الحكومة الموطدة
تمهيد
كان من مقتضيات الانفراد بالسلطة، حرمان المشايخ من ذلك النفوذ الذي كان لهم بين الأهلين، في الزمن الماضي، والذي أرادوا أن يبنوا عليه — بالرغم من وهنه الآن، بل زواله — زعامة في وسعها الاجتراء على معارضة الباشا ومقاومته، وكان خليقًا بهؤلاء المشايخ أن يفشلوا فيما ابتغوه، لأسباب مردها إلى طبيعة هذا النفوذ نفسه، الذي تولَّد في بيئة هيأت له القالب الذي أُفرغ فيه، وحدَّدت له المدى الذي ما كان يقدر على تجاوزه، فعجز هذا النفوذ عن سعة ما عمل المشايخ لإدخاله في دائرته الضيقة المحدودة، وذلك في وقت كان قد أصبح فيه الزمان غير الزمان، فاستبدلت بفوضى تشتت السلطة السالفة، حكومة توفر لها الاستقرار في وجه كل العقبات التي صادفتها في الداخل، أو الأخطار التي أتتها من الخارج، وتربَّع في دستها عاهل وجد لزامًا عليه أن يجمع أسباب السلطة في يده هو وحده؛ كي يمهد لنقل باشوية مصر من مجرد مقاطعة عادية من أملاك الدولة العثمانية إلى باشوية وراثية، ناهيك بما طرأ على المشايخ أنفسهم من تبدل وتغير، جرَّد سوادهم من صفات الورع والتقوى والزهد في الدنيا، والاشتغال بأمور الدين الحنيف، وهي الصفات التي أوجدت نفوذهم في الزمن السابق، فصاروا الآن يؤثرون الدنيا على الآخرة، ويتنافسون على أماكن الزعامة والصدارة، السبيل الظاهر للتمتع بلذائذ الحياة، ولبلوغ الجاه والسلطان بين أقوامهم. وكان من جراء التكالب على هذه العروض الزائلة، أن دبت الخلافات والانقسامات بينهم، وذهبت ريحهم، وفقدوا إيمان الأهلين القديم بزعامتهم، واحترامهم لهم، ونزلت أقدارهم في أعين السلطات القائمة، وضاع المسوِّغ الذي كان لنفوذهم السابق، وسهل القضاء عليهم.
(١) الأصل في نفوذ المشايخ
وكان مبعث زعامة المشايخ القديمة، الترتيب الذي وضعه العثمانيون لحكومة هذه البلاد منذ أن افتتحوها في القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي، وهو ترتيب مكَّن البكوات المماليك من الظفر بالسلطة الفعلية، بينما بقي للسلطان العثماني في آخر الأمر السيادة الرسمية فحسب، ممثلة في عماله وضباطه وعلى رأسهم الباشا الذي كان لا حول له ولا طول أمام طغيان العسكريين رؤساء الحاميات العثمانية من جهة، والبكوات المماليك من جهة أخرى. وكان على المصريين وحدهم أن وقعت ويلات هذا الترتيب، وقد ظلوا يتذوقون مرارته أجيالًا طويلة.
ولما كان العثمانيون والبكوات المماليك — إلا من ندر من بينهم — يجهلون لغة البلاد. ومنعت الأوضاع اتصال المحكومين بالهيئات الحاكمة، فلم يكن للأهلين من ملجأ يلجئون إليه في نكباتهم سوى مشايخهم وفقهائهم، يناشدونهم المعاونة في تخفيف نكبتهم، ويرجونهم التوسط والشفاعة لدى البكوات لرفع المظالم عنهم، واستطاع المشايخ والفقهاء في حالات عديدة إسداء هذه المعونة، وكان لهؤلاء في ذلك العهد الغابر مكانة مرموقة لدى الهيئات الحاكمة لاشتغالهم بالدين دون سواه، واشتهارهم بالصلاح، ولظفرهم بمحبة الشعب واحترامه العظيم لهم، وهم الذين قاموا آنئذٍ بوظائفهم خير قيام، من حيث قراءة صحيح البخاري في الجوامع عند حدوث الملمات، والتوفر على البحث والدراسة، وتلقين الأهلين أصول العبادة والدين الحنيف في البنادر والقرى، والتدريس في الجامع الأزهر، والجوامع الأخرى الهامة في دسوق وطنطا والإسكندرية وغيرها، فتمتعوا بنفوذ روحي كبير على سواد الأهلين، وارتفعت مكانة هؤلاء المشايخ والفقهاء من ناحية أخرى؛ لأن البكوات المماليك نزعت نفوسهم إلى تبجيل العلماء وأهل الصلاح والتقوى، عادة الطوائف والجماعات التي لجهلها بقواعد الدين الصحيح وإهمالها لها تحرص على الاحتفاظ بمظاهر التمسك بالدين، ومن أولى هذه، إضفاء الاحترام والتبجيل على رجاله، ومن دلائل هذا الاحترام — ولا شك — قبول وساطة المشايخ والعلماء وشفاعتهم، ثم إن البكوات ما لبثوا أن وجدوا في ارتفاع مكانة المشايخ وازدياد نفوذهم الروحي بين الشعب، وما يتيح لهم استخدام هؤلاء كحلقة اتصال بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة.
ولا جدال في أن المشايخ قد أفادوا فائدة كبيرة من هذا التطور الذي حدث نتيجة لالتفاف الأهلين حولهم وتوسيطهم لدى الهيئات الحاكمة من جهة، ولتبجيل الهيئات الحاكمة، وعلى الأخص البكوات المماليك لهم، ثم توسيط هؤلاء كذلك لهم لدى الشعب؛ لمؤازرتهم في اجتياز الأزمات التي تعرضوا لها من جهة أخرى، فصارت لهم الجرأة عند اشتداد الخطوب بالأهلين على أيدي البكوات أن ينذروا ويتوعدوا البكوات، بل ويتهددونهم بتأليب الرعية عليهم إذا بدا منهم إهمال لنصحهم أو أبوا الاستماع لوساطتهم وشفاعتهم، وكسب المشايخ والعلماء من هذا الوضع مزايا عديدة، لعل أهمها عدم مساس السلطات الحاكمة المملوكية والعثمانية بنظام الوقف، أو الأوقاف التي حُبست للإنفاق من ريعها على المساجد والسبل، ووجوه البر والصدقات، والمدارس وما إلى ذلك، وكان المشايخ أنفسهم هم المنتظرون على كثير من هذه الأوقاف، كما كانت هذه مصدر عيش لعديدين من الأهلين. قال الشيخ الجبرتي: «إن هذه الإرصادات والأطيان موضوعة من أيام الملك الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي في القرن الخامس، وجعلها من مصاريف بيت المال؛ ليصل إلى المستحقين بعض استحقاقهم من بيت المال بسهولة، ثم اقتدى به في ذلك الملوك والسلاطين والأمراء إلى وقتنا هذا، فيبنون المساجد والربط والخوانق والأسبلة، ويرصدون عليها أطيانًا يخرجونها من زمام أوسيتهم، فيستغل خراجها أو غلالها لتلك الجهة، وكذلك يربطون على بعض الأشخاص من طلبة العلم والفقراء على وجه البر والصدقة ليتعيشوا بذلك، ويستعينوا به على طلب العلم، وإذا مات المرصَد عليه ذلك، قرَّر القاضي أو الناظر خلافه ممن يستحق ذلك، وقيد اسمه في سجل القاضي ودفتر الديوان السلطاني عند الأفندي (من أفندية الروزنامة) المقيد بذلك، الذي عُرف بكاتب الرزق، فيكتب له ذلك الأفندي سندًا بموجب تقرير يُقال له الإفراج، ثم يضع عليه علامته ثم علامة الباشا والدفتردار، ولكل إقليم من الأقاليم القبلية والبحرية دفتر مخصوص عليه طرة من خارج، مكتوب فيها اسم ذلك الإقليم ليسهل الكشف والتحرير والمراجعة عند الاشتباه، وتحرير مقادير حصص أرباب الاستحقاقات، ولم يزل ديوان الرِّزَق الإحباسية محفوظًا مضبوطًا في جميع الدول المصرية جيلًا بعد جيل، لا يتطرقه خلل إلا ما ينزل عنه أربابه لشدة احتياجهم، بالفراغ لبعض الملتزمين بقدر من الدراهم معجل، ويقرر للمفرغ على نفسه قدرًا مؤجلًا دون القيمة الأصلية، في نظير المعجل الذي دفعه للمفرغ، ويسمونها حينئذٍ داخل الزمام، ولم تزل على ذلك بطول القرون الماضية.»
ولعل من أهم المزايا المادية التي كسبها المشايخ كذلك من الوضع الذي صار لهم، بقاء النظام المعروف باسم مسموح المشايخ، وقد سبق الكلام عنه، وكاد الملتزمون يكونون جميعًا من المشايخ وأغنياء القاهرة، وظلوا يحصِّلون من الفلاحين في الأرض الداخلة ضمن حصصهم، الضرائب التي كان المشايخ والملتزمون معفون منها، في مسموحهم.
واشتُهر في العهد العثماني المملوكي طائفة من المشايخ، منهم من أعلام القرن الحادي عشر الهجري والسابع عشر الميلادي، الشيخ شمس الدين الشرنبابلي «شيخ مشايخ الأزهر في عصره»، والشيخ شمس الدين محمد البقري، وكان غالب علماء مصر إما تلميذه أو تلميذ تلميذه، واستحق طائفة منهم بما بلغوه من علم، وتحلوا به من صلاح وتقوى، ما صاروا يتمتعون به من نفوذ لدى الهيئتين الحاكمة والمحكومة على السواء، وتميز من بينهم عديدون في القرن الثاني عشر الهجري والثامن عشر الميلادي، كانوا ملجأ أصحاب الحاجات، يشفعون للناس، ويتوسطون لقضاء حاجاتهم لدى السلطات الحاكمة، ولرفع الظلم عنهم، اشتُهروا بالزهد في الدنيا، والانقطاع للتدريس ونشر الهداية، فصاروا موضع احترام وتبجيل الأهلين، ويخشاهم البكوات وسائر الحكام ويهابونهم، منهم الشيخ سليمان المنصوري، المتوفَّى سنة ١١٦٩ﻫ/١٧٥٦م، وكان في عصره «أحد الصدور المشار إليهم، أتقن الأصول ومهر في الفروع، ودارت عليه مشيخة الحنفية، ورغب الناس في فتاويه، وكان جليل القدر، عالي الذكر، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة.» والشيخ سليمان المنصوري هو الذي تصدى لمعارضة محاولة كان قد أزمع عليها السلطان العثماني في عام ١٧٣٥ للنيل من نظام الوقف، فوردت في أيامه من دار السلطنة مراسيم لإبطال بعض المرتبات التي جرت العادة بصرفها من ريع الأوقاف المرصدة على الخيرات والصدقات وما إليها، وقال القاضي: «أمر السلطان لا يُخالَف، ويجب إطاعته»، فكان جواب الشيخ: إن هذه المرتبات «فعل نائب السلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شيء جرت به العادة في مدة الملوك المتقدمين، وتداولته الناس، وصار يُباع ويُشترى، ورتَّبوه على خيرات ومساجد وأسبلة، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يعطل ذلك، وإنْ أمرَ ولي الأمر بإبطاله لا يُسلَّم له ويُخالف أمره؛ لأن ذلك مخالف للشرع، ولا يُسلَّم للإمام في فعل ما يخالف الشرع ولا لنائبه أيضًا.» وتم للشيخ ما أراد.
ومن المشايخ الذين ذاع صيتهم، واحتفى بهم البكوات المماليك والباشوات العثمانيون على السواء، وخشوا جانبهم، الشيخ محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني نسبة إلى بلده حفنا، وهي قرية من أعمال بلبيس، ولِد على رأس المائة (١١٠٠ﻫ/١٦٨٨م)، وتُوفي سنة ١١٨٠ﻫ/١٧٦٧م، كان «على غاية من العفاف … كريم الطبع جدًّا، وليس للدنيا عنده قدر ولا قيمة، جميل السجايا، مهيب الشكل … على مجالسه هيبة ووقار … ومن مكارم أخلاقه أنه لو سأله إنسان أعز حاجة عليه أعطاها له كائنة ما كانت، ويجد لذلك أنسًا وانشراحًا، ولا يعلِّق أمله بشيء من الدنيا، وله صدقات وصلات خفية وظاهرة … أقبل عليه الوافدون بالطول والعرض، وهادنه الملوك، وقصده الأمير والصعلوك، فكل مَن طلب شيئًا من أمور الدنيا أو الآخرة وجده.» قال عنه محمد راغب باشا أحد الولاة العثمانيين في ذلك الوقت (١٧٤٥–١٧٤٨): إنه سقف على مصر من نزول البلاء، ونظيره قول بعض الأمراء (البكوات) حين قيل له: الأستاذ الحفناوي من عجائب مصر، قال: بل قل من عجائب الدنيا. تدخَّل في النزاع الدائر بين البكوات أيام مسعى علي بك الكبير للظفر بشياخة البلد، وكان هذا قد نُفي إلى الصعيد، وأراد خصومه مطاردته، فعقدوا جمعية، وعزموا على تشهيل تجريدة، وتكلموا وتشاوروا في ذلك، فتكلم الشيخ الحفناوي في ذلك المجلس، وأفحمهم بالكلام، ومانع في ذلك، وقال: أخربتم الأقاليم والبلاد، في أي شيء هذا الحال، وكل ساعة خصام ونزاع، وتجاريد، علي بك هذا رجل أخوكم وخشداشكم؛ أي شيء يحصل إذا أتى وقعد في بيته، واصطلحتم مع بعضكم وأرحتم أنفسكم والناس، وحلف أنه لا يسافر أحد بتجريدة مطلقًا، وإن فعلوا ذلك لا يحصل لهم خير أبدًا، فقالوا: إنه هو الذي يحرك الشر، ويريد الانفراد بنفسه ومماليكه، وإن لم نذهب إليه أتى هو إلينا، وفعل مراده فينا، فقال لهم الشيخ: أنا أرسل إليه مكاتبة، فلا تتحركوا بشيء حتى يأتي رد الجواب، فلم يسعهم إلا الامتثال، فكتب له الشيخ مكتوبًا وبَّخه فيه وزجره ونصحه ووعظه، وأرسلوه إليه، وقد مرض الشيخ بعد هذا الحادث بأيام ورمى بالدم وتُوفي في ٢٧ ربيع الأول ١١٨١ / ٢٣ أغسطس ١٧٦٧.
وكان من طرازه الشيخ علي بن موسى المعروف بابن النقيب (١١٢٥–١١٨٦/١٧١٣–١٧٧٢)، وأخوه السيد بدر الدين، وقد درس الأول بالمشهد الحسيني واشتُهر أمره وزاد صيته … وكان ذا جود وسخاء وكرم ومروءة ووفاء، لا يدخل في يده شيء من متاع الدنيا، إلا وبذله لسائليه، وأغدق به على مبتغيه، وقد خلفه عند وفاته في إملاء درس الحديث النبوي بمسجد المشهد الحسيني، أخوه الذي أقبلت عليه الناس والأعيان، ومشى على قدم أخيه، وسار سيرًا حسنًا، وجرى على نسقه وطبيعته في مكارم الأخلاق وإطعام الطعام، وإكرام الضيفان، والتردد على الأعيان والأمراء؛ أي البكوات المماليك، والسعي في حوائج الناس، والتصدي لأهل حارته وخطته في دعاويهم، وفصل خصوماتهم وصلحهم، والذب عنهم، ومدافعة المعتدي عليهم، ولو من الأمراء والحكام في شكاويهم وتشاجرهم وقضاياهم، حتى صار مرجعًا وملجأ لهم في أمورهم ومقاصدهم، وصار له وجاهة ومنزلة في قلوبهم، ويخشون جانبه وصولته عليهم.
واشتُهر بالورع والزهد الشيخ علي بن أحمد الصعيدي العدوي المالكي (١١١٢–١١٨٩ / ١٧٠٠–١٧٧٥)، عُرف عنه أنه طالما كان يبيت بالجوع في مبدأ اشتغاله بالعلم، وكان لا يقدر على ثمن الورق، ومع ذلك إن وجد شيئًا تصدق به، ولقد كان شديد الشكيمة في الدين، يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وإقامة الشريعة ويحب الاجتهاد في طلب العلم، ويكره سفاسف الأمور، «وينهى عن شرب الدخان، ويمنع من شربه بحضرته وبحضرة أهل العلم تعظيمًا لهم، وإذا دخل إلى منزل من منازل الأمراء (البكوات المماليك) ورأى مَن يشرب الدخان شنَّع عليه وكسر آلته، ولو كانت في يد كبير الأمراء، وشاع عنه ذلك، وعُرف في جميع الخاص والعام، وتركوه بحضرته، فكانوا عندما يرونه مقبلًا من بعيد، نبَّه بعضهم بعضًا ورفعوا شبكاتهم وأقصابهم وأخفوها عنه، وإن رأى شيئًا منها أنكر عليهم ووبَّخهم وعنَّفهم وزجرهم»، وخشي البكوات جانبه، حتى إن علي بك الكبير في أيام إمارته كان إذا دخل عليه الشيخ في حاجة أو شفاعة، أخبروه قبل وصوله إلى مجلسه، فيرفع الشبك من يده، ويخفوه من وجهه وذلك مع عتوه وتجبره وتكبره.
واتفق أن الشيخ الصعيدي دخل على علي بك في بعض الأوقات «فتلقاه على عادته وقبَّل يده وجلس، فسكت الأمير مفكرًا في أمر من الأمور، فظن الشيخ إعراضه عنه، فأخذته الحدة، وقال مخاطبًا له باللغة الصعيدية: يامين، يامين، يا من هو غضبك ورضاك على حد سواء، بل غضبك خير من رضاك، وكرر ذلك، وقام قائمًا، وهو يأخذ بخاطره، ويقول: أنا لم أغضب من شيء، ويستعطفه، فلم يجبه، ولم يجلس ثانيًا، وخرج ذاهبًا، ثم سأل علي بك عن القصة التي أتى بسببها، فأخبروه، فأمر بقضائها.» واستمر الشيخ منقطعًا عن الدخول إليه مدة، حتى ركب في ليلة من ليالي رمضان مع الشيخ نور الدين حسن الجبرتي، والد عبد الرحمن، «في حاجة عند بعض الأمراء، ومرَّا ببيت علي بك، فقال له نور الدين: أدخل بنا نسلم عليه، فقال: يا شيخنا أنا لا أدخل، فقال: لا بد من دخولك معي، فلم تسعه مخالفته، وانسر بذلك علي بك تلك الليلة سرورًا كثيرًا.» ولما مات علي بك، وصار الأمر لمحمد أبي الذهب، لقي الشيخ علي الصعيدي منه كل إجلال، فقد كان أبو الذهب «يجل من شأنه ويحبه ولا يرد شفاعته في شيء أبدًا، وكل من تعسر عليه قضاء حاجة ذهب إلى الشيخ وأنهى إليه قصته، فيكتبها مع غيرها في قائمة، حتى تمتلئ الورقة، ثم يذهب إلى الأمير بعد يومين أو ثلاثة، فعندما يستقر في الجلوس، يُخرِج القائمة من جيبه، ويقص ما فيها من القصص والدعاوي، واحدة بعد واحدة، ويأمره بقضاء كل منها، والأمير لا يخالف ولا ينقبض خاطره في شيء من ذلك.
وفي أثناء ذلك يقول له: لا تضجر ولا تأسف على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا، فإن الدنيا فانية، وكلنا نموت، ويوم القيامة يسألنا الرب عن تأخرنا عن نصحك، وها نحن قد نصحناك، وخرجنا من العهدة، وإذا تلكأ عليه في شيء صرخ عليه، وقال له: اتقِ النار وعذاب جهنم، ثم يمسك يده ويقول له: أنا خائف على هذه اليد الكويسة من النار، وأمثال ذلك.» وكان رأي الشيخ الجبرتي فيه أنه لم يخلف بعده مثله.
وكان من هذا الطراز نفسه، الشيخ أحمد بن محمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الخلوتي الشهير بالدردير (١١٢٧–١٢٠١ / ١٧١٥–١٧٨٧)، كان «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بالحق، ولا يأخذه في الله لومة لائم، وله في السعي على الخير يد بيضاء»، كثر تدخله أيام حكم إبراهيم ومراد للانتصاف للشعب منهما، ولدفع ظلمهما وظلم عمالهما عنه، من ذلك ما فعله لوقف اعتداءات حسين بك شعت أو الشغت، بمعنى يهودي في مارس ١٧٨٦، عندما نهب حسين بك دار أحد الأهلين بحي الحسينية، فثار هؤلاء «وحضروا إلى الجامع الأزهر، ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة من أوباش العامة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير، فونَّسهم وساعدهم بالكلام، وقال لهم أنا معكم، فخرجوا من نواحي الجامع، وقفلوا أبوابه، وصعد منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة، وأغلقوا الحوانيت، وقال لهم الشيخ الدردير: في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة، وأركب معكم، وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم.» فخشي المسئولون العاقبة وخافوا من تضاعف الحال، وتعهدوا بإحضار المنهوبات، ولو أن حسين الشغت لم يلبث أن أجاب — على سؤال إبراهيم بك «كلنا نهابون، أنت تنهب ومراد بك ينهب، وأنا أنهب … وبردت القضية» — وللشيخ واقعة أخرى من هذا القبيل في طنطا أثناء أحد موالد سيدي أحمد البدوي، وقد عسف كاشف الغربية بالأهلين، فاشتكوه للشيخ الدردير، وكان هناك يقصد الزيارة، «فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة، فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف، دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبَّخه وقال له: «أنتم ما تخافون من الله»، وهجم على الكتخدا أحد الأهلين وضربه، فضرب خدام الكتخدا تابع الشيخ، وهاجت الناس على بعضهم، ووقع النهب في الخيم وفي البلد، ونُهبت عدة دكاكين، وأسرع الشيخ في الرجوع إلى محله، وراق الحال بعد ذلك، وركب كاشف المنوفية — وهو من جماعة إبراهيم الكبير — وحضر إلى كاشف الغربية وأخذه وحضر به إلى الشيخ، وأخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان، وانقضى المولد ورجع الناس إلى أوطانهم وكذلك الشيخ الدردير. فلما استقر بمنزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي، وأخذ بخاطره أيضًا، وكذلك إبراهيم بك الكبير، وكتخدا الجاويشية.»
وللشيخ الدردير معاصر من العلماء، احتل مكانة سامية بعلمه وفضله هو الشيخ أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني، الزبيدي الحنفي (١١٤٥–١٢٠٥ / ١٧٣٢–١٧٩١)، صنَّف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية، وأتم شرح القاموس في نحو أربعة عشر مجلدًا سماه تاج العروس. اعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا غربان ووالاه بره حتى راج أمره وترونق حاله، واشتُهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة، وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام وإسماعيل أبو عبد الله، وأبو علي، وأولاد نصر وأولاد وافي، وهادوه وبروه، وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية، مثل دمياط ورشيد والمنصورة، وباقي البنادر العظيمة مرارًا، حين كانت مزينة بأهلها، عامرة بأكابرها، وأكرمه الجميع، واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك، وتلقى عنهم، وأجازوه وأجازهم. شهد بفضله وسعة اطلاعه ورسوخه في علم اللغة، الشيخ علي الصعيدي، والشيخ أحمد الدردير والشيخ محمد وغيرهم كثيرون. ولما أنشأ محمد بك أبو الذهب جامعه المعروف بالقرب من الأزهر، وأوجد به خزانة للكتب، «أنهوا إليه شرح القاموس … وعرَّفوه أنه إذا وضِع بالخزانة كمل نظامها، وانفردت بذلك دون غيرها، ورغَّبوه في ذلك، فطلبه وعوَّض صاحبه عنه مائة ألف درهم فضة.» وعلا ذكر الشيخ مرتضى، وأقبل عليه الأشياخ والأعيان، وتحببوا إليه واستأنسوا به، وهادوه، وهو يُظهر لهم الغنى والتعفف، ويعظهم، ويفيد بهم … وحضر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي مجالسه ودروسه وانجذب إليه بعض الأمراء الكبار، مثل مصطفى بك الإسكندراني وأيوب بك الدفتردار، فسعوا إلى منزله وترددوا لحضور مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة. ولما تولى محمد باشا عزت (١٧٧٦–١٧٧٨) رفع شأنه وأصعده إليه، وخلع عليه فروة سمور وأجزل له العطايا، ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبُعد الصيت وعِظم القدر والجاه عند الخاص والعام، وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية لزم داره، ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر البكوات، ولما حضر القبطان حسن باشا لردع البكوات في عام ١٧٨٦، لم يذهب إليه، بل حضر هو لزيارته، وخلع عليه فروة وهاداه وكانت شفاعة الشيخ عنده لا تُرد، وإن أرسل هذا إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال وقبَّل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه، ونفَّذ ما فيها في الحال.
تلك إذًا كانت صفات علماء ومشايخ ذلك العصر وسجاياهم: صلاح وتقوى، وزهد في الدنيا، وانكباب على العلم والدرس، يلوذ الناس بهم كي يتوسطوا لهم لدى الهيئة الحاكمة، ويشفعوا فيهم، ويردوا عنهم الظالم، أصحاب جرأة في الحق، يعظون الحكام ويرشدونهم إلى الطريق السوي، أو يغلظون لهم في القول، ويؤلبون عليهم الرعية، ويتوعدونهم بعذاب النار إذا سدروا في غوايتهم، نبه ذكرهم، وعلا شأنهم، وخافهم الجميع، وخطبوا ودَّهم، وتقربوا إليهم، ابتغاء كسب رضاهم، ولم يكن هؤلاء الذين ذُكرت أسماؤهم هم المتحلين وحدهم بهذه الصفات، بل شاركهم في ذلك سائر زملائهم.
ولعل من الحوادث التي تُظهِر ما كان يتمتع به مشايخ وعلماء ذلك العصر من نفوذ عظيم على الأهلين وما كان لهم من مهابة عند البكوات المماليك، الذين كانوا يخشونهم، ويوسطونهم بدورهم لدى الشعب لعدم تحركه عليهم، والصفح عن جورهم وظلمهم؛ ما وقع عندما أوفدت الدولة القبطان حسن باشا لعقاب المماليك، واسترجاع سلطان الباب العالي في هذه الباشوية التي صارت نهبًا بين طوائفهم، ومسرحًا لفتنهم وخصوماتهم، فقد وسَّط البكوات المشايخ لدى القبطان حسن باشا الذي وصل أسطوله وجيشه إلى رشيد والإسكندرية في يوليو ١٧٨٦، فأوفد منهم مراد بك وإبراهيم وفدًا يتألف من المشايخ أحمد العروسي ومحمد الأمير ومحمد الحريري، وضموا إليهم جماعة من الأعيان، واتضح للعلماء عند مقابلتهم لحسن باشا أنه مصمم على إنهاء حكم مراد وإبراهيم، فأخبروا عند عودتهم من رشيد أنهم اجتمعوا على حسن باشا ثلاث مرات … فقابلهم بالإجلال والتعظيم، وأن الشيخ العروسي قال له: «يا مولانا رعية مصر قوم ضعاف، وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس»، فقال: «لا تخشوا من شيء، فإن أول ما أوصاني مولانا السلطان أوصاني بالرعية … ثم قال كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران، وترضونهم حكامًا عليكم يسومونكم بالعذاب والظلم، ولماذا لم تجتمعوا عليهم وتخرجوهم من بيتكم؟» وطلب حسن باشا أن يكتب مكاتبة للرعية يقرأها المشايخ على الملأ في الأزهر، فاعتذر الشيخ العروسي، وعندما سلَّم حسن باشا مكاتبات إلى أحد أعضاء هذا الوفد من الأعيان أُخفيت ولم يذع أمرها، وصار البكوات يتملقون المشايخ، وخشوا من قيام الرعية وراحوا يوسطون المشايخ لمنع قيامهم بالثورة عليهم، فانتهز إبراهيم بك حلول عيد الفطر المبارك، فزار الشيخ محمد البكري الصديقي شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب السادة الأشراف آنئذٍ، «وعيَّد عليه»، ثم زار الشيخ العروسي والشيخ أحمد الدردير «وصار يحكي لهم وتصاغر في نفسه جدًّا وأوصاهم على المحافظة، وكف الرعية عن أمر يحدثونه، أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت»؛ وذلك لأنه كان يخاف ذلك جدًّا، وخصوصًا لما أُشيع أمر الفرمانات التي أرسلها حسن باشا للمشايخ، وأكابر العربان وغيرهم، يعلن إليهم الغرض من مجيئه، وهو دفع الظلم عن الأهلين ولإيقاع الانتقام من إبراهيم ومراد، وتسامع بها الناس.
ثم إن البكوات عندما عجز مراد عن وقف زحف القبطان حسن باشا على القاهرة، ما لبثوا (في ١٧ أغسطس ١٧٨٦) أن «أرسلوا مكاتبة إلى المشايخ والوجاقات يتوسلون بهم في الصلح، وأنهم يتوبون ويعودون إلى الطاعة»؛ أي طاعة الباب العالي، فتوسط المشايخ لدى باشا مصر، محمد يكن، ولكن دون طائل، ودخل القبطان حسن باشا القاهرة في اليوم التالي، وفرَّ مراد بك إلى الصعيد، واستقر البكوات في أسيوط، وتوسط المشايخ مرة أخرى لمنع حسن باشا من بيع نساء البكوات وأولادهم الذين بقوا في القاهرة، وكان المتوسطون في هذا المشايخ: السادات والدردير والعروسي والحريري، وقد استهدف الشيخ السادات لغضبه، لصرامة خطابه له؛ حيث أنشأ يقول: «إنا سررنا بقدومك إلى مصر لما ظنناه فيك من الإنصاف والعدل، وأن مولانا السلطان أرسلك إلى مصر لإقامة الشريعة ومنع الظلم، وهذا الفعل لا يجوز، ولا يحل بيع الأحرار وأمهات الأولاد، ونحو ذلك من الكلام.»
وعندما غادر حسن باشا البلاد في أكتوبر ١٧٨٧، سعى البكوات الذين بالصعيد: مراد وإبراهيم وغيرهما للصلح والعودة إلى القاهرة، وطلبوا أن يقع هذا الصلح على أيدي المشايخ والعلماء، وأناس من كبار الوجاقات — أي الأعيان — فأوفد إليهم عابدين باشا الشريف، باشا مصر، الشيخ محمد الأمير وإسماعيل أفندي الخلوتي وآخرين في فبراير ١٧٨٨، ولكن دون طائل؛ حيث كان إسماعيل بك الكبير يشغل منصب شيخ البلد، ويستأثر أخصام إبراهيم ومراد بالسلطة في القاهرة، وقد ظل الحال على ذلك حتى طوى الطاعون الذي حدث في بداية العام التالي، إسماعيل بك الكبير وعددًا من كبار البكوات الآخرين بالقاهرة، فبعث مراد وإبراهيم بالسيد عمر أفندي مكرم الأسيوطي يحمل خطابًا إلى شيخ البلد عثمان بك طبل (تابع إسماعيل بك)، وإلى المشايخ وللباشا، محمد باشا عزت سرًّا، في يونيو ١٧٩١، يطلبون الصلح، ويتعهدون بسلوك الطريق السوي المستقيم بضمانة المشايخ، وقالوا في رسائلهم: «نحن أولاد اليوم، وإن أسيادنا المشايخ يضمنون غائلتنا.» وكان رأي المشايخ الذي أفصح عنه الشيخ أحمد العروسي، إن كان التفاقم بينهم وبين البكوات الموجودين بالقاهرة، فالمشايخ مستعدون للترجي لهم عند هؤلاء، وإن كان ذلك بينهم وبين السلطان، فالأمر للباشا نائبه، ثم اتفق الرأي على كتابة جواب حاصله «أن الذي يطلب الصلح يقدم الرسالة بذلك قبل قدومه وهو بمكانه، وذكرتم أنكم تائبون، وقد تقدم منكم هذا القول مرارًا، ولم نرَ له أثرًا، فإن شرط التوبة رد المظالم، وأنتم لم تفعلوا ذلك، ولم ترسلوا ما عليكم من الميري في هذه المدة، فإن كان الأمر كذلك، فترجعوا إلى أماكنكم وترسلوا المال والغلال، ونرسل عرضحال إلى الدولة بالإذن لكم، فإن الأمراء الذين بمصر لم يدخلوها بسيفهم ولا بقوتهم، وإنما السلطان هو الذي أخرجكم وأدخلهم، وإذا حصل الرضا فلا مانع لكم من ذلك، فإننا الجميع تحت الأمر.» وقد وقَّع على هذا الخطاب المشايخ والباشا العثماني، وسلَّموه إلى السيد عمر مكرم، الذي ذهب به إلى البكوات في الصعيد في يونيو ١٧٩١.
