويضبط ما له من الغلال والأموال، وطُلبت الودائع ممن هي عنده، التي استولوا عليها بالأوراق، فظهر له ودائع في عدة أماكن، وصناديق مال وغير ذلك، ولم يتعرض لمنزله ولا لحريمه.
وعندما نقل «دروفتي» إلى حكومته في ٤ أكتوبر، خبر إعدام أحمد آغا لاظ، قال: إن محمد علي قد تخلص من الرجل الوحيد الذي بقي من بين كبار ضباط جيشه، يخشى من مطامحه وشجاعته ونفوذه في الجند، وتأثيره عليهم.»
وهكذا، تم لمحمد علي تطويع الجند، وإبعاد كبار الضباط والرؤساء الذين تعذر عليهم التسليم بالحقيقة والواقع، وكان الباشا لا يعدو في نظرهم، زميلهم القديم في السلاح، ساعدوه في مغامرته، فوصل إلى الحكم والسلطان، ولما كان الواجب يقتضيه — في رأيهم — أن يرضخ لرغباتهم ونزواتهم، بدلًا من أن يسلك مسلك السيد معهم، ويفرض عليهم سلطانه، وتوهَّموا أنهم إذا غامروا مثل مغامرته سهل عليهم غصب الحكم منه، ما دام يصر على إنهاء الفوضى في الجيش، ومحاسبة ضباطه ورؤسائه حسابًا عسيرًا، على كل حركة تمرد أو عصيان تبدر منهم، مهما قلَّ شأنها، ومهما كانت أسبابها.
على أن هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، هي أن الباشا ما كان يستطيع تطويع الجند من أرنئود ودالاتية وغيرهم، وإقصاء محرضيهم على الثورة والعصيان لو أنه عجز عن دفع مرتبات العسكر، أو إعطاء كبار الضباط الذين أراد نفيهم المنكسر لهم من المرتبات والعلائف لتجريدهم من الوسائل التي قد يتذرعون بها للتباطؤ في الخروج، وإطالة مكثهم بالبلاد، وكان من المتعذر على الباشا نفيهم من مصر عنوة لتعصب زملائهم لهم، كما وقع في حوادث رجب آغا وياسين بك الأرنئودي، وعمر بك، وصالح قوج، ولم يتخلص الباشا بالقتل من أحمد آغا لاظ، إلا بعد أن كان قد تم له كسر شوكة كبار الضباط الأرنئود، وعلاوة على ذلك، فقد كان مما يسر انفضاض سائر الرؤساء والجند، من حول صالح قوج، أن الباشا أعطى الكثير من رواتبهم — كما مر بنا — إلى حسن باشا وعابدين بك، وهما اللذان بقيا من كبار الأرنئود، واشتركا في كل الانقلابات، وأسهما في التدابير التي مكنت محمد علي من الوصول إلى الحكم، والتغلب على الصعوبات التي اعترضت باشويته، من حين المناداة بولايته إلى وقت القضاء على المماليك في مذبحة القلعة، واستتباب الأمن نهائيًّا تبعًا لذلك لحكومة محمد علي.
ولذلك، فقد كان المال في هذه الفترة (١٨٠٧–١٨١١)، كما كان في فترة التجربة والاختبار التي سبقتها (١٨٠٥–١٨٠٧)، عصب الحكم والأداة الفعالة في دعم أركان الولاية، ومثلما كانت حاجة محمد علي إلى المال شديدة وملحة قبل عام ١٨١٠، فقد ظلت هذه الحاجة قائمة، بل وزادت شدتها في السنوات التالية.
(٤) المسألة المالية
(٤-١) الحاجة إلى المال
وتضافرت أسباب عدة — غير دفع مرتبات الجند، وما تطلبه نفي وإبعاد المحرضين على الثورة والتمرد، والمتآمرين على سلامة الدولة — على استمرار الحاجة الملحة إلى المال، وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذه الأسباب عند الكلام عن المشكلات التي واجهت محمد علي عقب توليه الولاية، ولكن زاد على هذه الآن غيرها، فمن عوامل الأزمة المالية المزمنة، النظام المتبع في دفع رواتب الجند، والذي ألمعنا إليه في مناسبات سابقة، وبمقتضاه ينال كل رئيس من الرؤساء العسكريين، أو كبار الضباط، مرتبات أربعة أنفار عن كل جندي واحد من الذين تتألف منهم الفرقة التابعة له والخاضعة لقيادته، حتى إن الباشا صار يدفع مرتبات ستين ألف جندي، لجيش لم يتجاوز عدده وقتئذٍ ستة عشر ألف جندي فحسب.
أضف إلى هذا تعذر تنظيم الإدارة المالية، ووضع ميزانية تقديرية على الأقل، لضبط أبواب الإيراد والمنصرف، فظلت مصادر الإيراد، من ضرائب مباشرة وغير مباشرة، منوعة ومتعددة، ثم زيدت عليها السُّلف والقروض الإجبارية، من الوطنيين والأجانب على السواء، وهذا عدا المصادرات، والاستيلاء على قوافل التجارة، وإلزام أصحابها افتداءها بقدر من المال، وغير ذلك من الأساليب التي سوف يأتي ذكرها لاستنضاح المال. وظلت أبواب الإنفاق غير محددة، فهناك إلى جانب الخراج الذي يُدفع سنويًّا للقسطنطينية، ومرتبات الجند، ونفقات الإدارة العادية، نفقات لا سبيل إلى تجنبها، كلما حضر الرسل والقصاد من لدن الباب العالي، يحملون فرمانات التثبيت في الولاية، وكانت هذه تصدر لتجديد الولاية سنويًّا؛ حيث إن الباشوية لم تكن وراثية، كما كثر مجيء هؤلاء الرسل يحملون الفرو والقفاطين والسيوف، علامة رضا السلطان على الباشا، أو ينقلون إليه بشرى التثبيت فحسب، وفي كل مرة يحضر فيها هؤلاء الرسل والقصاد، ومن بينهم من كان صاحب مكانة، زيادة في تكريم الباشا — على حد قول الديوان العثماني — وجبت الحفاوة بهم، والإغداق عليهم بالعطايا والهدايا والبقاشيش لا لأنفسهم فحسب، بل ولرجال الديوان في دوائر الباب العالي، وفي سراي السلطان نفسه، وقد استرعت النفقات الجسيمة التي يتكلفها هؤلاء الرسل نظرَ الشيخ الجبرتي، فقال معلقًا على كثرة إرسال الباب العالي لهم، يحملون الأوامر والمراسيم، إما لتجديد الولاية، أو لإظهار رضاء السلطان، أو لغير ذلك من الشئون التي كان يفتعلها رجال الديوان العثماني افتعالًا، بغية الظفر بالمنح والعطايا والبقاشيش من محمد علي: «ومحل القصد من ورود هذه البيورولديات والفرمانات والأغوات والقبجيات، إنما هو جر المنفعة لهم، بما يأخذونه من خدمهم، وحق طريقهم، من الدراهم والتقادم والهدايا.
فإن القادم منهم إذا ورد، استعدوا لقدومه، فإن كان ذا قدر ومنزلة، أعدوا له منزلًا يليق به، ونظموه بالفُرش والأدوات اللازمة، وخصوصًا إذا كان حضر في أمر مهم، أو لتقرير المتولي على السنة الجديدة، أو بصحبته خِلع رضا وهدايا، فإنه يُقابل بالإعزاز الكبير، ويُشاع خبره قبل وروده إلى الإسكندرية، ويأتي المبشرون بوروده من الططر، قبل خروجه من دار السلطنة بنحو شهر أو شهرين، ويأخذون خدمتهم وبشارتهم بالأكياس، وإذا وصل هو أدخلوه في موكب جليل، وعملوا له ديوانًا ومدافع وشنكًا، وأُنزل في المنزل المُعد له، وأقبلت عليه التقادم والهدايا من المتولي، وأعيان دولته ورُتب له الرواتب والمصاريف لمأكله هو وأتباعه، لمطبخه وشراب حانته، أيام مكثه شهرًا أو شهورًا، ثم يُعطى من الأكياس قدرًا عظيمًا، وذلك خلاف هدايا الترحيلة، من قدور الشربات المتنوعة، والسكر المكرر، وأنواع الطيب كالعود والعنبر، والأقمشة الهندية والمقصبات، لنفسه ورجال دولته.
وإن كان دون ذلك، أنزلوه بمنزلة بعض الأعيان، بأتباعه وخدمه ومتاعه، في أعز مجلس، ويقوم رب المنزل بمصروفهم ولوازمهم وكُلفهم، وما تستدعيه شهوات أنفسهم، ويرون أن لهم المنة عليه بنزولهم عنده، ولا يرون له فضلًا، بل ذلك واجب عليه، وفرض يلزمه القيام به، مع التآمر عليه وعلى أتباعه، ويمكث على ذلك شهورًا حتى يأخذ خدمته، ويقبض أكياسه، وبعد ذلك كله، يلزم صاحب المنزل أن يقدم له هدية، ليخرج من عنده شاكرًا ومثنيًا عليه عند مخدومه وأهل دولته، أقضية يحار العقل والنقل في تصورها.»
وإلى جانب هذا، كان على الباشا أن يمد وكلاءه بالقسطنطينية، بالمال الوفير، للإنفاق منه بسخاء، لسد نهم الباب العالي، الذي طالما ذكر محمد علي كلما تحرجت الأمور بينه وبين الديوان العثماني، أنه يعرف الطرائق المثلى التي يمكن بها اجتياز الأزمات في القسطنطينية، فهو بحاجة إلى البذل والعطاء عند تجديد تقريره على الولاية، أو لرد كيد خصومه، أو لإنهاء المسائل التي يهمه أن يتم حلها في صالحه، كمسألة يوسف كنج التي مرت بنا، أو لكسر حدة غضب الباب العالي منه، بسبب تباطؤه في تنفيذ أوامره، ومماطلته وتسويفه، في المسائل التي يرى من صالحه كذلك المماطلة والتسويف فيها، كعدم إنفاذ جيشه إلى الحجاز حتى يطمئن على ولايته ويفرغ من دعم أركانها.
وعلاوة على ذلك، فقد وجب عليه الاحتياط للمستقبل دائمًا في علاقاته مع الباب العالي، وقد عرفنا أن هذه لم تقم أصلًا على تبادل الثقة بين الفريقين وأوجد محمد علي باشويته في نطاق إمبراطورية كان الذهب — على نحو ما شهد به المعاصرون — السلاح البتار والفيصل القاطع في كثير من عظائم الأمور، والدرع الواقية لصاحبها عند اشتداد الخطوب، ولطالما اشترى الباشوات العصاة في الدولة الجيوش المرسلة للقضاء عليهم، وكثيرًا ما كان هؤلاء يدفعون سرًّا من مالهم معاشًا للسلطان نفسه ولأعضاء ديوانه، وتلك كانت الطرائق التي تُذلل بها الصعوبات في القسطنطينية والتي قال محمد علي — كما أسلفنا — إنه خبير بها.
ثم إنه كان لا نُدحة عن الاحتفاظ بجيش قوي، يدين بالطاعة للباشا، ومتأهب للقتال دائمًا، يسيره ضد البكوات المماليك، أعدائه الداخليين، أو ضد الغزاة أعدائه الخارجيين، سواء كان هؤلاء من البريطانيين — كما وقع — أم من الفرنسيين، كما كان من المتوقع وقتئذٍ أن يحدث، أم من العثمانيين، وهم الذين خشي الباشا دائمًا كيدهم له وغدرهم به، ولا مناص كذلك من إنشاء هذا الجيش القوي، عظيم العدة والعدد، إذا أراد من ناحية أخرى كسب رضاء الباب العالي، وتجريده من الذرائع التي قد يتذرع بها لإعلان سخطه ونقمته عليه، ولقد ظل الباب العالي يلح على باشا مصر إلحاحًا عظيمًا منذ ١٨٠٧، أن يقاتل الوهابيين، ويسترجع الحرمين الشريفين منهم، وتزايد هذا الإلحاح في السنوات التالية، حتى بلغت لجاجة الباب العالي منتهاها في عام ١٨١٠، وآثر محمد علي للأسباب التي عرفناها — إنفاذ حملة إلى الحجاز، على الاصطدام مع صاحب السيادة الشرعية عليه، وشمَّر عن ساعد الجد والعمل لبناء ذلك الأسطول الذي أراد أن يجعله نواة لأسطول مصر التجاري من جهة، والذي ينقل قسمًا من الجيش والمهمات إلى الحجاز، ويبسط سلطان الباشا في البحر الأحمر من جهة أخرى، وقد تطلب ذلك كله نفقات طائلة.