وكان مراد وإبراهيم وأتباعهما قد غادروا أماكنهم بالصعيد، وتقدموا صوب القاهرة حتى وصلوا إلى حلوان في أوائل يوليو، وأشاروا على المشايخ بالحضور إليهم وزيارتهم؛ كي يُشاع عند الأخصام أن الرعية والمشايخ معهم. وبدأ دخولهم القاهرة في ٢٢ يوليو، واستقروا بها، وأعاد إبراهيم ومراد، وبخاصة الأخير، سيرتهما السيئة في ظلم الرعية، وبذل المشايخ قصارى الجهد لردعهما وأتباعهما، حتى حدث في يونيو ١٧٩٥، أن اعتدى محمد بك الألفي (الكبير) على أهل قرية بشرقية بلبيس، كان للشيخ عبد الله الشرقاوي حصة فيها، فاستغاث هؤلاء به، ولما لم يُفِد توسط الشيخ لدى إبراهيم ومراد في رفع الظلم عنهم، أثارها ضجة كبيرة في وجه الطاغيتين، وألَّب عليهما المشايخ والأهلين، وخرجت المسألة من مجرد المطالبة بوقف اعتداءات محمد بك الألفي إلى التمسك بضرورة رفع المظالم عن الأهلين عامة، والسير بالعدل في حكم الرعية وتأمينهم على أرواحهم وأموالهم، فقفل المشايخ أبواب الجامع الأزهر وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت، ثم «ركبوا … واجتمع عليهم خلق كثير من العامة، وتبعوهم وذهبوا إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة، بحيث يراهم إبراهيم بك، وقد بلغه اجتماعهم، فبعث من قِبله أيوب بك الدفتردار، فحضر إليهم، وسلَّم عليهم، ووقف بين يديهم، وسألهم عن مرادهم، فقالوا له: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها، فقال: لا يمكن الإجابة إلى هذا كله، فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات، فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس، وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك؟ والأمير يكون أميرًا بالإعطاء لا بالأخذ، فقال: حتى أبلغ»، وانصرف، وتفاقم الحال عندما لم يصل المشايخَ جواب، وقصد المشايخ إلى الأزهر؛ حيث باتوا فيه ليلتهم، وقد اجتمع عليهم خلق كثير، وخشي إبراهيم بك من العاقبة، فأرسل إلى المشايخ «يعضدهم ويقول لهم أنا معكم، وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي»، وراح يخيف مراد بك من نتائج هذه الحركة، فبعث مراد يقول: «أجيبكم على جميع ما ذكرتموه إلا شيئين: ديوان بولاق، وطلبكم المنكسر من الجامكية، ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم، وندفع لكم جامكية سنة تاريخه أثلاثًا.» ثم إن مرادًا طلب أربعة من المشايخ عيَّنهم بأسمائهم فذهبوا إلى الجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح على ما ذكر، وفي اليوم الثالث من بداية هذه الحوادث، حضر صالح باشا القيصرلي — الباشا العثماني — إلى منزل إبراهيم بك، واجتمع البكوات وحضر من المشايخ: محمد السادات، وعمر مكرم (وقد صار نقيبًا للأشراف) والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري (الذي تولَّى سجادة الخلافة البكيرية بعد وفاة ابن خاله السيد محمد البكري الصغير في نوفمبر ١٧٩٣)، والشيخ محمد الأمير، وقد منع هؤلاء العامة من السعي خلفهم. ودار الكلام، وطال الحديث «وانحط الأمر على أن البكوات تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسًا موزعة، وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين، ويصرفوا غلال الشون وأموال الرزق، ويبطلوا رفع المظالم المحدثة والكشوفيات، والتفاريد والمكوس، ما عدا ديوان بولاق، وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس، ويرسلوا صرة الحرمين، والعوائد المقررة من قديم الزمان، ويسيروا في الناس سيرة حسنة.
وكان القاضي حاضرًا بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، وفرْمنَ عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها أيضا، وانجلت الفتنة، ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة، وهم ينادون: حسب ما رسم سادتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية.
وفرح الناس، وظنوا صحته، وفُتحت الأسواق، وسكن الحال على ذلك نحو شهر، ثم عاد كل ما كان مما ذُكر وزيادة، ونزل عقيب ذلك مراد بك إلى دمياط، وضرب عليها الضرائب العظيمة، وغير ذلك.»
ووجه الأهمية في الحوادث التي ذكرناها، أن المشايخ قد قاموا بدور الوساطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة على خير وجه، وبالقدر الذي استطاعوه، أهَّلهم لهذه الوساطة، ما اشتُهر عن سوادهم من ورع وصلاح وتقوى، وانصراف عن الدنيا، حبَّب الشعب فيهم، ورفع مكانتهم لدى الباشا العثماني، والبكوات المماليك، ثم جور هؤلاء الأخيرين بالرعية وعسفهم بهم.
على أنه مما يجدر ذكره من ناحية أخرى، أن هذه الوساطة كانت ذا أثر محدود، أفلحت في قضاء بعض حوائج الأهلين، ورفعت شيئًا من المظالم عنهم، ولكنها لم تنجح في ردع البكوات وأتباعهم، أو إلزامهم بإقامة الحكومة العادلة الطيبة، فظل البكوات سادرين في غوايتهم، ولم تُفِد شيئًا من هذه الناحية وعودهم وارتباطاتهم، لرفع المظالم، والرفق بالرعية، ولم يكن لتلك الحجة التي كُتبت عليهم بذلك في يونيو ١٧٩٥ أي أثر، بل اشتد بغي البكوات وعظم طغيانهم في السنوات الثلاثة التالية، حتى إن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، لم يجد فيما وقع من الحوادث في عام ١٢١٠ / ١٧٩٥-١٧٩٦ — والتي يعتني بتقييدها — سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء؛ أي البكوات المماليك، والمظالم، أو في العام التالي (١٢١١ﻫ/١٧٩٧-١٧٩٨) كذلك سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل، وموجبات ترادف البلاء المتراسل، وظل طغيان البكوات على أشده حتى جاء بونابرت بحملته المعروفة فقوَّض عروش سلطانهم.
(٢) اضمحلال نفوذ المشايخ
وقد فطن بونابرت إلى أهمية دور الوساطة الذي قام به المشايخ في العهد السالف، فعوَّل على الاعتماد عليهم في تنفيذ سياسته (الإسلامية-الوطنية)؛ لإقناع الشعب بالرضى بالحكم الفرنسي، والإخلاد إلى السكينة وعدم المقاومة، والرضوخ لسلطان بونابرت، والتعرف بواسطتهم على آراء ومطالب الشعب من جهة، ثم الاستعانة بهم من جهة أخرى على إيجاز المشروعات التي يرى الفرنسيون ضرورة إنجازها، فكان المشايخ والعلماء العنصر البارز في الدواوين التي تشكلت على أيام الحملة الفرنسية.
وكان هذا الحكم الأجنبي تجربة جديدة، امتُحن المشايخ في أثنائها امتحانًا عسيرًا، فكان هناك فريق آثر الهجرة إلى خارج البلاد، أو مغادرة القاهرة إلى الريف أو إلى الصعيد، أو الانزواء بعيدًا عن الحوادث، منصرفين إلى القراءة والتدريس بالمساجد، كالشيخ شامل أحمد بن رمضان بن سعود الطرابلسي الذي هاجر إلى بيت المقدس، والشيخ محمد الحريري الذي ذهب إلى أسيوط، ثم كان هناك فريق اشترك في حركات المقاومة الفعلية، كالشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ إسماعيل البراوي، وقد اتهم هؤلاء في إثارة الفتنة في ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر ١٧٩٨، وقد أعدمهم الفرنسيون، ثم الشيخ محمد بن الجوهري وطائفة من المشايخ الذين اشتركوا مع السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي (شاه بندر التجار) في ثورة القاهرة الثانية في مارس وأبريل ١٨٠٠، وقد اختفى عقبها الشيخ الجوهري. ثم كان هناك فريق من كبار المشايخ والمتصدرين، وهم الذين شكل الفرنسيون منهم دواوينهم، المشايخ: مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي وعبد الله الشرقاوي وخليل البكري ومحمد المهدي، وموسى السرسي وأحمد الويشي ومصطفى الدمنهوري ويوسف الشبرخيتي، ومحمد الدواخلي والسيد علي الرشيدي (نسيب الجنرال منو) وإسماعيل الزرقاني، وإسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب، وعبد الرحمن الجبرتي صاحب «عجائب الآثار».
وقد اعتقد هؤلاء أن من الخير مداراة الفرنسيين ومسايرتهم، لعلهم يستطيعون الاستمرار في دور الوساطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، والشفاعة للأهلين عقب حوادث الثورات والفتن، ثم لم تلبث جماعة منهم أن وجدت في هذه الأوضاع الجديدة فرصة مواتية لكسب النفوذ، واستغلال هذا النفوذ لصالحهم الشخصي، فدأبوا على مداهنة الفرنسيين وتملقهم، والاعتماد على صداقتهم لهؤلاء في جمع الثروة وبسط نفوذهم وسلطانهم على أبناء أمتهم، ولم يفُت سوادَ الشعب ما كان يبغيه هؤلاء المشايخ المتصدرون ويسعون إليه، فشهدت هذه الفترة — فترة الاحتلال الفرنسي للبلاد — تحولًا ملموسًا في موقف الشعب من المشايخ، وبخاصة المتصدرون منهم، كما شهدت بداية التغير الذي طرأ على أساليب عيشهم، وجعلهم ينصرفون عن الدين والعبادة والوعظ والإرشاد، ويتهافتون على الدنيا وعَرَضها الزائل، مما كان من أثره جميعًا أن طفق المشايخ يفقدون رويدًا رويدًا ما كان لهم من زعامة روحية سابقة.
ومن المشايخ الذين اشتُهروا بتملق الفرنسيين، وانتقلت مداراة هؤلاء على أيديهم إلى تعاون صادق، ومداهنة ونفاق على حساب سواد الشعب: محمد المهدي، أقبلت عليه الدنيا قبل مجيء الفرنسيين وتداخل في الأكابر ونال منهم حظًّا وافرًا، وعندما وقع الطاعون في سنة ١٧٩١، وفني كثيرون من البكوات وأهل البلاد، «اختفى بما أحبه مما انحل عن المولى من إقطاعات ورزق وغيرها، وزادت ثروته ورغبته وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، وعان الشركات والمتاجر في كثير من الأشياء مثل الكتان والقطن والأرز وغير ذلك من الأصناف، والتزم بعدة حصص بالبحيرة، مثل شابور وخلافها بالمنوفية والجيزة والغربية، وابتنى دارًا عظيمة بالأزبكية بناحية الرويعي … ولما حضرت الفرنساوية إلى الديار المصرية، وخافهم الناس، وخرج الكثير من الأعيان وغيرهم هاربين من مصر، تأخَّر الشيخ محمد المهدي عن الخروج ولم ينقبض كغيره عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم، وانضم إليهم وسايرهم ولاطفهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته، ووثقوا بقوله، فكان المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة العظمى بينهم وبين الناس في قضاياهم وحوائجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم حتى لُقب عندهم وعند الناس بكاتم السر، ولما رتبوا الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين في قضاياهم ودعاويهم، كان هو المشار إليه فيه، وخَدَمة الديوان الموظفون فيه تحت أوامره، وإذا ركب أو مشى يمشون حوله وأمامه وبأيديهم العصي، يوسِّعون له الطريق، وراج أمره في أيامهم جدًّا، وزاد إيراده وجمعه واحتوى بلادًا وجهات وأرزاقًا، وأقاموه وكيلًا عنهم في أشياء كثيرة وبلاد وقرى يجيء إليه خراجها، ويصرف عنها ما يصرفه، ويأتيه الفلاحون منها ومن غيرها بالهدايا والأغنام والسمن والعسل، وما جرت به العادة، ويتقدمون إليه بدعاويهم وشكاويهم، ويفعل بهم ما كان يفعله أرباب الالتزامات من الحبس والضرب، وأخذ المصالح وصار له أعوان وأتباع، وخدم من وجهاء الناس.»
وقد حرص الشيخ المهدي على التمسك بذلك الأساس الذي قام عليه سلطانه، وهو التوسط والشفاعة لدى السلطات الحاكمة لرفع المظالم عن الساعين إليه بشكاياتهم من الفلاحين وسائر الأهلين، وهو دور كان لا غنى له عن المضي فيه عندما كان الأصل في تقريب الفرنسيين لهؤلاء المشايخ هو أن يكونوا الواسطة بينهم وبين الشعب، للوقوف على مطالبه ورغباته، للسعي في إزالة ما قد يكون سببًا في إثارة الخواطر ضدهم، ولتوطيد سلطانهم الداخلي، فقال الشيخ الجبرتي: «وبالجملة فكان بوجوده وتصدره في تلك الأيام النفع العام، سدَّ بفعله ثقوبًا واسعة وخروقًا، وداوى برأيه جروحًا وفتوقًا، لا سيما أيام الهيازع والخصومات والتنازع، وما يكدر طباع الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلاقاه بمراهم كلماته، ويسكن حدتهم بملاطفاته.» ولم يفُت الشيخ أن يذكر أنه كان لهذه الوساطة والشفاعة ثمن يستحق بفضلها الجوائز الجزيلة من جانب أولئك الذين يتوسط لهم ويشفع فيهم لدى الفرنسيين.
وكان كذلك سائر المتصدرين، أقبلوا على الدنيا، وجمعوا المال، وتقربوا من الهيئات الحاكمة سواء كانت هذه من البكوات المماليك أم من الفرنسيين بعد مجيء حملتهم إلى مصر، وتداخلوا في القضايا؛ أي توسطوا لفض المنازعات بين الأهلين بعضهم وبعض أو بينهم وبين الحكام، وزاولوا التجارة، وإن عُرف عن بعضهم الجود والكرم كالشيخ سليمان الفيومي، وكان هذا قد نال حظوة لدى البكوات، ثم لدى الفرنسيين، أحبه هؤلاء «وقبلوا شفاعاته، وصاروا يحضرون إلى داره، ويعمل لهم الولائم، وساس أموره معهم، وقرروه في رؤساء الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين، ولما نظَّموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه، ورتبوا على مشايخ كل بلد شيخًا ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي شيخ المشايخ، مضافًا ذلك لمشيخة الديوان، ازدحمت داره بمشايخ البلدان، فيأتون إليه أفواجًا ويذهبون أفواجًا، وله مرتب خاص، خلاف مرتب الديوان، واستمر معهم في وجاهته إلى أن انقضت أيامهم.» ومع أن الشيخ الجبرتي قد أطنب في وصف كرمه وجوده وسعيه في قضاء حوائج الناس والشفاعة لهم عند البكوات المماليك ثم عند الفرنسيين، فقد قال عنه إن بضاعته في العلم دقيقة، وراج أمر الشيخ موسى السرسي، بانتسابه للشيخ أحمد العروسي، «واشترى أملاكًا واقتنى عقارًا وببلده سرس الليانة ومنوف، مزارع وطواحين ومعاصر، واشترى دارًا نفيسة بدرب عبد الحق بالأزبكية، وعدَّد الأزواج واشترى الجواري والعبيد والحبشيات الحسان.»
وأما الشيخ عبد الله الشرقاوي فكان طموحًا، بدأ حياته «في قلة من خشونة العيش، وضيق المعيشة، فلا يطبخ في داره إلا نادرًا، وبعض معارفه يواسونه ويرسلون إليه الصفحة من الطعام، أو يدعونه ليأكل معهم، ولما عرفه الناس واشتُهر ذكره، فواصله بعض تجار الشوام وغيرهم بالزكوات والهدايا والصلات، فراج حاله، وتجمل بالملابس، وكبر تاجه … ثم اشترى له دارًا وساعده في ثمنها بعض من يعاشره من المياسير.» ولما تُوفي الشيخ أحمد العروسي (مارس ١٧٩٤) تولى بعده مشيخة الجامع الأزهر «فزاد في تكبير عمامته وتعظيمها حتى كان يُضرب بعظمها المثل»، وتعصَّب عليه جماعة من المشايخ والعلماء المناصرين للشيخ مصطفى الصاوي ضده وقتئذٍ، فضعف شأنه، حتى إذا حضر الفرنسيون نشط الشيخ عبد الله الشرقاوي، ومال إليهم بكليته، فجعلوه رئيس الديوان، «وانتفع في أيامهم بما صار يتحصل له من المعلوم المرتب له عن ذلك، وقضايات وشفاعات لبعض الأجناد المصرية (المماليك)، وجعالات على ذلك، واستيلاء على تركات وودائع خرجت أربابها في حادثة الفرنساوية وهلكوا، واتسعت عليه الدنيا، وزاد طمعه فيها، واشترى دارًا بظاهر الأزهر، وهي دار واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين، وزوجته هي التي تدبر أمره، وتحرز كل ما يأتيه ويجمعه، ولا يروح ولا يغدو إلا عن أمرها ومشورتها، وكانت قبل زواجه بها في قلة من العيش، فلما كثرت عليه الدنيا اشترت الأملاك والعقار والحمامات والحوانيت بما يغل إيراده مبلغًا في كل شهر له صورة.»
وكان الشيخ خليل البكري يحقد على عمر مكرم توليه نقابة الأشراف، على أيام مراد وإبراهيم، فما إن احتل الفرنسيون البلاد، حتى تداخل فيهم، وعرَّفهم «أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه، فقلَّدوه إياها، واستولى على وقفها وإيرادها»، وراج حاله معهم، وصار يولم لهم الولائم في الموالد، ويسعى لخدمة أغراضهم، فكان له «قبول عند الفرنساوية، وجعلوه من أعاظم رؤساء الديوان، فأضحى وافر الحرمة، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة عندهم، فازدحم بيته بالدعاوى والشكاوى، واجتمع عنده مماليك من مماليك الأمراء المصرية الذين كانوا خائفين ومتغيبين، وعدة خدم وقواسة ومقدم كبير وسراجين وأجناد»، واستمر الحال على ذلك إلى أن حضر يوسف باشا ضيا عقب اتفاق العريش المعروف مع كليبر، وقامت ثورة القاهرة الثانية عقب نقض هذا الاتفاق، «ووقعت الحرب في البلدة (القاهرة) بين العثمانية والفرنساوية والأمراء المصرية وأهل البلدة، فهجم على داره المتهورون من العامة ونهبوه وهتكوا حريمه، وعرَّوه من ثيابه، وسحبوه بينهم مكشوف الرأس»، ولم ينقذه من الهلاك سوى شفاعة بعض الأعيان، فلما انقضت الفتنة، شكا الشيخ للفرنسيين ما حل به بسبب موالاته لهم، «فعوضوا عليه ما نُهب له ورجع إلى الحالة التي كان عليها معهم.»
وشذ عن هؤلاء المتصدرين حفنة قليلة من المشايخ، منهم الشيخ محمد السادات الذي اضطهده الفرنسيون، والشيخ محمد الأمير، وكان منصرفًا للعلم، وصاحب جرأة وشجاعة، والشيخ مصطفى الصاوي، وقد لحقه اضطهاد الفرنسيين قبل ثورة القاهرة الثانية، وكان من بين الذين عوقوهم بالقلعة قبل تسليم «بليار»، ثم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وكان ممن غادروا القاهرة إلى أبيار عند دخول الفرنسيين، ولكنه ما لبث أن عاد إليها، ثم عيَّنه «منو» في الديوان الذي أنشأه، وشغل بتدوين تاريخه، وعُرف بالاتزان والاعتدال، ولم يرضَ عن مسلك المتصدرين، ولم يعمد لاستغلال النفوذ الذي صار له كأحد أحد أعضاء الديوان، عن طريق المداخلة، والمشاركة في القضايا والشفاعات.
وجماعة تلك كانت حال أكثرهم، لم يكن هناك معدًى عن ذهاب هيبتهم لدى سواد الشعب، ونزول أقدارهم عنده، لا يغيِّر من صحة هذا القول لجوء الأهلين إليهم يسألونهم الوساطة والشفاعة، كما جرت به عادتهم من قديم؛ لأن المشايخ في هذه المحنة — محنة الاحتلال الأجنبي — كانوا يتقاضون ما صار بمثابة أجر معلوم لهذه الوساطة والشفاعة؛ ولأنهم اعتمدوا في تعزيز مكانتهم ونفوذهم بين الشعب على دعم صلاتهم بالفرنسيين، ومداهنتهم والحرص على خدمة مآربهم، ناهيك بانكبابهم على الدنيا، والحرص على جمع المال، وزوال الصفات الأصيلة التي كانت مبعث زعامتهم السابقة، والأساس الذي قام عليه نفوذهم في الماضي، وهي الورع والتقوى، والزهد في الدنيا، والاشتغال بالدين.
وقد ظهرت بوادر اضمحلال نفوذهم، وضياع هيبتهم، في حادث الشيخ خليل البكري الذي سبقت الإشارة إليه، ثم إنه لما طلب الفرنسيون إلى هؤلاء المشايخ المتصدرين أثناء ثورة القاهرة الثانية أن يتوسطوا لإنهاء الفتنة، وعقد الصلح على أساس خروج العثمانيين والبكوات المماليك الذين دخلوا القاهرة وقتئذٍ، قام الأهلون على المتوسطين «وسبُّوهم وشتموهم، وضربوا الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ موسى السرسي ورموا عمائمهم وأسمعوهم قبيح الكلام، وصاروا يقولون: هؤلاء المشايخ ارتدُّوا، وعملوا فرنسيس، ومرادهم خذلان المسلمين، وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس.»
وكان هؤلاء المتصدرون، أمثال محمد المهدي، وعبد الله الشرقاوي، وموسى السرسي، وسليمان الفيومي وغيرهم، هم أول مَن رحَّب بعودة الباشا العثماني بعد انقضاء حكم الفرنسيين، وكانت لهم في العهد الجديد بعض الوساطات والشفاعات، ولكن في حالات متفرقة ونادرة، غمرتهم الفوضى السياسية المنتشرة وقتئذٍ في غمرتها، وانصرفوا إلى شئونهم الدنيوية، فلما يتصدوا لزعامة الشعب إلا مدفوعين من الشعب نفسه أو بالأحرى من القاهريين الذين أبهظتهم مظالم الباشوات، وتكرر وقوع اعتداءات الجند من أرنئود وإنكشارية ودلاة وغيرهم عليهم، وحتى في الحالات النادرة التي تدخل فيها المشايخ يتوسطون ويشفعون، لم يكن لذلك أي أثر، وظلوا خلال سنوات الفوضى هذه أدوات طيعة في أيدي أصحاب الانقلابات التي وقعت في أثنائها، والتي سبق الحديث عنها في موضعها، حتى عرف محمد علي كيف يستخدمهم بدوره لتنفيذ مآربه، واطمأن هؤلاء إلى التعاون معه؛ لما كان لديه من قوة كأحد كبار ضباط الأرنئود، والذي انفرد بزعامتهم بعد مقتل طاهر باشا، واعتقدوا أن في وسعه حماية أشخاصهم وأموالهم، ورفع المظالم عنهم وعن سواد الشعب.
فقد تقدم عند الكلام عن الفوضى السياسية التي انتشرت عقب خروج الفرنسيين من البلاد، كيف أن المشايخ والسيد عمر مكرم خصوصًا تحدثوا عن إلباس طاهر باشا الفرو عن المظالم والإتاوات وسألوه رفعها دون طائل، وكيف أنهم أذعنوا لمطلب طاهر باشا منهم، فوقعوا على إعلام مهيأ لإرساله إلى الآستانة، تبريرًا للانقلاب الذي وقع وأفضى إلى طرد خسرو باشا من الولاية، وكيف تشفع الشيخ محمد السادات في مصطفى آغا الوكيل، دون جدوى.
وفقد المشايخ كل نفوذ لدى أصحاب السلطان، فلم يأبه محمد علي لوساطتهم التي طلبها منهم أحمد باشا والي مكة والمدينة، وانتهى الأمر بإخراجه من البلاد، وبلغ من انهيارهم أنهم صاروا أدوات طيعة في أيدي إبراهيم والبرديسي وسائر البكوات أثناء الحكومة الثلاثية المعروفة، وأفلح محمد علي في جعلهم يوجهون الدعوة لعلي باشا الجزائرلي تحت مسئوليتهم للحضور إلى القاهرة، فأتاحوا الفرصة بذلك للبكوات حتى يقتلوه في الظروف التي عرفناها، ولم يفُز المشايخ لقاء مسايرتهم للبكوات بطائل، فعبثًا حاولوا التوسط لدى إبراهيم بك في غضون عام ١٨٠٣ لرفع المظالم التي علا ضجيج شكوى الشعب منها، وعبثًا حاول الشيخ محمد الأمير نصح البكوات في اتباع العدل وترك الظلم في أوائل العام التالي.
ولقد استطاع محمد علي بتودده للمشايخ، وبتشجيعه للسيد عمر مكرم، وبالأشياخ على معارضة حكومة البكوات، أن يجعلهم يحرضون الأهلين ويؤازرونهم في تلك الثورة التي قضت على هذه الحكومة في مارس ١٨٠٤، وأن يجعلهم يؤمنون بصدق ذلك الفرمان المزور الذي أعطى باشوية القاهرة لأحمد باشا خورشيد في الشهر نفسه.
وعبثًا حاول المشايخ التوسط لدى خورشيد لإنهاء المظالم، واقتضى الحال تكاتف أربعة من المتصدرين، منهم: محمد السادات، ومحمد الأمير ومحمد المهدي وسليمان الفيومي، ثم السيد عمر مكرم؛ للشفاعة في حق السيدة نفيسة أرملة مراد بك.
ثم استطاع محمد علي مرة أخرى، استخدامهم في طرد خورشيد باشا من الولاية، وكان هذا الحادث فريدًا في نوعه، من ناحية الآثار التي ترتبت عليه؛ لأنه لم يسبق للمشايخ الاشتراك في الانقلابات التي وقعت قبل ذلك وأفضت إلى تنحية أحد الباشوات من الولاية في السنوات الأربع الماضية؛ ولأن المشايخ ما لبثوا أن استندوا عليه وعلى ما وقع من مشاركتهم في الحوادث الهامة اللاحقة كأزمة النقل إلى سالونيك المعروفة، أو أثناء حملة «فريزر»، أو عندما صار محمد علي يوسطهم لإنهاء خصومة البكوات المماليك معه في المطالبة باختصاصات اعتقدوا أنها من لزوميات الزعامة التي صارت لهم في العهد الجديد، فكان ذلك منشأ اصطدامهم مع الباشا، والقضاء على البقية الباقية من ذلك النفوذ الضئيل الذي شاءت إرادة الباشا أن تحفظه لهم، حتى يؤدوا نفس الدور الذي أدوه سابقًا كواسطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، ولكن بالطريقة التي يرضى عنها الباشا ويرسمها هو لهم بنفسه.
(٣) الاصطدام مع الباشا
ولقد درج الكتاب على إضفاء أهمية بالغة على ما حدث أثناء انقلاب مايو ١٨٠٥، الذي أسفر عن المناداة بولاية محمد علي، وبالغوا في تقدير قيمة الوثيقة التي تضمنتها شروط المشايخ والزعماء الشعبيين، لإقامة الحكم الصالح في نظرهم، وهي الشروط التي رفضها خورشيد، وقبلها محمد علي، فمع أن هذه الشروط كانت منصبة على إبداء الرغبة التي طالما طلب المشايخ والأهلون بتحقيقها: وقف اعتداءات الجند عليهم، ورفع المظالم والمغارم والفرد التي كانت تحصَّل منهم، على غرار ما كانوا يفعلونه ويطلبونه كلما واتتهم الفرصة، فقد وصفت هذه بأنها وثيقة حقوق تشبه وثيقة إعلان الحقوق المشهورة التي أقرها البرلمان الإنجليزي في عام ١٦٨٩ عقب الثورة التي أنهت حكم ستيوارت من إنجلترة، على أساس أن هذه الشروط قد تضمنت نصًّا يقضي بعدم فرض ضريبة دون موافقة المشايخ ورؤساء الشعب؛ أي تقرير المبدأ المعروف، ألا ضريبة من غير موافقة الشعب عليها، وألا ضريبة من غير تمثيل، الأمر الذي يبعد كل البعد عما حدث فعلًا، على نحو ما سلف توضيحه عند الكلام عن تفاصيل هذا الإعلام الذي وقَّعه محمد علي.
فقد كان كل ما أراده المشايخ والرؤساء الشعبيون من توقيع محمد علي على هذه الوثيقة، ينحصر في أمرين: أحدهما عاجل، هو رفع المظالم التي يشكون ويشكو الشعب منها، والآخر آجل، هو ضمان استمرار المشاورة معهم في تصريف شئون الحكم، توقيًا لما قد يقع عليهم وعلى الشعب من مظالم جديدة في المستقبل.
ولا جدال في أن المشايخ قد كسبوا نفوذًا جديدًا من جراء مساهمتهم في انقلاب مايو ١٨٠٥، وحق لهم أن يتطلعوا إلى مشاورة الباشا لهم، ولم يبدُ من جانب محمد علي ما يجعلهم يشعرون في العامين التاليين أنه لا يريد مشاورتهم، بل على النقيض من ذلك، كانت هذه المشاورة في نظر محمد علي نفسه ضرورية لا غنى عنها لاجتياز الأزمات العصيبة التي اعترضت الحكم وقتئذٍ، لتوسط المشايخ في جمع الإتاوات وعقد السلف والقروض لسد حاجته الملحة إلى المال دائمًا، ولتهدئة القاهريين الذين تعرضوا لإيذاء الجند، وللاعتماد عليهم في إقناع الباب العالي بضرورة بقائه في الولاية، وقد مهَّد محمد علي للظفر من المشايخ بتلبية مطالبه منهم، وإبداء الرأي والمشورة على النحو الذي يريده، بإرخاء العنان لهم، في التكالب على إنماء ثرواتهم الخاصة، وقد تقدم كيف تركهم يستكثرون من شراء حصص الالتزام، ويستغلون لنفعهم الشخصي مسموح المشايخ، يعيشون في بذخ وترف، ويجمعون حولهم الخُدام والأتباع، فلم يلبث هؤلاء أن صاروا أدوات طيعة في يده، يلبون كل إشارة تبدر منه، ويسعون — سواء شاءوا أو لم يريدوا ذلك — لتعزيز ملكه وسلطانه، فهو يستكتبهم العرائض للباب العالي، ويوسطهم لدى البكوات المماليك، ويعتمد عليهم في استكمال أسباب الدفاع عن القاهرة (أيام حملة فريزر خصوصًا).
وقد ترتب على هذا أن توهَّم المشايخ، والسيد عمر مكرم على وجه الخصوص، وهو صاحب اليد الطولى في إنهاء الأزمات التي سبقت انقلاب ١٨٠٥، لصالح محمد علي، ثم في أثناء انقلاب ١٨٠٥ نفسه، وما تبع هذا الانقلاب من أزمات أخرى؛ ترتب على هذا أن راح هؤلاء يفسرون مبدأ المشاورة بأنه إلزام للباشا بالرضوخ لكل رأي قد يشيرون عليه به، فإذا أبى المشورة، هددوا بإثارة القاهريين وتحريك الثورة ضده لطرده من الباشوية كما طردوا خورشيد باشا، فكان في هذا الوهم نكبتهم لأسباب عدة، أهمها: أن الشعب الذي شاهد الباشا يجتاز بنجاح الأزمات التي صادفته، وتتدعم أركان حكومته كلما طال بحكمه الأمد صار يفطن إلى أنه قد صار بالبلاد حاكم واحد، ويدرك أن هذا الحاكم يعتزم البقاء في باشويته، أضف إلى هذا أن الشعب الذي بدأ يفقد ثقته في المشايخ المتصدرين من أيام الاحتلال الفرنسي، ثم شاهدهم متكالبين على الدنيا، تسود الخلافات والمشاحنات بينهم، ولا يعنون إلا بخدمة مصالحهم الخاصة، ويجعلون من أنفسهم أدوات في أيدي الباشا وعمالًا له لتوزيع الفرض والإتاوات على الأهلين، وجمع السلف والقروض الإجبارية منهم، بدلًا من الاعتراض عليها، صار لا يأبه لهم، وضاعت مكانتهم عنده، حتى إذا أراد فريق منهم مقاومة حكومة الباشا بعد فوات الفرصة، انفض الشعب عنهم ولم يؤازرهم، فكان المشايخ أنفسهم المسئولين عن فقد ذلك النفوذ الذي بدأ يكون لهم من جديد ابتداء من حادث انقلاب عام ١٨٠٥، والذي أكسبتهم إياه حوادث الأزمات التالية، والذي كان في وسعهم أن يستندوا عليه في فرض مشورتهم على الباشا، وإلزامه باتباعها إلزامًا لو أنهم قنعوا بالقيام على شئون الدين، وعزفوا عن الجاه الزائف، وحرصوا على التكتل في جبهة واحدة رائدها التوسط حقيقة لرفع المظالم عن الشعب.
ولكنه ما مرت شهور قليلة على انقلاب ١٨٠٥، حتى شاعت الفرقة بين المشايخ ووقعت بين أهل الأزهر منافسات، قال الشيخ الجبرتي إنها كانت بسبب أمور وأغراض نفسانية يطول شرحها، فتحزَّبوا حزبين: أحدهما يناصر الشيخ عبد الله الشرقاوي، والآخر الشيخ محمد الأمير، ودار الخلاف على نظارة الجامع الأزهر، وكان من أنصار الشيخ الأمير، عمر مكرم والشيخ محمد السادات، فكتبوا له تقريرًا بذلك من القاضي، وختم عليه المشايخ، وقد استمر الخلاف قائمًا بسبب مشيخة الجامع ونظر أوقافه وأوقاف عبد الرحمن كتخدا مدة طويلة، وفشلت جهود الشيخ عبد الرحمن السجيني في مايو ١٨٠٦ في إزالة أسباب التنافر، وسعى المشايخ: محمد الدواخلي، وسعيد الشامي، وكذلك عمر مكرم في حق الشيخ عبد الله الشرقاوي، بسبب أمور وضغائن ومنافسات فأغروا الباشا به، فأمره بلزوم داره، وألَّا يخرج منها ولا إلى صلاة الجمعة، حتى تدخل القاضي عارف أفندي في شأنه مع الباشا للإفراج عنه، والإذن له في الركوب والخروج من داره حيث يريد، فقال الباشا: أنا لا ذنب لي في التحجير عليه، وإنما ذلك من تفاقمهم مع بعضهم، فاستأذنه في مصالحتهم، فأذن له في ذلك، فعمل لهم القاضي وليمة ودعاهم، وتغدوا عنده، وصالحهم، وقرءوا بينهم الفاتحة، وذهبوا إلى دورهم، والذي في القلب مستقر فيه.
وقد استمرت الخلافات والمنافسات وتزايدت الحزازات بين المشايخ حتى ذهبت ريحهم تمامًا وأتاحت هذه الضغائن والانقسامات الفرصة للباشا للعمل على زيادة التفرقة بينهم، والإمعان في إضعافهم، حتى تسنى له إهمال أمرهم ثم إخماد كل معارضة من جانبهم والقضاء على ما تبقى من نفوذهم الذي كان قد وهن كثيرًا، والانفراد وحده بكل أسباب السلطة في باشويته.
وكان من أهم العوامل في إضعاف شأن المشايخ، ما سبقت الإشارة إليه مرارًا وتكرارًا من انصراف هؤلاء عن الدين والعبادة، وتأدية وظائفهم التقليدية في المجتمع المصري، من حيث وعظ الناس وإرشادهم، والاهتمام بأمورهم والتوسط لقضاء حاجاتهم والشفاعة للمظلومين منهم عند الحكام، كل ذلك كواجب حتمي، لا ينتظرون من أدائه أجرًا ولا شكورًا، فصاروا متكالبين على الدنيا، لا يبغون من الوساطة إلا تعزيز مكانتهم هم أنفسهم لدى السلطات الحاكمة، وصاروا يأخذون عن هذه الوساطة الأجور العالية في صورة الهدايا والعطايا الجزيلة من الفلاحين وسائر الأهلين الذين يتوسطون لهم، وقد ظهرت أنانية المشايخ، وتقديم مصالحهم ومنافعهم الذاتية على مصالح الأهلين، في حادث فتنة الجند الكبيرة في أكتوبر ونوفمبر ١٨٠٧، وقد سبق الكلام مفصلًا عن الترتيب الذي وضع عندئذٍ لجمع المال المطلوب دفع مرتبات الجند منه لإنهاء الفتنة، وكيف أن المشايخ جعلوا العبء الأكبر يقع على صغار التجار وأهل الحرف ومن إليهم، وعلى الفلاحين المشتغلين في حصصهم، كما سبق الكلام عن استغلال المشايخ السيئ لهؤلاء الفلاحين المشتغلين في حصصهم، واتضح لسواد الشعب أن هؤلاء المشايخ المتصدرين، لا يريدون من هذه الصدارة سوى الظفر بالمغانم لأنفسهم، وانتهاز الفرص عن طريق تقربهم من الهيئة الحاكمة، والإذعان لمشيئة الحكام، للاستكثار من الأراضي والأموال، والعيش في بذخ وترف، حتى سماهم الشيخ الجبرتي «بمشايخ الوقت»؛ أي الانتهازيين الذين يدورون مع الريح أينما دارت.
وقد وصف الشيخ الجبرتي ما ترتب على استكثار هؤلاء من البلاد والحصص التي دخلت تحت مسموح المشايخ والتي أُعفيت من المغارم والشهريات والفرض التي صار الباشا يفرضها على القرى، ومظالم الكشوفية وغير ذلك، فقال: «إن المشايخ اغتروا بذلك، واعتقدوا دوامه، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المنجاحين بدون القيمة»، ثم راح يصف تكالبهم على الدنيا، والفساد الذي استشرى في صفوفهم، فقال: «وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومدارسة العلم، إلا بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج المعروفة بزب الفيل، واستخدموا كتبة الأقباط، وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد، وقدروا حق طرق لأتباعهم، وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب، مع عدم سماع شكاوى الفلاحين، ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة، وانقلب الوضع فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية، والحصص والالتزام، وحساب الميري والفائظ والمضاف، والرماية والمرافعات والمراسلات، والتشكي والتناجي مع الأقباط، واستدعاء عظمائهم في جمعياتهم وولائمهم والاعتناء بشأنهم، والتفاخر بتردادهم والترداد عليهم، والمهاداة فيما بينهم، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
وأوقع مع ذلك زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة، والتفاقم والتكالب على سفاسف الأمور، وحظوظ النفس على الأشياء الواهية، مع ما جُبلوا عليه من الشح والشكوى والاستجداء، وفراغ الأعين، والتطلع للأكل في ولائم الأغنياء والفقراء، والمعاتبة عليها إن لم يُدعوا إليها، والتعريض بالطلب، وإظهار الاحتياج لكثرة العيال والأتباع، واتساع الدائرة، وارتكابهم الأمور المخلة بالمروءة المسقطة للعدالة، كالاجتماع في سماع الملاهي والأغاني والقيان والآلات المطربة، وإعطاء الجوائز والنقوط لمناداة الخلبوص، وقوله وإعلامه في السامر، وهو يقول في سامر الجمع بمسمع من النساء والرجال من عوام الناس وخواصهم، برفع الصوت الذي يسمعه القاصي والداني وهو يخاطب رئيسة المغاني: يا ستي حضرة شيخ الإسلام والمسلمين، مفيد الطالبين، العلامة فلان، منه كذا وكذا، من النصفيات الذهب، قدر مسماه كثير، وجرمه قليل، نتيجة للتفاخر الكذب، والازدراء بمقام العلم بين العوام وأوباش الناس، الذين اقتدوا بهم في فعل المحرمات الواجب عليهم النهي عنها، كل ذلك من غير احتشام ولا مبالاة، مع التضاحك والقهقهة المسموعة من البعد في كل مجمع، ومواظبتهم على الهزليات والمضحكات، وألفاظ الكفاية المعبر عنها عند أولاد البلد بالأنقاط، والتنافس في الأحداث، إلى غير ذلك.»
فلم يكن من المنتظر، وقد انحط الحال بالمشايخ إلى هذا الدرك، أن يأبه الباشا لهم، وأن يستجيب لنصحهم ومشورتهم، تلك النصيحة أو المشورة التي خُيل إليهم أن قد صار من حقهم إلزام الباشا باتباعها إلزامًا، وراح يسعى الآن فريق منهم، اعتمادًا على هذا المبدأ لمشاركته في الحكم، والحد من سلطانه، بل إن الباشا لم يلبث أن عمد بعد فراغه من أمر الإنجليز وانسحاب جيش فريزر من الإسكندرية، إلى إبطال مسموح المشايخ، والفقهاء ومعافي البلاد التي التزموا بها، ومع أن هذا الإجراء أنزل خسارة مادية جسيمة بالمشايخ المتصدرين؛ لأنهم — كما عرفنا — كانوا من كبار الملتزمين وقتئذٍ، ويملكون حصصًا كثيرة، فإن أحدًا منهم لم يجرؤ على معارضة الباشا؛ لضعفهم وتخاذلهم وانقسامهم على أنفسهم من جهة؛ ولأنه لم يكن في مقدورهم استثارة الأهلين أو فلاحيهم لمقاومة هذا الإجراء، ومناصرتهم، لضياع هيبتهم عمومًا في نظر الأولين، ولنفور فلاحيهم منهم، بعد أن عسفوا بهم، وأرهقوهم بمظالمهم.
وحدث أول احتكاك بين المشايخ ومحمد علي في أغسطس ١٨٠٨، ظهر منه استخذاؤهم، أمام تهديده لهم بتجريدهم من حصصهم، وكان الباشا قد قرَّر ضريبة، أربعة في المائة على كل الحبوب والمأكولات المباعة في الشوارع والميادين والأسواق، وأزعجت هذه الضريبة القاهريين إزعاجًا كبيرًا، ثم زاد البلاء عندما جاء فيضان النيل في هذا العام قليلًا، فنقص النيل نحو خمسة أصابع، وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم، فضج الناس، ورفعوا الغلال من الرقع والعرصات، والسواحل، وانزعجت الخلائق بسبب شحة النيل في العام الماضي، وهيفان الزرع، وتنوع المظالم، وخراب الريف، وجلاء أهله.
فاجتمع المشايخ يوم ٢٠ أغسطس، وطلعوا عند الباشا، للنظر فيما يجب فعله، لرفع المظالم وتفريج كربة الناس، فأشار الباشا بعمل استسقاء، وبأن يأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج إلى الصحراء، وأن يدعوا الله، وعندئذٍ انبرى الشيخ عبد الله الشرقاوي لنصح الباشا، فقال: ينبغي أن ترفقوا بالناس وترفعوا الظلم؛ حيث إن تخفيض الضرائب قد يكون في هذه الظروف أجدى نفعًا في إزالة الضائقة، فكان جواب محمد علي: «أنا لست بظالم وحدي، وأنتم أظلم مني، فإني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم إكرامًا لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين، وعندي دفتر محرر فيه تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفي كيس، ولا بد أني أفحص عن ذلك، وكل من وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة من فلاحيه أرفع الحصة عنه، فقالوا: لك ذلك»، وسكتوا أمام هذا التهديد، وراحوا ينشرون بين الناس ضرورة الخروج والسقيا، واتفق رأيهم على الذهاب إلى جامع عمرو بن العاص؛ لكونه محل الصحابة والسلف الصالح، يصلون به صلاة الاستسقاء، ويدعون الله ويستغفرونه، ويتضرعون إليه في زيادة النيل.
وفي ٢١ أغسطس ركب السيد عمر مكرم والمشايخ وأهل الأزهر وغيرهم، وتبعهم الأطفال، «واجتمع عالم كثير، وذهبوا إلى الجامع المذكور، بمصر القديمة، وصعد الشيخ جاد المولى على المنبر وخطب بعد أن صلى صلاة الاستسقاء، ودعا الله، وأمَّن الناس على دعائه، وحوَّل رداءه، ورجع الناس بعد صلاة الظهر، وبات السيد عمر مكرم هناك، وفي تلك الليلة رجع الماء إلى محل الزيادة الأولى، واستتر الحجر الراقد بالماء»، ثم أشار بعض الناس في اليوم التالي (٢٢ أغسطس) بإحضار الرؤساء الدينيين للقبط وطوائف اليونان والأرمن، والمسيحيين اللاتينيين من إرسالية الأرض المقدسة، والمبشرين الكاثوليك، والمارونيين واليهود الربانيين، فخرجوا جميعًا إلى الجامع، وحضر المعلم غالي، ومن يصحبه من الكتبة الأقباط وجلسوا في ناحية من المسجد، يشربون الدخان، وانفض الجمع أيضًا، وفي تلك الليلة زاد الماء ونُودي بالوفاء وفرح الناس. وفي ٢٣ أغسطس حضر الباشا والقاضي واجتمع الناس، وكسروا السد، وجرى الماء في الخليج، ولو أنه كان جريانًا ضعيفًا.
على أنه وإن كان قد انقضى بسلام أول احتكاك بين المشايخ والباشا، فقد كان من الواضح أن عوامل السخط والتذمر قد أخذت تتجمع في أوساط المشايخ، بسبب حرمانهم من إعفاءاتهم السابقة، في مسموحهم، وتهديد الباشا لهم بتجريدهم من حصصهم، ثم ما اتضح لهم من فقدان كل نفوذ لهم لدى حكومته، مع اتخاذ الباشا لهم أدوات طيعة لتوزيع المغارم والسلف على الأهلين، واستخدامهم في حمل هؤلاء على دفعها، وإرهاقهم هم أنفسهم بمطالبه المالية المتكررة، بالصورة التي سبق بيانها عند الكلام عن أساليب محمد علي المالية.
وانقسم المشايخ في حال سخطهم وتذمرهم، وفي موقفهم من حكومة الباشا عمومًا إلى فريق، انتهز فرصة هذا التذمر للفوز بمآربه الذاتية ونفعه الخاص على حساب الجماعة بالزلفى لدى الباشا والسعي في حق منافسيه على مكان الصدارة الذي أراد الاستئثار به لنفسه فحسب، وفريق خيل إليه الوهم أنه قد آن الأوان لمناقشة الباشا الحساب، ووقف مظالمه، والحد من سلطان حكومته، بفرض المشورة عليه فرضًا، وإلزامه باتباع النصيحة إلزامًا، وانفرد يتزعم هذه المعارضة السيد عمر مكرم في الظروف التي سيأتي ذكرها، ثم فريق ثالث، كان يتألف من المشايخ من غير المتصدرين، الذين وإن كانوا متذمرين وساخطين، فقد آثروا الصمت وعدم الجهر بتذمرهم وسخطهم، اللهم إلا بين أصدقائهم وخاصتهم.
(٤) المعارضة الصامتة: عبد الرحمن الجبرتي
ويمثل فريق هذه المعارضة الصامتة، الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، صاحب التاريخ المسمَّى «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، انحدر من سلالة اشتُهر أفرادها بالعلم والفضل، ونشأ في بيئة علمية وثقافية، وكان أهله أصحاب ثراء وافر، فخالط خيار القوم، وتلقى الدروس عن أكابر الأشياخ، ومارس شئون الحياة الدنيا، وعرف الكثير عن أخبار قارئي العلم في الأزهر الشريف، وفي غيره من الجوامع، وعن كبار البكوات المماليك وصغارهم، والباشوات العثمانيين، وأرباب الدولة عمومًا، وقد حفَّزه على الاستفاضة من هذه المعرفة خصوصًا، اهتمامه بالتأريخ لهم، وتسجيل الحوادث التي وقعت في هذه البلاد، سواء ما وصله خبره منها مما لم يحضره، أو ما شاهده منها بنفسه، وقد تحدث الشيخ عن الدافع له على تدوين هذه الحوادث، والطريقة التي اتبعها في تسجيلها، مما يسهل معرفته بالرجوع إلى ما كتبه عن ذلك في «تاريخه»، وأُغرم الشيخ بالتاريخ، فقرأ كثيرًا من كتبه، واستخلص منه عظات وعبرًا جمة، وأفاده حسن انتباهه ودقة ملاحظته لما كان يجري من وقائع في عصره، لتبويبها وتسجيلها في تاريخه في فهم التاريخ وأغراضه ومراميه كصورة صادقة للحوادث من جهة، ووصف صحيح لطبائع الخلق وصفات الأفراد الذين اشتركوا في هذه الحوادث، فتحرى الدقة في كل ما سجله منها، وصار له رأي في نشأة المجتمع الإنساني، ووظائف الحكام، وواجباتهم، وراح على ضوء المبادئ التي أخذ بها في أصول الحكم وأسبابه وغاياته، ينقد أساليب الحكام، ويعرض الآثار التي ترتبت على مسلكهم في الحكم وسياسة شئون الرعية، ولم يفُته بيان موقف هذه الرعية من مختلف الأحداث التي شهدوها، ورد الفعل الذي وقع بينهم نتيجة لها.
(٤-١) بيئته ونشأته
وينتسب أجداد الشيخ إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب — رضي الله عنه — جده السابع، والذي ينتهي علم الشيخ إليه، هو زين الدين عبد الرحمن الجبرتي، ارتحل من جبرت من بلاد زيلع بأرض الحبشة، إلى جدة، ثم انتقل إلى مكة التي جاور بها وحجَّ مرارًا، ثم جاور بالمدينة المنورة سنتين، ولقي مَن لقي بالحرمين من الأشياخ وتلقى عنهم، ثم رجع إلى جدة، وكان حضوره إلى مصر من طريق القلزم في أوائل القرن العاشر للهجرة، والسادس عشر للميلاد، فجاور بالأزهر، وتولى شيخًا على رواق الجبرتية، وخلفه على مشيخة الرواق ولده شمس الدين محمد، وكان صالحًا عالمًا وصاحب كرامات، أقرأ دروسًا في الفقه والمعقول، ثم خلفه على المشيخة بعد وفاته، ابنه الشيخ نور الدين علي، وقد نشأ هذا أيضًا على قدم أسلافه في ملازمة العلم والعمل، وصار له شهرة وثروة، وتزوج زينب الجوينية ابنة القاضي عبد الرحيم الجويني، وكان ذا ثراء، وأنجب الشيخ نور الدين علي، الشيخين: حسن جد والد صاحب «عجائب الآثار»، وعبد الرحمن، وقد تُوفي سنة تسعٍ وثمانين وألف (١٦٧٨)، وأما حسن فقد عاش حتى سنة سبعٍ وتسعين وألف (١٦٨٦)، «وكان لزينب الجوينية أماكن جارية في ملكها وقفتها على ولدي زوجها المذكورين.»
وأخذ الشيخ حسن الجبرتي عن أشياخ عصره من أهل القرن الحادي عشر الهجري، كالبابلي والأجهوري والزرقاني وسلطان المزاحي والشبراملسي والشهاب الشوبري، وتفقه على الشيخ حسن الشرنبلالي الكبير ولازمه ملازمة كلية، وأعقب الشيخ حسن، برهان الدين إبراهيم، وكان هذا عند وفاة أبيه رضيعًا، فكفلته والدته الحاجة مريم بنت الشيخ محمد بن عمر المنزلي الأنصاري، فنشأ أيضًا نشئًا صالحًا، تزوج ستيتة بنت عبد الوهاب أفندي الدلجي، وبنى بها في ربيع أول سنة ثمانٍ ومائة وألف (أكتوبر ١٦٩٦)، وأعقب نور الدين حسن الجبرتي والد الشيخ عبد الرحمن، وقد تُوفي بعد ولادة ابنه بشهر واحد، وذلك في سنة عشر ومائة وألف (١٦٩٨).
وقامت بتربية نور الدين والدته بكفالة جدته أم أبيه، الحاجة مريم، ووصاية الشيخ محمد النشرتي شيخ الأزهر حينئذٍ، وقرروه في مشيخة الرواق كأسلافه، والمتكلم عنه الوصي المذكور، فتربى في حجورهم حتى ترعرع، وأخذ العلم عن أشياخ العصر، كالشيخ حسن الشرنبلالي ابن الشرنبلالي الكبير، والمشايخ: السيد علي السيواسي الضرير، وأحمد التونسي المعروف بالدقدوسي، وعلي العقدي، ومحمد بن عبد العزيز الزيادي والشهاب أحمد بن مصطفى الإسكندراني الشهير بالصباغ، ومنصور المنوفي ومحمد السجيني الضرير، وغيرهم وغيرهم من أئمة ذلك الزمان، واشتغل بتجديد الخط وأتقن اللغتين الفارسية والتركية، ثم اهتم بدراسة الرياضيات، وبرع فيها، تلقى العلوم الرياضية والمعارف الحكمية والفلسفية على الشيخ حسام الدين الهندي والشيخ محمد الغلاني الكشناوي «وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرءوا عليه علم الهندسة، وذلك سنة تسعٍ وخمسين (١٧٤٦) وأهدوا له من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القوة إلى الفعل»، وأُعجب بعلمه الوالي أحمد باشا المعروف بكور وزير (١٧٤٨–١٧٥٠)، فكان يقول: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني.» ومن نشاطه أنه عندما وقع الخلل في عام ١٧٥٨ في الموازين والقبانين وجهل أمر وضعها ورسمها وظهر فيها الخطأ واختلفت مقادير الموزونات وترتب على ذلك ضياع الحقوق وتلاف الأموال، وفسد على الصناع تقليدهم الذي درجوا عليه فعند ذلك تحركت همته لتصحيح ذلك، وأحضر كبار القبانية والوزانين وأطلعهم على سر الصنعة ومكنونها، ووضع في ذلك كتابًا سمَّاه العقد الثمين فيما يتعلق بالموازين.
وكان الشيخ نور الدين حسن على علمه وفضله متواضعًا لا يعرف التصنع في الأمور، ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة، ولا يرضى التعاظم ولا تقبيل اليد، وله منزلة عظيمة في قلوب الأكابر والأمراء والوزراء والأعيان ويسعون إليه، ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات، ويرسل إليهم فلا يردون شفاعته ولا يتوانون في حاجة يتكلم فيها، وله عندهم محبة ومنزلة في قلوبهم زيادة عن نظرائه من الأشياخ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم، استشاره في سنة ١١٨٦ﻫ / ١٧٧٢ الأمير علي بك الدفتردار المعروف بكتخدا الجاويشية في أيهما الأفضل: تقليد الصحفية أو كتخدا الجاويشية، فأشار عليه بالثانية، فعمل برأيه.
وكانت للشيخ مكتبة يختلف إليها المشايخ والطلاب ويستعيرون منها ما يشاءون، أهداه السلطان مصطفى الثالث نفائس من خزائنه، وكذلك أكابر الدولة الروم ومصر وباشة تونس والجزائر، واجتمع لديه من كتب الأعاجم مثل الكلستان وديوان حافظ وشاه نامه، وتواريخ العجم وكليلة ودمنة ويوسف زليخا وغير ذلك. وكذلك الآلات الفلكية من الكرات النحاس وغيرها من الآلات الارتفاعية والميالات، وحلق الأرصاد والأسطرلابات والأرباع والعدد الهندسية، وأدوات غالب الصنائع، مثل النجارين والخراطين والحدادين والسمكرية والمجلدين والنقاشين والصواغ، وآلات الرسم والتقاسيم.
لازمه من المشايخ الذين توثقت أواصر الصداقة بينهم وبينه، محمد بن إسماعيل النفراوي، ومحمد الصبان، ومحمد عرفة الدسوقي، ومحمد الأمير، وعبد الرحمن العريشي، ومحمد الفرماوي وغيرهم، وتلقى عنه من أشياخ العصر محمد المصيلحي وحسن الجداوي وأحمد بن يونس ومحمد الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري وغيرهم، وهذا إلى جانب مَن كان يعولهم من الأشياخ الناشئين والمهاجرين.
وعاش نور الدين حسن الجبرتي في يسر ورخاء، وقفت عليه جدته أماكن عدة، منها الوكالة بالصنادقية والحوانيت بجوارها وبالغورية ومرجوش ومنزل بجوار المدرسة الأقبغاوية، ومع اشتغاله بالعلم كان يعاني التجارة والبيع والشراء والمشاركة والمضاربة والمقايضة، وحدث أن تزوجت جدته بعد وفاة جده الأمير علي آغا، باش اختيار متفرقة، المعروف بالطوري وله حكم قلاع الطور والسويس والمويلح، وكانت إذ ذاك عامرة وبها المرابطون، ويصرف عليهم العلوفات والاحتياجات، وبنى الشيخ نور الدين بابنته، ولما مات صهره في عام ١١٣٧ﻫ/١٧٢٥ تقلد أعماله وحل في وظيفته مع كونه في عداد العلماء، ولبث بها فترة من الزمن، ولكنه لم يلبث أن تكدر خاطره عندما أرسل خادمًا له يُسمى سليمان الحصافي (جربجيا) على قلعة المويلح، فقتلوه هناك، فتكدر لذلك، وترك هذا الأمر، وأعرض عنه وأقبل على شأنه، من الاشتغال، وماتت زوجة بنت الأمير علي آغا في حياة أبيها، فتزوج بنت رمضان جلبي بن يوسف المعروف بالخشاب، وهم بيت مجد وثروة ببولاق ولهم أملاك وعقارات وأوقاف، ومن ذلك وكالة لكتان، وربع وحوانيت تجاه جامع الزردكاش، وبيت كبير بساحل النيل، وآخر تجاه جامع مرزه جربجي، وتُوفي رمضان هذا في سنة تسع وثلاثين ومائة وألف (١٧٢٧). واستمرت ابنته في عصمة الشيخ نور الدين محمد حتى ماتت في المحرم سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف (مايو ١٧٦٨) وعمرها ستون سنة، وكانت من الصالحات الخيرات المصونات، وحجَّت صحبته في سنة إحدى وخمسين (١٧٣٩) وكانت به بارة وله مطيعة. واقتنى المماليك والعبيد والجواري البيض والحبوش والسود، وأنجب من الأولاد نيفًا وأربعين ولدًا ذكورًا وإناثًا ماتوا كلهم دون البلوغ، ولم يعِش له من الأولاد سوى عبد الرحمن الجبرتي، وكانت وفاة الشيخ نور الدين بعد مرضه بالهيضة الصفراوية، في غرة صفر سنة ثمانٍ وثمانين ومائة وألف (١٣ أبريل ١٧٧٤).
تلك إذًا كانت البيئة التي نشأ فيها عبد الرحمن الجبرتي، وهي بيئة علم ودين وأدب وثقافة، ويعيش أهله في ثراء، ولوالده جاه ونفوذ كبيران.
وقد ولد الشيخ عبد الرحمن في خريف سنة سبعٍ وستين ومائة وألف (١٧٥٤)، ووالدته إحدى السراري، وكان الابن الثاني لولده في هذا العام، ثم لم يلبث أخوه أن لحق بسائر أولاد الشيخ نور الدين المتوفين، وكان ذلك سنة ١١٧٩ﻫ/١٧٦٦م. وأما عبد الرحمن فقد درس في بعض الكتاتيب بحي الأزهر، ثم في مدرسة السنانية بخطة الصنادقية، ثم التحق برواق الشوام لتلقينه مذهب الحنفية على يد الشيخ عبد الرحمن العريشي (١٧٦٣)، ولكن والده لم يلبث أن زوَّجه بعد خمس سنوات عام ١١٨٢ﻫ/١٧٦٨م، فقطع المجاورة، ولكنه لم ينقطع عن الأزهر، أخذ عن والده العلوم الرياضية والحكمية والفلكية، وانتفع بما كان يقصه عليه من أخبار الأشياخ، والعلماء والحكام، وقد شاركه في هذه الدروس وهو ناشئ، الشيخ أحمد الطهطاوي، وتوثقت عرى الصداقة بين الطهطاوي وعبد الرحمن الجبرتي من ذلك الحين، وكان أكبر أساتذته الأثرين عنده، أبو الفيض محمد مرتضى الزبيدي — وقد سبق الحديث عنه — ثم عبد ربه العزيزي المعروف بابن الست. وكان من أصدقائه أشياخ عُرفوا بالعلم والصلاح وصناعة الأدب، كالشيخ أحمد يوسف الشنواني والشيخ يوسف الديار بكرلي والسيد علي العلوي، والسيد إسماعيل وهبي الخشاب، وعلي عبد الله درويش الرومي والشيخ حسن العطار وغيرهم. وبرع عبد الرحمن في علم الفلك والعلوم الرياضية، وقد ثابر على حضور وإلقاء الدروس في الأزهر وفي بيته في الفلك والهندسة والحساب والفقه، ولم تصرفه مشاغله الدنيوية عن العلم، عندما انتقل إليه الإشراف على إدارة الأملاك التي ورثها عن والده، والأوقاف التي كانت للأسرة في القاهرة، ومصر القديمة وبولاق وإدكو، وفي غير ذلك من الجهات.
وكان بعد وفاة والده الشيخ نور الدين حسن الجبرتي أن قام عبد الرحمن في الأيام الأولى من عام تسعٍ وثمانين ومائة وألف (١٧٧٥) برحلة إلى الوجه البحري، فزار كفر الزيات وطنطا؛ حيث حضر المولد الأحمدي بها في هذا العام، وعقد أواصر الصداقة هناك مع الشيخ أحمد السماليجي الشافعي، الذي ظل يزوره بعد ذلك ويتردد عليه بمنزله في القاهرة، ثم فوة ورشيد؛ حيث زار الشيخ أحمد علي الخضري، وشهد مؤلفين لوالده، ثم إدكو وبها أوقاف الجبرتية، ولا يبعد أن يكون قد زار أبيار كذلك؛ حيث للأسرة بها أرض ومزارع، وزار عبد الرحمن في السنة نفسها دمياط والمنصورة. ومن المتفق عليه أنه حج إلى مكة وزار الصعيد، وهناك من يرجح أنه زار أبا قير والإسكندرية؛ حيث اجتمع بالشيخ المسيري المالكي، عالم الإسكندرية وشيخها الأكبر لذلك العهد.
وفي سنة إحدى وتسعين ومائة وألف (١٧٧٧) عمَّر عبد الرحمن داره التي بالصنادقية، وقد ألَّف الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي أبياتًا وتاريخًا رُقمت بطراز مجلس العقد الداخل، تبدأ بقوله:
وتنتهي بقوله:
وفي أواخر سنة خمسٍ وتسعين ومائة وألف (١٧٨١) تزوج الشيخ ربيبةَ صديقهِ علي عبد الله درويش الرومي برغبة منه، وما إن حصلت النسابة والمصاهرة حتى حوَّله بعياله إلى منزله؛ لتعب الوقت وتعطيل أسباب المعاش.
(٤-٢) تصنيف «عجائب الآثار»
وكان في شهر مارس ١٧٨٨، أن فاتحه أستاذه الشيخ مرتضى الزبيدي في معاونته على إتمام ترجمة لأعلام القرن الثاني عشر الهجري من مصريين وحجازيين، وكان الذي طلب من الشيخ مرتضى ذلك، مفتي دمشق، أبو المودة محمد خليل المرادي الحسيني، فكان ذلك مبعث «عجائب الآثار»، وقد انكب عبد الرحمن على عمله بكل همة، فسوَّد أوراقًا في حوادث آخر القرن الثاني عشر وما يليه وأوائل الثالث عشر الهجري، قال إنه «جمع فيها بعض الوقائع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدناها.» وقد رجع الشيخ في تقصي هذه الوقائع إلى كل ما عثر عليه من مؤلفات ومصنفات، ولو أن هذه كانت قليلة، فإنه وإن كان قد دوَّن أسماء مشهوري المؤرخين وتصانيفهم، كالطبري وابن الأثير وابن الجوزي وابن خلكان، والمسعودي، والذهبي، والسمعاني وابن حجر العسقلاني، والصفدي والسيوطي وابن عساكر، واليافعي، وأبي نعيم، والمقريزي، والعيني، وقد قال الشيخ عن تاريخه إنه في أربعين مجلدًا، رأيت منه بعض مجلدات بخطه وهي ضخمة في قالب الكامل، والسخاوي، وابن دقاق، وابن خلدون وهو في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة، من اطلع عليها رأى بحرًا متلاطمًا بالعلوم، مشحونًا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم. نقول إن الشيخ الجبرتي وإن كان قد ذكر كل هؤلاء المؤرخين ودوَّن أسماء كتبهم، فقد استدرك قائلًا: «وهذه صارت أسماء من غير مسميات، فإنا لم نرَ من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدشتة بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف بالمدارس، مما تداولته أيدي الصحافيين، وباعها القومة والمباشرون، ونُقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم.»
ولما عزم الشيخ على جمع ما كان سوَّده لكتابة تاريخه، أراد أن يوصله بشيء قبله فلم يجد بعد البحث والتفتيش إلا بعض كراريس سوَّدها بعض العامة من الأجناد ركيكة التركيب، مختلفة التهذيب والترتيب، وقد اعتراها النقص من مواضع في خلال بعض الوقائع، وكان ظفر بتاريخ من تلك الفروع، لكنه على نسق في الجملة مطبوع، لشخص يُقال له أحمد جبلي بن عبد الغني، مبتدئًا فيه من وقت تملك بني عثمان للديار المصرية، وينتهي كغيره مما ذكره إلى خمسين ومائة وألف هجرية (١٧٣٧)، ثم إن ذلك الكتاب استعاره بعض الأصحاب، وزلت به القدم، ووقع في صندوق العدم، ومن ذلك الوقت إلى وقتنا هذا لم يتقيد أحد بتقييد، ولم يسطر في هذا الشأن شيئًا يفيد، فرجع الجبرتي إلى النقل من أفواه الشيخة المسنين، وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين، وما انتُقش على أحجار ترب المقبورين، وذلك من أول القرن إلى السبعين، وما بعدها إلى التسعين أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها، ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وقيدناها وسطرناها إلى أن تم ما قصدنا بأي وجه كان، وانتظم ما أردنا استطراده من وقتنا إلى ذلك الأوان. وقد عاونه إسماعيل الخشاب في الوقوف على الصكوك والحجج وما إليها من الوثائق المودعة بدار المحكمة الكبيرة، وكان قد تنزل لحرفة الشهادة بها لضرورة التكسب في المعاش، ثم لم يلبث الفرنسيون أن عينوه؛ أي الخشاب، في كتابة التاريخ لحوادث الديوان الذي رتبوه لقضايا المسلمين.
ويعزو الشيخ عبد الرحمن الفضل في جمع هذا التاريخ إلى مفتي دمشق السالف الذكر، فيقول: إنه «السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق، فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى، والتمس منه نحو ذلك؛ أي جمع تراجم أهل بلاده وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر الهجري، فأجابه لطِلبته»، وشرع السيد مرتضى في جمع المطلوب بمعونة عبد الرحمن، ولم يذكر السبب الحامل على ذلك، ويذكر الجبرتي أنه ذهب يومًا بما تيسر جمعه إلى السيد مرتضى وعنده بعض الشاميين، فأطلعه عليه، فسُر بذلك كثيرًا، وطارحه، وطارحه الجبرتي في نحو ذلك بمسمع من المجلس.
ولكنه حدث بعد هذه المقابلة بوقت قليل أن تُوفي السيد مرتضى (في أبريل ١٧٩١)، فتُنوسي هذا الأمر شهورًا، ووصل نعي السيد مرتضى إلى مفتي دمشق، أبي المودة، فبعث بكتاب إلى عبد الرحمن وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي تستدعي تحصيل ما جمعه الشيخ مرتضى من أوراقه، وضم ما جمعه عبد الرحمن وما تيسر ضمه أيضًا وإرساله، وقد بلغ أبا المودة من الشيخ مرتضى نفسه أن عبد الرحمن الجبرتي قد أعانه على ذلك.
فنشط عبد الرحمن في فحص أوراق الشيخ مرتضى، وكان قد استطاع الظفر بها، وشراءها من تركته بعد وفاته، وهي في عشرة كراريس، رتَّبها الشيخ مرتضى على حروف التهجي وسمَّاه المعجم المختص، ذكر فيه شيوخه ومَن أخذ عنه أو ساجله أو جالسه من رفيق وصاحب وصالح، وقال: «أو من المشاهير، وقد أذكر فيه من أحبني في الله وأحببته أو استفدت منه شيئًا أو أنشدني شيئًا أو كاتبني أو كاتبته أو بلوت منه معروفًا وكرمًا … إلى آخر ما قال»، إلا أن الكراريس المذكورة لم تكمل، وتُرك في الحروف بياضات كثيرة، وغالب ما فيها — كما وجدها عبد الرحمن — أفاقيون من أهل المغرب والروم والشام والحجاز بل والسودان، والذين ليس لهم شهرة ولا كثير بضاعة من الأحياء والأموات، وأُهمل من يستحق أن يُترجم من كبار العلماء والأعاظم ونحوهم.
ويستطرد الجبرتي فيقول، إنه لما رأى ذلك، وعلم الباعث على جمع هذه التراجم، وتحققت لديه رغبة الطالب لذلك؛ أي أبي المودة السيد خليل مفتي دمشق، بادر بجمع ما كان سوَّده، وزاد فيه، وهي تراجم فقط دون الأخبار. وبينا هو مشتغل بذلك، جاءه نعي أبي المودة نفسه، الذي تُوفي في حلب في أواخر صفر سنة ستٍّ ومائتين وألف (أكتوبر ١٧٩١)، ففترت الهمة وطُرحت تلك الأوراق في زوايا الإهمال مدة طويلة حتى كادت تتناثر وتضيع.