واعتلى محمد علي أريكة الولاية، وخزانتها خالية من المال، وتعيش الحكومة من يومها لغدها، ولا سبيل إلى سد نفقات الإدارة العادية، ناهيك بما كان يحتاجه الولاة الذين سبقوه من أموال لتدبير شئونهم مع الجند تارة ومع الديوان العثماني تارة أخرى؛ إلا باللجوء إلى الفرض والإتاوات والغرامات وأخذ السلف الإجبارية من الأهلين، والقروض من التجار الأجانب، ولقد تقدم كيف أن خورشيد باشا ترك الولاية وهو مدين بثلاثة آلاف كيس متأخر مرتبات الجند، وقروضًا استدانها من مختلف التجار، وتعهد محمد علي بسدادها، ولم يجد محمد علي مناصًا هو الآخر، بسبب خلو خزانته من المال من اللجوء إلى نفس الأساليب التي لجأ إليها أسلافه في الولاية.
وكان من بين القروض العديدة التي عُقدت، أو بالأحرى التي أرغم الأجانب القاطنون بالبلاد على إقراض الحكومة إياها، قرضان كانت لهما قصة، وجرت بشأنهما مفاوضات كثيرة: أحدهما قرض «بتروتشي» قنصل السويد، وقنصل إنجلترة كذلك، إلى وقت جلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية، وقد سبقت الإشارة إلى قصة هذا القرض الذي بلغت قيمته ستين ألف قرش عثماني، فقد شكا «بتروتشي» إلى القائم بالأعمال السويدي بالقسطنطينية، وأمر الباب العالي في أكتوبر ١٨٠٧ بسداد هذا الدين، ورد أملاك «بتروتشي» إليه، تلك التي كان قد صادرها محمد علي، إذا صحت دعوى قنصل السويد هذا، وأما القرض الآخر، فلم يكن لمحمد علي يد فيه، وإن صدر له الأمر بسداده.
ولكن «روشتي» لم يستطع استيفاء دينه كاملًا، ومع أن خسرو نفسه قد اعترف بأنه استدان من قنصل النمسا هذا، مبلغ ٢٣٠٠٤٨ قرشًا عثمانيًّا، ليدفع منها مرتبات الجند كما قال؛ فقد تبين للباشا ودفترداره بعد فحص السجلات، أن المبلغ الذي استُدين لدفع مرتبات الجند كان أربعًا وثمانين ألف قرش فحسب، واستدان خسرو المتبقي من المطلوب سداده للإنفاق منه على شخصه ولكسوة حرسه الخاص. وعلى ذلك فقد دفع الدفتردار هذا المبلغ «لروشتي»، وحتى عام ١٨١٠ كان لا يزال لهذا في ذمة الحكومة ١٤٦٠٤٨ قرشًا، بذل «شتورمر» قصارى جهده لدى الباب العالي لاستصدار أمر إلى حكومة الباشا بدفعه، وشهد «ستفاناكي» مرة أخرى بأن السبب في عدم تقييد بقية المبلغ في السجلات كان حدوث الثورة في القاهرة؛ وعلى ذلك فقد بعث الباب العالي أمرًا في مايو ١٨١٠، إذا كان ما يقوله «ستفاناكي» صحيحًا، بوجوب دفع المبلغ المتبقي، وهو ١٤٦٠٤٨ قرشًا دون تأخير.
أما محمد علي، فقد صار يشكو دائمًا في كل ما دار بينه وبين الباب العالي من مراسلات بصدد الحملة المزمعة ضد الوهابيين من كثرة الديون التي صار ينوء بها كاهله، والتي جعلت متعذرًا عليه إنجاز استعداداته لتلبية أوامر الباب العالي بالسرعة المرغوبة، ثم اتخذ من هذه الديون ومن حاجته إلى المال عمومًا تكأة يستند عليها في إرجاء إنفاذ جيشه إلى الحجاز، حتى يتم له الاطمئنان على باشويته ويفرغ من دعم أركانها.
ولقد سبق أن أشرنا في فصول سابقة وكلما تناول الكلام حاجة محمد علي إلى المال، إلى أن العلة في استمرار هذه الأزمة المستحكمة والمزمنة، عدا الاستيلاء البكوات المماليك على إيرادات الصعيد، إنما هي كساد التجارة، واضمحلال الصناعة، والأهم من ذلك كله، تعطل الزراعة بسبب الحروب الداخلية بين الطوائف المتنازعة على السلطة، وما تعرض له الفلاحون من اعتداءات الجند الأرنئود والدلاة على أرواحهم وأموالهم ومواشيهم ونتاجهم الزراعي، ثم ما فرضته عليهم الحكومة من أنواع الإتاوات والمغارم، إلى جانب فتح طلب مال الميري في غير أوقاته مقدمًا وسلفًا تارة، وعن أعوام سابقة بدعوى تأخر إغلاق حسابها تارة أخرى، وأنفذت حكومة الباشا التجريدات العسكرية إلى مختلف المديريات لجباية الضرائب.
ولما كان الفلاحون يعجزون عن وقف هذه الاعتداءات عليهم، وأرهقتهم الأعباء المالية الثقيلة، وجرَّدهم عمال الباشا والعربان والجند من ثمرة كدهم وكدحهم، فقد غادر كثيرون الأرض فرارًا من هذه المغارم، وأقفرت قرى عديدة من سكانها، وهرب الفلاحون إلى الصحراء وإلى الواحات، كما هاجر نفر منهم إلى الشام، وترتب على ذلك أن صار حوالي ثلث الأرض المزروعة على أيام الفرنسيين، مهملًا متروكًا، طغت عليها رمال الصحراوين الغربية من الشرق، والليبية من الغرب.
وتزايدت حدة الضنك والبأساء في المدن خصوصًا، بسبب استيلاء الباشا على محاصيل القمح والحبوب، لتصديرها إلى الإنجليز وغيرهم. وفي سنتي ١٨٠٨، ١٨٠٩ بلغ سعر إردب القمح ثلاثين قرشًا عثمانيًّا، وذلك برغم وفرة محصوله، بينما كان ثمنه على أيام الحملة الفرنسية لا يزيد على سبعة قروش فحسب، وهدد نقص النيل في كل مرة عند حدوثه بانتشار المجاعة في القاهرة؛ حيث كانت تختفي الغلال من أسواقها بصنع ساحر.
وكان من عوامل زيادة البؤس كساد التجارة، واختفاء الصناعات الأهلية، حتى عجز التجار وأرباب الحرف والصناعات عن تأدية الضرائب والغرامات والقروض المطلوبة منهم، وظهر نوع من المعاملة وقتئذٍ لمواجهة هذه الالتزامات، كان فريدًا في نوعه؛ حيث صار الأفراد يستدينون من الجند المال الذي يدفعون منه الضرائب والإتاوات، والذي ينال منه الجند أنفسهم مرتباتهم، ونشطت سوق السلف والقروض هذه، وأقرض الجند الأهلين بفوائد باهظة، فبلغ سعر الفائدة ٨٪ في الشهر الواحد، ووجد التجار والصناع في هذه العملية مخرجًا مؤقتًا من أزمتهم، ولكنه كثيرًا ما كان يحدث بطبيعة الحال، أن يجد هؤلاء المستدينون عند حلول موعد السداد أنهم يعجزون عن الدفع، فتُصادر عندئذٍ أملاكهم لبيعها، ويُلقى القبض عليهم، وسعيدو الحظ منهم من يستطيعون النجاة بأنفسهم بالفرار إلى الصحراء أو الواحات كما يفعل الفلاحون.
وواجهت حكومة الباشا بسبب إفلاس الأهلين، وهروب الفلاحين خصوصًا إلى الصحراء والواحات مشكلة مزدوجة: إقفار القرى من أهلها، مما نجم عنه تأخر الزراعة بصورة مطردة، ثم تزايد عدد المعوزين والمتعطلين في المدن، لا سيما في القاهرة، نتيجة لإفلاس عديدين من طوائف صغار التجار والصناع. وحاول محمد علي معالجة هذه المشكلة، بأن ينقل إلى الريف لتعمير القرى المهجورة فقراء العاصمة، فأصدر أوامره المشددة إلى شرطته حتى يجمعوا كل من لا صنعة أو حرفة له، والخدم المتعطلين عن العمل، والأرامل الفقيرات، والنساء اللاتي لا أولاد لهن؛ لنقلهم جميعًا قوة واقتدارًا، وتحت حراسة الجند إلى مساكنهم الجديدة في القرى التي هجرها أهلها، ولكن أحدًا من هؤلاء لم يشأ مغادرة العاصمة إلى هذه المساكن الجديدة، فاختفوا سريعًا عن الأنظار، ولم يمكن تنفيذ هذه الأوامر.
بيد أن إقفار مساحات من الأرض من زارعيها، كان معناه حدوث نقص في المال أو الإيرادات المتحصلة من هذه الأراضي، فيغدو شأن هذه الأراضي، شأن تلك التي في حوزة بكوات المماليك في الصعيد، في وقت استحكمت فيه أزمة الباشا المالية، وكان في مقدوره مطالبة الملاك والزراع الذين لم يغادروا الأرض بدفع الضريبة التي تخلَّص من أدائها الفارون، ولكن هذا الإجراء كان قمينًا بأن يثير عليه الاحتجاجات الصاخبة من كل جانب؛ وعلى ذلك، فقد هدته عبقريته إلى ابتكار وسائل جديدة لتحصيل المال، إلى جانب اتباع الإجراءات التي لجأ إليها في الماضي.
وثمة وسيلة عامة أخرى لجأ إليها محمد علي لعلاج أزمته المالية، هي أنه حاول تلافي العجز الحاصل في حصيلة الضرائب الجمركية، لكساد التجارة، بزيادة الرسوم الجمركية زيادة عالية على تجارة الوارد، بصورة أتت بنتيجة عكسية؛ حيث انكمش الاستهلاك المحلي للبضائع المجلوبة من الخارج، بدرجة نقصت بها إيرادات الجمارك، واضطر الباشا إلى البحث عن مصادر للمال أخرى، فعندما نمى إليه أن احتكار الحكومة للتبغ من مصادر الإيراد المربحة في فرنسا، قرر من فوره احتكار تجارته في مصر، فوضع عملاءه في مواني القطر يشترون لحسابه التبغ المستورد من تركيا، وأقام مستودعًا مركزيًّا في القاهرة، لتوزيع التبغ منه إلى بلدان الوجه البحري والصعيد، كما أنشأ مصنعًا في القاهرة كذلك يعمل فيه الصناع لإعداد الدخان المهيأ لاستهلاك العاصمة، ووفد الباعة كل صباح على المصنع لأخذ مقطوعية اليوم من الدخان، وقضى هذا الاحتكار الحكومي على صناعة اختص بها الأفراد العاديون، وكسبوا منها رزقهم، فاشتد التذمر، وعلت الاحتجاجات الصاخبة، وانخفض الاستهلاك، واضطر الباشا إلى التخلي عن هذه التجارة، واستعاض عن ذلك بفرض ضريبة جمركية عالية على جميع أصناف التبغ المستورد إلى البلاد، على أنه مما تجدر ملاحظته، أن هذه المحاولة الاحتكارية الأولى، والتي حدثت في غضون الشهور الستة الأولى من عام ١٨٠٨، كانت تجربة قائمة بذاتها، ولا صلة لها بنظام الاحتكار الواسع الذي أنشأه محمد علي بعد ذلك.