ولكن الجبرتي وإن كان قد طرح هذه الأوراق الخاصة بالتراجم دون الأخبار في زوايا الإهمال، فقد حرص من جهة أخرى على تدوين الوقائع وبخاصة ما استجد منها بعد هذا التاريخ على أيام الاحتلال الفرنسي، وكان يسجل كل واقعة بذاتها في جزازة مستقلة أو طيارة — كما يسميها — والدليل على ذلك أنه استطاع عند خروج الفرنسيين أن يضع كتابه الأول، وباكورة إنتاجه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» لإهدائه إلى يوسف ضيا باشا، بمناسبة استرجاع الدولة لهذه البلاد، وإنقاذها من المحتلين، وقد انتهى هذا التاريخ عند آخر شعبان ١٢١٦ / ٤ يناير ١٨٠٢، وأثبته في «عجائب الآثار» عند تدوينه بعد أن حذف مقدمته، وفصولًا كان قد كتبها صديقه الشيخ حسن العطار. وثمة دليل آخر على تسجيله الوقائع ابتداء من سنة مائتين وألف (١٧٨٦)، أنه استبدل بسرده الإجمالي للحوادث في الأعوام السابقة، والاهتمام أكثر الاهتمام بذكر الوفيات، إثباتَ الوقائع مفصلة بتدقيق يتناول أوقاتها في صبح أيامها وظهرها وعصرها ومغربها ومسائها، ثم إنه لم يعد يعتذر عن عجزه عن تحري تواريخ وفاة مَن ترجم لهم، كما كان يفعل خصوصًا في الفترة السابقة على عام ١٧٨٦.
ولم يبدأ عبد الرحمن كتابة تاريخه «عجائب الآثار» في النسق الذي ظهر فيه إلا بعد فترة طويلة من الزمن، وذلك عندما «حصل عندي باعث من نفسي على جمع الأوراق التي طُرحت في زوايا الإهمال مدة طويلة مع ضم الوقائع والحوادث والمتجددات على هذا النسق»، وكان عندئذٍ — كما سبقت الإشارة إليه — أن راح ينقِّب في خزائن الكتب، ويطوف بالمقابر لقراءة أحجار ترب المقبورين، ويجد الذهن في استذكار ما كان سمعه من والده، ويسأل الأشياخ والمصريين، ويطلب معاونة إسماعيل الخشاب، في مراجعة الحجج والصكوك بالمحكمة، إلى غير ذلك من الوسائل التي لجأ إليها لاستيفاء معلوماته عن الموضوعات والحوادث السابقة التي أراد أن يصل تاريخه بها.
ولم يزعم الجبرتي أن ما سجَّله في تاريخه عن هذه الحوادث السابقة أو اللاحقة عن الصدق والحقيقة، وبمنأى عن كل مطعن وتجريح، فهو ما يفتأ يقول إن ما ذكره عن وقائع القرن الثاني عشر، وتراجم أعلامه، إنما هو «على سبيل الإجمال بحسب الإمكان، فإني لم أعثر على شيء من تراجم المتقدمين من أهل هذا القرن، ولم أجد شيئًا مدونًا في ذلك إلا ما حصلته من وفياتهم فقط، وما وعيته في ذهني، واستنبطته من بعض أسانيدهم وإجازات أشياخهم، على حسب الطاقة»، وأن ما جمعه كان «بحسب التيسير أن التفصيل متعذر، وجمع الشوارد في الظلام متعسر، وذلك بحسب الإمكان، وما وعاه الفكر والذهن خوان»، ثم يقول في ختام سنة خمسٍ وعشرين ومائتين وألف (١٨١٠): «وانقضت السنة بحوادثها التي قصصنا بعضها؛ إذ لا يمكن استيفاؤها للتباعد عن مباشرة الأمور وعدم تحققها على الصحة، وتحريف النقلة وزيادتهم ونقصهم في الرواية فلا أكتب حادثة حتى أتحقق صحتها بالتواتر والاشتهار، وغالبها من الأمور الكلية التي لا تقبل الكثير من التحريف، وربما أخرجت قيد حادثة حتى أثبتها، ويحدث غيرها، وأنساها، فأكتبها في طيارة حتى أقيدها في محلها، إن شاء الله تعالى عند تهذيب هذه الكتابة، وكل ذلك من تشوش البال، وتكدر الحال، وهم العيال، وكثرة الاشتغال، وضعف البدن، وضيق العطن.»
ومع ذلك، فقد دلَّ الاستقراء على أن الوقائع التي سجلها الجبرتي بنفسه وبخاصة عن عهدي الحملة الفرنسية ومحمد علي، ويشغل هذان العهدان الجزأين الثالث والرابع من تاريخه الذي يقف عند آخر ذي الحجة ١٢٣٦ / ٢٧ سبتمبر ١٨٢١، صحيحة في جوهرها وتفاصيلها، ومتفقة مع ما ذكره عنها غيره من المعاصرين الأجانب، ووجه الاختلاف بين ما دوَّنه الشيخ وهؤلاء المعاصرون أنفسهم، وبين ما أظهره البحث الحديث، أن مرد ما قد يلاحظ من نقص في سرد بعض الوقائع، أو في استيفاء تفسيراتها إنما هو إلى عجز الشيخ وغيره من الكتاب الأجانب المعاصرين عن معرفة خفايا الأمور، وأسرار السياسة، التي كانت من شأن الحكام والمسئولين وحدهم فحسب، والتي لا سبيل لمعرفتها وإدراكها إلا بالرجوع إلى التقارير والوثائق الحكومية، مما لم يكن في متناول الشيخ أو متناولهم، أضف إلى هذا أن الجبرتي لم يكن — كما قال هو نفسه — من المقربين من أصحاب الحكم والسلطان أيام محمد علي، فاستمد المعلومات التي دوَّنها عن عهده من أصدقائه وإخوانه والمشايخ، أو من المتصلين بالبكوات المماليك، وقد كان هو نفسه على صلة بكثيرين منهم، أو اعتمد على مشاهداته الخاصة، أو صار يقيد الأخبار التي قُدر لها الذيوع والانتشار، وذلك بعد التدقيق في التحري عن مبلغ صحتها، وتفسير هذه الحقيقة خلو «عجائب الآثار» من المسائل الخاصة بصلات محمد علي السياسية بالدول الأجنبية إلا النذر اليسير منها.
(٤-٣) التفكير السياسي عند الجبرتي
ولقد كان من شأن الثقافة التي تثقَّف بها الشيخ عبد الرحمن على يد والده، ثم جناها من اشتغاله بالتاريخ، منذ أن توفَّر على التنقيب عن تراجم الأعيان الذين أراد الترجمة لهم، وجمع شوارد الحوادث التي أراد تنسيقها وتسجيلها في «مظهر التقديس» أولًا، ثم في «عجائب الآثار» ثانيًا، إلى جانب الخبرة والتجربة اللتين كسبهما من حياته العامة والخاصة — وقد كان الشيخ أحد أعضاء الديوان الذي أنشأه الجنرال منو، كما كان صديقًا لعديدين من البكوات، وأتاح له فضله كأحد نوابغ العلماء في عصره، وجاهه كأحد سراته، أن يعرف أو يصادق أكثر الأشياخ — نقول إنه كان من شأن ذلك كله أن صارت للشيخ فكرة واضحة محددة في أصول الدولة والسياسة شكلت موقفه من الحوادث التي شهدها، وتأثرت بها الأحكام التي أصدرها على المسئولين في عهده، سواء كان هؤلاء من المشايخ — وقد اعتبرهم في عداد أصحاب المسئولية — أم من البكوات المماليك، أم من الحكام الفرنسيين، أم من الباشوات العثمانيين، وعلى رأس هؤلاء الآخرين محمد علي.
ولقد تأثر الجبرتي في تفكيره أكثر ما تأثر — على ما يبدو — بآراء ابن خلدون، وهو الذي أُعجب الشيخ بتاريخه ومقدمته، وسمَّاه العلامة ابن خلدون، وقال إن تاريخه في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة، مَن اطلع عليها رأى بحرًا متلاطمًا بالعلوم، مشحونًا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم. ولم يختص الشيخ أي تصنيف آخر من الكتب والتواريخ التي ذكرها بمثل ما وصف به مقدمة ابن خلدون، لكتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
ومع ذلك، فلا يجب الاعتقاد بأن الشيخ لم يتأثر بغير ابن خلدون، من أصحاب التواريخ والتصنيفات التي ذكرها، أو بالآراء الذائعة المعروفة في أوساط علماء هذا العصر عن الخلافة والإمامة وما إلى ذلك من الأنظمة المتصلة بأصول الحكم والسياسة، والتي دان بها وأوضحها قادة الفكر والرأي من الفقهاء والمؤرخين العرب، بل إن تجارب الشيخ المستمدة من واقع الحياة، وما تخلف عنها من انطباعات في نفسه، كان ذا أثر في تكييف وجهات النظر التي أخذ بها، وبناء الرأي الذي صار له في كل هذه المسائل. على أن ثمة حقيقة أخيرة، هي أن العبر والعظام التي استخلصها الشيخ من تجاريبه ومن الحوادث التي وقف عليها بالبحث والتنقيب أو شاهدها بنفسه، كانت مبنية على تلك القيم والمثل التقليدية الذائعة في الأوساط العلمية والفقهية في عصره، فكان الجديد في تنسيق فكرته السياسية، نتيجة لهذا المزج كله، أن جعل العلم والعدل بالمعنى المتفق عليه عند علماء التفسير قوام المجتمع البشري وأساس الحكم الصالح والسياسة الرشيدة، وأن اتخذ من مقياس العلم والعدل أداة لتقسيم المجتمع إلى طبقات، ترتفع بعضها فوق بعض درجات.
ولما كان السبيل المتعارف عليه بين المتصدين لتفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية في العمران البشري، لاستخلاص العبر والعظات منها، توطئة لبسط الرأي في أصول الحكم وسياسة الدولة، وتعزيزًا له، هو الوقوف على تاريخ البشر منذ خلق العالم، فقد عنى الجبرتي — كما فعل الذين سبقوه — بتعريف التاريخ وبيان الغرض من تسجيله ودراسته، وذكر منافعه، ولم يأتِ الشيخ بجديد، بل يبدو أن مقالته في هذا الشأن لا تعدو كونها تلخيصًا موجزًا لما قاله ابن خلدون نفسه.
وقد عرَّف الجبرتي التاريخ بأنه «علم يُبحث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم، وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكام والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم، والغرض منه الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي وكيف كانت، وفائدته العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن؛ ليتحرز العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويجتنب سوء أقوالهم، ويزهد في الفاني، ويجتهد في طلب الباقي»، وهو علم شريف «فيه العظة والاعتبار، وبه يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار … ولم تزل الأمم الماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني تعتني بتدوينه سلفًا عن سلف وخلفًا من بعد خلف»، وفن التاريخ «علم يندرج فيه علوم كثيرة، لولاه ما ثبتت أصولها، ولا تشعبت فروعها»، ثم يقول: إنه «ما أُلِّف في فن من الفنون مثل ما أُلِّف في التواريخ؛ وذلك لانجذاب الطبع إليها، والتطلع على الأمور المغيبات، ولكثرة رغبة السلاطين لزيادة اعتناقهم بحب التطلع على سير من تقدمهم من الملوك، مع ما لهم من الأحوال والسياسات وغير ذلك»، وقد أثبت الشيخ قائمة طويلة بالكتب المصنفة في التاريخ. وأما نظرة الجبرتي في نشأة المجتمع الإنساني وأصول الحكم، وشروطه، فقد أوجزها في قوله: «اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وبثَّ فيها كل دابة وقدَّر أقواتها، أحوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومأكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم؛ لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة، فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفًا، لا يستقل وحده بأمر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح، فجعلهم الله تعالى يتعاضدون ويتعاونون في تحصيلها وترتيبها، بأن يزرع هذا لذاك، ويخبز ذاك لهذا، وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم، وركز في نفوسهم الظلم والعدل.
ثم مست الحاجة بينهم إلى سائس عادل وملك عالم يضع بينهم ميزانًا للعدالة، وقانونًا للسياسة، تُوزن به حركاتهم وسكناتهم، وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم، فأنزل الله كتابه بالحق، وميزانه بالعدل، كما قال تعالى: اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ.»
وواضح أن الجبرتي في تفسير نشأة المجتمع الإنساني، قد ذهب مذهب مَن سبقوه من مفكري العرب إجمالًا، من حيث اعتبار الحرية المطلقة قوام الحياة البدائية، يتمتع بها فرد، فلا يحدها سوى الحرص على سلامة الفرد نفسه؛ إذ يفضي عدم الحد منها إلى هلاكه، ويتم هذا التقليد بداهة وطبيعيًّا، ودون حاجة إلى عقد، وذلك بالإضافة إلى أن هذا الحد نفسه من حرية الأفراد قانون للسياسة وميزان للعدالة، ويترتب على هذه الحالة حصول الاجتماع للبشر، ثم يرتبط بوجود هذا الاجتماع، ظهور وازع يدفع بعضهم عن بعض. ومما تجدر ملاحظته أن الجبرتي كان متفقًا في هذا كله مع ابن خلدون، ولكنه لم يلبث أن خالفه في اعتبار أن لا مناص من أن يكون الحكم في يد ذلك الملك العالم والسائس العادل بشرع مفروض من عند الله، بينما يرى ابن خلدون أن «الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته»، وجلي أن الشيخ لو سلم بهذا القول، لانهدم أحد الأركان التي بنى عليها نقده اللاذع لحكومة محمد علي، الذي وإن أنابه الملك أو السلطان في حكم هذه البلاد، فقد ملك لنفسه باشوية، فرض حكمه عليها بعصبيته، واقتدر بها — في نظر الشيخ — على قهر أهل البلاد وحملهم على جادته.
ويستبين مما عمد إليه الجبرتي من تمييز صفات معينة دون سائر الصفات المشترطة في الخلافة والإمامة، وبالتالي — في نظره — لصاحب الحكم الذي ينوب عن الخليفة صفات اهتم بها اهتمامًا خاصًّا، أراد أن يتخذها معايير يقيس عليها سلوك المسئولين عن الحكم في وقته — من إيثاره صفتي العلم والعدل على سواهما، ثم إنه عند تفسيره لهاتين الصفتين، تمسك بفكرته القائلة بأن الملك أو الحاكم العالم والسائس العادل، إنما هو مستخلف على الأرض من عند الله تعالى، وبشرع مفروض من عنده، وقد اقترب الشيخ في فكرته هذه من المذهب القائل بحق الملوك الإلهي أو المقدس في الحكم، وهي نظرية قد يدعو الأخذ بها إلى التسليم بالحكم المطلق، الذي لا يلزم صاحب الحكم باتباع مشورة الغير أو يطلبها منهم ويوجب على الرعية طاعته طاعة تامة، ولكنه كان واضحًا من ناحية أخرى، أن الشيخ بتفسيره للعلم والعدل كان يهدف إلى بيان وجوب عزل مَن يتجرد منهما، ولو أنه لم يفصح عن ذلك إفصاحًا، فقد قال ابن خلدون عند ذكر الشروط المطلوبة في الخلافة والإمامة أو في الملك والحاكم ما نصه: «فأما اشتراط العلم فظاهر؛ لأنه إنما يكون منفذًا لأحكام الله تعالى إذا كان عالمًا بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها، ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدًا؛ لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال، وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه.» وقد عمل بهذا الرأي وطبَّق هذا المبدأ تطبيقًا عمليًّا، من وجهة نظر الشيخ وسائر المشايخ في وقته عند تنحية خورشيد باشا عن الحكم والمناداة بولاية محمد علي في مايو ١٨٠٥، فضلًا عن أن الأساس الذي ارتكزت عليه مطالبة المشايخ ببقاء محمد علي في الباشوية أثناء أزمة النقل إلى سالونيك في العام التالي، كان تحليه بالعلم والعدل، الأمر الذي زاد من حنق الجبرتي على الباشا وعلى المشايخ المتصدرين معًا؛ لأن محمد علي لم يكن في اعتباره عالمًا ولا عادلًا.
قال الشيخ: إن علماء التفسير ذكروا أن المراد بالكتاب والميزان، العلم والعدل، وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه، من غير واسطة وسبب، على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة، ونشأ الاجتماع الإنساني، والعمران البشري، فاستخلف فيها من الآدميين خلائف، ووضع في قلوبهم العلم والعدل، ليحكموا بهما بين الناس، حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع، وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع، ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم، واختل معاشهم، فمعنى الخلافة أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف واقفًا على حدود أوامره ونواهيه.
وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة؛ لأنها أكمل الفضائل لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء، وإنما يُسمى الإنسان عادلًا لما وهبه الله قسطًا من عدله، وجعله سببًا وواسطة لإيصال فيض فضله، واستخلفه في أرضه بهذه الصفة، حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل، كما قال تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ.
وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم، وقوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، إشارة إلى أن العدالة الحقيقة ليست إلا لله تعالى، فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل، وقوله ﷺ: «بالعدل قامت السموات والأرض»؛ إشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرًا، لو فرض زائدًا عليه أو ناقصًا عنه، لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال.
وانبرى الشيخ بعد أن أوضح معنى العلم والعدل، يقسم العدول في المجتمع طبقات رفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، فبنى هذا التقسيم على درجة توفر العلم والعدالة حسبما ذهب إليه، واستتبع اتخاذ العلم والعدل معيارًا لوزن قيم الأفراد في المجتمع، تقسيم هذا المجتمع نفسه إلى طبقات، رفع الله بعضها فوق بعض درجات، والذي تجب ملاحظته أن الشيخ استطاع بفضل هذا التقسيم الطبقي الذي أوجده إرضاء الطبقة التي ينتمي هو إليها، وأن يعلو بها على طبقة الملوك وولاة الأمور، ومرد ذلك إلى ما لقَّنه إياه والده عن فضائل أهل العلم، وعن السطوة والنفوذ اللذين كانا اشتُهروا بالصلاح والتقوى منهم في الزمن الغابر، وعلى أيام سلطان البكوات المماليك، وإلى أن الجبرتي نشأ في بيت علم وصلاح وتقوى، ويعتد بأجداده وآبائه من الأشياخ العلماء السراة، وهو الذي يقول في ترجمة أبيه نور الدين حسن الجبرتي: «أولئك آبائي فجئني بمثلهم»، ثم إلى ما شاهده من اضمحلال نفوذ المشايخ، وذهاب هيبتهم عند الحكام، أو على الأصح محمد علي، الذي عمد إلى الانفراد بالسلطة، وصار يستخدم المشايخ أدوات لتنفيذ مآربه، ولا يشاورهم ولا يسألهم النصيحة، ولا يعمل بها إذا جرؤ هؤلاء على إسدائها إليه.
ثم إن هذا التقسيم أتاح للشيخ أن ينحى باللائمة على الأشياخ والعلماء الذين انصرفوا عن الدين إلى الدنيا، ففسدت طبائعهم واختلت أمورهم، وفقدوا ما كان لهم من نفوذ، هو من حقهم بحكم ما اصطفاهم الله به بعد أنبيائه فميزهم عن سائر الخلق بالعلم والعدل، وفي كلامه عن هذه الطبقة ما يصور الحال السيئة التي وصل إليها مشايخ الوقت في عصره، والتي حالت بينهم وبين التطلع إلى الزعامة التي أرادوها؛ سعيًا وراء الجاه، ونتيجة للافتتان بغرور الدنيا فحسب، وإن كان الشيخ ينفي أن العلماء على أيامه قد صاروا جميعًا من مشايخ الوقت، وأنهم لا يزالون لذلك أهلًا لاحتلال المكانة العالية التي من حقهم أن يحتلوها، وقد علل الشيخ ما ظهر من عجز من جانب سواد المشايخ العلماء العدول عن الحد من سلطان الحاكم الظالم، بأن الحكمة الأزلية قد اقتضت ذلك، فيقول: إن «أصناف العدل من الخلائق خمسة الأول الأنبياء، والثاني العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، فهم فهموا مقامات القدوة من الأنبياء وإن لم يعطوا درجاتهم، واقتدوا بهم، واقتفوا آثارهم؛ إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه، ومشرق نور حكمته، فصدقوا بما أتوا به، وسروا على سبيلهم، وأيدوا دعوتهم، ونشروا حكمتهم، كشفًا وفهمًا وذوقًا وتحقيقًا، وإيمانًا وعلمًا، بكامل المتابعة لهم ظاهرًا وباطنًا، فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل وإظهار الحق يرفع منار الشرع، وإقامة أعلام الهدى والإسلام، وأحكام مباني التقوى برعاية الأحوط في الفتوى، تزهدًا للرخص؛ لأنهم أمناء الله في العالم، وخلاصة بني آدم، … مخلصون في مقام العبودية، مجتهدون في اتباع أحكام الشريعة … أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، وتلذذوا بنعيم المشاهدة، ولهم عند ربهم ما يشتهون، وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد، لا يقدح في حال الجميع؛ لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وإن كثر المبطلون، ولكنهم أخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الإلهية والحكمة الأزلية، والعلماء هم آحاد الأكوان، وأفراد الزمان، وخلفاء الرحمن، وهم مصابيح الغيوب، ومفاتيح أقفال القلوب، وهم خلاصة خاصة الله من خلقه …»
وأما الطبقة الثالثة فهم الملوك والأمراء، وقد تحدث الشيخ كثيرًا عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها هؤلاء والواجب الذي عليهم نحو الرعية، وغني عن البيان، أن مدار الحديث في هذا كله كان حول العدل ولزومه فرضًا وعينًا، يوجبه الكتاب والسنة، ويجري بالكتاب والسنة، ولقد صال الشيخ وجال في هذا الباب؛ لاعتقاده الراسخ بظلم وجور حكومة محمد علي؛ ولأنه وجد في الكتابة عن العدل متنفسًا لكربه؛ ولأن الباشا إذا عدل لم تعد له حاجة بالجيش، وانقادت الرعية لحكمه راضية وصارت جندًا له، وانتفى تسويد أشرار القوم على خيارهم، ولقد كان الجبرتي يرى كبار الأرنئود، والدلاتية، والإنكشارية، وأجنادهم من الأعاجم والذين كان أكثرهم من الدهماء في بلادهم، يصلون إلى مراتب السيادة، وترتفع أقدارهم فيؤلمه ما يرى، ولم يكن مبعث تسويدهم — في نظره — إلا جور محمد علي ومن سبقه من الحكام في فترة الفوضى السياسية وظلمهم، ولطالما سجل الجبرتي في تاريخه بعد ذلك حوادث فرار الفلاحين من قراهم، وظواهر كساد التجارة وإفلاس مساتير الناس نتيجة لظلم الباشا وعسف عماله وضباطه، وقد استند الشيخ الجبرتي في ضرورة إقامة العدل على أحاديث نبوية، وأقوال وحكم مأثورة كثيرة، ولقد كان في سياق حديثه عن العدل، أن زاد الشيخ في تفسير ما سبق أن ذكره عن الحاجة الماسة إلى سائس عادل وملك عالم، لانتظام عقد المجتمع واستقامة أموره، فعزا هذه الضرورة إلى ما ارتكز في طباع البشر من ميل إلى الظلم يجب الحد منه ووقفه، حتى ينصرف الناس في سلام إلى شئون دنياهم وآخرتهم.
فالملوك والأمراء «يراعون العدل والإنصاف بين الناس والرعايا؛ توصلًا إلى نظام المملكة وتوسلًا إلى قوام السلطنة؛ لسلامة الناس في أموالهم وأبدانهم وعمارة بلدانهم، ولولا قهرهم وسلطتهم لتسلط القوي على الضعيف والدنيء على الشريف، فرأس المملكة وأركانها، وثبات أحوال الأمة وبنيانها: العدل والإنصاف، سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية، فهما أس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة، فإن الله تعالى أمر بالعدل، ولم يكتفِ به حتى أضاف إليه الإحسان، فقال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها، وبالجور والظلم خرابها وزوالها، فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الإنصاف لهم، والظلم والجور كامن في النفوس، لا يظهر إلا بالقدرة، كما قيل:
فلولا قانون السياسة وميزان العدالة، لم يقدر مصلٍّ على صلاته، ولا عالم على نشر علمه، ولا تاجر على سفره، ولله در عبد الله بن المبارك؛ حيث قال:
فإن قيل فما حد الملك العادل، قلنا: هو كما قال العلماء بالله من عدل بين العباد، وتحذر عن الجور والفساد … فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق، وأطاعه الخلق، وصفت له النعمى، وأقبلت عليه الدنيا، فتهنأ بالعيش، واستغنى عن الجيش، وملك القلوب، وأمن الحروب، وصارت طاعته فرضًا، وظلت رعيته جندًا؛ لأن الله تعالى ما خلق شيئًا أحلى مذاقًا من العدل، ولا أروح إلى القلوب من الإنصاف، ولا أمرَّ من الجور، ولا أشنع من الظلم.
فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور ألَّا يقطع في باب العدل إلا بالكتاب والسنة؛ لأنه متصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة، ومستخلفًا عن ذلك الجناب المقدس، ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره، فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل، فإنه أحوج الناس إلى معرفة العلم واتباع الكتاب والسنة، وحفظ قانون الشرع والعدالة، فإنه منتصب لمصالح العباد، وإصلاح البلاد، وملتزم بفصل خصوماتهم، وقطع النزاع بينهم، وهو حامي الشريعة بالإسلام فلا بد من معرفة أحكامها، والعلم بحلالها وحرامها؛ ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته، وضبط مملكته، وحفظ رعيته، فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه، وتمتلئ القلوب بمحبته والدعاء له، فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه، وأدوم لبقائه، وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والإنصاف على الرعية …»
وقد ذيَّل الشيخ كلامه هذا بطائفة من «نصائح الرشاد لمصالح العباد» لا يسع المرء إلا أن يرى فيها خلاصة الرأي الذي كوَّنه في حكومة محمد علي وصارت لا تتاح له الفرصة إلا سجله في تاريخه، فقد قال الشيخ: «اعلم أن سبب هلاك الملوك، اطراح ذوي الفضائل، واصطناع ذوي الرذائل، والاستخفاف بعظة الناصح، والاغترار بتزكية المادح، مَن نظر في العواقب سلِم من النوائب، وزوال الدول باصطناع السفل، ومن استغنى بعقله ضل، ومن اكتفى برأيه زل، ومن استشار ذوي الألباب، سلك سبيل الصواب، ومن استعان بذوي العقول، فاز بدرك المأمول. مَن عدل في سلطانه، استغنى عن أعوانه، عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان، الملك يبقى على الكفر والعدل، ولا يبقى على الجور والإيمان، ويُقال: حق على من ملَّكه الله على عباده، وحكَّمه في بلاده، أن يكون لنفسه مالكًا، وللهوى تاركًا، وللغيظ كاظمًا، وللظلم هاضمًا، وللعدل في حالتي الرضا والغضب مُظهرًا، وللحق في السر والعلانية مؤثرًا، وإذا كان كذلك، ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه …»
وأما صنفا العدل الباقيان: فالرابع هم أوساط الناس يراعون العدل في معاملتهم، والخامس والأخير، القائمون بسياسة نفوسهم وتعديل قواهم، وضبط جوارحهم، وانخراطهم في سلك العدول؛ لأن كل فرد من أفراد الإنسان مسئول عن رعاية رعيته، التي هي جوارحه وقواه، كما ورد: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.
(٤-٤) رأيه في حكومة محمد علي
ولقد كان من الأسباب التي حملت الجبرتي على النفور من حكومة الباشا والطعن عليها وتجريحها، ما كسبه من تجارب على عهد استئثار البكوات المماليك بالسلطة والحكم في مصر، وأثناء احتلال الفرنسيين لها، ثم طوال المدة التي شهدها من حكم محمد علي نفسه، فاستطاع بفضل ذلك أن يعقد مقارنة، توخَّى على قدر طاقته أن تكون دقيقة وصحيحة بين هذه العهود الثلاثة، وقد تحدث الشيخ نفسه عن حرصه على التنزه عن الهوى في بحثه وكتابة تاريخه، فقال: «ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق، أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني أو غرض جسماني، وأنا أستغفر الله من وصفي طريقًا لم أسلكه، وتجارتي برأس مال لم أملكه.»
وأما المقياس الذي قيست به أحكامه على هذه العهود الثلاثة فكان النظرية التي تكوَّنت لديه في شئون الحكم وأصول السياسة، على اعتبار أن العلم والعدل هما أساس الجماعة الإنسانية أو العمران البشري، فصار الحكام والمسئولون والأفراد العاديون — وهم جميعًا الذين تتألف منهم الطبقات الخمس التي ذكرها — أحدَ شيئين: إما متصفين بالعلم والعدل، وإما منعوتين بالجور والظلم، وفي ضوء هذه النظرية إذًا ينكشف في «تاريخه» كنه الحقائق التي أثبتها، ويستبين مغزى الإشارات والإلماعات التي سجَّلها، وتتبلور المعاني التي انطوت عليها الآراء التي بسطها.
ولكن الجبرتي وإن أخذ على نفسه توخي الحق في أحكامه التي أصدرها على هذه العهود الثلاثة، وبمقاييسه التي عرفناها؛ فقد كان من الواضح، أنه متأثر بنزعات وفكرات ومبادئ معينة، مبعثها البيئة التي نشأ فيها، ونوع الثقافة التي تثقف بها، وكانت هذه دينية وعلمية في آنٍ واحد، والتجارب التي مرت به.
فهو لا يعتبر البكوات المماليك غرباء عن البلاد، بل يسميهم الأمراء المصرية ويحفظ لهم عهدًا وودًّا بحكم صلات أبيه وأجداده، وصلاته هو نفسه بهم؛ ولأنه كان في عهد حكومة البكوات وأعظم كبرائهم سطوة، أن بلغ احترام الأشياخ والعلماء الذروة، واعترفت الهيئة الحاكمة بنفوذهم، بقبولها لوساطاتهم وشفاعاتهم في صالح الرعية. ولقد نعى الجبرتي على هؤلاء الأمراء ظلمهم وجورهم، ولكنه رفض أن يفقد الأمل في إمكان ارعوائهم عن قبيح فعلهم، وارتداعهم، يجل من أعاظمهم الأمير علي بك الكبير (القازدغلي) «صاحب الوقائع المذكورة، والحوادث المشهورة»، والذي كان لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى، والرياسة الكبرى … ولا يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين، وصادق العلماء والمشايخ واحترمهم وأجلَّهم، وكان من بين هؤلاء نور الدين حسن والد عبد الرحمن الجبرتي، تتبع المفسدين الذين يتداخلون في القضايا والدعاوى ويتحيلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالات، وعاقبهم بالضرب الشديد والإهانة والقتل والنفي إلى البلاد البعيدة، ولم يراعِ في ذلك أحدًا سواء كان متعممًا أو فقيهًا أو قاضيًا أو كاتبًا، استتب في عهده الأمن، وأمِن الناس على أرواحهم وأموالهم، وكان الجبرتي عند وفاة علي بك الكبير شابًّا يافعًا في حوالي العشرين من عمره، ثم إنه لم يجد ما يأخذه على منتزع الملك منه، محمد بك أبي الذهب سوى قتله أهل يافا بإشارة وزرائه، ولولا ذلك لكانت حسنات أبي الذهب أكثر من سيئاته، واستطرد الشيخ يقول: «ولم يتفق لأمير مثله في كثرة المماليك وظهور شأنهم في المدة اليسيرة، وعظم أمرهم بعده، وانحرفت طباعهم عن قبول العدالة، ومالوا إلى طريق الجهالة، واشتروا المماليك فنشئوا على طرائقهم، وزادوا عن سوابقهم، وألِفوا المظالم وظنوها مغانم، وتمادوا على الجور، وتلاحقوا في البغي على الفور، إلى أن حصل ما حصل، ونزل بالناس ما نزل»، ولم يكن ما حصل وما نزل — في رأي الجبرتي — سوى احتلال الفرنسيين لهذه البلاد ثم قيام حكومة محمد علي.
وكان مراد وإبراهيم اللذان استأثرا بالسلطة وبخاصة منذ عودتها إليهما في السنوات السبع التي سبقت مجيء الحملة الفرنسية، المسئولين عن هذه النكبات، فالأول كان «ظالمًا غشومًا، مختالًا معجبًا، وهو كان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومماليكه وأتباعه من الجور والتهور ومسامحته لهم»، ومع ذلك وبالرغم من السيئات والنقائص التي عدَّدها له، لم يفُت الشيخ أن يذكر أن مرادًا «كان يحب العلماء ويتأدب معهم وينصت لكلامهم ويقبل شفاعتهم ويميل طبعه إلى الإسلام والمسلمين، ويحب معاشرة الندماء والفصحاء وأهل الذوق والمتكلمين … عطاياه جمة، ومواهبه وهمته فوق كل همة.» وأما إبراهيم، فقد كان «مرخصًا لخشداشينه في أفعالهم، كثير التغافل عن مساويهم مع معارضتهم له في كثير من الأمور، وخصوصًا مراد بك وأتباعه، فيغضي ويتجاوز … وكان هذا الإهمال والترخص والتغافل سببًا لمبادئ الشرور، فإنهم تمادوا في التعدي وداخلهم الغرور، وغمرتهم الغفلة عن عواقب الأمور، واستصغروا مَن عداهم، وامتدت أيديهم لأخذ أموال التجار وبضائع الإفرنج الفرنساوية وغيرهم بدون الثمن، مع الحقارة لهم ولغيرهم، وعدم المبالاة والاكتراث بسلطانهم العثماني الذي يدعون أنهم في طاعته مع مخالفة أوامره ومنع خزينته، واحتقار الولاية ومنعهم من التصرف والحجر عليهم، فكان هذا كله سبب زوال دولة البكوات على يد الفرنسيين أولًا، ثم على يد محمد علي ثانيًا، الذي فتك بأكثرهم وقضى على سلطانهم، وأدى الحال بإبراهيم إلى الخروج والتشتيت والتشريد، هو ومن بقي من عشيرته إلى بلاد السودان يزرعون الدخن ويتقوتون منه، وملابسهم القمصان التي يلبسها الجلابة في بلادهم.»
ولعل محمد بك الألفي الكبير، كان أكثر هؤلاء البكوات حظوة عند الشيخ الجبرتي، فهو الأمير الكبير، والضرغام الشهير، صادق الشيخ حسن العطار، صديق الجبرتي، وتردَّد عليه هذا الأخير كثيرًا، وحضر مجالسه، وقال عنه إنه كان صحيح النظر في عواقب الأمور، ذهب إليه مرة عقب خروج الفرنسيين وعودة الحكم للعثمانيين، فوجده جالسًا على السجادة فجلس معه ساعة، فدخل عليه بعض أمرائه يستأذنه في زواج إحدى زوجات مَن مات مِن خشداشينه، فنتر فيه وشتمه وطرده وقال للشيخ انظر إلى عقول هؤلاء المغفلين، يظنون أنهم استقروا بمصر، ويتزوجون ويتأهلون، مع أن جميع ما تقدم من حوادث الفرنسيس وغيرها أهون من الورطة التي نحن فيها الآن. ولقد تقدم في سياق هذه الدراسة ذكر الكثير من آراء الشيخ في الألفي الكبير، قال فيه عند وفاته: إنه كان «آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصراحة ونظرًا في عواقب الأمور، وكان وحيدًا في نفسه فريدًا في أبناء جنسه، وبموته اضمحلت دولتهم، وتفرقت جمعيتهم، وانكسرت شوكتهم، وزادت نفرتهم، وما زالوا في نقص وإدبار …»
ولقد كان الشيخ الجبرتي يود لو أن البكوات عدلوا وأصلحوا، ووضعوا للرعية ميزانًا للعدالة وقانونًا للسياسة، حتى تستقيم الأمور، ولكنهم جاروا وظلموا لحكمة أزلية، فنزلت بالبلاد الكوارث، وأولها مجيء الفرنسيس.