وتسنَّى للباشا أن يتبع طريقًا ثالثًا لتفريج أزمته، بفضل ما كان يحرزه من انتصارات على البكوات المماليك، وما صار يستتبع ذلك من مصادرة أملاكهم وأراضيهم، وكان أصحاب الأرض عمومًا هم المماليك الذين تتألف منهم الطبقة الحاكمة، ويمتلك هؤلاء نصف الأرض تقريبًا، ثم الأفراد العاديون، ولهؤلاء قسم من الجزء الباقي من الأرض، بينما ظل القسم الأخير منها من أراضي وأملاك الوقف المرصدة للمساجد والسبل وأبواب الخيرات المنوعة، وبمقتضى النظام السائد بين المماليك، كان لكل صنجق من صناجقهم حصة معينة من الأرض يوزعها بين بكواته وكشافه، بما عليها من قرى ودساكر، وهو وحده صاحب الحق الأعلى في ملكيتها، بينما كانت تُؤجر الأرض والمباني المنشأة عليها للفلاحين الذين يدفعون عنها إيجارًا بعضه نقدًا والآخر عينًا، وكان للفلاحين كذلك أن يستأجروا أراضي وعقار الوقف المرصد ريعها للجوامع وما إليها، كما كان لهم أن يستأجروا الأرض من الأفراد العاديين.
وبقدر نجاح محمد علي في القضاء على طائفة المماليك، كثر عدد القرى، وزادت مساحة الأرض التي دخلت في حوزته بعد جلاء هؤلاء عنها، وصار يوزِّع هذه على كبار ضباطه، وقد شهدنا كيف أن أحمد بك الأرنئودي، أو عمر بك، أو صالح آغا قوج، أو حسن باشا، استطاعوا جميعًا بسبب هذا الإجراء أن يجمعوا ثروات طائلة بفضل امتلاكهم للقرى والأراضي التي أعطاهم محمد علي إياها، بل إن الباشا كثيرًا ما كان يعمد إلى توزيع القرى والأرض التي يمتلكها البكوات المماليك على ضباطه وأعوانه، في جهات لم تكن بعد قد دخلت في حوزته واعترف سادتها بسلطانه.
على أن هذه الإجراءات العامة لم تكفِ لسداد نفقات الباشا، ولقطع دابر أزمته المالية المزمنة، ووجد الباشا أن مصدرًا هامًّا من مصادر الإيراد، قد ظل معطلًا، نتيجة لبقائه متحررًا من سلطان الحكومة، ونعني بذلك أراضي الوقف والرزق والإحباسية، فقرَّر الاستيلاء عليها، وكان هذا القرار السبب المباشر لوقوع الاصطدام بينه وبين المشايخ، بيد أنه لا معدَى عن تتبع الإجراءات السابقة لهذه العملية الأخيرة، والتي لجأ إليها محمد علي لسد العجز الظاهر في ماليته منذ أن تزايدت حاجته إلى المال، عقب خروج الإنجليز من الإسكندرية، لمواجهة مطالب الحكومة من يوم لآخر، لفهم هذه الواقعة على حقيقتها.
(٤-٢) أساليب الباشا المالية
ذلك أن الأساليب التي اتبعها الباشا الآن لجمع المال، كانت نفس الأساليب السابقة، والتي أرهقت أهل البلاد عمومًا والقاهريين خصوصًا، وكانت مبعث سخطهم وتذمرهم، ولو أن أحدًا منهم لم يجرؤ على الاعتراض أو الاحتجاج عليها؛ وسبب ذلك توطد سلطان الباشا المطرد، وإقبال المشايخ والزعماء الشعبيين، وعلى رأسهم عمر مكرم، على معاضدته وتأييده، ولم يكن الأهلون يرون مبررًا لتوالي المظالم والمغارم عليهم، وهم الذين أسهم المشايخ وزعماؤهم في تطويعهم تزلفًا للباشا، لإغداقه عليهم بالحصص من ناحية، ولعدم تعرضه لمسموحهم أو لإيرادات الوقف المتنظرين هم عليه من ناحية أخرى.
بيد أن مضيَّ الباشا في أساليبه المالية، ثم لجوءه أخيرًا إلى تجريد المشايخ من الإيرادات التي نعموا بها، بمهاجمة نظام الوقف المألوف، لم يلبث أن زاد من تذمر الأهلين وسخطهم، ثم أفضى إلى انحراف المشايخ والتصدي لمعارضته، ولكن ثمة ملاحظة جديرة بكل اعتبار، كان لها شأن في تكييف الحوادث التالية، ومساعدة الباشا على التخلص من معارضة المشايخ، سواء أكانت هذه معارضة صامتة أم سافرة، هي أن سخط الشعب تحول رويدًا رويدًا إلى المشايخ أنفسهم، حتى إذا ذهب هؤلاء يعارضون الباشا، لم يحرك الشعب ساكنًا لمؤازرتهم، وترك الباشا يقتص منهم، ويعمل على إقصائهم من شئون الحكم كلية، على نحو ما سيأتي ذكره.
أما الباشا فقد بدأ منذ ٦ أكتوبر ١٨٠٧ — كما سبق بيانه — يفتح الطلب من الملتزمين ببواقي الميري على أربع سنوات ماضية. وفي ٢٣ أكتوبر، فتحوا أيضًا دفاتر الطلب بالميري عن السنة القابلة وبدأت من ثم المتاعب التي شكا منها الأهلون والتي بسطها الشيخ الجبرتي في تاريخه، فقال: «وجهت الحكومة الطلب بها إلى العسكر، فدُهي الناس بدواهٍ متوالية، منها خراب القرى، بتوالي المظالم والمغارم والكلف، وحق الطريق، والاستعجالات، والتساويف، والبشارات، فكان أهل القرية النازل بها ذلك، ينتقلون إلى القرية المحمية لشيخ من الأشياخ، وقد بطلت الحماية أيضًا حينئذٍ، ثم أنزلوا بالبنادر مغارم عظيمة لها قدر من الأكياس الكثيرة، وذلك عقب فرضة البشارة، مثل دمياط ورشيد والمحلة والمنصورة، مائة كيس وخمسون كيسًا، ومائة وخمسون كيسًا وأكثر وأقل.
وفي أثناء ذلك قرروا أيضًا فرضة غلال وسمن وشعير وفول على البلاد والقرى، وإن لم يجد المعينون للطلب شيئًا من الدراهم عند الفلاحين، أخذوا مواشيهم وأبقارهم، ليأتي أربابها، ويدفعوا ما تقرر عليهم، ويأخذوها ويتركوها بالجوع والعطش، فعند ذلك يبيعونها على الجزارين، ويرمونها عليهم قهرًا بأقصى القيمة، ويلزمونهم بإحضار الثمن، فإن تراخوا وعجزوا، شددوا عليهم بالحبس والضرب.»
وفي ديسمبر ١٨٠٧، بدأ الباشا إعادة النظر في تقدير مساحة الأراضي المزروعة، وتقرير فئات الضرائب عليها بنسبة خصبها وارتوائها من ماء النيل، فأنفذ ولده إبراهيم بك في ٢٤ ديسمبر إلى مديرية القليوبية، ومعه طائفة من المباشرين الأقباط وعلى رأسهم جرجس الطويل، كبيرهم، وعدد من أفندية الروزنامة والكتبة، للكشف على الأطيان التي رُويت والأخرى الشراقي، «فأنزلوا بالقرى النوازل، من الكلف وحق الطرقات، وقرروا على كل فدان رواه النيل أربعمائة وخمسين ونصف فضة تُقبض للديوان، وذلك خلاف ما للملتزم، والمضاف، والبراني، وما يُضاف إلى ذلك من حق الطرق والكلف المتكررة.»
وبدأ الباشا القروض الإجبارية، فتقرر في ٣١ ديسمبر من العام نفسه، إرغام مساتير الناس على تقديم سلف، تُحتسب لهم من المغارم التي سوف يجري تقريرها على حصصهم في المستقبل، وعيَّن الجند لتحصيل هذه السلف الفريدة في نوعها، فتغيَّب غالب الناس وتوارى لعدم ما بأيديهم، وخلوِّ أكياسهم من المال، والتجأ الكثير منهم إلى ذوي الجاه، ولازموا أعتابهم، حتى شفعوا فيهم، وكشفوا غمتهم.
وانتهز الباشا فرصة مجيء القابجي بيانجي بك، يطلب من محمد علي إنفاذ جيشه إلى الحجاز، لمطالبة المتصدرين من المشايخ والزعماء بتدبير النفقات التي تستلزمها تلبية أوامر الباب العالي، والتي قدرها الباشا بأربعة وعشرين ألف كيس. وفي فبراير ١٨٠٨ «عمل الباشا ديوانًا جمع فيه الدفتردار والمعلم غالي والسيد عمر مكرم والمشايخ، وقال لهم: لا يخفاكم أن الحرمين استولى عليهما الوهابيون، ومشَّوا أحكامهم بها، وقد وردت علينا الأوامر السلطانية، المرة بعد المرة، للخروج إليهم ومحاربتهم وجلائهم وطردهم عن الحرمين الشريفين، ولا تخفى عنكم الحوادث والوقائع التي كانت سببًا في التأخير عن المبادرة في امتثال الأوامر، والآن حصل الهدوء، وحضر قابجي باشا بالتأكيدات والحث على خروج العساكر وسفرهم، وقد حسبنا المصاريف اللازمة في هذا الوقت، فبلغت أربعة وعشرين ألف كيس، فأعملوا رأيكم في تحصيلها.»
وكان هذا مبلغًا جسيمًا، فحصل ارتباك واضطراب، وشاع ذلك في الناس، وزاد بهم الوسواس، ولما كان الباشا غير متهيئ لإنفاذ جيشه إلى الحجاز وقتئذٍ، للأسباب التي عرفناها، فقد راح يبذل قصارى جهده لإقناع القابجي بالتريث وعدم العجلة؛ إذ يحتاج هذا الأمر إلى استعدادات كبيرة، وإنشاء مراكب في بحر القلزم، وسهل عندئذٍ الاتفاق على كتابة عرضحال ليصحبه ذلك القابجي معه بصورة نمقوها.
وفي العام نفسه قام محمد علي برحلة في الوجه البحري، استغرقت شهرًا تقريبًا من ٢٧ أغسطس إلى ٢٢ سبتمبر ١٨٠٨، كان الغرض منها جمع المال لإرسال هدية إلى الباب العالي، وشرح الشيخ الجبرتي الأساليب التي اتبعت في جمع المال أثناء هذه الرحلة، فقال: «سافر محمد علي باشا إلى بحري، ونزل في المراكب، وأرسل قبل نزوله بأيام تشهيل الإقامات، والكلف على البلاد، من كل صنف خمسة عشر، وأخلوا له ولمن معه بيوت البنادر، مثل المنصورة ودمياط ورشيد والمحلة والإسكندرية، وفرض الفرض والمغارم على البلاد، على حكم القراريط التي كانوا ابتدعوها في العام الماضي، على كل قيراط سبعة آلاف وسبعمائة نصف فضة، وسماها كلفة الذخيرة، وأمر بكتابة دفتر لذلك.
فكتب إليه الروزنامجي أن الخراب استولى على كثير من البلاد، فلا يمكن تحصيل هذا الترتيب، فأرسل الباشا من المنصورة يأمر بتحرير العمار بدفتر مستقل، والخراب بدفتر آخر، فلما فعل الروزنامجي ذلك، أدخل فيها بلادًا بها بعض الرمق لتخلص من الفرضة، وفيها ما هو لنفسه، فلما وصلت إليه؛ أي محمد علي، أمر بتوزيع ذلك الخراب على أولاده وأتباعه وأغراضه، وعدتها مائة وستون بلدة، وأمر الروزنامجي بكتابة تقاسيطها بالأسماء التي عينها له، فلم يمكن الروزنامجي أن يتلافى ذلك فتظهر خيانته، ووزعت وارتفعت عن أصحابها.
وكذلك حصل بإقليم البحيرة لما عمها الخراب، وتعطل خراجها، وطلبوا الميري من الملتزمين، فتظلموا واعتذروا بعموم الخراب، فرفعوها عنهم، وفرقها الباشا على أتباعه، واستولوا عليها، وطلبوا الفلاحين الشاردة والمنسحبة من البلاد الأخر، وأمروهم بسكناها، وزادوا في الطنبور نغمات، وهو أنهم صاروا يتتبعون أولاد البلد أرباب الصنائع الذين لهم نسبة قديمة بالقرى، وذلك بإغراء أتباعهم وأعوانهم، فيكون الشخص منهم جالسًا في حانوته وصناعته، فما يشعر إلا والأعوان محيطون به يطلبونه إلى مخدومهم، فإن امتنع أو تلكأ سحبوه بالقهر، وأدخلوه إلى الحبس، وهو لا يعرف له ذنبًا، فيقول: وما ذنبي؟ فيُقال له: عليك مال الطين، فيقول: وأي شيء يكون الطين؟ فيقولون له: طين فلاحتك من مدة سنتين لم تدفعه؟ وقدره كذا وكذا، فيقول: لا أعرف ذلك، ولا أعرف البلد، ولا رأيتها في عمري، لا أنا ولا أبي ولا جدي، فيُقال له: ألست فلان الشبراوي أو المنياوي مثلًا، فيقول لهم: هذه نسبة قديمة، سَرَت إليَّ من عمي أو خالي أو جدي، فلا يُقبل منه، ويُحبس ويُضرب حتى يدفع ما ألزموه به، أو يجد شافعًا يصالِح عليه، وقد وقع ذلك لكثير من المتسببين والتجار وصناع الحرير وغيرهم.
ولم يزل الباشا في سيره حتى وصل إلى دمياط، وفرض على أهلها أكياسًا، وأخذ من حكامها هدايا وتقادم، ثم رجع إلى سمنود، وركب في البر إلى المحلة، وقبض ما فرضه عليها، وهو خمسون كيسًا نقصت سبعة أكياس عجزوا عنها بعد الحبس والعقاب، وقدَّم له حاكمها ستين جملًا وأربعين حصانًا، خلاف الأقمشة المحلاوية، مثل الزردخانات والمقاطع الحرير، وما يُصنع بالمحلة من أنواع الثياب والأمتعة، صناعة من بقي بها من الصناع.
ثم ارتحل عنها ورجع إلى منوف، وذهب إلى رشيد والإسكندرية، ولما استقر بها عبى هدية إلى الدولة، وأرسل إلى مصر (القاهرة) فطلب عدة قناطير من البن والأقمشة الهندية وسبعمائة إردب أرز أبيض أُخذت من بلاد الأرز، وأرسل الهدية صحبة إبراهيم أفندي المهردار …
وفي ٢٢ سبتمبر حضر محمد علي باشا من غيبته، وطلع على ساحل بولاق … وذهب إلى داره بالأزبكية، ثم طلع ثاني يوم إلى القلعة …»
وفي ٨ ديسمبر ١٨٠٨ عزل الباشا السيد محمد المحروقي من نظارة الضربخانة، ونصَّب بها شخصًا من أقاربه، وكان متولي أمانة الضربخانة السيد أحمد المحروقي، فلما تُوفي في ديسمبر ١٨٠٤، عيَّن الباشا ابنه السيد محمد مكان أبيه في أغسطس ١٨٠٥، واستمر في منصبه حتى عزله الآن محمد علي، وكانت قد جرت العادة بأن يدفع المتولي لشئونها مال الميري الذي عليها، وعوائد الباشا وكتخداه والمرتبات إلى أصحابها، على أن يكون المتبقي له بعد دفع أجر الخدمة والمصاريف، فضمن تعيين أحد أقارب الباشا على دار الضرب أو سك النقود، حصول الباشا على هذا المتبقي، أضف إلى هذا أن الإشراف على عملية سك النقود ذاتها كانت عملية في وسع الباشا الانتفاع منها، من حيث تحديد نسبة المعادن الخالصة، كالفضة أو الذهب عند مزجها بغيرها لسك العملة المطلوبة، فيدخل خزانته الفروق بين قيمة المعدن المستخدم في سك النقود، وسعر التداول المعين لها.
وثمة عملية أخرى، كانت مصدر ربح للباشا، هي تغيير صرف النقود الفضية والذهبية كالريال الفرانسة، والمحبوب، والمجر، من أنواع العملة الطيبة التي استمر اختفاؤها من السوق، واستخدامها في تجارة الوارد، وقد اختفت كذلك العملة الصغيرة؛ أي الفضة العددية من أيدي الناس والصيارف؛ «لتحكيرهم عليها، ليأخذها تجار الشوام بفرط في مصارفتها تُضم للميري، فيدور الشخص على صرف القرش الواحد فلا يجد صرفه إلا بعد جهد شديد، ويصرفه الصرَّاف أو خلافه للمضطر بنقص نصفين فضة أو ثلاثة»، وبلغ صرف الريال الفرانسة إلى مائتين وأربعين، والمحبوب إلى مائتين وخمسين، فنُودي في نوفمبر ١٨٠٨ على المعاملة بأن يكون صرف الريال الفرانسة بمائتين وعشرين، والمحبوب بمائتين وأربعين. وفي أبريل ١٨٠٩ نُودي مرة ثانية على صرف الفرانسة والمحبوب والمجر، كما نُودي في العام الماضي، ويعلل الشيخ الجبرتي ذلك بقوله: «لأنه لما نُودي بنقص صرفها، ومضى نحو الشهر أو الشهرين، رجع الصرف إلى ما كان عليه وزيادة، فأُعيد النداء كذلك، وسيعود الخلاف ما دام الكرب والضيق بالناس، على أن هذه المناداة والأوامر بالنقص والزيادة ليست من باب الشفقة على الناس، ولا الرحمة بهم، وإنما هي بحسب أغراضهم وزيادة طمعهم، فإنه إذا توجهت المطالبات بالفرض والمغارم، نُودي بالنقص، ليزيد الفرض، وتتوفر لهم الزيادة، ويحصل التشديد والمعاقبة على من يقبض الزيادة من أهل الأسواق، وإذا كان الدفع من خزانتهم في علائف العسكر أو لوازمهم الكبيرة، قبضوها بأزيد من الزيادة التي نادوا عليها، من غير مبالاة ولا احتشام، تناقض ما لنا إلا السكوت عنه.»
وتناول الشيخ الكلام عن المعاملة مرة أخرى، فأسهب في شرح هذه العملية التي لم يرَ فيها إلا وسيلة لاختلاس أموال الناس، وذلك بمناسبة المناداة في أواخر ١٨١٠ وأوائل ١٨١١ على صرف المحبوب بزيادة صرفه ثلاثين نصفًا، بينما كان المحبوب يُصرف — كما رأينا — بمائتين وخمسين من زيادات الناس في معاملاتهم، ونادوا بالنقص وقتذاك، فعادوا الآن ينادون بالزيادة، وذكر الشيخ الغرض من ذلك، ثم ما كان يحدث من نقص في وزن وعيار العُمَل المتداولة التي تصدرها دار الضرب أو الضربخانة واختفاء النقود الصغيرة من الفضة، أو نصف فضة — كما كانت تُسمى — وهي «الميدي» المحرفة عن «المؤيدي»: مسكوكات مصنوعة من خليط الفضة والنحاس وقيمتها واحد على أربعين من القرش، واختفاء غيرها من الخمسة فضة، والعشرة فضة، والعشرين فضة أو نصف القرش، فقال في حوادث ٢٨ / ١٢ / ١٨١٠–٢٥ / ١ / ١٨١١: «وفي هذه الأيام نُودي بالزيادة، وذلك بحسب الأغراض والمقاصد والمقتضيات، ومراعاة مصالح أنفسهم، لا المصلحة العامة، هذا مع نقص عياره (عيار المحبوب) ووزنه عما كان عليه قبل المناداة، وكذلك نقصوا وزن القرش، وجعلوا القرش على النصف من القرش الأول، ووزنه درهمين، وكان أربعة دراهم، وفي الدرهمين ربع درهم فضة، هذا مع عدم الفضة العددية»؛ أي نصف الفضة أو الميدي وسائر المسكوكات الصغيرة التي ذكرناها، وعدم وجودها بأيدي الناس والصيارف، وإذا أراد إنسان صرف قرش واحد من غيره، صرفه بنقص ربع العشر، وأخذ بدله قطعًا صغارًا إفرنجية، يصرف منها الواحدة باثني عشر، وأخرى بعشرة، وأخرى بخمسة، ولكنها جيدة العيار، وهم الآن يجمعونها ويضربونها بما يُزاد عليها من النحاس، وهو ثلاثة أرباعها، قروشًا؛ لأن القطعة الصغيرة التي تُصرف بخمسة أنصاف فضة وزنها درهم واحد وزني، فيصيرونها أربعة قروش، فتُضاف الخمسة إلى ثمانين، وكل ذلك نقص واختلاس أموال الناس من حيث لا يشعرون.
ثم طرق الشيخ الموضوع نفسه في ديسمبر ١٨١١ ويناير من العام التالي، فلاحظ ما طرأ على صرف المعاملة من زيادة فاحشة من جهة، ونقص في وزنها وعيارها من جهة أخرى، وطفق يشرح هذه الظاهرة، فقال: «وذلك أن حضرة الباشا أبقى دار الضرب على ذمته، وجعل خاله ناظرًا عليها، وقرَّر لنفسه عليها في كل شهر خمسمائة كيس، بعد أن كان شهريتها أيام نظارة المحروقي خمسين كيسًا في كل شهر، ونقصوا وزن القروش نحو النصف عن القرش المعتاد، ونادوا في خلطه حتى لا يكون فيه مقدار ربعه من الفضة الخالصة، ويُصرف بأربعين نصفًا، وكذلك المحبوب نقصوا من عياره ووزنه.
ولما كان الناس يتساهلون في صرف المحبوب والريال الفرانسة ويقبضونها في خلاص الحقوق ومن المماطلة والمفلسين وفي المبيعات الكاسدة بالزيادة لضيق المعايش، حتى وصل صرف الريال إلى مائتين وخمسين نصفًا والمحبوب إلى مائتين وثمانين، ثم زاد الحال في التساهل في الناس بالزيادة أيضًا عن ذلك، فينادي الحاكم بمنع الزيادة، ويمشي الحال أيامًا قليلة، ويعود لما كان عليه وأزيد، فتحصل المناداة أيضًا ويعقبونها بالتشديد والتنكيل بمن يفعل ذلك، ويقبض عليه أعوان الحاكم ويُحبس ويُضرب ويغرمونه غرامة، وربما مثَّلوا به وخرموا أنفه وصلبوه على حانوته، وعلَّقوا الريال في أنفه ردعًا لغيره.
وفي أثناء ذلك إذا بالمناداة بأن يكون صرف الريال بمائتين وسبعين والمحبوب بثلاثمائة وعشرة، فاستمع وتعجب من هذه الأحكام الغريبة التي لم يطرق سمعَ سامعٍ مثلُها.
هذا مع عدم الفضة العددية في أيدي الناس، فيدور الشخص بالقرش وهو ينادي على صرفه بنقص أربعة أنصاف، نصف يوم حتى يصرفه بقطع إفرنجية، منها ما هو باثني عشر أو خمسة وعشرين أو خمسة فقط، أو يشتري من يريد الصرف شيئًا من الزيَّات أو الخضري أو الجزار، ويبقى عنده الكسور الباقية، يوعده بغلاقها، فيعود إليه مرارًا حتى يتحصل عنده غلاقها، وليس هو فقط بل أمثاله كثير.