ويفسر موقف الشيخ من الاحتلال الفرنسي، مبدأه الآخر الذي أخذ به، وهو بغض الأجنبي الغاصب، ولكنه بغض يخلو من التعصب، فلا يصرف الشيخ إلى تعداد مساوئ الفرنسيين فحسب، ولا يجعله يجفل من التعاون معهم، فقد شاءت الحكمة الأزلية أن يسود الجهل بدلًا من العلم، وأن يطغى الظلم فينمحي العدل، وأن يفضي اختلال الميزان، وزوال قانون الحكمة إلى تسلط هؤلاء الأجانب على البلاد.
كان الشيخ عند دخول الفرنسيين القاهرة، من بين الذين غادروها إلى الريف، فذهب إلى أبيار، ولكن إقامته بها لم تتجاوز عشرة أيام؛ لأن بونابرت طلب من الشيخين اللذين ترأسا الوفد الذي ذهب لمقابلته بعد واقعة الأهرام في يوليو ١٧٩٨، مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي، الكتابة للذين هربوا بالحضور، فكان الجبرتي من بين من كتبوا لهم.
ولم يتعين الشيخ في الدواوين التي رتبها بونابرت، وقد كان له في علمه وفضله وجاهه، ما يتيح له فرصة التعيين بها، لا سيما وأن بونابرت دأب على استمالة العلماء والمشايخ تنفيذًا لسياسته الوطنية الإسلامية، ولكن الشيخ الذي نعى على المشايخ افتتانهم بالحياة الدنيا لم يشأ أن يكون من بين المتصدرين، ثم إنه وإن اعتقد أن الحكمة الأزلية هي التي هيأت للفرنسيين احتلال البلاد، فإن هؤلاء كانوا ملاحدة بالرغم من تظاهرهم باحترام الدين الإسلامي، وكانوا أجانب ومغتصبين، أنهوا حكم السلطان العثماني (خليفة المسلمين) ونوابه في البلاد، وشرعوا ينظمون أساليب الإدارة والحكم على نهج يغاير ما ألِفه الشيخ وخبره، فكان حريًّا به قبل الإقبال على التعاون معهم أو مقاومتهم، أن يقف على مدى تمسكهم بميزان العدالة وأن يعرف شيئًا عن أحوالهم ونشاطهم، وأن يقتنع بفائدة هذا التعاون لصالح سواد الأهلين أو مضرته، وجدوى المقاومة، فيتعاون معهم، وعندئذٍ يقوم بدور الوساطة الذي اعتقد الشيخ أنه واجب العلماء والأشياخ بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، أو يحبذ المعارضة والمقاومة.
ولذلك لم يعتكف الشيخ بعد عودته من أبيار، بل حرص على مراقبة سير الحوادث، وشهد احتفالات الفرنسيين، وزار مجمعهم العلمي، وشاهد خزائن كتبهم ومصانعهم مدفوعًا بغريزة الاستطلاع، ولأنه كان عالمًا بارعًا يهتم بالرياضيات والطبيعيات والفلك والأرصاد وما إلى ذلك، وأمكنه بفضل صلاته مع المشايخ والمتصدرين أن يعرف أساليبهم الحكومية وأغراضهم وغاياتهم منها، كما أوقفه اهتمامه بمجريات الأمور على عاداتهم وأخلاقهم، وتسنى له بسبب ذلك كله أن يسجل في «تاريخه» تفصيلات كثيرة وصحيحة عن هذا الحكم الأجنبي الذي ابتُليت به البلاد، كما تكوَّنت لديه آراء ومبادئ معينة شكَّلت مسلكه، وحدَّدت موقفه من الاحتلال الفرنسي في سنواته الثلاث.
فقد نعى على الفرنسيين مجونهم وخلاعتهم وانحلال أخلاقهم، وآلمه أشد ما آلمه اقتداء دهماء الناس بهم في مباذلهم، ثم امتداد الفساد إلى طبقات أخرى من الأهلين، وصار ينشد زوال حكمهم، ولكنه لما كانت الحكمة الأزلية هي التي مكَّنت للفرنسيين من فرض سلطانهم على البلاد، فقد انتظر أن يجيء خلاصها منهم بحكمة أزلية كذلك، وهو الذي شاهد فلول البكوات ومماليك المنهزمين ينتشرون في الشام والصعيد، ويتسلح الفرنسيون بآلات الحرب والقتال الحديثة، ويحصنون الطوابي بها، ويسلكون مسلك مَن صح عزمه على الإقامة المستمرة وإرساء سلطانه على قواعد قوية راسخة؛ ولذلك لم يكن الشيخ ممن ساهموا في ثورة القاهرة الأولى (أكتوبر ١٧٩٨)، ونقد تشجيع بعض المتعممين للعامة الذين دبَّروا هذه الثورة، فقال: إن هذا البعض من المتعممين «لم ينظر في عواقب الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور» وزاد من إيمان الشيخ بعدم جدوى أمثال هذه الثورات، ما فعله الفرنسيون بالجامع الأزهر، وإيذاء الأهلين، وأخذهم بالقسوة والعنف بعد ذلك.
حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وما هي من الظالمين ببعيد:
أما بعد، فقد نقضت عهدي، وتركت مودة آل بيت جدي، وأطعت الظَّلَمة السفلة، وامتثلت أمر المارقين السفلة، فأَعَنتهم على البغي والجور، وسارعت في تنجيز مرامهم الفاسد على الفور، من إلزامكم الكبير والصغير والغني والفقير، إطعام عسكركم الذي أوقع بالمؤمنين الذل والمضرات، وبلغ في النهب والفساد غاية الغايات، فكان جهادهم في أماكن الموبقات والملاهي، حتى نزل بالمسلمين أعظم المصائب والدواهي، فاستحكم الدمار والخراب، ومُنعت الأقوات وانقطعت الأسباب، فبذلك كان عسكركم مخذولًا، وبهم عمَّ الحريق كل بيت كان بالخير مشمولًا، كيف لا وأكابركم أضمرت السوء للمرتزقة في تضييق معايشهم، وأخذ مرتباتهم، وإتلاف ما بأيديهم من أرزاقهم وتعلقاتهم، وقد أخفتم أهل البلد بعد أمنها، وأشعلتم نار الفتنة بعد طفئها، ثم فررتم فرار الفيران من السنور، وتركتم الضعفاء متوقعين أشنع الأمور، فوا غوثاه وا غوثاه! أغثنا يا غياث المستغيثين، واحكم بعد ذلك يا أحكم الحاكمين، وانصرنا وانتصر لنا، فإننا عبيدك الضعفاء المظلومون يا أرحم الراحمين.
ولقد أفصح الشيخ السادات في تذكرته هذه عن كل ما كان يدور في ذهن الجبرتي، ويختلج في صدره، وأما حكمه على هذه الفتنة الجامحة فقد أوجزه في قوله: «وانكشف الغبار عن تعسة المسلمين، وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين (الذاهبون هم العثمانيون الذين هزمهم الفرنسيون، والمتخلفون هم القاهريون وسائر أهل البلاد) وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلا الخراب والسخام والهباب.»
على أنه لم يمضِ شهران تقريبًا على انتهاء هذه الفتنة، حتى وقع مقتل الجنرال كليبر على يد سليمان الحلبي في ١٤ يونيو ١٨٠٠، فكانت نادرة عجيبة، حصلت بسببها هوجة عظيمة في الناس، وكرشة وشدة انزعاج، وقد كان لهذا الحادث أثر عظيم في نفسه بسبب ما كشفه له عن عدالة أقوام ملحدين، كان من المتوقع أن ينتقموا في سَورة غضبهم لموت كبيرهم من الأهلين، دون تمييز بين مذنب وبريء، وهم أصحاب السطوة والسلطان، ولكنهم عدلوا، ولم يعمدوا إلى القصاص من القاتل وشركائه في الجريمة إلا بعد تحقيق ومحاكمة، مع ضبط القاتل وقت وقوع الجريمة واعترافه بجرمه، ثم أطلقوا ساحة مَن ثبتت براءته في المحاكمة، فكانت هذه ظاهرة غريبة على الشيخ وعلى معاصريه الذين ألِفوا بطش الحكام بالأبرياء والمذنبين على السواء، ولقد تزايد إعجاب الشيخ بعدالة الفرنسيين، عندما استطاع أن يعقد مقارنة بين هذه العدالة التي أجروها في أحكامهم، وهم الذين لا دين لهم، وبين ذلك الظلم الذي قاسى الأهلون أهواله عند عودة هذه البلاد إلى حكم العثمانيين، وتسلط البكوات عليها من جديد بعد ذهاب الفرنسيين، واستمرت اعتداءات طوائف العسكر من أرنئود ودلاة وغيرهم سنوات طويلة، وقد حمله تقديره لهذه العدالة على إثبات صورة من الأوراق التي ضمَّنها الفرنسيون أخبار الواقعة والمحاكمة، وطبعوا منها نسخًا كبيرة باللغات الثلاث: الفرنساوية والتركية والعربية، وذلك — كما قال الشيخ — «لما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل، ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج، وغدره، وقبضوا عليه وقرروه، ولم يعجلوا بقتله وقتل مَن أخبر عنهم بمجرد الإقرار، بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتَّبوا حكومة ومحاكمة، وأحضروا القاتل وكرَّروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول، ومرة بالعقوبة، ثم أحضروا مَن أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين، ثم نفذوا الحكم فيهم بما اقتضاه التحكيم، وأطلقوا مصطفى أفندي البرصلي الخطاط؛ حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجه عليه قصاص، كما يُفهم جميع ذلك من فحوى السطور، بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدَّعون الإسلام، ويزعمون أنهم مجاهدون، وقتلهم الأنفس، وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية مما سيُتلى عليك بعضه بعد.»
وكان لهذه التجارب التي مرَّت بالشيخ أثرها — ولا شك — في اقتناعه بالتعاون مع الفرنسيين، فهم إلى جانب ما ظهر من اهتمامهم بالعلم، وتوفر علمائهم على البحث والتنقيب والدراسة بالرغم من الاضطرابات في القاهرة والأقاليم وذهاب عدد منهم ضحية لها، وإلى جانب ما أظهروه من تمسكهم بميزان العدالة، حرصوا على احترام شعائر المسلمين، ولم يكلفوا المشايخ المتصدرين الذين تعاونوا معهم عند مجيئهم، وصاروا أعضاء في الديوان الذي شكله بونابرت، بإتيان ما يتعارض مع الدين الحنيف، حتى إنه عندما رفض الشيخ عبد الله الشرقاوي وضع «الجوكار» — وهي العلامة التي يُقال لها الوردة، كان رأي الجبرتي أن الشرقاوي لم يكن محقًّا في رفع هذه الشارة؛ لأن وضعها لا يخل بالدين، ثم إنه نجم عن تردد الشيخ على مجمعهم العلمي، وسؤاله لعلمائهم مستفسرًا عما صار يصادفه لديهم من آلات أو يشاهده من تجارب علمية، وهم الذين إذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريدون الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، حتى إن الشيخ ذهب إليهم مرارًا، وأطلعوه على ذلك — أن اتصل الشيخ بعدد من علمائهم، كما أنه عرف عددًا آخر من الفرنسيين، عن طريق صديقه إسماعيل الخشاب، وكان لهذا مخالطة بهم، فتضافرت كل هذه العوامل على إزالة ما يكون قد تبقى لديه من نفرة منهم تحول دون تعاونه معهم إذا طلب إليه أن ينضم إلى أعضاء دواوينهم.
وعلى ذلك، فإنه عندما تسلم الجنرال «منو» قيادة الحملة العامة بعد مقتل كليبر، وأقام ديوانه الجديد في أكتوبر ١٨٠٠ صار عبد الرحمن الجبرتي أحد أعضاء هذا الديوان، وصار صديقه إسماعيل الخشاب أمينًا لمحفوظاته وكاتبًا لسلسلة التاريخ؛ أي محاضر جلسات الديوان، ولقد كان هذا الديوان أداة طيعة في يد منو، ورضخ أعضاؤه لكل ما طلب «منو» منهم، ومبعث ذلك رد الفعل الذي حصل بعد ثورتي القاهرة السابقتين ومقتل كليبر، وصرامة الفرنسيين في الاقتصاص من الأهلين بفرض الغرامات الفادحة عليهم وانشغال القاهريين وأشياخهم بتدبير المال لدفعها، ثم يقين أعضاء الديوان بأن لا جدوى من المفاوضة أو المقاومة طالما كانوا عاجزين بمفردهم عن طرد العدو من بلادهم، كما كان مبعث هذا الرضوخ انتظارهم الفرج القريب على يد الجيوش المتأهبة للإغارة على مصر لإنقاذها من العدو، ولم يكن العثمانيون الذين فشلوا في قتال الفرنسيين، هم الذين تتألف هذه الجيوش منهم وحدهم، بل صار لهم حلفاء الآن من الإنجليز؛ أي من الجند المسلحين بأسلحة من طراز ما لدى الفرنسيين منها، والمدربين على نفس فنون الحرب والقتال التي دُرب الفرنسيون عليها.
ولزم الشيخ جانب الهدوء، وساير حكومة العهد الجديد كل المسايرة، فلم يُعرف عنه أنه عارض في شيء، ولم يذكر هو عن نفسه أنه اقترح أمرًا أو أبدى رأيًا، فأما تعليل مسايرته فسهل ميسور، إذا أخذنا بالاعتبارات التي سبق ذكرها، وأما أنه لم يذكر عن نفسه ما يدل على مساهمته جديًّا في المسائل القليلة التي تُركت الحرية فيها لأعضاء الديوان لمناقشتها وبحثها كمسألة ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار، فلا ينهض دليلًا على عدم نشاط الشيخ، بل إن مبعثه عامل الخجل الذي سبقت الإشارة إليه، ولا جدال في أن الشيخ لم يكن عضوًا خاملًا، وهو الذي يؤخذ من التفصيلات التي حواها «تاريخه» عن هذا الديوان أنه واظب على حضور جلساته واهتم بما صار يدور فيه، ولكنه مما لا شك فيه كذلك أنه عُرف عند الفرنسيين بالاعتدال والاتزان، والابتعاد عن الشغب، أو الاندفاع وراء العواطف، يؤيد هذا القول، ترك هؤلاء له حرًّا طليقًا، عندما أصعدوا فريقًا من زملائه إلى القلعة وقت اقتراب خطر الجيوش العثمانية والبريطانية الزاحفة على القاهرة من هذه الأخيرة، فكان الجبرتي، مع خليل البكري ومحمد الأمير وموسى السرسي، هم الذي أبقاهم الجنرال بليار في الديوان، ثم انضم إليهم سليمان الفيومي الذي أُفرج عنه بعد قليل، بينما اعتُقل محمد الأمير.
ولكن الشيخ الذي تأثر بهياج الخواطر الذي انتشر بين الأهلين نتيجة لانهزام الفرنسيين على يد الجيوش الزاحفة، وتوقعهم الخلاص القريب، ولم ترضه الاعتقالات التي حدثت واستفزه عسف الفرنسيين في جمع الغرامات والإتاوات في ساعات احتضارهم الأخيرة، سرعان ما انتعش أمله في زوال هذا الحكم الأجنبي البغيض، لا عن طريق الثورة وإثارة الفتنة المؤذية والشعب، ولكن بمقتضى الحكمة الأزلية، التي شاءت عند تفاقم الظلم والجور أن يستبدل العدل بهما، وينصب ميزانه، فصارت بلاغات «بليار» و«منو» ورسائل هذا الأخير التي بعث بها من الإسكندرية إلى الديوان، تمويهات وأكاذيب، ومحشوة بالكلام الفارغ.
وأفصح الجبرتي عن فرحه لزوال حكم الفرنسيين، بإهدائه كتابه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» إلى الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا — على نحو ما تقدم ذكره — وقد استهله بقوله: «حمدًا لمن جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، وجعل الدولة العثمانية والمملكة الخاقانية بهجة الدين والدنيا»، ووجد الشيخ عبرة في زوال ملك الفرنسيين بعد أن بدا أن أقدامهم قد رسخت في البلاد، وأن سلطانهم قد توطَّد بها، فإذا هم ينخلعون عن التصرف والتحكم وسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه! وراعه ما قصَّه عليه حسين بك وكيل قبطان باشا وكان بصحبة الباشا عند ذهابه إلى الإنكليز، أثناء الحملة لقتال الفرنسيين وإجلائهم عن البلاد. قال حسين بك: «كنا في نحو الخمسين والإنكليز في نحو الخمسة آلاف، فلو قبضوا علينا في ذلك الوقت لملكوا الإقليم من غير ممانع، فسبحان المنجي من المهالك!» فكان تعليق الشيخ على ذلك أنه «إذا تأمل العاقل في هذه القضية، يرى فيها أعظم الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام؛ حيث سخَّر الطائفة الذين هم أعداء للملة هذه لدفع تلك الطائفة ومساعدة المسلمين، مصداق الحديث الشريف وقوله ﷺ: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»، فسبحان القادر الفعَّال!»
ولقد توقَّع الشيخ أن تسود العدالة بعودة الحكم إلى العثمانيين، ولكن سرعان ما ضاع أمله عندما عمَّت الفوضى في السنوات الخمس التالية، وكثرت الفتن والانقلابات، واعتدى الجند على الأهلين، وهاج القاهريون، والفلاحون بالأرياف، لما نزل بهم من جورهم، وصار أكثر الناس — كما قال — يتمنون أحكام الفرنساوية.
وأرهقت الشعب السُّلف الجبرية والإتاوات، وتوالت الفرد والمظالم، وتوقف حال الناس، ورضوا عن أحكام الفرنسيس، مما سبق ذكره وتوضيحه، وذكر رأي الشيخ في ذلك كله في سياق هذه الدراسة.
ثم إنه لم تلبث أن لاحت بارقة أمل، عندما شهد أحد رؤساء الأرنئود محمد علي يتودد إلى المشايخ والمتصدرين أمثال عمر مكرم وأحمد المحروقي، ويتقرب منهم، ويجوس الشوارع متحدثًا مع العامة والرعية ومطمئنًا لهم، ومشاركًا لهم في التذمر والشكوى من عسف عثمان البرديسي وسائر البكوات أيام حكومتهم المعروفة، ويمنِّي الجميع بقرب انتهاء عهد الظلم والجور، حتى استطاع تأليب الأشياخ والرعية على هؤلاء البكوات الظلمة، ثم راح يفعل نفس الشيء أثناء أزمته مع أحمد خورشيد، حتى تمكَّن بمعاونة المشايخ والرعية من إزاحة هذا الأخير من الولاية، والوصول بنفسه إلى الباشوية، فتوقَّع الجبرتي بداية عهد جديد على يد هذا المبشر الجديد.
ويُستدل من التفاصيل التي ذكرها الجبرتي عن دور المشايخ خلال هذه الأحداث، وبالقدر الذي أراده لهم أصحاب الحكم أو المتطلعون إليه في هذه الفترة، أن الشيخ لم يكن من بين هؤلاء المتصدرين، أو إذا كان فإنه لم يُشِر إلى ذلك بقليل أو كثير، وسواء اشترك أم لم يشترك فقد ظل دائب الصلة بالأشياخ، ويعنى بتتبع نشاطهم ونشاط الحكام الباشوات العثمانيين، ونشاط البكوات المماليك، منازعي الدولة في السلطة والنفوذ، ولم يصرفه اشتغاله بشئونه الخاصة أو قراءة الدروس، أو انكبابه على تسجيل الحوادث أو الاهتمام باستكمال بعض الكتب التي أراد تأليفها في الفقه الحنفي والحساب والفلك وغير ذلك، لم يصرفه هذا عن التردد على محمد الألفي الكبير وغيره من البكوات، كالأمير ذي الفقار البكري، وحضور مجالس أحمد خورشيد باشا، وزيارة عمر مكرم وأحمد المحروقي وغيرهما من المتصدرين من المشايخ والأعيان في وقته.
ولكن تسلم محمد علي لزمام الأمور لم يُنهِ عهد المظالم والسلف والإتاوات، ولم يتحقق به — في نظر الشيخ — ميزان العدل، ولم يلقَ الأهلون ومتزعموهم من الأشياخ والأعيان جزاء حسنًا على سعيهم في تقليده الولاية، وانقلب الشيخ أيما انقلاب على هذه الحكومة الظالمة، والتي خالفت فيما اتبعته من طرائق لسد حاجتها الملحة إلى المال كل ما كان يدين به الشيخ من مبادئ عن سياسة الحكم والدولة، فلم يرَ في كل ما يحدث إلا ضياعًا للعدالة وانتفاء لها، وتمكينًا لأسافل القوم من الاستعلاء على أكابرهم، ومثابرة على استنضاح الأموال، وتجويعًا للأهلين وتشريدًا للفلاحين، واستبدادًا بالرأي واستهانة بالعلماء واستخفافًا برأي ذوي الفضل، واعتدادًا بالعصبية في توطيد السلطة على أساس الجور بالناس والعسف بهم، وسلب أقواتهم وأرزاقهم، وتجريدهم من الأرض وما يملكون للإغداق بنعمه وآلائه على أهله وعشيرته وصنائعه ورؤساء أجناده، حتى صار كل هؤلاء أصحاب الشأن والسيادة والثراء الطائل، بينا يفتك المرض والجوع بأهل البلاد.
ولقد عظمت حفيظة الشيخ على الباشا لدرجة أنه تمنى زوال ملكه، فلم يكن من بين الأشياخ الذين وقَّعوا على العرائض التي طالبوا فيها ببقاء محمد علي في الباشوية أثناء أزمة النقل إلى سالونيك المعروفة، بدعوى أنه أجرى العدل، وأسعد الرعية، فوصف الشيخ ما نمَّقوه ووضعوا أختامهم عليه، أو زوَّروا خاتم مَن لم يفعل وختموا به أنه كلام عنه «يُسئلون ولا يُؤذن لهم فيعتذرون.»
وهذه الكراهية نفسها لحكم محمد علي، هي أحد بواعث حملته الشديدة على أشياخ عصره، «مشايخ الوقت»، الذين مكَّنوا للباشا بتكالبهم على الدنيا، وانقساماتهم وحزازتهم ومنافستهم، إغفال أمرهم، والازدراء بهم وبما قد يجرءون على إسدائه من نصح إليه، وهذه الكراهية كذلك كانت مبعث استيائه وتكدره من البكوات المماليك، والحملة عليهم هم كذلك بسبب فرقتهم، وعدم اجتماع كلمتهم وتخاذلهم، ومنافساتهم وكراهيتهم لبعضهم بعضًا، فعجزوا عن اهتبال الفرصة السانحة أثناء أزمة النقل إلى سالونيك لاسترداد الحكم وطرد محمد علي على رأس جنده الأرنئود من هذه البلاد، وهم الغرباء عنها، والذين لا تربطهم صلة بها، على خلاف البكوات الذين اعتبرهم الجبرتي — كما أسلفنا — مصريين، ولقد اشتد سخطه على عثمان البرديسي خصوصًا، أقوى خصوم الألفي ومنافسيه على السلطة، وأكثرهم عداء له، فعدَّه وإخوانه المسترشدين برأيه الضعيف، مسئولين عن تفويت الفرصة، واستمرار محمد علي في باشويته.
واعتبر الجبرتي من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي أن يحم القضاء بالألفي قبيل وصول حملة «فريزر»، ولكنه وقد أخذ الحزن منه كل مأخذ على أن تجري تصاريف القدر والحكمة الأزلية بهذه الصورة، لم يسعه تشفيًا لمكنون حقده على الباشا إلا أن يسجل قول الشاعر:
ونقِم الجبرتي على البكوات نقمة شديدة؛ لأنهم باستمرار تفرقهم وتخاذلهم قد أضاعوا الفرصة كذلك أثناء حملة «فريزر» لطرد محمد علي من باشويته.
ولقد درج الكتاب على مؤاخذة الشيخ على ما أظهره من حزن عند فشل حملة «فريزر»، وتمنيه لو أن الإنجليز انتصروا على الباشا وأنهوا حكمه، فشاءت الأقدار غير ما تمنى الشيخ، وحصلت الواقعة على غير قياس، كما أسفرت أزمة النقل إلى سالونيك في العام السابق عن انعكاس القضية، ولكن كراهية الشيخ لحكم محمد علي لم تكن صادرة عن اعتبارات شخصية أو مصالح ذاتية أو شهوة أو نزوة، حقيقة وقع على الشيخ الظلم كما وقع على غيره، ولكن كان له من الأملاك الواسعة والثراء ما يكفل له العيش في بحبوحة ويسر ولم يكن الطمع من شيمته، وخلا «تاريخه» من الإشارة إلى نفسه، ولكنه ذخر بالأمثلة والوقائع المتصلة بعيش عامة الناس والفلاحين، وما صاروا يلاقونه من عنت وإرهاق بالغين في حياتهم ومعاشهم نتيجة لأساليب الباشا المالية الظالمة، وكثيرًا ما صار الشيخ يسجل تمني الناس لعودة حكم الفرنسيين، ولم يكن الجبرتي نفسه إلا واحدًا من أولئك الذين شاطروا سواد الشعب وقتئذٍ هذه الأمنية.
ولم يكن هناك تعارض بين تمني عودة الحكم الأجنبي — على الرغم من كراهية الناس وكراهية الشيخ له — وبين المبادئ التي دان بها الشيخ، والتي تنحصر في وجوب إقامة ميزان العدالة كغرض عيني ألزم الله تعالى الحاكم به، سواء كان من المسلمين، أم شاءت الحكمة الأزلية نفسها أن يكون من غير المسلمين. أما أن يستمر الجور والظلم، فذلك ما لا بد من انتهائه امتد الأجل به أم قصر، ولا يطلب من امرئ أيًّا كان الرضى به، والطاعة لصاحبه، فإذا انتصر الإنجليز على الباشا، فلا بد أن مبعث هذا حكمة أزلية، وكما أيَّد الله هذا الدين بالرجل الفاجر لإنهاء حكم الفرنسيين، فإنه سبحانه سوف يؤيده مرة أخرى، عند اقتضاء الحكمة الأزلية ذلك بإنهاء حكم هؤلاء الفاجرين؛ أي الإنجليز، فلم يكن مبعث حزن الشيخ على فشل هؤلاء إلا تمنيه زوال الظلم والجور، وانتشار العدالة، آية ذلك قوله تعليقًا على هزيمة الإنجليز: «وهذه الواقعة حصلت على غير قياس، وصادف بناؤها على غير أساس، وقد أفسد الله رأي أهالي الإقليم لانتصارهم لمن يضرهم ويسلب نعمهم، وما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيدي الناس، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وأما لماذا أفسد الله رأي هؤلاء، فهو لبروز ما كتبه وقدَّره في مكنون غيبه، على أهل الإقليم من الدمار الحاصل، وما سيكون بعد، كما ستسمع به، ويُتلى عليك بعضه، فما كان إلا ما أراده المولى جل جلاله من تعسة الإنكليز والقطر وأهله إلا أن يشاء الله.»
ورأى الشيخ في محمد علي أنه منطبع على الظلم والجور، متطلع إلى ما بأيدي الغير، مستبد، لا صديق ولا حبيب له، «يحب الشوكة ونفوذ أوامره في كل مراد، ولا يصطفي ويحب إلا من لا يعارضه، ولو في جزئية، أو يفتح له بابًا يهب منه ريح الدراهم والدنانير، أو يدله على ما فيه كسب أو ربح من أي طريق أو سبب، من أي ملة كان»، انحلت عزائمه عندما بلغه حصول الإنجليز بالإسكندرية، غدر بمعاونيه من كبار الأرنئود، أنزل البلاء بحسين أفندي الروزنامجي وغيره، ونفى وشرَّد عمر مكرم، وبيَّت غدر المصرية وقتلهم في مذبحة القلعة (١٨١١)، أضف إلى هذا توالي المظالم في عهده واستمرار الغلاء، وإفلاس مساتير الناس من كل ما فصله الشيخ في «تاريخه».
ومع ذلك فقد حاول الشيخ أن يتحرز من كراهيته لمحمد علي وأن يكون عادلًا في حكمه عليه، فذكر بمناسبة إصلاح سد الإسكندرية وإعادته (١٨١٦)، وقد اعتبره من محاسن الأفعال أنه كان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة، على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.
وشهد الجبرتي، بعد الحوادث التي ذكرناها رسوخ ملك محمد علي، مقترنًا باستمرار الأساليب الحكومية التعسفية التي حرص الشيخ على ذكرها في «تاريخه» ووصف آثارها، فلم يتغير نظره في الباشا وحكمه، في السنوات التالية.
تلك إذًا كانت أسباب معارضة عبد الرحمن الجبرتي لحكومة محمد علي، ولقد كانت هذه المعارضة — كما أسلفنا — معارضة صامتة، فلم يُعرف عن الشيخ أنه حاول أن ينقد بصورة علنية أساليب الباشا، أو أن يوجِّه النصح له لتقويمه كما فعل عبد الله الشرقاوي مثلًا في حادث الاستسقاء (أغسطس ١٨٠٨)، أو الانضمام إلى المعارضة السافرة عند ظهورها فيما بعد كما سيأتي ذكره، ومع ذلك فقد كانت معارضة الشيخ على صمتها معارضة خطيرة، من حيث إنها قامت على مبادئ معينة، تتصل في جوهرها بضرورة توفر العدل شرطًا أساسيًّا لوجوب الطاعة للحكام، فلم يكن مبعثها أغراضًا شخصية لرعاية مصالح ذاتية، ولم يكن من المنتظر أن يمتنع الشيخ من الإفصاح عن آرائه الصحيحة لأصدقائه، أو للأشياخ الذين اجتمع بهم، وتبادل الرأي معهم في شتى الأمور التي شغلت أذهان الأشياخ أو المتصدرين في وقته، ومن أهمها استمرار الإتاوات والسلف والمظالم، ولا نُدحة عن حديث الأشياخ في ذلك، وقد جرَّدهم الباشا من كثير من امتيازاتهم المادية السابقة، فأبطل مسموح المشايخ، ولم يلبث أن استولى على إيرادات الأوقاف، وشارك الملتزمين — وأكثريتهم من المشايخ — في فائض التزامهم، وهو علاوة على ذلك قد انفرد بالسلطة وحده، ولا يجرؤ واحد منهم على نصحه والحد من سلطانه، بل وهناك ما يدل على أن أجزاء من «التاريخ» الذي كتبه أو المذكرات التي دونها في طيارته قد ذاع أمره — على الأقل — بين أصدقائه وفي أوساط المشايخ، فلم يكن من صالح النظام القائم في شيء أن تذيع هذه الآراء وأن تجد لها صدى بين سائر الأوساط، حتى إنه بعد انقضاء هذه الحوادث التي نحن بصددها بعشرة أعوام تقريبًا، وبعد أن كان الباشا قد قضى على كل عناصر المعارضة والمقاومة، واستبد بالسلطان الكامل في ملكه، لم يلبث أن وجد هو ورجاله من الأصلح لحكمه الحَجْر على آراء الشيخ وإسكاته، حتى في معارضته الصامتة هذه، فأجمع التواتر على أن صهر الباشا محمد بك الدفتردار فتك بخليل بن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في يونيو ١٨٢٢، فقصم هذا البلاء ظهره، وعزف عن التسجيل والكتابة، ثم لم يلبث أن ذهب الحزن، بجانب الإجهاد في القراءة والكتابة ببصره، وقد أشرف على السبعين، وعاش بعد ذلك معتكفًا في داره حتى تُوفي بعد قليل في عام ١٨٢٥ أو ١٨٢٦.
(٥) المعارضة السافرة: عمر مكرم
بيد أن الشيخ الجبرتي، وإن كان لم يجهر بمعارضته للباشا، ولم يسهم في المعارضة السافرة التي بدأت تتألف بعد حادث الاستسقاء في عام ١٨٠٨ خصوصًا، فقد سجل تفاصيل هذه المعارضة، وأخبار متزعميها من الأشياخ والمتصدرين سواء كان مبعث زعامتهم لها رغبة في الجاه والسلطان أم مجرد المناورة للإيقاع بالخصوم الشخصيين وإشفاء غليل أحقادهم، يدفع الأولين على المعارضة الغرور وعمى البصيرة، ويحدو الأخيرين في مناوراتهم الطمع والنهم والتكالب على الدنيا، مما جعل هذه المعارضة السافرة — في نظر الشيخ — تجربة تعسة في ظروفها وملابساتها ونتائجها.
وأما المتزعم لهذه المعارضة السافرة فكان عمر مكرم، وهو يختلف عن الجبرتي من حيث تنشئته وثقافته ونظرته للأمور وهدفه من الحياة، فلم يُعرف عنه أن نشأ في مثل البيئة التي نشأ فيها الجبرتي، ومع أنه جاور بالأزهر، واقتنى مكتبة كبيرة، فلم يكن في عداد المشايخ، وعلى خلاف ما فعل الجبرتي، انصرف أكثر ما انصرف للانشغال بالدنيا، وجمع المال، والاجتهاد لبلوغ أماكن الصدارة عن طريق الانغماس في شئون السياسة، بالقدر الذي هيأته له الظروف، والذي استطاع هو بتدبيره وسعيه أن يهيئه لنفسه، وبينما كان الجبرتي يحدد موقفه من كل عهد من العهود التي مرَّت به مسترشدًا بتلك المبادئ المعينة التي دارت حول ضرورة إقامة ميزان العدل من جهة، وربط ما يجري من أحداث بموجب الحكمة الأزلية من جهة أخرى، كان عمر مكرم نهازًا للفرص يقيس سعيه في خدمة أي عهد من العهود التي مرت به بمقدار النفع الذي يجنيه منه، فهو صديق حميم للبكوات المماليك طالما بقيت السلطة في أيديهم، وهو لا يحجم عن الانفضاض من حولهم، إذا تراءى له أن بوسعه أن يفيد من أصحاب السلطان الجدد، وهو لا يثبت على كل حال في أوقات الملمات والشدة، إلا إذا تحتم عليه الثبات والصمود، وبينا يظل الجبرتي أمينًا على رأيه حفيظًا على مبدئه، لا يفارقه الاتزان حتى آخر أيامه، يركب الغرور رأس عمر مكرم، ويزداد اعتداده بنفسه لدرجة الطغيان على الحكمة والتدبير الحسن، وتعويض البقية الباقية مما استمتع به من نفوذ إلى الضياع.
(٥-١) نشأته ونشاطه
ولِد عمر مكرم في أسيوط، في تاريخ مجهول، قد يكون في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، لم يُعرف شيء عن والده أو أجداده إلا أنهم ينتسبون إلى البيت النبوي الكريم، ولم يكن بيتهم عريقًا في انتسابه هذا، فمن المعروف أن سبط بني الوفاء من بيتي البكري والسادات هم الذين كانت لهم من أزمان بعيدة مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف. وفي أواسط القرن الثامن عشر الميلادي جمع السيد محمد أبو هادي بن وفا بين مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف، وتولَّى بعد وفاته في سبتمبر ١٧٦٢ الخلافة الوفائية ابنه أبو الأمداد السيد أحمد بن إسماعيل، ونزل عن نقابة الأشراف إلى السيد محمد أفندي البكري الصديقي الكبير، وقد تولَّى هذا المنصبين معًا، وطمع في المشيخة السيد محمد السادات بسبب انقراض سلسلة أولاد الظهور بموت السيد محمد أبي هادي، والشيخ السادات من سبط بني الوفاء، ولكنه لم يوفَّق — كما شهدنا — وطمع في نقابة الأشراف — دون وجه حق — السيد عمر مكرم، اللهم إلا دعوى انتسابه البعيد للبيت النبوي الكريم.
وواتت الفرصة عمر مكرم لتحقيق مأربه، عندما فر البكوات مراد وإبراهيم إلى الصعيد وقت مجيء حملة القبطان حسن باشا (١٧٨٦)، واتخذا مقامهما بأسيوط، فسعى معهما حتى صار مقربًا منهما، فوثقا به، وكان عمر مكرم هو الذي حمل كتبهما إلى المسئولين في القاهرة في منتصف عام ١٧٩١ ورجع بجواب هؤلاء إليهما — على نحو ما سبق ذكره — ونال حظوة كبيرة لديهما بسبب نجاحه في المهمة، وعمل على توثيق صلته بهما، حتى إذا تُوفي شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب الأشراف بمصر، محمد أفندي البكري الصديقي الصغير في نوفمبر ١٧٩٣، تدخل مراد وإبراهيم، فتقلد عمر مكرم نقابة الأشراف، بينما تولى خليل البكري سجادة الخلافة البكرية أو الوفائية، واضطر محمد السادات إلى كتمان حنقه وغيظه، وأشرف عمر مكرم على إدارة أوقاف وأملاك النقابة، وهيمن على إيراداتها، وظل من أقرب المقربين للبكوات، وأسدى لهؤلاء خدمة جليلة بأن صار يسعى جهده لإنهاء الأزمة التي حدثت بين البكوات والمشايخ على أثر اعتداء محمد بك الألفي الكبير على إحدى قرى بلبيس في يونيو ١٧٩٥، والتي أسفر حلها عن كتابة تلك الحجة التي تعهد فيها البكوات بالتزام العدل وأعلنوا فيها توبتهم عن مظالمهم السابقة، ولقد تقدم كيف أن وعود مراد وإبراهيم كانت كاذبة، وأن ظلمهما شمل الأهلين والإفرنج (والفرنسيين خصوصًا) على السواء، وكان في نظر الأشياخ السبب الذي جرَّ على البلاد نكبة الغزو الفرنسي والاحتلال الأجنبي، حتى إن الشيخ محمد السادات وجد من ذلك سبيلًا لتقريعهما وأتباعهما، وذلك عندما طلب البكوات المشايخ للتشاور معهم وقت وصول الخبر إلى القاهرة بطلوع الفرنسيين إلى الإسكندرية، فتكلم الشيخ بالتوبيخ وقال: كل هذا سوء مقالكم وظلمكم، وآخر أمرنا معكم، ملَّكتمونا للإفرنج. وشافه مراد بك: وخصوصًا بأفعالك وتعديك أنت وأمرائك على متاجرهم وأخذ بضائعهم وإهانتهم.
وعند اقتراب الفرنسيين من القاهرة، بذل عمر مكرم ما وسعه من جهد وحيلة لتطمين العامة ولحملهم على قتال العدو ومؤازرة البكوات، وكان العامة قد أفزعهم ما شهدوه من انحلال عزائم البكوات والإسراع في التأهب للارتحال من القاهرة، فداخلهم الخوف الكبير والفزع واستعد الأغنياء وأولو المقدرة للهروب لولا أن هددهم البكوات، وسعى أنصارهم لاستحثاث الناس على الجهاد، وكان عمر مكرم بين الساعين في ذلك، فصعد نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بيرقًا كبيرًا سمته العامة البيرق النبوي، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك، فكانت مظاهرة كبيرة لم تُجدِ نفعًا ولم تدفع ضرًّا، وانهزم البكوات في معركة الأهرام أو إنبابة المعروفة في ٢١ يوليو ١٧٩٨، وفرَّ مراد في طريقه إلى الصعيد، وفرَّ إبراهيم متوجهًا إلى الشام، وخرج كثيرون من الأهلين يريدون الارتحال من القاهرة، وقر رأي المشايخ في اليوم التالي (٢٢ يوليو) على الاتصال بالغزاة والاستفسار عن مقاصدهم، واطمأن عديدون لوعود الفرنسيين بتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فرجع الفارون ومعهم الأشياخ الذين كانوا قد صحبوهم في فرارهم — حتى المطرية — ومنهم الشيخ محمد السادات والشيخ عبد الله الشرقاوي، وأما عمر مكرم فإنه لم يطمئن ولم يرجع.
والواقع أن السيد النقيب كان قد صح عزمه على الارتحال من هذه البلاد مع البكوات الذين ارتحلوا عنها، فاتبع جماعة إبراهيم الهاربة نحو الشرق، واستقر به المقام في يافا فترة من الزمن، كانت كافية لأن يرى الفرنسيين وقد وطدوا أقدامهم في مصر، بل واستقام لهم الأمر فيها، حتى إنهم سيَّروا جيشًا لغزو الشام وفتحها كذلك، وليتأكد لديه أن دولة البكوات قد زالت، فقد تشتتت جموع هؤلاء، وطاردهم الفرنسيون في الصعيد، بينما هم أخمدوا ثورة القاهرة (الأولى) في ٢١ أكتوبر ١٧٩٨ في سهولة ويسر، ثم إنهم انتصروا على العثمانيين والبكوات الذين عجزوا عن وقف زحفهم على الشام، فاستولوا على العريش وغزة دون عناء.
واعتقد عمر مكرم — وقد تحصن العثمانيون في يافا — أنه سوف يستعصي على الفرنسيين وقائدهم بونابرت فتحُها، ولكن سرعان ما دانت هذه للغزاة بعد قتال دام ثلاثة أيام فحسب، فسقطت في أيديهم في ٧ مارس ١٧٩٩، وكان عمر مكرم أحد أربعمائة تقريبًا من المصريين اللاجئين بها، فأعادهم بونابرت إلى مصر، وكان عمر مكرم مع العائدين، وصل إلى دمياط بطريق البحر، مع جماعة ذكرهم الشيخ الجبرتي في «تاريخه» وتعوق بدمياط فترة من الزمن بسبب «الكرنتيلة»، ثم وصل إلى بولاق أخيرًا في ٧ يوليو ١٧٩٩، فمكث هنيهة بزاوية علي بك التي بساحل بولاق، حتى وصل إلى داره، وكان في أثناء ذلك قد رجع بونابرت نفسه من حملته الفاشلة في الشام، ودخل القاهرة في ١٤ يونيو، فبادر عمر مكرم ثاني يوم وصوله — أي في ٨ يوليو — بمقابلة بونابرت بصحبة الشيخ محمد المهدي الذي استطاع أن يفوز برضاء الفرنسيين عنه.
وكان الفرنسيون قد نزعوا نقابة الأشراف من عمر مكرم، وقلدوها منذ أغسطس ١٧٩٨ الشيخ خليلًا البكري، وكان هذا قد تداخل فيهم، وعرفهم أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه، فقلده الفرنسيون إياها، واستولى على وقفها وإيرادها، وفضلًا عن ذلك فقد صادر الفرنسيون أملاك عمر مكرم؛ ولذلك فقد صار كل ما اهتم به — وقد رجع الآن إلى مصر — أن يسترجع أملاكه المفقودة ولم يكن بوسعه أن يسترد النقابة؛ لأن خليلًا البكري — كما سبقت الإشارة — كان قد نال حظوة كبيرة لدى الفرنسيين.
ووجد عمر مكرم في وساطة محمد المهدي — وهذا صاحب حظوة كذلك لدى الفرنسيين — خير ما يعينه على نيل مأربه، فكانت مقابلته بصحبة الشيخ لبونابرت، وليس من المستبعد أن يكون محمد المهدي قد سعى للتمهيد لهذه القابلة؛ كسبًا لرضاء بونابرت الذي قامت سياسته الإسلامية الوطنية على استمالة المشايخ والعلماء والأعيان، وأما بونابرت — على حد قول الجبرتي — فقد «بش له ووعده بخير، ورد إليه بعض تعلقاته، وكان هذا كل ما ظفر به عمر مكرم، فاستقر بداره، وصارت الناس تغدو وتروح إليه على العادة.»
ثم توالت الأحداث مسرعة، ففشل العثمانيون في محاولتهم الإغارة على الفرنسيين لطردهم من البلاد وانهزموا في موقعة أبي قير البرية في ٢٥ يوليو ١٧٩٩، وارتحل بونابرت عن مصر في ٢٢ أغسطس، وتولَّى الجنرال كليبر قيادة الحملة، ولم يكن هذا من أنصار البقاء في مصر، بل يريد إخلاء البلاد وعودة جيش الشرق بكل سرعة إلى فرنسا، وشرع يتفاوض في شروط الجلاء مع العثمانيين والإنجليز، تلك المفاوضة التي أسفرت عن عقد اتفاق العريش في ٢٤ يناير ١٨٠٠، ثم نقضه وانهزام العثمانيين في معركة هليوبوليس في ٢٠ مارس من العام نفسه.
وأنعشت المفاوضة آمال السيد عمر مكرم، الذي صار يترقب عودة هذه البلاد إلى حظيرة الدولة، ورجوع الأوضاع بها إلى حالها السابقة، واسترداد البكوات لسلطانهم القديم، ونزول القصاص بالمتعاونين مع أعداء الدولة، واستطاعته أن يسترجع نقابة الأشراف وأوقافها وريعها، عدا ممتلكاته المصادرة، فراح يستعد لمقابلة العهد الجديد، ثم دخل بعض العثمانيين القاهرة عقب إبرام اتفاق العريش، ولكن خاب الأمل بسبب نقض هذا الاتفاق ودارت رحى الحرب بين كليبر وجيش يوسف ضيا والبكوات (وعلى رأس هؤلاء إبراهيم بك)، فما إن سمع القاهريون صوت المدافع حتى اشتد هياجهم، وقامت ثورة القاهرة الثانية التي بدأت يوم المعركة نفسه (٢٠ مارس).
وبدلًا من تهدئة العامة — كما صار يفعل الشيخ الجبرتي — تزعَّم عمر مكرم هذه الثورة الفاشلة، فكان هو والسيد أحمد المحروقي من بين الذين سارعوا إلى التلول خارج باب النصر، وانضم إليهما أتراك خان الخليلي والمغاربة الذين بمصر (القاهرة) … وتبعهم كثير من عامة أهل البلد وبأيديهم النبابيت والعصي، والقليل معه السلاح، وكذلك تحزَّب كثير من طوائف العامة والأوباش والحشرات، وجعلوا يطوفون بالأزقة وأطراف البلد، ولهم صياح وضجيج وتجاوب بكلمات يقضونها من اختراعاتهم وخرافاتهم، وقاموا على ساق، وخرج الكثير منهم إلى خارج البلد، على تلك الصورة، ثم عاد جمع عظيم من العامة ممن كان خارج البلدة ولهم صياح وجلبة على الشرح المتقدم، وخلفهم إبراهيم بك، ثم أخرى وخلفهم سليم آغا، ثم أخرى كذلك وخلفهم عثمان كتخدا الدولة، ثم نصوح باشا ومعه عدة وافرة من عساكرهم، وصحبتهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي، وطائفة من البكوات، وراح نصوح باشا يقول للعامة اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم، وكانت ثورة عاتية، مرَّ بنا طرف من حوادثها، ومنها إهانة الشيخ خليل البكري؛ حيث تتبع الناس عورات بعضهم البعض وما دعتهم إليه حظوظ أنفسهم وحقدهم وضغائنهم، فاتهم الشيخ خليل بأنه يوالي الفرنسيس ويرسل إليهم الأطعمة، ولم ينقذه من أيدي العسكري وبعض أوباش العامة سوى توسط سيدي أحمد بن محمود محرم التاجر، ولم يتوسط عمر مكرم قطعًا في إنقاذه.
ولم تُفِد مساعي الصلح بين الفرنسيين والأشياخ — وكان كليبر قد عقد معه معاهدة في ٥ أبريل — لإنهاء هذه الثورة الجامحة، وظل السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي وأتباعهما يمرون في كل وقت ويأمرون الناس بالقتال، ويحضونهم على الجهاد، مع اتضاح عدم جدواه، وما تسبب عن الثورة من توقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يُطاق، ومغالبة الجهلاء على العقلاء، وتطاول السفهاء على الرؤساء، وتهور العامة، ولغط الحرافيش، وغير ذلك مما لا يمكن حصره.
ولقد أشعل الفرنسيون الحرائق في الأحياء الوطنية، وأحرقوا حي بولاق وخرَّبوه وتهدمت أغلب المنازل بالأزبكية، وصاروا يهددون بحرق القاهرة بأسرها إذا لم يخرج الجند العثمانيون ورؤساؤهم منها، وبات واضحًا ألا سبيل للخلاص إلا بالإذعان، فتم الصلح نهائيًّا في ٢١ أبريل في اتفاق وقَّعه العثمانيون وإبراهيم بك، مع الجنرال كليبر، وغادر الأولون القاهرة، وخمدت الفتنة التي انكشف غبارها — على نحو ما ذكره الشيخ الجبرتي وأبنَّاه قبل ذلك — عن تعسة المسلمين وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين، وكان عمر مكرم من بين الذين خرجوا من القاهرة، فقال الجبرتي: «خروج العثمانية وعساكرهم وإبراهيم بك وأمراؤه ومماليكه والألفي وأجناده ومعهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي الشاه بندر، وكثيرون من أهل مصر ركبانًا ومشاة إلى الصالحية، وكذلك حسن بك الجداوي وأجناده، وأما عثمان بك حسن ومَن معه فرجعوا صحبة الوزير يوسف ضيا، فلم يسَع إبراهيم بك وحسن بك ترك جماعتهما خلفهما، وذهابهم بأنفسهم إلى قبلي، بل رجعا بجماعتهما على أثرهما، وذاقوا وبال أمرهم.»
ولزم عمر مكرم عرضي الصدر الأعظم والبكوات المماليك، حتى إذا انهزم الفرنسيون في العام التالي، واضطروا إلى تسليم القاهرة والإسكندرية والجلاء عن البلاد، رجع عمر مكرم ضمن من رجعوا، فدخل القاهرة في ١٥ يوليو ١٨٠١ وصحبته السيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار بمصر، وقد ارتدى كل منهما خِلعة من السمور، دليل تكريم أهل العقد والحل الجدد لهما، ورضائهم عنهما، ومكافأة لهما على جهودهما وولائهما.
ولم يكتفِ العثمانيون بمكافأة عمر مكرم بخلع الخِلَع السمور عليه، بل إنهم جردوا خليلًا البكري من نقابة الأشراف، وقلَّدوا عمر مكرم إياها، فوصفه الشيخ الجبرتي حال دخوله القاهرة بأنه نقيب الأشراف، وكأنما تجريد خليل البكري من النقابة لم يكن كافيًا لإشفاء غليل أخصامه، فراحوا يسعون لدى محمد خسرو باشا في حقه، متخذين من خروج ابنة له عن طورها أيام الفرنسيين ذريعة للنيل منه، وكانت هذه قد تبرأ منها والدها بعد خروج هؤلاء، وقُتلت بأمر من الصدر الأعظم يوسف ضيا في ٤ أغسطس ١٨٠١، فراح أعداء خليل البكري ينهون إلى محمد خسرو بأنه مرتكب للموبقات، ويعاقر الشراب وغير ذلك، وأن ابنته كانت تذهب إلى الفرنسيس بعلمه، وأنه قتلها خوفًا وتبرئة لنفسه من الشهرة التي لا يمكنه سترها، ولا يُقبل عذره فيها، ولا التنصل منها، وأنه لا يصلح لمشيخة سجادة السادة الوفائية، فعزله الباشا منها وقلَّدها أحد أتباع الشيخ شخصًا من سلسلتهم يُقال له الشيخ محمد سعد، ثم جدَّد أعداؤه مسعاهم لتجريده من ممتلكاته وأمواله كذلك، فتصدى لمفاقمته وأذيته أنفار من المتظاهرين مثل السيد عمر مكرم النقيب، والشيخ محمد وفا السادات وخلافهما، وتسلط عليه من له دَين أو دعوى أو مطالبة حتى بيَّعوه حصصه.
(٥-٢) عمر مكرم وعهد الفوضى السياسية
وصار عمر مكرم حينئذٍ ممن يحتلون مكان الصدارة في العهد الجديد، ولكن هذا كان عهدًا — كما عرفنا — اتسم بطابع الفوضى السياسية، اختلفت فيه الأوضاع عن تلك التي خبرها على أيام سطوة البكوات المماليك، قبل الاحتلال الفرنسي، فالباشا العثماني يعمل جاهدًا لاجتثاث سلطان البكوات تنفيذًا لسياسة الباب العالي، والبكوات يفقدون سلطانهم رويدًا، ويطردون من القاهرة، ويسيِّر عليهم الباشوات الحملات لتعقبهم ومطاردتهم في الوجه البحري والصعيد، وتكثر في القاهرة حوادث الانقلابات تطيح بباشوية أحد الولاة تارة، وبرأس الآخر تارة أخرى، وتتوالى المظالم على الشعب وسط ذلك كله، فيئن من جور الإتاوات والفرد والسلف الإجبارية والمغارم، ويشكو من اعتداءات الجند عليه وإيذائهم له، ثم يشتد تذمره ويعلو صخبه في مظاهرات تقصد إلى الجامع الأزهر وسائر الجوامع، ويطلب المتظاهرون المتذمرون الغاضبون المشايخ حتى يقوموا بدور الوساطة لدى الباشا العثماني أو لدى البكوات — عندما صار لهؤلاء الحكم فترة من الزمن في عهد هذه الفوضى السياسية المتلاطمة — لرفع هذه المظالم، ولم يكن الشعب في طلبه هذا من المشايخ والمتصدرين قد خرج عن مألوف ما درج عليه في الأزمان السابقة، من حيث اتخاذ العلماء والمشايخ واسطة بينه وبين الهيئات الحاكمة.
ولقد عرف السيد عمر كيف يحتفظ في أثناء هذه الفوضى السياسية بمكان الصدارة الذي صار له، كنقيب للأشراف، وكرجل من رجال العهد الجديد، ولكن في الحدود التي رسمتها له أحداث هذه الفوضى السياسية ذاتها، فهو لن يكون بحال صاحب رأي لدى الباشوات العثمانيين أو رؤساء الأجناد وكبارهم المتنازعين فيما بينهم جميعًا على السلطة والحكم؛ لأن هؤلاء اعتبروا خلافاتهم من شأنهم وحدهم فحسب، ولا دخل للرعية بها، واستخدموا المتصدرين من الأشياخ والأعيان كأدوات طيعة في الحالات التي أرادوا فيها استكتابهم العرائض والإعلانات كأسانيد شرعية يبررون بها انقلاباتهم في أعين الدولة، أو تكليفهم بجمع الإتاوات والسلف وما إلى ذلك من الأهلين، أو توسيطهم لدى البكوات المماليك.
والسيد النقيب لن يكون بحال كذلك من أعضاء البكوات أصدقائه القدامى، وأصحاب الفضل عليه، ومصدر نعمته، وأصل الوجاهة والصدارة اللتين وصل إليهما؛ لأنهم ما لبثوا أن صاروا في خصام دائم مع الدولة وفي ثورة عليها سواء أكانت هذه مستترة في بعض الأحايين أم سافرة في أكثرها، وهو كذلك لا يرى نفعًا وفائدة من الانقلاب عليهم ونبذ الولاء لهم كلية، والباشوات العثمانيون وأجنادهم لا يزالون عاجزين عن هزيمتهم الهزيمة الساحقة، ولا يزال الباب العالي نفسه ظاهر التردد في موقفه منهم، فتارة يعلنهم عصاة ثائرين، وتارة يصطلح معهم، وتارة يكاد يفقد البكوات السلطة تمامًا، وتارة تنحصر هذه في أيديهم.
والسيد النقيب فوق ذلك كله لا يجرؤ على التظاهر برأي — على الأقل — ما لم يكن قد انعقد الإجماع عليه بين سائر المشايخ والمتصدرين؛ لأنه وإن كان له أصدقاء كثيرون من بين الأشياخ، ويتردد عليه الأهلون ويقصدونه كي يبثوا شكواهم، ويسألوه الرأي والنصيحة، فهو يعلم في كامن ضميره أن غالب صداقة زملائه الأشياخ زائفة، وأن التنافس القائم على الرئاسة والزعامة والصدارة، لما يستتبع حصولها من إثراء واستمتاع بلذائذ الدنيا، قد جعلهم يحقدون على بعضهم بعضًا، ويسعون في إيذائه إذا قدروا على ذلك، ولا يحجم هو نفسه عن إيذائهم إذا وجد في هذا نفعًا له، فهناك من أعدائه السافرين أو المستترين، خليل البكري — وقد تسعفه المقادير للإيقاع به كما أوقع هو وأتباعه به، وقد شُغل عمر مكرم في السنوات التالية بإحكام تدمير السيد خليل وهدمه — ومحمد السادات (أبو الوفا) — وإن كان عمر مكرم على ما يبدو اعتقد في صداقته له — ومحمد الدواخلي، ومحمد المهدي — وهذان من أكثر المشايخ حقدًا عليه — وعبد الله الشرقاوي، وذلك عدا غيرهم من المتعلمين الذين قاسوا صداقتهم له ولغيره بمقياس غضب أو رضاء الهيئات الحاكمة ومقدار إقبال الدنيا على المتصدرين أو إدبارها عنهم، ثم إنه يعلم في كامن ضميره كذلك أن مبعث تعلق العامة به، والمكانة التي احتلها من نفوسهم، زعامته السابقة لهم إبان ثورة القاهرة الثانية (مارس-أبريل ١٨٠٠)، فلم تكن له مندوحة من إبلاغ شكاواهم — على الأقل — إلى السلطات المسئولة كلما أُتيحت له الفرصة أن يفعل ذلك، إذا شاء الاحتفاظ بمكانته عندهم، وتلك بدورها مكانة لا معدَى عن الاحتفاظ بها، لبقاء صدارته وعدم انقطاع الصلة بينه وبين السلطات المسئولة، بالقدر الذي يبقى عليه نقابة الأشراف ولا يحرمه من ريع أوقافها وأملاكها، ثم إنه لم تكن له مندوحة كذلك — إذا رغب الاحتفاظ بمكانته — من تزعم الأهلين المتذمرين المتظاهرين أو الثائرين، إذا استفحل الظلم وتمكن البلاء وانفجر بركان الغضب يقذف بالمشايخ وسائر المتصدرين إلى الصفوف الأمامية، للقيام بدور الوسيط التقليدي لدى الهيئات الحاكمة لرفع الجور والظلم الذي يشكو الشعب منه.
وعلى ذلك، فقد سلك السيد عمر مكرم في سنوات الفوضى السياسية هذه طريق الحيطة والحذر، سكن أيام الشدة التي تخضبت حوادثها بدماء البكوات الذين دُبرت المكائد المعروفة لاغتيالهم في مطلع العهد الجديد، فنأى بنفسه عن فطنة الاتصال بهم والتعاون معهم بكل وسيلة، ولم يشذ عن سائر زملائه من الأشياخ والأعيان في الرضوخ لمطالب أصحاب السلطة سواء من الباشوات العثمانيين أم رؤساء الجند، وتكلم في صالح الشعب — أو القاهريين — بالقدر الذي لا يثير غضب المسئولين عليه، وفي حدود الظروف المواتية والمناسبات الملائمة، ورحَّب بعودة البكوات إلى الحكم أثناء الحكومة الثلاثية المتألفة من إبراهيم بك وعثمان البرديسي ومحمد علي، وارتفعت مكانته، بينما نزل الظلم والعسف بمنافسه وغريمه الشيخ محمد السادات على أيدي هؤلاء البكوات، ثم قلب لهم ظهر المجن، عندما ثار القاهريون ضدهم، وراح محمد علي يدبِّر تقويض حكومتهم وطردهم من القاهرة، فتعاون عمر مكرم معه؛ لاطمئنانه إلى قدرة محمد علي والأجناد الأرنئود، وتيقنه أن البكوات لم يعد لهم عيش في القاهرة، ثم آزر القائد المنتصر على غريمه أحمد خورشيد، ثم بلغ أقصى ما يُمني النفس به من ضروب الصدارة والزعامة في إقباله على تأييد الانقلاب الذي أفضى إلى المناداة بمحمد علي، وأنهى الفوضى السياسية، فخرج من الأزمات المتلاحقة التي ميَّزت فترة هذه الفوضى، وقد تزايد شأنه رفعة وقدمه رسوخًا في الصدارة والزعامة، وصار العضد الكبير لحكومة العهد الذي بدأ مؤسسًا على أشلاء الفوضى السابقة.
يفسر مسلك السيد النقيب الذي كفل له الوصول إلى غايته هذه — وإن دفع ثمنًا باهظًا بعد ذلك لنجاحه الذي أدركه — جملة حوادث، منها أنه لم يعتكف ولم ينزوِ، بل اشترك في الحياة العامة، وثابر على التمسك بمظاهر الصدارة، يوزع التفاته إلى السلطات الحاكمة والبكوات المماليك بالعدل والقسطاس، وبالقدر الذي يتفق مع صالحه، فيحضر في أكتوبر ١٨٠١ احتفال عقد كريمة إبراهيم بك (السيدة عديلة)، ويحضر ما يُقام من احتفالات لقراءة الفرمانات الواردة من الباب العالي، أو لوصول كسوة الكعبة الشريفة من حضرة السلطان، وقد صادفته أزمة في هذه الأيام الأولى عندما نازعه على نقابة الأشراف، وسلبها منه شخص يُدعى يوسف أفندي، اشتُهر بسوء السمعة والسيرة قبل مجيء الفرنسيين، ارتحل عن البلاد إلى إسلامبول وقت مكثهم بهذه البلاد، ثم صار يتحيل ويتدخل في بعض حواشي الدولة حتى ظفر بتولي نقابة الأشراف ومشيخة المدرسة الحبانية، فحضر إلى مصر في ديسمبر ١٨٠١ بعد جلاء الفرنسيين، وأُهمل أمره أولًا لمعارضة أعيان الأشراف له، غير أن محمد خسرو باشا لم يلبث أن قلده النقابة في ٢ فبراير ١٨٠٢، وبذل عمر مكرم قصارى جهده لاسترجاعها، وآزره في مسعاه يوسف ضيا الصدر الأعظم، الذي هرع عمر مكرم وبعض المتعممين لتوديعه عند مغادرته القاهرة في ١٣ فبراير من العام نفسه، فأعطاهم صررًا وقرءوا له الفاتحة، فلم يمضِ شهران حتى وصل في ١٨ أبريل ١٨٠٢ قاصد من الديار الرومية بمكاتبات وتقرير نقابة الأشراف للسيد عمر وعزل يوسف أفندي. وفي ١٩ أبريل ركب السيد عمر المذكور وتوجَّه إلى عند الباشا فألبسه خِلعة سمور، ثم حضر عند الدفتردار شريف أفندي، فكانت مدة عزله من النقابة شهرين ونصفًا.
ثم إن عمر مكرم حرص على أن يظل مقرَّبًا من خسرو باشا، وموضع ثقة رجال الدولة، من الأدلة على ذلك أنه ثار نزاع على ميراث في غضون شهر أكتوبر ١٨٠٢ بين القائم على خدمة مقام سيدي أحمد البدوي ونسيبه، وادعى كل منهما أن بوسعه إحضار الأموال التي يكنزها الآخر للحكومة، فعوَّق خادم المقام في بيت السيد عمر مكرم، وذهب نسيبه مع طائفة من الجند إلى طنطا وجاء بأموال كثيرة كانت مخبوءة في بئر مردومة وفي مواضع أخرى.
وثمة دليل أهم من الأول، هو أن السيد عمر امتنع عن مقابلة «سباستياني» أثناء زيارة هذا لمصر في مهمته التي سبق الكلام عنها في أحد فصول هذا الكتاب، فقال «سباستياني» في تقريره: إنه توجَّه لزيارة عمر مكرم يوم ٢٨ أكتوبر ١٨٠٢، ولكن هذا كان مريضًا فقابله ولده، ولم يذكر «سباستياني» أنه تسنى له بعد ذلك مقابلة النقيب بتاتًا، وكان الحذر مبعث عدم مقابلته للفرنسيين، في وقت كان فيه للفرنسيين حزب من بين طوائف البكوات المماليك، والعلاقات متحرجة بين هؤلاء والدولة، وقد شاطر في هذا الحذر سائر المتصدرين، كالمشايخ: أحمد العريشي ومحمد المهدي ومحمد الأمير، وبعث خليل البكري يرجو «سباستياني» عدم زيارته؛ نظرًا لسوء العلاقة بينه وبين الحكومة القائمة، ولم يرحِّب بزيارة الفرنسي سوى سليمان الفيومي، وبعث محمد السادات مع رسوله (جوبير) يؤكد ولاءه للفرنسيين.
ولم يُسمع للسيد عمر مكرم — أو لسائر المشايخ والمتصدرين — صوت في الانقلاب الذي أفضى إلى طرد محمد خسرو، ولم يكن ليسمح أصحاب الانقلاب لأحد بالتدخل، وهم الذين كانوا — كما عرفنا — يقولون نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا، ولكن عندما احتاج طاهر باشا إلى سند شرعي موقَّع عليه من القاضي والمشايخ ونقيب الأشراف، يبعث به إلى الدولة تفسيرًا لحركته، طلب هؤلاء — ومنهم عمر مكرم — لمقابلته يوم ٦ مايو ١٨٠٣، فانتهز المشايخ الفرصة وكلَّموه على رفع الحوادث والمظالم وظنوا فيه الخيرية، ولم يسجل الشيخ الجبرتي عن هذا الكلام سوى ما ذكرنا، ولكن قنصل النمسا (روشتي) أضاف في رسالته إلى «شتورمر» في القسطنطينية — أن عمر مكرم كان من بين المتكلمين في رفع المظالم التي يشكو منها الشعب، وأن طاهر باشا والدفتردار خليل أفندي السرجاني قد وعدا المشايخ خيرًا، ولقد شهدنا كيف أن هذه المظالم استمرت برغم هذه الوعود الكاذبة، فلم يكن لهذه الوساطة التي تكاتف فيها المشايخ ولم ينفرد بها عمر مكرم أي أثر، بل كانت من قلة القيمة وعدم الجدوى بحيث لم يرَ الشيخ الجبرتي مسوِّغًا لذكر أية تفاصيل عنها.
ولم يلبث أن تبع ذلك انقلاب أطاح برأس طاهر باشا، فلم يُسمع للسيد النقيب والمشايخ صوت أو يُعرف عنهم تدخل في هذا الحادث، سوى توسيط أحمد باشا والي المدينة لهم بالأمر لدى محمد علي لإقناعه بالإذعان إلى الطاعة عندما طمع أحمد باشا — دون جدوى — في الولاية، ولكن عمر مكرم رحَّب ترحيبًا كبيرًا بقيام الحكومة الثلاثية. وفي اليوم الذي وصل فيه محمد خسرو باشا إلى بولاق في أسر البكوات الذين اقتادوه من دمياط إلى القاهرة، دعا عمر مكرم إبراهيم بك (في ١٩ يوليو ١٨٠٣) في بيته ببولاق فجلس عنده ساعة، وغرض النقيب توثيق صلاته بأرباب الحكم الجديد ولما يمضِ أسبوعان على تولي إبراهيم بك القائممقامية.
ولم يُعرف عن عمر مكرم أنه توسط في نصح أو إرشاد أو احتجاج لدى البكوات إبان حكومتهم بالرغم من المظالم التي أوقعوها بالناس، والتي سردنا سابقًا الشيء الكثير منها، اللهم إلا إذا ورَّطه العامة توريطًا، وتساند معه بعض المشايخ المتصدرين في هذا المسعى، وانطوى التوسط على خدمة تُسدى إلى البكوات أنفسهم بتهدئة الخواطر من ناحيتهم، كما حدث في نوفمبر ١٨٠٣؛ حيث وقف في الخامس والعشرين من هذا الشهر جماعة من العسكر في خط الجامع الأزهر في طلوع النهار، وشلَّحوا عدة أناس وأخذوا ثيابهم وعمائمهم، فانزعج الناس ووقعت فيه كرشة استفحل أمرها فوصلت إلى بولاق ومصر العتيقة وأُغلقت الحوانيت، واجتمع الناس وذهبوا إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي والسيد عمر النقيب، والشيخ محمد الأمير، فلم يرَ هؤلاء بدًّا من الركوب إلى البكوات وعملوا جمعية وأحضروا كبار العساكر وتكلموا معهم …
ولم تكن في صالح عمر مكرم معارضة البكوات، الذين صاروا أصحاب الحول والطول الآن في القاهرة، ولم تكن له نُدحة عن استبقاء صداقتهم له، وقد شمل ظلمهم العامة والخاصة، فبقي محتفظًا بمكانته لديهم، وظل الشعب واثقًا في وساطته، ولقي منافسوه على أيدي البكوات كل عنت وإرهاق، بينما استمر هو معززًا مكرَّمًا، فمن المعروف أن عثمان البرديسي حاول أن ينتزع عنوة من الشيخ محمد السادات منافس السيد النقيب وعدوه في البطن سلفة إجبارية في أواخر يناير ١٨٠٤، فلم ينقذ الشيخ سوى تدخل عديلة هانم ابنة إبراهيم بك.