وسبب شحة الفضة العددية، أنه يُضرب منها كل يوم بالضربخانة ألوف مؤلفة يأخذها التجار بزيادة مائة نصف في كل ألف، يرسلونها إلى بلاد الشام والروم، ويعوضون بدلها في الضربخانة الفرانسة والذهب؛ لأنها تصرف في تلك البلاد بأقل مما تصرف به في مصر.
وزاد الحال بعد هذا التاريخ حتى استقر على صرف الألف مائتين، وتقرر ذلك في حساب الميري فيدفع الصارف ثلاثين قرشًا عنها ألف ومائتان ويأخذ ألفًا فقط، والفرانسة والمحبوب بحسابه المتعارف بذلك الحساب، والأمر لله وحده.»
وكثر التفنن في أساليب طلب المال، فابتدعت حكومة الباشا إلى جانب ما سمته كلفة الذخيرة — في أغسطس ١٨٠٨ — نوعًا آخر من المغارم، في أبريل ١٨٠٩، سمته الترويجة، وتفصيل ذلك أن الباشا أمر في أوائل أبريل بتحرير فرضة الأطيان، بزيادة الثلث على ما تقرر في العام السابق؛ لأن النيل في ذلك العام (أغسطس ١٨٠٨) كان قد نقص نقصًا كبيرًا، فربطت الآن الضرائب على الأطيان، ورُتبت في أربع مراتب، تزيد كل ضريبة عن الأخرى مائة نصف فضة، وبحيث جُعل أعلاها ثمانمائة نصف فضة، ثم طلبت الحكومة جانبًا معجلًا من الضريبة، هو الذي أسموه بالترويجة، وهذا بالرغم من أن الفرضة الماضية بقي الكثير منها بالذمم لخراب القرى، وعجز الحكومة عن تحصيلها، وبالرغم من الضائقة التي حلت بالأهلين بسبب انعدام الغلال من الأسواق، نتيجة لنشاط حركة تصديرها إلى الخارج، إلى مالطة خصوصًا؛ فقد تشحطت الغلال وغلا سعرها حتى بلغ الإردب القمح ألفًا وستمائة نصف فضة، وعز وجوده بالرقع والعرصات، وأما السواحل فلا يكاد يوجد بها شيء من الغلة بطول السنة. وهكذا راح الشيخ الجبرتي يعلق على ذلك كله بقوله: ولولا لطف الله بوجود الذرة لهلكت الخلائق، ومع ذلك استمرار المغارم والفرض، حتى فرض الغلة عين، وكذلك تبن وجمال، وما ينضاف إلى ذلك، مما سمعته غير مرة، مما يطول شرحه.
وعندما أنفذ الباشا كبار قواده في تجريدة ضد البكوات في الصعيد في أغسطس ١٨٠٩، وجاءته أخبار غير مطمئنة عن هذه التجريدة، اعتزم الذهاب بنفسه، فأمر للحصول على المال، في أوائل سبتمبر بتحرير دفتر فرضة ترويجة على إقليم المنوفية والغربية والشرقية والقليوبية، وذكروا أنها من أصل حساب الشهرية المبتدعة.
وفي أواخر أكتوبر من العام نفسه ابتكرت حكومة الباشا أسلوبًا جديدًا في تحصيل مال الأطيان، نتيجة لزيادة الفيضان زيادة كبيرة في هذه السنة، فحرروا دفتر الأطيان على ضريبة واحدة، عن كل فدان خمسة ريالات، غير البراني والخدم، ولم يحصل في ذلك مراجعة ولا كلام ولا مراجعة في شيء، كما وقع في العام الماضي والذي قبله في المراجعة بحسب الري والشراقي، وأما في هذه السنة فليس فيها شراقي، فحسابها بالمساحة الكاملة لعموم الري، فإن النيل في هذه السنة زاد زيادة مفرطة، وعلا على الأعالي، وتلف بزيادته المفرطة الدراوي والأقصاب بقبلي، وكذلك غرق مزارع الأرز والسمسم والقطن وجنائن كثيرة بالبر الشرقي بسبب انسداد الترعة الفرعونية بتلك الناحية، وكان الباشا وقتئذٍ بالصعيد يبغي بكوات المماليك على الاتفاق معه، والحضور إلى القاهرة للإقامة بها تحت إشرافه ومراقبته، فأرسل يطلب هذه الدفاتر ليطَّلع عليها، فسافر إليه بها المعلم غالي، وأخذ صحبته أحمد أفندي اليتيم من طرف الروزنامة، وعبد الله بكتاش الترجمان، فذهبوا إليه بأسيوط وأطلعوه عليها، فختم عليها.
وفي سنة ١٨١٠ حُررت دفاتر الضريبة على الأرض، على حساب المساحة الكاملة، باعتبار أن الأرض قد رُويت جميعها بسبب زيادة الفيضان، وقد سُميت هذه البدعة بالقياسة؛ لكون المباشرين والكتبة قاسوا مساحة الطين الري، الذي ارتوى بمياه النيل، ولو أن بلادًا كثيرة من إقليم البحيرة وغيره قد بقيت شراقي بسبب عدم حفر الترع وحبس الحبوس وتجسير الجسور، لانشغال الفلاحين والملتزمين بالفرض والإتاوات، وعجزهم عن القيام بذلك.
وفي ١٢ مارس ١٨١٠، طلب الباشا كتاب الأقاليم «وشرع في تقرير فرضة على البلاد بما يقتضيه نظره ونظر كشاف الأقاليم والمعلمين القبط، فقرروا على أعلاها ثمانين كيسًا والأدنى خمسة عشر كيسًا، ولم يتقيد بتحرير ذلك أحد من الكتبة الذين يحررون ذلك بدفاتر ويوزعونها على مقتضى الحال، ولم يعطوا بالمقادير أوراقًا لملتزمي الحصص، كما كانوا يفعلون قبل ذلك، فإن الملتزم كان إذا بلغه تقرير فرضة، تدارك أمره، وذهب إلى ديوان الكتبة، وأخذ علم القدر المقرر على حصته وتكفل بها، وأخذ منهم مهلة بأجل معلوم، وكتب على نفسه وثيقة وأبقاها عندهم، ثم يجتهد في تحصيل المبلغ من فلاحيه، وإن لم يسعفوه في الدفع، وحوَّلوا عليه الطلب دفعه مَن عنده إذا كان ذا مقدرة، أو استدانه ولو بالربا، ثم يستوفيه بعد ذلك من الفلاحين شيئًا فشيئًا، كل ذلك حرصًا على راحة فلاحي حصته وتأمينهم واستقرارهم في وطنهم ليحصل منهم المطلوب من المال الميري وبعض ما يقتاتون به هم وعيالهم، وإن لم يفعل ذلك تحول باستخلاص ذلك كاشف الناحية، وعيَّن على الناحية الأعوان بالطلب الحثيث وما ينضاف إلى ذلك من حق طرق المعينين وكلفهم، وإن تأخر الدفع تكرر الإرسال والطلب على النسق المشروح، فيتضاعف الهم، وربما ضاع في ذلك قدر أصل المطلوب وزيادة عنه مرة أو مرتين، والذي يقبضونه يحسبونه، وهو في كل ريال عشرة أنصاف فضة يسمونها ديواني، فيقبض المباشر على الريال تسعين نصفًا فضة، ويجعل التسعين ثمانين، وذلك خلاف ما يقرره في أوراق الرسم من خدم المباشرين من كتبة القبط.
فينكشف حال الفلاح ويبيع ما عنده من الغلة والبهيمة، ثم يفر من بلدته إلى غيرها، فيطلبه الملتزم ويبعث إليه المعينين من كاشف الناحية بحق طريق أيضًا، فربما أداه الحال إن كان خفيف العيال والحركة إلى الفرار والخروج من الإقليم بالكلية، وقد وقع ذلك حتى امتلأت البلاد الشامية والروسية من فلاحي قرى مصر الذين جلوا عنها، وخرجوا منها، وتغربوا عن أوطانهم، من عظيم هول الجور.
وإذا ضاق الحال بالملتزم وكتب له عرضحالًا يشكو حاله وحال بلده أو حصته وضعف حالها ويرجو التخفيف، وتجاسر وقدَّم عرضحاله إلى الباشا، يُقال له هات التقسيط (سند التمليك) وخذ ثمن حصتك أو بدلها، أو يعين له ترتيبًا بقدر فائظها على بعض الجهات الميرية من المكوس والجمارك التي أحدثوها، فإن سلم سنده، وكان ممن يُراعى جانبه، حُول إلى بعض الجهات المذكورة صورة، وإلا أُهمل أمره، وبعضهم باعها لهم بما انكسر عليه من مال الفرض، وقد وقع ذلك لكثير من أصحاب الذمم المتعددة، انكسر عليه مقادير عظيمة، فنزل عن بعضها، وخصموا له ثمنها من المنكسر عليه من الفرضة، وبقي عليه الباقي يُطالب به، فإن حدثت فرضة أخرى، قبل غلاق الباقي، وقعد بها وضُمت إلى الباقي، وقصرت يده لعجز فلاحيه، واستدان بالربا من العسكر، تضاعف الحال، وتوجه عليه الطلب من الجهتين، فيضطر إلى خلاص نفسه، وينزل عما بقي تحت يديه كالأول، وقد يبقى عليه الكسر ويصبح فارغ اليد من الالتزام ومديونًا.
وقد وقع ذلك لكثير كانوا أغنياء ذوي ثروة، وأصبحوا فقراء محتاجين، من حيث لا يشعرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»
ومن الأساليب التي لجأ إليها الباشا لجمع المال، ما ذكره الشيخ الجبرتي في حوادث عام ١٨٠٩: منها احتكار النشوق، وإلزام الأهلين بشرائه، ثم احتكار النطرون، وإلزام القرى بأخذ كميات معينة منه، وأخيرًا محاولة إلزام الأهلين بشراء العرقي، ويسجل الشيخ تفاصيل هذه المسائل بصورة توضح الكيفية التي حاولت بها حكومة الباشا إرغام الناس على شراء النشوق والنطرون والعرقي، ثم تذمر الأهلين.
فيقول الشيخ: «إن بعض المتصدرين من نصارى الأروام أنهى إلى كتخدا بك أمر النشوق وكثرة المستعملين له والدقاقين والباعة، وأنه إذا جُمعت دقاقوه وصُناعه في مكان واحد، ويجعل عليهم مقادير، ويلتزم به ويضبط رجاله، وجمع ماله وإيصاله إلى الخزينة، مَن يكون ناظرًا وقيمًا عليه كغيره من أقلام المكوس التي يعبرون عنها بالجمارك؛ فإنه يتحصل من ذلك مال له صورة، فلما سمع كتخدا بك ذلك أنهاه إلى مخدومه، فأمر الباشا في الحال بكتابة فرمان بذلك، واختار الذي جعلوه ناظرًا على ذلك خانة بخطة بين الصورين، ونادوا على جميع صُناع النشوق وجمعوهم بذلك الخان، ومنعوهم من جلوسهم بالأسواق والخطط المتفرقة، والقيم على ذلك يشتري الدخان لذلك من تجَّاره بثمن معلوم حدَّده، لا يزيد على ذلك، ولا يشتريه سواه، وهو يبيعه على صُناع النشوق بثمن حدَّده ولا ينقص عنه، ومَن وجده باع شيئًا من الدخان أو اشتراه أو سحق نشوقًا خارجًا عن ذلك الخان ولو لخاصة نفسه، قبضوا عليه وعاقبوه وغرَّموه مالًا، وعيَّنوا معينين لجميع القرى والبلدان القبلية والبحرية، ومعهم من ذلك الدخان، فيأتون إلى القرية ويطلبون مشايخهم، ويعطونهم قدرًا موزونًا، ويلزمونهم بالثمن المعين بالمرسوم الذي بيدهم، فيقول أهل القرية: نحن لا نستعمل النشوق ولا نعرفه ولا يوجد عندنا مَن يصنعه، وليس لنا به حاجة ولا نشتريه، ولا نأخذه، فيُقال لهم: إن لم تأخذوه فهاتوا ثمنه، فإن أخذوه أو لم يأخذوه فهم ملزمون بدفع القدر المعين المرسوم، ثم كراء طريق المعينين، وكلفتهم وعليق دوابهم.»