ولكن كان من المحال أن يسدر البكوات في غوايتهم، وتتوالى اعتداءاتهم على الأهلين دون أن يتحرك الشعب للثورة في النهاية، وأنذر تلبد السحب بقرب انفجارها، وكان للشيخ محمد الأمير من الجرأة والشجاعة ما حمله على لفت نظر البكوات، فيذكر الشيخ الجبرتي أنه انتهز فرصة اجتماع عُقد لدى البكوات لقراءة فرمان ورد من الباب العالي في ٢ فبراير ١٨٠٤، فذكر بعض كلمات ونصائح في اتباع العدل وترك الظلم وما يترتب عليه من الدمار والخراب.
وكان أمام عمر مكرم أن يختار أحد أمور ثلاثة: إما الاستمرار على مصافاة البكوات ومؤازرتهم وسوف يصطدم في هذا مع إجماع المشايخ والمتصدرين الذين طلب الشعب وساطتهم، ولم يُبدِ هؤلاء ترددًا في الاستجابة لنداءاته، وكان المشايخ ناقمين على حكومة البكوات بسبب استيلائهم وجماعاتهم عنوة على ما أخذه المشايخ من حصة الالتزام بالحلوان أيام العثمانيين، وقد سبق لهم أن شكوا من ذلك وكتبوا في هذا عرضًا لإبراهيم بك منذ ٢٠ أكتوبر ١٨٠٣، وإما التزام الحيدة، ومعنى ذلك تخليه في هذه الأزمة عن تلك الصدارة التي حرص كل الحرص على عدم التفريط فيها، وهذا ما لا يرضاه بحال، وإما مجاراة المشايخ والمتصدرين في الاستجابة لمطلب الشعب، ولا خوف عليه إن فعل؛ لأنه لا يعدو كونه واحدًا من المتصدرين، ومتآزرًا معهم، فلا سبيل إلى أن يسعى أحد خصومه لدى البكوات ضده.
وبقي عمر مكرم مترددًا، فلم يُعرف عنه أنه كانت له يد في تلك المظاهرة الصاخبة التي انفجرت يوم ٨ مارس ١٨٠٤، وصار نداؤها: «إيش تاخد من تفليسي يا برديسي»، ولم يُعرف عنه أنه كان بين المشايخ الذين قال الجبرتي إنهم ركبوا وذهبوا لمقابلة البكوات مع الجمهور الصاخب الذي حضر إلى الأزهر، يستحثهم على التوسط لدى البكوات لرفع الفردة التي قرروها على العقار والأملاك، وشرعوا في تنفيذها على يد السيد أحمد المحروقي قبل ذلك بيوم واحد فحسب، ونجحت وساطة المشايخ في إبطالها في التوِّ والساعة.
ولقد دلت جرأة الأهلين لحد القيام بالمظاهرة الغاضبة، كما دل خنوع البكوات واستسلامهم لمطالبه، على أن الضعف قد بدأ يدب في جثمان حكومتهم، وصار لا معدَى للسيد النقيب عن تحديد موقفه من هذه الحكومة بسرعة، بالشكل الذي يتفق وصالحه.
وواتت الفرصة لتحديد موقفه نهائيًّا، عندما شرع محمد علي يتودد إلى المشايخ، ويستميل المتصدرين إليه؛ توطئة لإحداثه انقلابه الذي قوَّض عرش حكومة البكوات، وأخلى القاهرة منهم، ولقد تقدم كيف أن محمد علي قد استطاع — بشهادة «روشتي» — توثيق عرى الاتحاد بينه وبين السيد عمر نقيب الأشراف وسائر العلماء، فكان عمر مكرم من بين الذين وافقوا على وجوب إنهاء سلطان البكوات، وكان من بين الذين قُرئ عليهم الفرمان الواصل من أحمد خورشيد بتوليته على الباشوية من لدن الباب العالي، فقرَّ رأيهم على اعتماده وتنفيذه، فكانت المؤامرة التي انتهت بطرد البكوات من القاهرة.
وظل عمر مكرم في عداد كبار المتصدرين في الحكم الجديد، وبدأت من ذلك الحين صلاته الوثيقة بمحمد علي.
فكان السيد النقيب من بين المتوسطين في حادث الست نفيسة أرملة مراد بك في مايو ١٨٠٤ — وقد مرت بنا تفاصيل هذا الحادث — ولو أن الذي تشدد في وجوب رفع الظلم عنها وهدَّد بأن الشعب لن يغفر لأحد إهانتها كان الشيخ محمد الأمير، وكان السيد عمر هو الذي وسَّطه خورشيد لتهدئة الهياج والمظاهرات التي قامت في الشهر نفسه احتجاجًا على مظالمه، واحتج السيد النقيب بأن كل أرباب الحرف والصنائع فقراء، فرفع خورشيد المغارم الجديدة التي كان فرضها عليهم، وكان عمر مكرم من كبار الوسطاء بين خورشيد ومحمد بك الألفي؛ توطئة لتعاون الرجلين، وإن أخفق هذا المسعى في الظروف التي عرفناها.
ولكن توالي الغرامات والمظالم، واعتداء الدلاة على الأهلين، وهم جند خورشيد الذين أراد الاعتماد عليهم في مناصرته ضد محمد علي خصوصًا، وسائر أخصامه، لم يلبث أن جعل من المتعذر أي تعاون من جانب عمر مكرم مع حكومته، وما إن تجمعت السحب التي أنذرت بهدم هذه الحكومة، حتى كان السيد النقيب في مقدمة المناصرين لمحمد علي، ومن أقطاب الانقلاب الذي انتهى بالمناداة بمحمد علي في مايو ١٨٠٥.
على أن هناك حادثًا جديرًا بالتسجيل في هذه المناسبة يكشف عن مدى الدور الذي قام به عمر مكرم لتمكين محمد علي من الولاية، وهو دور ينطوي على الخداع والمخاتلة، تنكَّر فيه السيد النقيب لأصدقائه القدامى البكوات المماليك، وفوَّت الفرصة على محمد الألفي أقدرهم وأكفئهم، في استرجاع الحكم، أثناء أزمة الثورة على خورشيد، واضطراب الأحوال في القاهرة، ولقد كان في وسع الألفي يومئذٍ — لولا مخاتلة عمر مكرم ومراوغته — أن يحتل القاهرة، وقد يتخيل المرء أن مسلك عمر مكرم كان مبنيًّا على رغبة لديه في إنهاء المظالم التي عانى منها الأهلون كثيرًا على أيدي البكوات المماليك، وأنه وثق بوعود محمد علي له بالسير في الرعية إذا ولِّي الأمر سيرًا حسنًا، وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن مسلك عمر مكرم في جميع الحوادث السابقة كان متشكلًا بما تمليه الرغبة في انتهاز الفرص، والدوران مع الريح أينما دارت، والمقامرة على الحصان الرابح دائمًا؛ استبقاء لمكان الصدارة الذي يشغله، واستزادة من الجاه والثراء اللذين كانا له؛ ولأنه قد توهَّم أن يغدو هو صاحب الرأي الأول في العهد الجديد.
وصف الشيخ الجبرتي هذا الدور، فقال: «ثم لما حصلت المفاقمة بين محمد علي وجماعته وبين خورشيد أحمد باشا، وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا، وهاجت الحروب بين خورشيد باشا وأهل البلدة كان الأمراء المصريون بناحية التبين والألفي منعزل عنهم بناحية الطرانة، والسيد عمر يراسله ويعده ويذكر له: بأن هذا القيام من أجلك وإخراج هذه الأوباش، ويعود الأمر إليكم كما كان، وأنت المعني بذلك لظننا فيك الخير والصلاح والعدل، فيصدق القول، ويساعده بإرسال المال ليصرفه في صالح المقاتلين والمحاربين (ضد خورشيد)، ومحمد علي يداهن السيد عمر سرًّا ويتملق إليه ويأتيه في أواخر الليل وفي أوساطه، مترددًا عليه في غالب أوقاته، حتى تمَّ له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم، ولا يفعل أمرًا إلا بمشورته ومشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه، وهم قادرون على ذلك كما يفعلون الآن، فيتورط المخاطب بذلك القول ويظن صحته، وأن كل الوقائع زلابية، وكل ذلك سرًّا لم يشعر به خلافهم.
إلى أن عقد السيد عمر مجلسًا عند محمد علي وأحضر المشايخ والأعيان وذكر لهم أن هذا الأمر وهذه الحروب ما دامت على هذه الحالة لا تزداد إلا فشلًا، ولا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية، فانظروا مَن تجدوه وتختاروه لهذا الأمر؛ ليكون قائم مقام حتى يتعين من طرف الدولة مَن يتعين. فقال الجميع: الرأي ما تراه. فأشار إلى محمد علي، فأظهر هذا التمنع وقال: أنا لا أصلح لذلك، ولست من الوزراء ولا من الأمراء ولا من أكابر الدولة، فقالوا جميعًا: قد اخترناك لذلك برأي الجمع والكافة، والعبرة رضا أهل البلاد، وفي الحال أحضروا فروة وألبسوها له وباركوا له وهنأوه، وجهروا بخلع خورشيد أحمد باشا من الولاية، وإقامة المذكور في النيابة حتى يأتي المتولي أو يأتي له تقرير بالولاية، ونُودي في المدينة بعزل خورشيد باشا وإقامة محمد علي في النيابة … فلما بلغ الألفي ذلك وكان ببر الجيزة ويراسل السيد عمر مكرم والمشايخ، فانقبض خاطره ورجع إلى البحيرة، وأراد دمنهور.»
(٥-٣) أفول نجمه
وتوهَّم السيد النقيب — وقد نجح الانقلاب، وتربع محمد علي على أريكة الولاية — أن الدنيا قد أقبلت عليه بتمامها وأن السلطة قد دانت له بحذافيرها، ومدَّ محمد علي له في هذا الوهم، فاستعان به في تمكين باشويته في عهدها الأول، عن طريق تنميق العرضحالات للدولة لتذليل الصعوبات التي اعترضت تثبيته في باشويته، وتوسيطه في جمع الفرض والإتاوات من الرعية، والانتصار به على أعدائه البكوات المماليك، لا سيما محمد الألفي، وقد سبق ذكر الخدمات التي أسداها عمر مكرم لمحمد علي باشا في ذلك كله، وظهر تعاون عمر مكرم الصادق معه أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، وقد كانت هذه أزمة عصيبة كادت تطوح بباشوية محمد علي، فإلى جانب الاشتراك في تنميق العرضحالات، والتغرير بالبكوات الذين ظلوا يثقون فيه ويوسطونه — مع غيره من الأشياخ — من أجل الاتفاق مع الباشا، دأب عمر مكرم على استحثاث همة أهل دمنهور على مقاومة الألفي، وكانت هذه البلدة — كما يقول الشيخ الجبرتي — «منضافة إلى السيد عمر النقيب، فكان يرسل إليهم ويحذرهم من الألفي ويرسل إليهم ويمدهم بآلات الحرب والبارود، ويحضهم على الاستعداد للحرب، فحصنوا البلدة وبنوا سورها وجعلوا فيها أبراجًا وبدنات، وركَّبوا عليها المدافع الكثيرة، وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الذخيرة والجبخانة وما يكفيهم سنة، وحفروا حولها خنادق، وامتنعت دمنهور على الألفي، فحاربه أهلها وحاربهم ولم ينل منهم غرضًا، والسيد عمر يقويهم ويمدهم ويرسل إليهم البارود وغيره من الاحتياجات، وظهر للألفي تلاعب السيد عمر مكرم معه، وكأنه كان يقويه على نفسه، فقبض على السفير الذي كان بينهما، وحبسه وضربه، وأراد قتله، ثم أطلقه.» وفي أكتوبر ١٨٠٦ كانت قد انتهت أزمة النقل إلى سالونيك. وفي يناير ١٨٠٧ تُوفي الألفي، فزال أكبر خطرين تهددا في هذا العهد المتقدم باشوية محمد علي.
ولكن بدلًا من أن يصبح عمر مكرم صاحب الحول والطول في حكومة الباشا، وبدلًا من أن يستشيره هذا — على نحو ما تعهد به له — وجد عمر مكرم، وقد تكشفت له الحقيقة، أنه لا يعدو كونه أداة طيعة في يد محمد علي، يستخدمه هذا في تنفيذ مآربه فحسب، وبخاصة في جمع الإتاوات والسلف من الأهلين الذين تذمروا من استمرار وقوع المظالم عليهم، على خلاف ما كانوا يتوقعونه هم وزعماؤهم وأعيانهم وقت المناداة بولاية محمد علي، وبدأت ثقة الأهلين تتزعزع في زعمائهم، وفي السيد عمر مكرم على وجه الخصوص من ذلك الحين؛ لأن الأشياخ المتصدرين ما عادوا يأخذون على عاتقهم التوسط لرفع هذه المظالم عنهم، وانشغلوا بمنافساتهم وحزازاتهم وتكالبهم على الدنيا والاستكثار من الحصص والالتزام؛ ولأن عمر مكرم — وهو أكثر المتصدرين وجاهة في الدولة الجديدة وأرفعهم شأنًا — كان الواسطة، لا في رفع المظالم عنهم، ولكن في ترويضهم على الرضوخ لها، وتلبية مطالب الحكومة.
وضجر عمر مكرم من هذا الدور الذي فرضه عليه تعاونه مع محمد علي، والذي بدأ ينفضُّ الناس بسببه من حوله، ولم يكن في وسعه — وقد تورط كل هذا التورط في تعاونه مع الباشا، وقلب ظهر المِجَن للبكوات، أصدقاء الأمس وأخصام اليوم، فكان من المشتركين في تفويت فرصة استرجاع الحكم عليهم — أن ينتشل نفسه من الوهدة التي رماه فيها تشبثه بالوجاهة والصدارة وتطلعه إلى المشاركة في الحكم والرياسة، وكأنما فطن محمد علي لما يجول في خاطر عمر مكرم، فاقترح عليه ذات مرة — وقد تظاهر بأنه يريد الخروج لقتال الألفي في أبريل ١٨٠٦ — أن ينوب عنه، وأن يكون قائمًا مقامه في الأحكام مدة غيابه، ولكن السيد النقيب كان فطنًا حذرًا فلم يقبل ذلك وامتنع ونفعه حذره؛ لأن الباشا فترت همته وقتئذٍ عن الخروج لمحاربة الألفي، وتبين أنها إيهامات لا أصل لها، وأما ضجر السيد النقيب من الدور الذي صار يقوم به، ثم عجزه في الوقت نفسه عن التخلي عنه، فقد أوضحهما الشيخ الجبرتي عند تسجيله حوادث يوم ٢١ ديسمبر ١٨٠٦، فقال: إن الباشا «التمس من السيد عمر توزيع أربعمائة كيس برأيه ومعرفته، فضاق صدره، ولكنه شرع في توزيعها على التجار ومساتير الناس؛ حيث لم يمكنه التخلف ولا التباعد عن ذلك.»
ولقد صار يتنازع عمر مكرم عاملان: مبعث أحدهما الاستمرار في تلبية مطالب وأوامر صديقه محمد علي، الذي كان يحرص من جانبه على الحفاوة بالسيد النقيب وتبجيله واحترامه، وإن كان لم يضع موضع التنفيذ تلك الشروط التي اشترطها على نفسه في تعاهده معه وقت انقلاب مايو ١٨٠٥، بأن يعمل بنصح السيد النقيب وإرشاداته — إلى جانب نصح وإرشادات الأشياخ والعلماء، وما كان هذا الشطر الأخير مما يهتم عمر مكرم بتنفيذه أو يأبه له — وخُيل إلى السيد أن من المحتمل أن ينفذ محمد علي ما تعهد به، فلا تعدو المشورة، تفويض تدبير المال الذي يطلبه الباشا إليه برأيه ومعرفته، فيترتب على تحميله مسئولية توزيعه وتحصيله، نفور الناس منه وانفضاض الأهلين من حوله، وتقويض عروش صدارته بنفس اليد المتسببة في الظاهر بإرساء قواعدها، وأما مبعث العامل الآخر، فهو الرغبة في تحطيم السلاسل التي شدته إلى نظام حكومي كان هو نفسه من العاملين على إنشائه، على أساس أن يكون له الرأي والمشورة فيما يجري من أحكام، ولكنه وقد فاتته أعظم فرصة إبان أزمة النقل إلى سالونيك لمحاولة الخلاص من حكومة الباشا، وظهر كأنما قد استقرت هذه الحكومة نهائيًّا على دعائم ثابتة، فلم يعد هناك مناص من الاستمرار في الدور الذي رضيه لنفسه في مبدأ الأمر، والذي صار يرجو الآن أن يطرأ ما قد يحمل الباشا على تنفيذ وعده.
ووجَّهت هذه الاعتبارات مسلك عمر مكرم في الحوادث التالية، بصورة أفضت في النهاية إلى اصطدامه مع الباشا ثم إلى نفيه، وزوال تلك البقية الباقية من مظاهر الجاه والصدارة التي دأب طوال حياته على الظفر بها، وضاعت الآن من يده نهائيًّا.
فقد أذن مجيء حملة «فريزر» إلى مصر، وتعرض باشوية محمد علي لأعظم خطر صادفته خلال سنوات التجربة والاختبار التي تلت المناداة بولايته، بأن يتوهم عمر مكرم أن في وسعه التحرر من قيود الطاعة المذلة التي فرضها عليه تعاونه مع الباشا، وأن هذا — وقد اشتدت المحنة به الآن — سوف لا يجد مناصًا من الاعتماد على الرعية وزعماء الشعب للذود عن باشويته، وتخيَّل عمر مكرم أن حادثة استنفار العامة للجهاد بعصيهم ونبابيتهم وفئوسهم وهراواتهم لدفع الأجانب الغزاة سوف يتكرر الآن، على غرار ما حدث أيام غزو الفرنسيين عندما طرق هؤلاء أبواب القاهرة، بل ومن الثابت أنه قد ومض في ذهنه، أن الإنجليز وقد استولوا على الإسكندرية، سوف يجتاحون جيوش محمد علي، كما اجتاح الفرنسيون من قبلهم جيوش المماليك، وأن أيام الباشا في الحكم قد صارت معدودة، وأنه لا يجدر بالسيد النقيب أن يبذل جهدًا لمعاونته على اجتياز هذه الأزمة؛ إذ كفاه ما فعل في الأزمات السابقة دون أن يلقى جزاء ولا شكورًا، ولم يكن في اعتباره هذا الجزاء وهذا الشكور سوى المشاركة في الحكم عن طريق إبداء الرأي والمشورة.
آية ذلك أن «دروفتي» القنصل الفرنسي الذي هرب من الإسكندرية إلى القاهرة عند مجيء الحملة الإنجليزية — وكان محمد علي وقتئذٍ بالصعيد في تجريدته المعروفة ضد البكوات المماليك — وجد السيد النقيب فاتر الهمة متقاعسًا، فلم يبدِ همة ونشاطًا إلا بعد أن شاهد نشاط القنصل الفرنسي، والتفاف الأشياخ والأهلين حوله لتحصين القاهرة، ولم يخرجه عن تردده وإحجامه نهائيًّا سوى ورود الأنباء من الصعيد بأن الباشا متحرك للعودة على جناح السرعة إلى القاهرة، ثم عودة محمد علي فعلًا إليها، وإنفاذه جيشه لملاقاة الإنجليز.
وعرض عمر مكرم والأشياخ في مقابلة لهم للباشا (١٢ أبريل ١٨٠٧) أن يخرجوا جميعًا للجهاد مع الرعية والعسكر، فكان جوابه أن «ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر»، ولقد سبق تفصيل هذا الحادث وغيره من الحوادث المتصلة بانهزام الإنجليز، واضطرارهم إلى الجلاء عن الإسكندرية، كما سبق تفصيل الأساليب التي لجأ إليها محمد علي لجمع المال الذي ظلت حاجته الملحة إليه قائمة.
وسرعان ما تبين للسيد النقيب أن دوره بعد واقعة الحملة الإنجليزية قد صار ثانويًّا، وأنه يفقد تدريجيًّا مكان الصدارة الذي كان له، فهو تارة تصله مكاتبة من السيد حسن كريت برشيد يطلب وساطته لدى الباشا حتى يمنع جنده من إيقاع المظالم بأهل رشيد، وتارة يلجأ إليه أيوب فودة كبير القليوبية المتهم بالمضالعة مع أحد قطاع الطرق، ويُسمى زغلول للمصالحة على نفسه بمبلغ من المال حتى ينجو من العقاب، ويستعيد سيرته (مايو ١٨٠٧)، وتارة يشكو إليه خدام الأضرحة وأهل القرافة ما لحق بهم من إيذاء على أيدي الجند لاتهامهم بالاتصال ببكوات الصعيد وإرسال ما يحتاجونه من بضائع وسلاح، وتارة يطلب البكوات وساطته مع غيره من الأشياخ والمتصدرين لإجراء الصلح بينهم وبين محمد علي (يونيو ويوليو ١٨٠٧)، وتارة يلجأ إليه جماعة من طوائف القبانية والحطابة وباعة السمك القديد المعروف بالفسيخ ليتوسط لهم لدى الباشا في رفع الإتاوة التي فرضها عليهم، وتنجح شفاعة السيد عمر في هذه المرة (٨ أغسطس ١٨٠٧)، وتارة يشكو إليه الأهلون إخراج الجند لهم من بيوتهم واستيلائهم عليها عنوة واقتدارًا، فيكتب عمر مكرم والمشايخ عرضًا في ذلك إلى كتخدا بك دون نتيجة (أكتوبر ١٨٠٧)، وتارة يستدعيه الباشا مع المشايخ إلى القلعة لتكليفهم الاحتفاء بشاهين بك الألفي، فيسير السيد النقيب في موكبه الذي دخل به إلى القاهرة (ديسمبر ١٨٠٧)، وتارة يحضر ديوان الباشا الذي عرض فيه إرادة الدولة للتهيؤ لحرب الوهابيين وضرورة جمع المال لإنجاز الاستعدادات اللازمة (فبراير ١٨٠٨)، وتارة يخرج مع من خرجوا لصلاة الاستسقاء في جامع عمرو (أغسطس ١٨٠٨).
ثم إن السيد النقيب إلى جانب ذلك كله، كان عليه بحكم منصبه (نقيبًا للأشراف) أن يحضر الاجتماعات الرسمية لقراءة الفرمانات الواردة من الدولة، واحتفالات وفاء النيل، وما إلى ذلك.
وانخفض شأن عمر مكرم رويدًا رويدًا، فقلَّ اتصال الباشا أو اجتماعه به في غير المناسبات الرسمية، أو التي يستدعيه فيها الباشا مع غيره من المشايخ والمتصدرين، حتى إنه ما صار يوسطه أو يعتمد عليه في إقناع الأهلين بدفع الإتاوات والمغارم التي لم ينقطع فرضها عليهم؛ لأن الباشا اعتمد الآن على جنده في تحصيل ذلك، وكان من المتعذر أن يتحد المشايخ لمقاومة إجراءات الباشا ومشاريعه، فيجد عمر مكرم من اتحادهم وتكتلهم سندًا له في معارضته لها، فالخلافات والمنافسات والأحقاد لا تزال تفرقهم، وبلغ من تخاذلهم أنهم لم يجرءوا على الاعتراض على إلغاء مسموح المشايخ، مع ما ألحقه هذا الإجراء من إيذاء لصميم مصالحهم، وكان أكثر المتصدرين من المتمتعين بهذا المسموح من زمن قديم، واستكثروا — كما عرفنا — من شراء الحصص.
ولكن السيد النقيب وإن اضطر الآن إلى التواري عن مسرح السياسة العامة، والانزواء في عزلة تكاد تكون تامة، كان لا يزال يُمني النفس بالظهور مرة أخرى، وسؤال الباشا عندئذٍ الحساب عن نكْثِه عهدَه، وعدم طلب مشورة السيد والأشياخ، وإلزامه بتنفيذ الاتفاق الذي قام على أساس تعاون عمر مكرم معه في حادث المناداة بولايته.
ثم إن عمر مكرم لم يقنع بإطلاق العنان لخياله وأمانيه وأحلامه فحسب، بل راح يتحين الفرص لمناوأة حكومة الباشا إذا وجد سبيلًا إلى ذلك، ويشجع على إشاعة الفوضى، ولا يتحرج من انتقاد تصرفات الباشا في مجالسه، ودلَّ مسلكه في حادث معين على أنه لا ينوي خيرًا لحكومة محمد علي، وأنه ينقم منه ويحقد عليه في مكنون صدره.
حادث سليمان (شيخ بنها العسل)
أما ذلك الحادث، فهو حادث الشيخ سليمان الذي ظهر في بنها العسل واعتقد الناس فيه الولاية والسلوك والجذب: بدأ بداية متواضعة ونصبوا له خيمة وتوالت عليه النذور والهدايا وارتفع شأنه، فصار يطلب من القرى مقادير من الحبوب برسم طعام الفقراء، ويعين المريدين لتحصيلها وجعل لهم كراء طريق معين، على نحو ما تفعل الحكومة ذاتها عند إرسال الجباة ومحصلي المال إلى جهة من الجهات، ثم راح الشيخ ومعاونوه يحضون الأهلين على عدم دفع الضريبة أو الفرض والإتاوات التي تطلبها الحكومة، «وصار الذين حوله ينادون في تلك النواحي بقولهم: لا ظلم اليوم ولا تعطوا الظَّلَمة شيئًا من المظالم التي يطلبونها منكم، ومن أتاكم فاقتلوه، فكان كل من ورد من العسكر المعينين إلى تلك النواحي يطلب الكلف أو الفرض التي يفرضونها، فزعوا عليه وطردوه، وإن عاند قتلوه، فثقل أمره على الكشاف والعسكر.
واستفحل شر الشيخ وخطره، فصار له عدة خيام وأخصاص، واجتمع لديه من المردان نحو المائة وستين أمرد، وغالبهم أولاد مشايخ البلاد، وكان إذا بلغه أن بالبلد الفلانية غلامًا وسيم الصورة، أرسل يطلبه، فيحضروه إليه في الحال ولو كان ابن عظيم البلدة، حتى صاروا يأتون إليه من غير طلب»، ويستطرد الشيخ الجبرتي الذي ننقل عنه هذه الرواية فيقول: «ولا يخفى حال الإقليم المصري في التقليد في كل شيء»، ثم يستأنف روايته فيذكر أن هذا العدد الكبير كان من جنس المردان، وذلك زيادة على ما اجتمع عند الشيخ من ذوي اللحى وهم كثيرون أيضًا، وأما المردان فقد عمل لهم عقودًا من الخرز الملون في أعناقهم، ولبعضهم أقراطًا في آذانهم.
ثم إنه حدث أن أحد فقهاء الأزهر ويُدعى الشيخ عبد الله البنهاوي، «ادعى دعوى بطين مستأجرة من أراضي بنها كان لأسلافه، وأن الملتزمين بالقرية استولوا على ذلك الطين من غير حق لهم فيه، بل بإغراء بعض مشايخ القرية، والشيخ زقزوق به رعونة، ولم يحسن سبك دعواه، وخصوصًا كونه مفلسًا وخليًّا من الدراهم التي لا بد منها الآن في الجعالات والبراطيل للوسايط وأرباب الأحكام وأتباعهم، ويظن في نفسه أنه يقضي قضيته بقال المصنف إكرامًا لعلمه ودرسه، فتخاصم مع الملتزمين ومشايخ بلده، وانعقدت بسببه مجالس، ولم يحصل منها شيء سوى التشنيع عليه من المشايخ الأزهرية والسيد عمر النقيب، ثم كتب له عرضحال ورفع أمره إلى كتخدا بك والباشا، فأمر الباشا بعقد مجلس بسببه، بحضرة السيد عمر مكرم والمشايخ، وقالوا للباشا: إنه غير محق وطردوه، فسافر إلى بلده، وسافر الباشا أيضًا إلى جهة البحيرة والإسكندرية»، وكان ذلك في أوائل أغسطس ١٨٠٧، ولا يزال النضال قائمًا ضد الإنجليز.
فوجد الشيخ زقزوق مخرجًا له من مأزقه أن يستعين بالشيخ سليمان، شيخ بنها العسل، فقصد إليه وراح يغريه على الحضور إلى مصر (القاهرة)، وأنه متى وصل اجتمع عليه المشايخ وأهل البلدة، ويكون على يده الفتح والفتوح، وصادفت هذه الدعوة قبولًا لدى الشيخ ومريديه والملتفين حوله، وكانت أطماع الشيخ سليمان قد تزايدت، حتى صار لا يكتفي بما كان له من نفوذ في بنها والجهات المجاورة لها، بل أراد الآن أن يبسط نفوذه وسلطانه على غيرها من الجهات، وشجَّعه على ذلك أن أهل القرى في ناحيته قد عملوا بنصحه وإرشاده، فامتنعوا عن دفع المال وطردوا المحصلين والجباة والعسكر الذين حضروا معهم، وحرَّضه خساف العقول المحيطون به والمجتمعون حوله على المجيء إلى مصر قائلين إنه سوف يكون له شأن؛ لأن ولايته اشتُهرت بالمدينة، ولأهلها القاهريين فيه اعتقاد عظيم، وحب جسيم، فأطاع شياطينه.
وحضر الشيخ سليمان «برجاله وغلمانه، ومعه طبول وكاسات، على طريق مشايخ أهل العصر والأوان، فدخلوا إلى المدينة على حين غفلة، وبأيديهم فراقل يفرقعون بها فرقعة متتابعة، وصياح وجلبة، ومن خلفهم الغلمان والبدايات، وشيخهم في وسطهم»، وقصدوا أول ما قصدوا إلى المشهد الحسيني ويقع في أشد أحياء القاهرة ازدحامًا وجلسوا بالمسجد يذكرون.
ثم انفصل عنهم جماعة من حملة الفراقل (أو الكرابيج) فقصدوا إلى بيت السيد عمر مكرم ودخلوه وهم يفرقعون بما في أيديهم من الفرقلات، وظلت جماعة منهم أمام البيت يفرقعون بهذه الفرقلات طول النهار، ثم ارتدوا إلى المسجد، وأقام الشيخ سليمان وأتباعه بالمسجد إلى العصر، ثم دعاهم إنسان من الأجناد يُقال له إسماعيل كاشف أبو مناخير، له في الشيخ المذكور اعتقاد، فذهبوا معه إلى داره، وباتوا عنده إلى الصباح، ولما طلع النهار ركب الشيخ بغلة ذلك الجندي وذهب بطائفته إلى ضريح الإمام الشافعي فجلس أيضًا مع أتباعه يذكرون.
وبلغ خبر الشيخ سليمان، والضجة التي أحدثها هو والحشد الذي معه كتخدا بك — ويحكم هذا القاهرة في غياب محمد علي — فخشي من وقوع اضطرابات بالمدينة، وأنفذ من فوره جماعة من الجند على رأسهم صالح آغا قوج إلى مقام الشافعي، وأراد القبض عليه، فخوَّفه الحاضرون، وقالوا له: لا ينبغي عليك التعرض له في ذلك المكان، فإذا خرج فدونك وإياه، فانتظره بقصر شويكار، فتبطأ الشيخ إلى قريب العصر، وأشاروا عليه بالخروج من الباب القبلي، وتفرَّق عنه الكثير من المجتمعين عليه، فذهب إلى مقام الليث بن سعد، ثم سار من ناحية الجبل، وذهب بداياته وغلمانه إلى دار إسماعيل كاشف التي باتوا بها.
وكان كتخدا بك عندما قرَّر القبض على الشيخ سليمان قد كتب تذكرة وأرسلها إلى السيد عمر النقيب يطلب الشيخ، بدعوى التبرك به، وأكد في الطلب، وقصده أن يفتك به، لقهرهم منه، وعلم السيد عمر ما يُراد به، فبدلًا من التعاون مع كتخدا بك في القبض على الشيخ، أو عدم التدخل في المسألة، بادر بإيفاد رسول من عنده يُدعى الحاج سعودي الحناوي برسالة إلى الشيخ سليمان يقول له: إن كنت من أهل الكرامة، فأظهر سرك وكرامتك، وإلا فاذهب وتغيب، ولحق الحناوي بالشيخ بعد خروجه وأتباعه في طريق الصحراء، واقتفى أثره، وبلَّغه رسالة السيد عمر، ورجع إلى السيد عمر، فوجد كتخدا بك ورجب آغا حضرا إلى السيد عمر يسألانه عنه، ولم يكتفوا بالطلب الأول، فأخبرهما أنه ذهب ولم تلحقه الرسائل، فاغتاظوا، وقالوا نرسل إلى كاشف القليوبية بالقبض عليه أينما كانوا، وانصرفوا ذاهبين.
وقصدت العساكر بيت إسماعيل كاشف أبو مناخير، فقبضوا على الغلمان وأخذوهم إلى دورهم، ولم ينجُ منهم إلا من كان بعيدًا وهرب وتغيب، وتفرَّق أتباعه ذوات اللحى، وكانت خاتمة الشيخ سليمان سريعة، فقد وشى به نفس الشيخ زقزوق البنهاوي الذي حرَّضه أصلًا على الحضور إلى القاهرة، فتبرأ منه الآن ودل على مكانه، وكان الشيخ سليمان قد قصد إلى بهتيم ثم إلى نوب، فبعث كتخدا بك جندًا قبضوا عليه وأحضروه، ثم ذهبوا إلى بولاق وأنزلوه في مركب وانحدروا به ثم غابوا حصة وانقلبوا راجعين، ثم بعد ذلك تبين أنهم قتلوه وألقوه في البحر، وهكذا انقضى أمره في أواخر أغسطس ١٨٠٧.