تلك كانت بدعة المكس على النشوق.
وأما سائر البدع والمستحدثات، فقد بسطها الشيخ في قوله عن النطرون: إنهم «فرَّقوه وفرضوه على القرى، محتجين أيضًا باحتياج الحياكة والفزازين إليه؛ لغسل غزل الكتان وبياض قماشه ونحو ذلك.» ثم استطرد الشيخ يقول: «وأشنع من ذلك كله أنهم أرادوا فعل مثل هذا في الشراب المسكر المعروف بالعرقي، وإلزام أهل القرى بأخذه ودفع ثمنه إن أخذوه أو لم يأخذوه، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: إن شربه يقوي أبدانهم على أعمال الزرع والزراعة، والحرث والكد في القطوة (وهي تشبه الشادوف) والنطالة (أخذ الماء بالنطل وهو الدلو) والشادوف، ثم بطل ذلك.»
ومن الأصناف التي فرضت حكومة الباشا مكوسًا مرتفعة عليها، الأرز والكتان والحرير والحطب والملح، فدفع فيها المستهلك أثمانًا باهظة، ثم إن هذه المكوس لم تلبث أن زيدت في غضون عام ١٨١٠ حتى غلت أسعارها إلى الغاية، فصار سعر الدرهم الحرير خمسة عشر نصفًا بعد أن كان نصفين فحسب، وصار القنطار من الحطب الرومي بثلاثمائة نصف بعد ثلاثين أو أربعين نصفًا، وأما الملح فقد شرح الشيخ الجبرتي ما حدث من تفنن في زيادة سعره، فقال: «وكان الملح يأتي من أرضه بثمن القفاف التي يُوضع فيها لا غير، ويبيعه الذين ينقلونه إلى ساحل بولاق، الإردب بعشرين نصفًا، وإردبه ثلاثة أرادب، ويشتريه المتسبب بمصر (القاهرة) بذلك السعر؛ لأن إردبه إردبان، ويبيعه أيضًا بذلك السعر، ولكن إردبه واحد، فالتفاوت في الكيل لا في السعر، فلما احتُكر صار الكيل لا يتفاوت، وسعره الآن أربعمائة وخمسون نصفًا، والتزم به مَن التزم، وأوقف رجاله في موارده البحرية، لمنع مَن يأخذ منه شيئًا من المراكب المارة بالسعر الرخيص من أربابه، ويذهب به إلى قبلي، أو نحو ذلك.»
ويصف الشيخ الجبرتي مصادر المال الأخرى، أو بالأحرى الحيل — على حد قول الشيخ — التي صارت حكومة الباشا تتوسل بها لأخذ المال، فقال في حوادث مايو ١٨١١: إن الكتخدا محمد آغا لاظ، صار «يتنوع في استجلاب الأموال، ويتحيل في استخراجها بأنواع من الحيل، فمنها أنه يرسل إلى أهل حرفة من الحرف ويأمرهم ببيع بضاعتهم بنصف ثمنها، ويظهر أنه يريد الشفقة والرأفة بالناس، ويرخص لهم في أسعار المبيعات، وأن أرباب الحرف تعدوا الحدود في غلاء الأسعار، فيجتمع أهل الحرفة ويضجون ويأتون بدفاترهم وبيان رأس مالهم، وما ينضاف إليه من غلو جزئيات تلك البضاعة، وما استُحدث عليها من الجمارك والمكوس، وغلو الأجر في البحر والبر، فلا يستمع لقولهم ولا يقبل لهم عذرًا، ويأمر بهم إلى الحبس، فعند ذلك يطلبون الخلاص ويصالحون على أنفسهم بقدر من المال يدفعونه، ويوزِّعون ذلك على أفرادهم فيما بينهم، ثم يزيدون في سعر تلك البضاعة ليعوضوا غرامتهم من الناس، معتذرين بتلك الغرامة، وما حل بهم من الخسارة، ثم تستمر الزيادة على الديوان — وأظن استمرار الغرامة أيضًا — فجمع بهذه الكيفية أموالًا عظيمة، وهي في الحقيقة سلب أموال الناس من الأغنياء والفقراء.»
محاسبة المباشرين
ومن الوسائل التي لجأ إليها الباشا لاستنضاح المال، إرغام المباشرين المكلفين بجباية الضرائب على دفع الغرامات، ومطالبتهم بما اعتقد أنهم أخذوه من المال أو «الميري» المتحصل، وقد ساعد المباشرون أنفسهم الباشا على استنضاح المال منهم لعيش كبارهم في بذخ وترف، لفت إليهم الأنظار، ولاحتفاظهم بطرائقهم في تدوين حساباتهم، حتى صارت جباية الضرائب، وتدوين أقلامها والمتحصل منها في سجلات الحكومة حكرًا لهم تقريبًا، مما جعلهم موضع شكوك الباشا ورجاله، أضف إلى هذا، تحاسدهم فيما بينهم، وتنافسهم على منصب كبير المباشرين، الأمر الذي جعلهم يتزلفون للباشا بالوقيعة في حق بعضهم بعضًا، وتفانى كل منهم في إرشاده إلى مقدار الثروة التي بيد الآخر، ناهيك بما كان يقف عليه الباشا، أو يترامى إليه عن الوسائل التي يتبعها المباشرون، وهم أصحاب الحول والطول في تحصيل المال من الأهلين المرهقين والفلاحين المكدودين في أخذ الرشاوى والعطايا من هؤلاء، وكانت الفكرة السائدة لدى الباشا عنهم — ويشترك معهم في هذا أفندية الروزنامة ورؤساؤهم — أنهم تنقصهم الأمانة، آية ذلك مظاهر الثراء الذي يتمتع به كبارهم خصوصًا.
ولقد تقدم كيف أن المعلم غالي، نفس على جرجس الجوهري منصبه في عام ١٨٠٥، فعمل على تغيير الباشا من ناحيته، وساعده في هذا المسعى المعلم فلتيوس، حتى عزل الباشا جرجس الجوهري وولَّى المعلم غالي كبيرًا للمباشرين، واضطر جرجس الجوهري إلى الفرار، وصُودرت أملاكه، ودفع القبط غرامات فادحة بسبب هذا الحادث.
ولكنه ما إن عظمت حاجة الباشا إلى المال، حتى شرع في حساب كبير المباشرين، المعلم غالي نفسه، وأعيان المباشرين، واستطاع أن ينتزع منهم مبالغ طائلة مصالحة على أنفسهم وفي نظير رضائه عليهم.
وبدأ الباشا في يونيو ١٨٠٩ بمطالبة المعلم غالي بألف كيس، وألزمه بها، فلم يسَعِ المعلم إلا جمعها، بتوزيعها على المباشرين والكتبة، وجمعها في أقرب زمن. وكان في نوفمبر من العام نفسه أن حضر المعلم جرجس الجوهري إلى القاهرة بأمان من محمد علي، وكان مختفيًا في الصعيد، فأظهر غالي مودة عظيمة له، وأثَّث له بيته الذي بحارة الونديك، وقام له بجميع لوازمه، وأكرمه الباشا، وذهب الناس مسلمهم ونصرانيهم وعالمهم وجاهلهم للسلام عليه، ولكن احتفاء المعلم غالي به لم يكن إلا رياء ومداهنة فلم يمكنه من استرداد مكانته، وانحط قدره، ولازمته الأمراض، حتى وافاه الأجل المحتوم في أواخر سبتمبر ١٨١٠، وخلا الجو للمعلم غالي، وتعين بالتقدم، ووافق الباشا في أغراضه الكلية والجزئية.
على أن هذه الموافقة لم تنقذ المعلم غالي وزملاءه من غضب الباشا، الذي اعتقد فيهم دائمًا — كما أشرنا — الخيانة، هم وكتبة الروزنامة، وقرَّر الباشا حسابهم بموجب دفاترهم، فأمر في ١٩ فبراير ١٨١٠ بالاحتياط على بيوت عظماء الأقباط، كالمعلم غالي نفسه والمعلم جرجس الطويل وأخيه، وفلتيوس وفرانسيسكو، وعدتهم سبعة، فأحضروهم في صورة منكرة وسمروا دورهم، وأخذوا دفاترهم، فلما حضروا بين يديه قال لهم: أريد حسابكم بموجب دفاتركم هذه، وأمر بحبسهم، فطلبوا منه الأمان، وأن يأذن لهم في خطابه، فأذن لهم، فخاطبه المعلم غالي، وخرجوا من بين يديه إلى الحبس، ثم توسط في أمرهم لدى الباشا حسين أفندي الروزنامجي، فقرَّر عليهم غرامة سبعة آلاف كيس، بعد أن كان الباشا طلب منهم ثلاثين ألف كيس.
وفي ٨ مارس من العام نفسه، نمى إلى الباشا أن ثلاثة من كتبة الأقباط المتقيدين بقياس الأراضي بالمنوفية قد أخذوا البراطيل والرشوات على قياس طين أراضي بعض البلاد، وأنقصوا من القياس فيما ارتوى من الطين، وهي البدعة التي حدثت على الطين الري، وسموها القياسة، فأمر بالقبض عليهم وضربهم وحبسهم.
وسعى المعلم منصور ضريمون، معلم ديوان الجمارك، لدى الباشا لتغييره على المعلم غالي وأعوانه، وقرَّر الباشا محاسبة المعلم غالي وكبار المباشرين، فألقى القبض في ١٦ أكتوبر ١٨١٠ على المعلم غالي والمعلم فرنسيس أخيه، والمعلم فلتيوس، والمعلم جرجس الطويل، وباقي أعيان المباشرين، وأُنزل المعلمان غالي وفلتيوس إلى بولاق لنفيهما إلى دمياط، بينما حُبس الباقون في القلعة، وختموا على دورهم، ووجدوا عند المعلم غالي نيفًا وستين جارية بيضاء وسوداء وحبشية، وتقلد المباشرة المعلم منصور ضريمون والمعلم بشارة ورزق الله الصباغ مشاركان معه.
وكانت هذه الإجراءات كافية لأن يبذل المغضوب عليهم قصارى جهدهم للمصالحة على أنفسهم، وسعى الساعون في هذه المصالحة، وأُنزل المحبوسون من القلعة إلى بيت إبراهيم بك الدفتردار، ابن الباشا بالأزبكية، وفيهم جرجس الطويل وأخوه حنا وجريس، وفرنسيس أخو غالي، ويعقوب كاتبه، وغيرهم، وأشاعوا عمل حسابهم، ثم دار الشغل، وأفلحت جهود الوسطاء، وتم الأمر على أربعة وعشرين ألف كيس، يدفعها المعلم غالي، ونزل له فرمان الرضا والخِلع والبشائر، وذلك في آخر رمضان ١٢٢٥؛ أي ٢٩ أكتوبر ١٨١٠.
وفي اليوم التالي، نزلت طبلخانة الباشا إلى بيت المعلم غالي، واستمروا يضربون النوبة التركية ثلاثة أيام العيد ببيته، وكذلك الطبل الشامي، وباقي الملاعيب، وتُرمى لهم الخِلع والبقاشيش، وأما المعلم غالي فقد حضر في ٥ نوفمبر، وطلع إلى القلعة، وخلع عليه الباشا خِلع الرضا، وألبسه فروة سمور، وأنعم عليه، ونزل له عن أربعة آلاف كيس من أصل الأربعة وعشرين ألف كيس المطلوبة في المصالحة ونزل المعلم غالي إلى داره وأمامه الجاويشية والأتباع بالعصي المفضضة، وأقبل عليه الأعيان من المسلمين والنصارى للسلام عليه والتهنئة له بالقدوم المبارك، وأما المعلم منصور ضريمون فقد جبروا خاطره بأن قيدوه بخدمة بيت إبراهيم بك، ابن الباشا، الدفتردار، وقيدوا رفيقيه في خِدم أخرى.
كائنة حسين أفندي الروزنامجي
ومثلما حاسب الباشا المباشرين، جباة الضرائب، ومحصلي مال الميري، واعتقد فيهم الخيانة، واضطرهم إلى المصالحة على أنفسهم، فقد حاسب كذلك أفندية الروزنامة وكبيرهم، واعتقد فيهم عدم الأمانة، وأخذ منهم الغرامات الفادحة، وتسنى له بهذه الوسيلة أن يستنضح منهم المال، كما استنضحه من المباشرين الأقباط.
والروزنامة، هي المصلحة المكلفة بقيد إيرادات البلاد ومصرفها، ولديها دفتر ميري مال الكشوفية، وعنها تصدر السندات إلى الملتزمين الذين يدفعون المال الميري، وتُحفظ سجلات بأسماء هؤلاء وقدر الميري الذي عليهم، ودفتر صرة الأشراف، شريف مكة والمدينة والينبع وأغوات الحرم وأهالي مكة والمدينة، ودفتر جرايات أهالي الحرمين، ودفاتر الجمارك أو الرسوم الجمركية التي على الدواوين (الجمارك) مثل إسكندرية ودمياط ورشيد وبولاق ومصر القديمة، ومال البهار والبحرين (الرسوم الجمركية على الغلال الواردة إلى البحرين وهما ساحلا بولاق ومصر القديمة)، والخردة؛ أي الرسوم المفروضة على الملاحي والمغنيات والحواة ومن إليهم، وغيره. ومن مهام الروزنامة ربط دفاتر الجمكية بمصر إلى العساكر وغيره، وربط قدر جملتها على الصحيح، ثم قيَّد أطيان الرزق بأسماء أصحابها، إلى غير ذلك. وصفوة القول أن الروزنامة هي المشرفة على الإدارة المالية بالبلاد، ومع أن الروزنامة كان قد بطل عملها على أيام الحملة الفرنسية واستبدل الفرنسيون بها نظامًا آخر، وأقاموا لجنة عهدوا إليها ببعض اختصاصات الروزنامة، فقد استأنفت الروزنامة نشاطها عقب خروج الفرنسيين من البلاد.
وكان المقيدون بخدمة الروزنامة، الأفندية، ورئيسهم هو الروزنامجي ومن تحته شاجرتية تلاميذ ثلاثة وكيسدار أو كيسه دار، وهو حافظ أكياس الورق، ويعاون الروزنامجي في الإشراف على أعمال الأفندية، قلفاوات أربعة، ويحاسب كتبة الخزينة سائر الأفندية على ما بعهدتهم من المال الميري، ومن تحت يد المذكورين صيارف يهود ثلاثة، وكان للروزنامجي مرتب ثابت، عدا نصيبه من حساب ما يجمعه ويشتريه أمين أو آغا المشاق؛ أي نسل حبال القنب الذي كانت تطلبه الدولة القسطنطينية وما له من الضرائب التي على الغلال، وعليه أن يدفع في كل سنة في نظير منصبه هذا مال كشوفية كبير؛ أي الضريبة المعروفة باسم ميري الوظائف.
ونجح الروزنامجي والأفندية في الاحتفاظ بسر مهنتهم، فاستخدموا خطًّا في تدوين سجلاتهم يُعرف بخط القرمة، استعصت على غيرهم قراءته، فكانت هذه السرية من العوامل التي جعلتهم يستأثرون بإدارة مالية البلاد، ولكنها جعلت الباشا من ناحية أخرى، يتشكك في أمانتهم، وبخاصة عندما أعوزه المال، وسعى الساعون للوقيعة بحسين أفندي، فكانت محاسبة هذا الأخير، والمقربين إليه، الوسيلة التي تذرع بها الباشا لاستنضاح المال منهم، كما فعل مع المباشرين.
ولما كان الباشا قد «استحدث أقلام المكوس، وجعلها في دفاتر تحت أيدي الأفندية وكتبة الروزنامة، فقد صارت هذه من جملة الأموال الميرية في قبضها وتحاويلها، والباشا مرخي العنان للروزنامجي، ومرخص له في الإذن والتصرف.» واستمر ذلك حتى بدأ تغيره عليه، فكانت أول دسيسة أدخلوها في الروزنامجة، وابتداء فضيحتها وكشف سرها — كما قال الشيخ الجبرتي — أن اختار الباشا في ٨ مارس ١٨١٠، أحد الأفراد المعروفين بالإدمان على المسكرات ويُدعى خليل أفندي، وكان هذا كاتبًا لخزينة محمد خسرو باشا، ولا يفيق من الشرب، وقلَّده النظر على الروزنامجي وكتابه، وسموه «كاتب الذمة؛ أي ذمة الميري من الإيراد والمنصرف، وكان ذلك عند فتح الطلب بالميري عن السنة الجديدة، فلا يُكتب تحويل ولا تنبيه ولا تذكرة حتى يطلعوا خليل أفندي عليها ويكتب عليها علامته، فتكدر من ذلك الروزنامجي وباقي الكتبة.»
وكان الساعون بالوشاية في حق حسين أفندي الروزنامجي، بعض الأفندية الخاملين الذين أنهوا إلى المسئولين أن الروزنامجي ومن معه من الكتاب يوفرون لأنفسهم الكثير من الأموال الميرية ويتوسعون فيها، وكان سبب هذه الوشاية أن حسين أفندي ائتمن أحد خواص كتابه، أحمد اليتيم، «فأرخى له العنان، لفطانته ودرايته، فكان هو المشار إليه من دون الجميع، ويتطاول عليهم، ويمقت من فعل دون اطلاعه، وربما سبه ولو كان كبيرًا أو أعلى منزلة منه في فنه، فيمتلئ غيظًا، وينقطع عن حضور الديوان، فيهمله، ولا يسأل عنه، والأفندي الكبير لا يخرج عن رأيه لكونه سادًّا مسد الجميع، فدبروا على أحمد أفندي المذكور وحفروا له وأغروا به حتى نكبه الباشا.»
فحدث في أبريل ١٨١٠، أنَّ كاشِف إقليم الدقهلية أبلغ الباشا أنه قاسَ قطعة أرض داخلة ضمن إقطاع أحمد أفندي اليتيم، فوجد مساحتها خلاف المقيد بدفتر المقياس الأول، ومسقوط منها نحو الخمسمائة فدان، وذلك من فعل أحمد اليتيم ومخامرته مع النصارى الكتبة والمساحين؛ لأنهم يراعونه ويدلسون معه؛ لأن دفتر الروزنامة بيده، فأمر الباشا بالقبض عليه وسجنه، وتشفع فيه السيد محمد المحروقي وعلي كاشف الكبير الألفي، وكانا حاضرين بالمجلس، وبدعوى أنه مريض بالسرطان في رجله، أخذه المحروقي إلى داره، ثم راجع الباشا في أمره، فقرر عليه ثمانين كيسًا بعد أن قال: إني كنت أريد أن أقول ثلاثمائة كيس، فسبق لساني فقلت مائة كيس، وقد تجاوزت لأجلك عن عشرين كيسًا، وهو يقدر على أكثر من ذلك؛ لأنه يفعل كذا وكذا.
واستطرد الشيخ يقول: «وقد عدَّد الباشا أشياء تدل على أن أحمد أفندي اليتيم ذو غنية كبيرة، منها أنه لما سافر إلى الباشا بدفتر الفرضة (وقد سبقت الإشارة إلى سفره به مع المعلم غالي وعبد الله بكتاش) إلى ناحية أسيوط، طلع إلى البلدة في هيئة وصحبته فرس وسحاحير وبشخانات وكرارات وفراشون وخدم وكيلارجية ومصاحبجية، والحكيم والمزين، فلما شاهد الباشا هيئته سأل عنه وعن منصبه، فقيل له إنه جاجرت من كتبة الروزنامة، فقال إذا كان جاجرت بمعنى تلميذ، فكيف يكون باش جاجرت أو قلفاوات الإقليم، فضلًا عن كبيرهم الروزنامجي، وأسرَّ ذلك في نفسه.
وطفق الباشا يسأل ويتجسس عن أحوالهم. وفي مارس ١٨١٠ قُلد خليل أفندي كتابة الذمة في الروزنامة — كما تقدم — وانضم إليه الكارهون للمذكور الذين كانوا خاملي الذكر بوجوده، وتوصلوا إلى باب الباشا وكتخدا بك، وأنهوا فيه أنه يتصرف في الأموال الأميرية كما يختار، وأن حسين أفندي الروزنامجي لا يخرج عن مراده وإشارته وبيته مفتوح للضيفان، ويجتمع عنده كل ليلة عدة من الفقراء، يثرد لهم الثريد في القصاع، ويواسي الكثير من أهل العلم وغيرهم، ويتعهد بكثير من الملتزمين بالفرض التي تُقرر حصصهم، ويضمها في حسابه، ويصبر عليهم حتى يوفوها له في طول الزمن، ونحو ذلك، وكل ما ذُكر دليل على سعة الحال والمقدرة.
وأما الذنب الذي أخذه الباشا به، فإن القدر المذكور (٥٠٠ فدان) من الطين، كان من الموات، فاتفق أحمد أفندي اليتيم مع شركائه ملتزمي الناحية وجرفوه وأحيوه وأصلحوه بعد أن كان خرسًا ومواتًا لا يُنتفع به، وجعلوه صالحًا للزراعة، وظن أن ذلك لا يدخل في المساحة فأسقطه منها، فوقع له ما وقع، وأسقطوا اسمه من كتاب الروزنامة، ومنعوه منها.
وأمر الباشا في الوقت نفسه الكتَّاب بعمل حساب حسين أفندي الروزنامجي عن السنتين السابقتين (١٢٢٣، ١٢٢٤)، واستمرت عملية الحساب هذه أيامًا، ولكنها أسفرت عن زيادة مائة وثمانين كيسًا لحسين أفندي، فلم يعجب الباشا ذلك، واستخونهم في عمل الحساب، ثم ألزم حسين أفندي بدفع أربعمائة كيس، وقال أنا كنت أريد منه ستمائة كيس، وقد سامحته في مائتين، في نظير الذي تأخر له. وأظهر الباشا رضاءه عن حسين أفندي، فخلع عليه فروة في اليوم التالي باستقراره في منصبه، ونزل حسين أفندي إلى داره، ولكنه سرعان ما حدث بعد الغروب أن حضر إليه جماعة من العسكر في هيئة مزعجة، ومعهم مشاعل، وطلبوا الدفاتر، وهم يقولون: معزول، معزول، وأخذوا الدفاتر وذهبوا، وحولوا عليه الحوالات بطلب الأربعمائة كيس، فاجتهد في تحصيلها ودفعها، ثم ردوا له الدفاتر ثانيًا.
واستطاع خليل أفندي بحكم وظيفته، كاتب الذمة، الإحاطة بجميع أسرار كتبة الروزنامة وموظفيها، ومعرفة أساليبهم في إدارة أعمال هذه المصلحة؛ حيث إنه لا يُكتب تحويل ولا ورقة ميري ولا خلاف ذلك مما يُسطر في ديوانهم حتى يطلع عليه خليل أفندي المذكور ويرسم عليه علامته، وطفق الباشا يسأل ويتجسس عن أحوال الأفندية، وكل قليل يستخبر الباشا من خليل أفندي، ثم انتقل ديوان الروزنامة إلى بيت خليل أفندي نفسه، تجاه منزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية، وترأس بالديوان قاسم أفندي كاتب الشهر (المختص بشئون الالتزام في الوجه القبلي، وجمارك الثغور، ومال البهار والبحرين والخردة)، وقريبه قيطاس أفندي، ومصطفى أفندي باش جاجريت.»
واصطحب إبراهيم بك عند ذهابه إلى الصعيد في أواخر أبريل ١٨١٢ لتحرير وقبض الأموال، بعد القضاء نهائيًّا على المماليك، قاسم أفندي، وظل قيطاس ومصطفى باش جاجريت موضع رعاية حسين أفندي الروزنامجي وولده محمد أفندي، ولا يتعرضان لهما فيما يتصدران له، ويضمنانه في عهدتهما، ووثق إبراهيم بك في قاسم أفندي، الذي صار خصيصًا به مثل الوزير الصاحب والنديم، ورتب له الباشا في كل سنة ثمانين كيسًا خلاف الخروج والكساوي، وشرط عليه المناصحة في كشف المستورات، وما يكون فيه تحصيل الأموال، فكأنه قصر في كشف بعض الأشياء، وأرسل إبراهيم إلى والده يعلمه بخيانته هو وكاتب الأرزاق، وضرب قاسم أفندي علقة قوية ووصل خبر هذه النكبة إلى القاهرة في ٤ يناير ١٨١٣، فانتهز الروزنامجي وابنه هذه الفرصة، وصارا يقصران مع قيطاس أفندي ومصطفى أفندي، وأظهر ابن الروزنامجي مكمون غيظه في حقهما، ومانعهما أيضًا، وخشَّن القول لهما، فاتفقا على إنهاء الحال إلى باب الباشا وشرعا يكيدان للروزنامجي وولده.
فما إن رجع إبراهيم إلى القاهرة في ٢٣ يناير ١٨١٣، حتى بادر قيطاس ومصطفى برفع أمرهما إلى الباشا، ويقول الشيخ الجبرتي: «ولعل ذلك بإغراء باطني على حسين أفندي الروزنامجي، فعرَّفا الباشا عن مصارف وأمور يفعلها حسين أفندي ويخفيها عن الباشا، وأنه إذا حُوسب على السنين الماضية يطلع عليه ألوف من الأكياس، وكان محمد علي أذن لحسين أفندي في صرف الجامكية السائرة للعامة والخاصة فيما يتعلق بمشايخ العلم والأفندية الكتبة والسيد محمد المحروقي بالكامل، وما عداهم ربع استحقاقهم وكتب له فرمانًا بذلك، فقال له الروزنامجي: في بعضهم من يستحق المراعاة كبعض أهل العلم الخاملين وأهل الحرمين المهاجرين ومستوطنين بمصر بعيالهم وليس لهم إيراد يعيشون منه، إلا ما هو مرتب لهم من العلائف في كل سنة، وكذلك بعض الملتزمين الذين اعتادوا سداد ما عليهم من الميري وبعضه بما لهم من الإتلافات والعلائف والغلال، فقال له: النظر في ذلك لرأيك، فإن هذا شيء يعسر ضبط جزئياته، فاعتمد على ذلك وطفق يفعل في البعض بالنصف والبعض بالثلث أو الثلثين، وأما العامة والأرامل فيصرف لهم الربع لا غير حسب الأمر، ويقاسون في تحصيل ربع استحقاقهم الشدائد من السعي وتكرار الذهاب والتسويف والرجوع في الأكثر من غير شيء مع بعد المسافة، وفيهم الكثير من العواجز، فلما ترافعوا في الحساب مانع المتصدر فيما زاد على الربع، وطلع إلى الباشا فعرَّفه بذلك، فقال الباشا: لا تخصموا له إلا ما كان بإذني وفرماني، وما كان بدون ذلك فلا، وأنكر الحال السابق منه، وقال: هو متبرع فيما فعله، فتأخر عليه مبلغ كبير في مدة أربع سنوات، وكذلك كان يحول عليه حوالات لكبار العسكر برسول من أتباعه، فلا يسعه الممانعة ويدفع القدر المحول عليه بدون فرمان اتكالًا على الحالة التي هو معه عليها.»
فطلب الآن الباشا محاسبة حسين أفندي عن أربع سنوات متقدمة، فخرج قيطاس أفندي ومصطفى أفندي باش جاجرت من عنده «وأخذا صحبتهما مباشرًا تركيا، ونزلوا على حين غفلة بعد العصر (٢٣ يناير ١٨١٣) وتوجهوا إلى منزل أخيه، عثمان أفندي السرجي، ففتحوا خزانة الدفاتر، وأخذوها بتمامها إلى بيت ابن الباشا إبراهيم بك الدفتردار، واجتمعوا في صبحها (٢٤ يناير) للمحاققة والحساب مع أخيه عثمان أفندي المذكور، واستمروا في المناقشة والمحاققة عدة أيام مع المرافعة والمدافعة، والميل الكلي على حسين أفندي، ويذهبون في كل ليلة يخبرون الباشا بما يفعلون، وبالقدر الذي ظهر عليه، فيعجبه ذلك، ويثني عليهما ويحرضهما على التدقيق، فتنتفخ أوداجهما، ويزيدان في الممانعة والمدافعة والمرافعة في الحساب، وحسين أفندي على جليته ويظن أنه على عادته، وأسفر الحساب عن سنة واحدة، نحو الألف ومائتي كيس وكسور؛ أي خمسة آلاف كيس عن أربع سنوات، فتقلق حسين أفندي وتحير في أمره وزاد وسواسه، ولم يجد مغيثًا ولا شافعًا ولا دافعًا.»
وفي ٩ فبراير، أحضره وخلع عليه خِلعة الإبقاء في منصبه في الروزنامة، وكان غرض الباشا من ذلك تطمينه، حتى يدفع هذا المبلغ، ثم أرسل إليه يطلب منه خمسمائة كيس من أصل الحساب، «فضاق خناقه، ولم يجد له شافعًا ولا ذا مرحمة، فأرسل ولده إلى محمود بك الديودار يستجيره فيه، وليكون له واسطة بينه وبين الباشا، وهو رجل ظاهره خلاف باطنه، فذهب معه إلى الباشا، فبش في وجهه ورحَّب به، وأجلسه محمود بك في ناحية من المجلس، وتناجى هو مع الباشا، ورجع إليه يقول له: إنه يقول إن الحساب لم يتم إلى هذا الحين، وأنه ظهر على أبيك تاريخ أمس خمسة آلاف كيس وزيادة، وأنا تكلمت معه، وتشفعت عنده في ترك باقي الحساب والمسامحة في نصف المبلغ والكسور، فيكون الباقي ألفين وخمسمائة كيس تقومون بدفعها، فقال: ومن أين لنا هذا القدر العظيم، وقد عزلنا من المنصب أيضًا، حتى كنا نتداين ولا يأمننا الناس إذا كان القدر دون هذا أيضًا؟ فرجع إلى الباشا، وعاد إليه يقول له: لم يمكني تضعيف القدر سوى ما سامح فيه، وأما المنصب فهو عليكم، وفي غد يطلع والدك، ويتجدد عليه الإبقاء، وينكمد الخصم، وعلى الله السداد، ونهض محمد أفندي ابن الروزنامجي وقبَّل يده وتوجه، فنزل إلى دارهم، وأخبر والده بما حصل، فزاد كربه، ولم يسعه إلا التسليم، وركب في صبحها (١٠ فبراير) وطلع إلى الباشا، فخلع عليه، ونزل إلى داره بقهره، وشرع في بيع تعلقاته وما يتحصل لديه.»
ولكن الباشا لم يلبث أن عزله من منصبه، وفي ١٥ فبراير خلع على مصطفى أفندي «باش جاجرت» ونزل هذا إلى داره، وأتاه الناس يهنئونه بمنصب الروزنامجي. وفي ٧ مارس طلب الباشا حسين أفندي الروزنامجي، «وطلب منه ما قرره عليه، وكان قد باع حصصه وأملاكه ودار مسكنه، فلم يوفِّ إلا خمسمائة كيس، فقال له: ما لك لم توفِّ القدر المطلوب، وما هذا التأخير؟ وأنا محتاج إلى المال، فقال: لم يبقَ عندي شيء، وقد بعت التزامي وأملاكي وبيتي وتداينت من الربويين حتى وفَّيت خمسمائة كيس، وها أنا بين يديك، فقال له: هذا كلام لا يروج علي، ولا ينفعك بل أَخرِج المال المدفون، فقال: لم يكن عندي مال مدفون، وأما الذي أخبرك عنه، فيذهب فيخرجه من محله، فحنق منه وسبَّه وقبض على لحيته ولطمه على وجهه وجرَّد السيف ليضربه، فترجَّى فيه الكتخدا والحاضرون، فأمر به فبطحوه، وأمر القواسة الأتراك بضربه، فضربوه بالعصي المفضضة التي بأيديهم، بعد أن ضربه هو بيده عدة عصي وشج جبهته، حتى أتوا عليه، ثم أقاموه وألبسوه فروته وحملها وهو مغشي عليه، وأركبوه حمارًا وأحاط به خدمه وأتباعه، حتى أوصلوه إلى منزله، وأرسل معه جماعة من العسكر يلازمونه، ولا يدعونه يدخل إلى حريمه، ولا يصل إليه منهم أحد.
وركب في أثره محمود بك الديودار بأمر الباشا، وعبر داره ودار أخيه عثمان أفندي المذكور، وأخذ صحبته إلى القلعة، وسجنوه، أما ولده وأخواه فإنهم تغيبوا من وقت الطلب، واختفوا، ونزل إليه في اليوم الثاني (٨ مارس ١٨١٣) إبراهيم آغا آغات الباب يطالبه بغلاق ثمانمائة كيس وقتئذٍ، فقال له: وكيف أحصل شيئًا وأنا رجل ضعيف، وأخي عثمان عندكم في الترسيم (الحبس)، وهو الذي يعنيني ويقضي أشغالي، وأخذتم دفاتري المختصة بأحوالي مع ما أخذتموه من الدفاتر، وأقام عنده إبراهيم آغا برهة، ثم ركب إلى الباشا وكلَّمه في ذلك، فأطلقوا له أخاه يسعى في التحصيل.»
•••
تلك إذًا طائفة من الأمثلة التي توضح الأساليب التي اتبعها الباشا في تحصيل المال، والتي جعلت الشيخ الجبرتي ينحى باللائمة الشديدة على حكومته، ويوجه لشخص الباشا نفسه نقدًا لاذعًا مرًّا، فيقول: إن «من طبعه الحقد والحسد والتطلع لما في أيدي الناس، وأن لا غرض له سوى سلب أموال الناس من الأغنياء والفقراء.»
وسواء أكان الشيخ الجبرتي محقًّا في نقده لهذه الأساليب، أم كان الباشا مرغمًا على اللجوء إليها؛ لحاجته الملحة إلى المال، للأسباب التي ذكرناها في موضعها، فإن أحدًا من المشايخ والزعماء الشعبيين لم يعترض على الباشا في شيء من تصرفاته هذه، بل إن المتصدرين منهم كانوا يقبلون على تأييد الباشا ومعاضدته، واكتفى الشيخ الجبرتي ومن نحا نحوه بالنذير الصامت، ووجد الشيخ متنفسًا لكربه وألمه، في تسطير آرائه في الطيارات أو قصاصات المذكرات التي استعان بها في تدوين تاريخه، فلم يحرك المشايخ ساكنًا حتى شرع الباشا في حاجته المستمرة إلى المال، يعمل على مقاسمتهم إيراداتهم الخاصة من فائض الالتزام ومن ريع الأوقاف التي تنظروا عليها، فهب المتصدرون لمعارضته، وكان اصطدامهم معه منشأ الكارثة التي حاقت بهم، وبالسيد عمر مكرم خصوصًا، والذريعة التي اتخذها الباشا لإقصائهم عن شئون الحكم عمومًا، وتجريدها من تلك الزعامة الموهومة التي خُيل إليهم أنها من حقهم، وأنهم جديرون بها.