ووقف الباشا من رجال حكومته على تفاصيل الدور الذي قام به عمر مكرم في هذه المسألة، ومحاولته إنقاذ الشيخ سليمان، بمراوغة الحكومة في أمره، والسيد النقيب هو الذي كان من أكبر عوامل إثارة هذا الحادث الذي لو أُتيحت الفرصة للشيخ سليمان لتنفيذ غرضه لانقلب إلى فتنة تشيع الاضطراب والفوضى في القاهرة في وقت لا يزال الباشا مشغولًا بمناجزة الإنجليز، فلجاجة عمر مكرم في معاداة الشيخ زقزوق البنهاوي والتشنيع عليه مع سائر الأشياخ، بالرغم من استناد دعواه على حق، هي التي جعلت هذا الأخير يغري الشيخ سليمان على الحضور إلى القاهرة، ومع أن الكشاف والجند والجباة المكلفين بتحصيل المال قد كثرت شكاواهم من امتناع الفلاحين وأهل القرى في إقليم بنها عن دفع الضرائب، فقد تقاعس السيد عمر مكرم عن معاونة المسئولين في القبض عليه، وأرسل إليه ينبِّهه إلى الخطر المحدق به ويحذِّره منه.
وأيًّا كان الأمر، فقد ظل عمر مكرم، كنقيب للأشراف، صاحب وجاهة وصدارة، ولم يشأ الباشا — وإن ظلت تتزايد الجفوة بينه وبين السيد النقيب بمرور الأيام — أن يقطع صلته به نهائيًّا أو أن ينبذه، وتحاشى الاصطدام به؛ لأنه لم يجهر بمعارضته له، ولأن الباشا — وكان منشغلًا بمسائل أكثر أهمية — لم يجد ما يدعوه لإثارة مشاغل جديدة، فاستمر اشتراك عمر مكرم في الحياة العامة بالقدر الذي أوضحناه، وإن كانت نهاية مجده قد اقتربت.
وكانت آخر طنطنة للسيد عمر مكرم بالقاهرة، الاحتفال الذي أقامه لختان ابن بنته، فدعا الباشا والأعيان، وأرسل هؤلاء إليه الهدايا والتعابي، وفي أول مايو ١٨٠٩ «عمل له زفة مشى فيها أرباب الحرف والعربات والملاعيب وجمعيات وعصب صعايدة، وخلافهم من أهالي بولاق والكفور والحسينية وغيرها من جميع الأصناف وطبول وزمور وجموع كثيرة، فكان يومًا مشهودًا، اكتُريت فيه الأماكن للفرجة، وكان هذا الفرح — كما يقول الشيخ الجبرتي — آخر طنطنة السيد عمر بمصر، فإنه حصل له عقيب ذلك ما سيُتلى عليك قريبًا من النفي والخروج من مصر»؛ أي القاهرة.
(٥-٤) التصادم بين عمر مكرم ومحمد علي
وكان مبعث الاصطدام المباشر بين الباشا وعمر مكرم، مضي محمد علي في أساليبه المالية؛ لاستمرار حاجته الملحة إلى المال، وازدياد تذمر الأهلين وعلى الخصوص المشايخ، الذين مسَّت مصالحهم هذه الأساليب مباشرة، ثم توهَّم عمر مكرم أن الفرصة قد واتت للجهر بمعارضته علانية لحكومة الباشا، وأنه قد صار بوسعه الآن أن يحرِّك القاهريين على الثورة ضد الباشا، وأن يلزمه بوجوب التشاور معه ومع الأشياخ، وتنفيذ ذلك العهد الذي أخذه على نفسه باتباع نصحه ومشورته، منذ أربع سنوات مضت، لم يبدُ من جانب محمد علي في أثنائها ما يدل على ارتباطه بوعده، بل قام الدليل على العكس من ذلك، على أنه إنما يعمل جادًّا للانفراد بالسلطة، وجمع أسباب الحكم في يده هو وحده.
ثم إنه كان من ضمن البواعث على هذا الاصطدام، والتي جعلت السيد النقيب يجرؤ على معارضة الباشا معارضة سافرة، أنه لم يُدخِل في حسابه عدة اعتبارات هامة، لا شك في أنه لو أولاها عنايته، لتغلبت الحكمة على سوء التقدير، ولأمكن زوال أسباب النفور بينه وبين الباشا، ولكان من المحتمل أن يفضي ذلك إلى استعادة السيد النقيب لمكانته القديمة عند الباشا، ويقبل هذا مشاورته، خاصة وأن محمدًا عليًّا بالرغم من الجفوة بينهما كان يحمل في نفسه تقديرًا ظاهرًا لعمر مكرم، ولا ينسى أنه آزره في بلوغ الولاية وتساند معه في اجتياز الأزمات التي مر بها، ولكن كان من سوء حظ عمر مكرم أنه لم يفطن إلى أن الأوضاع قد تغيرت تغيرًا كليًّا الآن عما كانت عليه وقت أن كان بوسعه استثارة العامة وتحريكهم على السلطات القائمة؛ لأن الشعب الذي شهد انقسامات المشايخ وتخاذلهم، وانصرافهم عن الذود عن مصالحه، واهتمامهم بمصالحهم هم وحدهم فحسب، على نحو ما حدث في واقعة عصيان الجند في أكتوبر ١٨٠٧، ولجوء المشايخ والمتصدرين إلى تحميل صغار التجار وسواد الأهلين العبء الأكبر من إتاوة المال المطلوب لدفع مرتبات الجند إخمادًا للفتنة، ثم ثبت لديه بتوالي الأدلة والبراهين أن مصر صار لها سيد واحد هو محمد علي، من العبث مقاومته، لم يعد هذا الشعب يثق في زعامة المشايخ أو في زعامة السيد عمر مكرم على وجه الخصوص، أضف إلى هذا كله أن السيد النقيب لم يُدخِل في حسابه أن أخصامه وحاسديه والناقمين عليه من الأشياخ المتصدرين، وإن نافقوه وداهنوه، فهم سوف يكونون أول المنقلبين عليه إذا أظهر الباشا تغيره عليه، وصار غاضبًا منه، وأن هذه الأحقاد الدفينة، بحيلولتها دون تكتل المشايخ والزعماء، سوف تحول كذلك دون تكتل الأهلين، وتزيد نفرة هؤلاء من المشايخ عمومًا، وانصرافهم عن السيد عمر مكرم خصوصًا إذا حاول الثورة على محمد علي.
هذه الحقائق لا تلبث أن تتضح بتتبع الوقائع التي أفضت إلى نفي عمر مكرم.
فقد كان مثار الاصطدام بين الباشا وبين المشايخ عمومًا مسألتين: مشاركة الباشا للملتزمين في فائظهم، وامتدت هذه المشاركة فشملت مقاسمة ملتزمي السلع من الباعة، فثارت خواطر الأهلين من أصحاب التزام الأرض (وفي مقدمة هؤلاء المشايخ) وملتزمي هذه السلع، وكان لتذمرهم جلبة وضجيج. وأما المسألة الثانية فكانت فرض الضريبة على الأرض والعقارات الموقوفة على الجوامع والسبل وما إلى ذلك، وكانت المسألة الثانية تفوق في أهميتها وخطورتها المسألة الأولى؛ حيث كان الغرض من هذا الإجراء التمهيد لاستيلاء الحكومة على هذه الأوقاف، وقد اتخذ الإجراءان معًا وفي وقت واحد، فشرعت حكومة الباشا في ٢٨ يونيو ١٨٠٩ «في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين (لتحصيله منهم) ودفتر آخر بفرض مال؛ أي ضريبة، على الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والأسبلة والخيرات وجهات البر والصدقات، وكذلك أطيان الأوسية المختصة أيضًا بالملتزمين»، وكانت هذه أيضًا معفاة من الضريبة، ويُخصص ريعها للإنفاق منه على المسافرين والجند وموظفي الحكومة الذين ينزلون ضيوفًا على أهل الناحية، كما يخصص بعض هذا الريع لمواجهة النفقات المحلية.
واستتبع تقرير الضريبة على أراضي الوقف فحص حجج الأوقاف، وكانت هذه موضع احترام من زمن قديم، لم تتعرض لها الحكومات المتعاقبة على مصر، حتى أثناء الاحتلال الفرنسي بشيء، طالما كانت تحمل اسم والي مصر وممهورة بختمه الكبير وعليها علامة الدفتردار، ولكن الباشا أمر بفحص هذه الحجج وتجديدها؛ أي استبدال غيرها بها، إذا ثبت أنها صحيحة، وأما إذا عجز المتولون على هذه الأوقاف على إبراز الحجج لتجديدها في ظرف أربعين يومًا، استولت حكومة الباشا على الأراضي وعهدت بإدارتها لغيرهم، وبررت الحكومة هذا الإجراء بقولها: «إذا مات السلطان أو عُزل بطلت تواقيعه ومراسيمه وكذلك نوابه، ويحتاج إلى تجديد تواقيع من نواب المتولي الجديد»، ولم يكن من الميسور إبراز كثير من الحجج لبلاها بسبب تقادم العهد عليها، أضف إلى هذا أن كثيرًا من هذه الحجج كذلك صار لا ينطبق على ما جاء فيها عن تجديد معالم الأرض الموقوفة أصلًا على أعيان الوقف الراهنة لمضي الزمن الطويل على إنشاء الوقف ولتغير المعالم أو للنزاع في الاستحقاق، فكان معنى ذلك أن تصبح معظم هذه الحجج عند الفحص غير مقبولة لسبب أو لآخر لدى عمال الحكومة، ويحرم المتولون عليها والمستحقون في خيراتها من أرزاقهم.
فكُتبت بالإجراء الذي اتخذه الباشا «مراسيم إلى القرى والبلاد، وعينت الحكومة بها معينين، وحق طرق من طرف كشاف الأقاليم بالكشف على الرزق المرصدة على المساجد والخيرات، وتقدموا إلى كل متصرف في شيء من هذه الأطيان، وواضع عليها يده بأن يأتي بسنده إلى الديوان، ويجدد سنده، ويقوى بمرسوم جديد، وإن تأخر عن الحضور (في المهلة المعطاة له وهي أربعون يومًا كما ذكرنا) يُرفع عنه ذلك، ويُمكَّن منه غيره، ثم إنهم حرروا دفترًا لإقليم البحيرة بمساحة الطين الري والشراقي، وأضافوا إليه طين الأوسية والرزق، وكتبوا بذلك مناشير، وأخرج المباشرون كشوفاتها بأسماء الملتزمين، وفي الوقت نفسه شرعوا في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين بأنواع الأقمشة وباعة النعالات التي هي الصرم والبُلَغ، وجعلوا عليها ختمية، فلا يُباع منها شيء حتى يُعلَّم بيد الملتزم ويُختم، وعلى وضع الختم والعلامة قدر مقدر بحسب تلك البضاعة وثمنها.»
ولما كانت هذه الإجراءات قد هددت أرزاق ليس فقط أولئك الذين يعيشون من هذه الأوقاف، بل وأصحاب الأواسي، وعامة الناس من الباعة والمتسببين، فقد ضج الناس وتزايد لغطهم، وازدحمت أحياء القاهرة بالمتذمرين والمتظاهرين الصاخبين، ومن بينهم السيدات وأطفالهن الذين صاروا مهددين بالحرمان من استحقاقاتهم في الأوقاف أو خيراتها، وقصد المتظاهرون إلى الجامع الأزهر، وتشكوا، ووعد المشايخ بالتكلم في شأن ذلك بعد التثبت.
وحدث أثناء هذه الفورة أن قبض الشرطة على شخص من أهل العلم من أقارب السيد حسن البقلي وحبسوه، وعبثًا حاول المشايخ التوسط لإطلاق سراحه، بل أصعدوه إلى القلعة، فزادت الحال سوءًا بسبب هذه الواقعة.
وفي ٣٠ يونيو ١٨٠٩، احتشد الجامع الأزهر بجموع المتظاهرين، «فحضر الكثير من النساء والعامة وأهل المسجون، وهم يصرخون ويستغيثون، وأبطلوا الدروس، فاجتمع المشايخ بالقبلة، وأرسلوا إلى السيد عمر النقيب فحضر إليهم وجلس معهم، ثم قاموا وذهبوا إلى بيوتهم.»
وهكذا وجد عمر مكرم الفرصة التي كان ينشدها لمعارضة الباشا ومقاومته، فيقول المعاصرون: «إن السيد النقيب كان يعيش من مدة طويلة في عزلة عميقة؛ لأنه منذ أن تأيد سلطان محمد علي، عمل هذا على إبعاده بصورة متزايدة عن الاشتراك في أي عمل من الأعمال العامة، بيد أن هذه العزلة لم تغيِّر شيئًا من مبادئ هذا الشيخ، فكان يرى وهو بداخل صومعته اضطراد زيادة السلطة المطلقة التي استأثر بها الرجل الذي كان هو أول مَن ألبسه الفرو لتقليده حكومة مصر، فواتته الفرصة الآن لينزل إلى معترك السياسة متصديًا الآن للدفاع عن صالح الدين، وحقوق الشعب، وقبض عليها بكلتا يديه.»
وعلى ذلك فقد اجتمع بالمشايخ في اليوم التالي (أول يوليو)، وكان اجتماعًا تحمَّس فيه الأشياخ، فتعاهدوا وتقاسموا على الاتحاد وترك المنافرة، وذلك من أجل الدفاع عن امتيازاتهم وحقوقهم، وعظم حماس بعض الحاضرين فأعلنوا أنه إذا أصر الباشا على المضي في طريقه الذي يسلكه، وجب عليهم أن يكتبوا في شأنه إلى الباب العالي، وأن يثيروا الشعب على هذا الطاغية الجديد، وأن يخلعوه من العرش الذي أجلسوه عليه، ثم إنهم كتبوا عرضحالًا إلى الباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم والبدع، وختم الأمتعة وطلب مال الأوسية والرزق والمقاسمة في الفائظ، وكذلك أخذ قريب البقلي وحبسه بلا ذنب، وطالبوا برفع هذه المظالم.
ونمى إلى الباشا اجتماعهم فأوفد إليهم ديوان أفندي (سكرتيره) يستفسر عن سبب اجتماعهم، ويسأل عن مطلوبهم، فعرَّفوه بما سطَّروه إجمالًا، وبيَّنوه له تفصيلًا، وحاول ديوان أفندي إنهاء هذه الأزمة والوصول إلى حل سلمي بين الأشياخ والباشا، فقال: «ينبغي ذهابكم إليه، وتخاطبوه مشافهة بما تريدون، وهو لا يخالف أمركم ولا يرد شفاعتكم، وإنما القصد أن تلاطفوه في الخطاب؛ لأنه شاب مغرور جاهل وظالم غشوم، ولا تقبل نفسه التحكم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم إنفاذ الغرض»، وكان واضحًا أن ديوان أفندي إنما يتكلم على لسان محمد علي الذي يعد بقبول وساطة المشايخ، والتشاور معهم، ولكن هؤلاء أصروا على موقفهم، فقالوا بلسان واحد: «لا نذهب إليه أبدًا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه كما كنا في السابق، فإننا بايعناه على العدل، لا على الظلم والجور، فقال لهم ديوان أفندي: وأنا قصدي أن تخاطبوه مشافهة ويحصل الغرض، فقالوا: لا نجتمع عليه أبدًا، ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا، ونقتصر على حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا.» وأخذ ديوان أفندي العرضحال ووعدهم برد الجواب.
وأخطأ عمر مكرم والمشايخ التقدير؛ لأن الزمن — كما أشرنا — قد تغير؛ ولأن الشعب وإن ظل يُظهِر احترامه للسيد النقيب وللأشياخ، فقد انقضى العهد الذي كان فيه لهؤلاء من النفوذ على العامة ما يمكِّنهم أو يمكِّن عمر مكرم من تحريكهم للثورة ضد الباشا؛ ولأن مقاسمة الباشا للملتزمين في فائظهم واسيتلاءه على إيرادات الأوقاف قد حرم فئة قليلة بالنسبة لسائر الشعب، وكان الأشياخ هم أكثر الناس امتلاكًا لحصص الالتزام، وأكثر المنتظرين على الأوقاف منهم، حقيقة ضج القاهريون من توالي المظالم عليهم، ولكنهم — كما يذكر المعاصرون — لم يكونوا في قرارة أنفسهم إلا مرتاحين لهذا الإجراء الذي أزال الفوارق التي مكَّنت لفئة معينة من العيش في بحبوحة ورخاء، بينما عاشت الأكثرية في تقتير وحرمان وبؤس وشقاء، فهم والحالة هذه لن يتحركوا من أجل الدفاع عن مصالح هي في صميمها مصالح طائفة المشايخ الذين ما كانوا يعنون إلا برعايتها ورعاية شأنهم فحسب، فلم يكن احتشاد الأزهر بالنساء والأطفال والعامة معناه بحال من الأحوال أن القاهريين مستعدون للثورة على حكومة محمد علي.
ولقد فاتت هذه الحقيقة السيد عمر مكرم، ولكنها لم تفُت محمد علي الذي كان له من العيون والأرصاد، والذي كان من دأبه — على حد تعبير الجبرتي — التجسس على الناس، ما يكفل له معرفة الموقف على حقيقته سواء من ناحية الشعب الذي لن يتحرك لمؤازرة عمر مكرم، أو من ناحية المشايخ أنفسهم الذين يستحيل عليهم الاتحاد والتكتل بسبب أحقادهم ومنافساتهم، فعوَّل الباشا على إشاعة الخوف في نفوس المستضعفين من المشايخ من جهة، والتلويح بالمنافع أمام ناظري المتعطلين إلى الصدارة منهم أو الطامعين في منصب السيد عمر أو في الإيرادات التي تدرُّها عليه الأوقاف المنتظر عليها من جهة أخرى، ونجحت خطة الباشا في يسر وسهولة.
على أن هناك حقيقة لا معدَى عن ذكرها، هي أن محمد علي مع تيقنه من الانتصار على هذه المعارضة المتخاذلة، ما كان يريد تجريد السيد عمر مما له، أو يبغي قطيعته أو يطلب نفيه، لما يحمله له من احترام كبير، بسبب كبر سنه؛ ولأنه كان ساعده الأيمن في الوصول إلى الولاية، بل ظل يحدوه الأمل حتى النهاية في إمكان استمالة السيد النقيب إليه، واستعادة علاقات الصفاء والمودة معه، ولم يكن بحال مبعث هذه الرغبة أن الباشا — كما يذكر الشيخ الجبرتي — «يخشى صولته، ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره، إن شاء جمعهم وإن شاء فرَّقهم، وهو الذي قام ينصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملَّكه الإقليم، ويرى أنه إن شاء فعل بنقيض ذلك»، فقد فاتت الشيخ الجبرتي، كما فاتت عمر مكرم نفسه الحقائق التي ذكرناها سابقًا، ولعل مرد ذلك إلى أن الشيخ لكراهته لحكومة محمد علي، ولتمنيه زوال ملكه، كان يعقد آمالًا كبارًا على هذه الحركة المناوئة، فلم يَسَعه عند فشلها بسبب تخاذل المشايخ وانفضاضهم من حول عمر مكرم، بل وسعيهم للدسيسة في حقه، إلا أن يعزو هذا الفشل إلى تدابير محمد علي الذي أخذ على عاتقه إشاعة الفرقة بين الأشياخ وصرفهم عن مؤازرة عمر مكرم خوفًا منه.
بدأ الباشا إذًا بأن أغفل أمر العرضحال الذي كتبه إليه المشايخ، وتظاهر بعدم الاهتمام به، فلم تمضِ خمسة أيام فحسب، حتى كان هذا البرود البادي من ناحيته قد أشاع القلق في نفوس عدد من المشايخ، ثم تبع هذا القلق الخوف من ضياع مصالحهم، فبادر في اليوم الخامس (٤ يوليو ١٨٠٩) الشيخان: محمد المهدي ومحمد الدواخلي بالاجتماع عند محمد أفندي الودنلي (ويُعرف بطبل؛ أي الأعرج)، ناظر المهمات ومن رجال الباشا، وثلاثتهم في نفسهم للسيد عمر ما فيها، فتناجوا مع بعضهم، ثم انتقلوا في عصريتها وتفرقوا، وقصد المهدي والدواخلي إلى عمر مكرم يذكران له أن محمد أفندي طبل هذا يقول إن الباشا لم يطلب مال الأوسية ولا الرزق، وقد كذب من نقل ذلك ويؤكد أنه؛ أي الباشا، يقول: «إني لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم عليه ومواجهته يحصل المراد.»
ولقد كان نقل هذه الأقوال منسوبة إلى الباشا — على لسان محمد أفندي طبل — معناه أن الباشا يبغي التفاهم مع المشايخ وعمر مكرم، على أساس تنفيذ مبدأ المشورة الذي يطالبون به، ومحاولة ترضيتهم في مسألة مال الأوقاف مثار النزاع بينه وبينهم، وسواء كان اجتماع الثلاثة الحاقدين على عمر مكرم — محمد أفندي طبل والمهدي والدواخلي — للتآمر عليه والتمهيد لتدبير هلاكه، ويشترك معهم الباشا في هذه المؤامرة حتى يشيع التخاذل في صفوف المشايخ، أم كانت رغبة الباشا حقيقة تسوية هذا النزاع واسترضاء عمر مكرم والمشايخ؛ فقد كان من الواضح أن السيد النقيب في وسعه إنهاء أسباب الجفوة بينه وبين الباشا، ومن المحتمل كذلك الوصول إلى حل مناسب للمسألة، لو أنه استجاب لرغبة محمد علي، وتوجَّه مع المشايخ لمقابلته ومشافهته، ولكن قد صحَّ عزمه على مناصبة الباشا العداء السافر، فاعتقد إذا هو أجاب طلبه، ونزل عن موقف معارضته هذه العلنية، أضاع فرصة المقاومة المجدية، ومهَّد للباشا السبيل لتفكيك ذلك الاتحاد والتكتل الذي أقسم المشايخ عليه وتعهدوا به.
وارتكب عمر مكرم خطأ كبيرًا مبعثه — ولا شك — توهمه أن الخلافات والحزازات الماضية قد تُنوسيت فعلًا ما دام المشايخ قد أقسموا على نسيانها وعلى التآزر والاتحاد فيما بينهم ضد محمد علي، فكشف عن موقفه لأكبر أعدائه وخصومه، المهدي والدواخلي، وهما وإن كانا يمتنعان عن نقل ما يقوله عمر مكرم بأنفسهما إلى الباشا — وامتناعهما مشكوك فيه — فهما سوف يذيعان أقوال عمر مكرم حتى تبلغ أسماع الباشا، ذلك أن عمر مكرم لم يلبث أن أجاب على كلام محمد أفندي طبل: «أما إنكاره؛ أي محمد علي، طلب مال الرزق والأوسية فها هي أوراق من أوراق المباشرين عندي لبعض الملتزمين مشتملة على الفرضة ونصف الفائظ ومال الأوسية والرزق، وأما الذهاب إليه، فلا أذهب إليه أبدًا، وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا، فالرأي لكم.»
بلغ هذا الحديث — دون شك أو ريب — محمد علي، وتبيَّن له أن لا جدوى من تسوية النزاع وديًّا ليس فقط مع عمر مكرم متزعم حركة المعارضة، بل ومع سائر المشايخ المتذمرين، فعمد إلى إشاعة الفرقة والتخاذل بينهم حتى يمنع تكتلهم، وكان سهلًا عليه أن يفعل ذلك، فطفق — كما قال الشيخ الجبرتي — «يجمع إليه بعض أفراد من أصحاب المظاهر ويختلي معه، ويضحك إليه، فيغتر بذلك ويرى أنه صار من المقربين، وسيكون له شأن إن وافق ونصح، فيفرغ له جراب حقده، ويرشده بقدر اجتهاده لما فيه المعاونة.»
وأوفد الباشا في نفس الليلة (٤ يوليو) ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان إلى السيد عمر مكرم، وحضر الاجتماع المهدي والدواخلي، «وطال بينهم الكلام والمعالجة في طلوعهم ومقابلتهم الباشا، ورقرق لذلك كل من المهدي والدواخلي»، وكانت هذه الرقرقة أو إظهار الميل من جانب المهدي والدواخلي لتلبية طلب الباشا، قمينة بأن تجعل السيد النقيب يعدل عن رأيه لو أنه كان حكيمًا، ولكنه ظل مصممًا على الامتناع، وطلب المهدي والدواخلي الشيخ محمد الأمير لمصاحبتهما إلى القلعة، ولكن هذا اعتذر بأنه متوعك، وغادر الشيخان وديوان أفندي وعبد الله بكتاش السيد عمر مكرم، وطلعوا إلى القلعة، وقابلوا الباشا.
ورحَّب محمد علي بالشيخين، وجاء في حديثه معهما أنه يستمع دائمًا باحترام وتقدير لكل ما يريدون إسداءه إياه من نصح وإرشاد، أو يشاءون الاحتجاج عليه من تصرفاته، ولن يهمل في أي ظرف أو مناسبة أن يكون عمله مبعث ارتياح للمشايخ، وسوف يقبل وساطتهم ولا يرد شفاعتهم، ولكنه يأبى قطعًا أن يعمد المشايخ إلى عقد الاجتماعات العامة وتحريض الأهلين على الثورة، وإثارة خواطرهم، فهو لا يريد شيئًا من هذه التهيجات الشعبية، وفضلًا عن ذلك فإن هذه المظاهرات التي لا نفع منها ولا طائل تحتها لن تخيفه ولن تزعجه؛ لأنه إذا قام الشعب بالثورة كما يهدد المشايخ وهم الذين سبق أن تحدث فريق منهم عن تحريكها — أثناء الحماس الذي طغى على اجتماعهم يوم كتابة عرضحالهم — فلن يجد لدي سوى السيف والانتقام.
فلم يجد الشيخان ما يجيبان به سوى نفي هذه الأقوال التي بلغت الباشا كذبًا وبهتانًا عن المشايخ، فقالوا إن الذين أبلغوه ذلك لم يُصدِقوه، وإنهم عندما عقدوا الاجتماع المذكور — اجتماع ٢٨ يونيو — لم يكن يدور في خَلَدهم بتاتًا أن يئول الغرض منه بالتآمر على سلطة محمد علي؛ لأن مثل هذا الخاطر لم يرد في ذهنهم ولم يكن التآمر قطعًا من نواياهم، وهم لم يفعلوا — في حقيقة الأمر — سوى ما اعتادوا فعله عند شعورهم بالضيق للتدبر في وسائل تفريحه وتخفيف حدة الضنك عن الشعب المتألم، بسؤال الفرج من لدن المولى عز جلاله.
وعاود الباشا الكلام في أمر الاجتماعات، وطلب منعها، ثم سأل عن السبب الذي حدا بالمشايخ إلى عقد اجتماع أول يوليو، وطلب معرفة أسماء الذين أقسموا اليمين على الاتحاد والتعاضد، فعزا الشيخان عقد الاجتماع إلى الشعب الذي كان هياجه حافزًا عليه، ولكنهما آثرا الصمت عن المطلب الثاني، وراحا بدلًا من ذلك يكذبان بكل قوة أن اتحادًا قد حصل ضد سلطة الباشا.
ولم يكن هذا كل ما دار في هذه المقابلة، فقد ذكر الشيخ الجبرتي ما جرى فيها، وبخاصة فيما يتعلق بكشف الشيخين لمحمد علي عن موقفهما من متزعم حركة المعارضة، عمر مكرم: «قال الباشا في كلامه: أنا لا أرد شفاعتكم ولا أقطع رجاءكم، والواجب عليكم إذا رأيتم مني انحرافًا أن تنصحوني وترشدوني، ثم أخذ يلوم السيد عمر في تخلفه وتعنته (في عدم الحضور لمقابلته)، ويثني على البواقي، وراح الباشا يقول: وفي كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوِّفني بقيام الجمهور، فقال الشيخ المهدي: هو ليس إلا بنا، وإذا خلا عنا فلا يسوى بشيء، إن هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف، يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين.»
ويعلل الشيخ الجبرتي طعن الشيخ المهدي على عمر مكرم وتجريحه له، بأنه قد تبين له ولزميله — وكان هذا الأخير حاضرًا بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الشيخ عبد الله الشرقاوي — قصد الباشا؛ أي تخذيل عمر مكرم والتمهيد للإيقاع به، فوافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر، وراحا يتكلمان في حقه.
وانصرف الشيخان من هذه المقابلة وهما مذبذبان ومُظهِران خلاف ما هو كان في نفسيهما من الحقد وحظوظ النفس، غير مفكرين في العواقب وقصدا إلى السيد عمر، وهذا الأخير «ممتلئ بالغيظ مما حصل من الشذوذ ونقض العهد، فأخبروه بأن الباشا لم يحصل منه خلاف، وقال: أنا لا أردد شفاعتكم، ولكن نفسي لا تقبل التحكم، والواجب عليكم إذا رأيتموني فعلت شيئًا مخالفًا أن تنصحوني وتشفعوا، فأنا لا أردكم ولا أمتنع من قبول نصحكم، وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر، فهذا لا يناسب منكم، وكأنكم تخوفوني بهذا الاجتماع، وتهييج الشرور وقيام الرعية، كما كنتم تفعلون في زمان المماليك، فأنا لا أفزع من ذلك، وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم عندي إلا السيف والانتقام، فقلنا له: هذا لا يكون، ونحن لا نحب ثوران الفتن، وإنما اجتماعنا لأجل قراءة البخاري وندعو الله يرفع الكرب، ثم قال أريد أن تخبروني عمن انتبذ لهذا الأمر، ومن ابتدأ بالخلف، فغالطناه، وأنه وعد بإبطال الدمغة وتضعيف؛ أي تقليل الفائظ إلى الربع بعد النص، وأنكر الطلب بالأوسية والرزق من إقليم البحيرة»، ولم يُطلعا السيد عمر بطبيعة الحال على ما دار بينهما وبين الباشا بشأنه.
ومرت أيام، وانفتح بين المشايخ باب النفاق، واستمر القيل والقال، وكلٌّ حريص على حظ نفسه وزيادة شهرته وسمعته، ومُظهِر خلاف ما في ضميره، والسيد النقيب متمسك برأيه، والأشياخ الوصوليون يجِدُّون في التزلف لدى الباشا والقربى منه، والباشا يبذل ما وسعه من جهد وحيلة لإقناع عمر مكرم بالصعود إلى القلعة ومقابلته حسمًا لهذا النزاع الذي لا طائل تحته، والذي لا معدَى عن عودة مغبته على عمر مكرم نفسه.
واستمر الحال على ذلك، حتى كان يوم ١٤ يوليو ١٨٠٩، فأوفد الباشا ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان إلى السيد عمر، واجتمع المشايخ ببيته، وتكلموا في مسألة طلوعه إلى الباشا ومقابلته، ولكن السيد ركب رأسه، وراح يذكِّر المشايخ بالقسم الذي أقسموه على الاتحاد والتضافر، ولم يستطع كبح جماح غضبه، «فحلف أنه لا يطلع إليه ولا يجتمع به ولا يرى له وجهًا إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات، وقال: إن جميع الناس يتهموني معه، ويزعمون أنه لا يتجرأ على شيء يفعله إلا باتفاقي معه، ويكفي ما مضى، ومهما تقادم يتزايد في الظلم والجور، وتكلم كلامًا كثيرًا»، ضرب الشيخ الجبرتي صفحًا عن ذكره، ولكن غيره من المعاصرين يذكره، فقد هدَّد عمر مكرم بإحالة الأمر إلى الباب العالي إذا أصر الباشا على مظالمه، وتأليب الشعب وتحريكه للثورة عليه، وقال عمر مكرم: «وكما أصعدته إلى الحكم، فإني كفيل بإنزاله منه»، ورفض رفضًا باتًّا الذهاب إلى محمد علي، وقد خُيل إليه أنه بامتناعه عن مقابلة الباشا سوف يمتنع سائر الأشياخ عن مقابلته كذلك.
ولكن السيد النقيب أخطأ التقدير في هذه المرة أيضًا؛ حيث قرَّر المشايخ مقابلة الباشا واختاروا لهذه المقابلة المشايخ: عبد الله الشرقاوي ومحمدًا المهدي ومحمدًا الدواخلي وسليمان الفيومي، واعتذر الشيخ محمد الأمير عن الذهاب لمرضه، وكانوا يريدونه معهم، فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه، وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية، ذاكروه في أمر المحدثات، فأخبرهم أنه يرفع بدعة الدمغة، وكذلك يرفع الطلب عن الأطيان الأوسية، وتقرير ربع الفائظ، وقاموا على ذلك، ثم إنهم نزلوا إلى بيت السيد عمر، وأخبروه بما حصل، ولكن هذه كانت تسوية لم تُرضِ عمر مكرم، ولم تخضد من عزمه على الاستمرار في المعارضة والمقاومة، فسألهم: وأعجبكم ذلك؟ ثم قال إن الباشا أرسل إليه يخبره بتقرير ربع المال الفائظ، فلم يرضَ، وأبى إلا رفع ذلك بالكلية؛ لأنه لما طلب الباشا في العام السابق إحداث الربع قال له السيد عمر: هذه تصير سُنة متبعة، فحلف أنها لا تكون بعد هذا العام، وذلك لضرورة النفقة، وإن طلبها في المستقبل يكون ملعونًا مطرودًا من رحمة الله، وعاهد الباشا السيد عمر وقتئذٍ على ذلك، وشهد المشايخ بصحة هذه الواقعة، ثم طفق عمر مكرم يفنِّد لهم دعاوى محمد علي فقال: «وأما قوله إنه رفع الطلب عن الأوسية والرزق فلا أصل لذلك، وها هي أوراق البحيرة وجهوا لها الطلب، فقال المشايخ: إننا ذكرنا له ذلك فأنكر، وكابرناه بأوراق الطلب، فقال: إن السبب في طلب ذلك من إقليم البحيرة خاصة فإن الكشافين لما نزلوا للكشف على أراضي الري والشراقي ليقرروا عليها فرضة الأطيان حصل منهم الخيانة والتدليس، فإذا كان في أرض البلدة خمسمائة فدان ري، قالوا عليها مائة، وسموا الباقي رزقًا وأوسية، فقررت ذلك عقوبة لهم في نظير تدليسهم وخيانتهم، فقال السيد عمر: وهل ذلك أمر واجب فعله؟ أليس هو مجرد جور وظلم أحدثه في العام الماضي، وهي فرضة الأطيان التي ادعى لزومها لإتمام العلوفة (مرتبات الجند) وحلف أنه لا يعود لمثلها؟ فقد عاد وزاد، وأنتم توافقونه وتسايرونه ولا تصدونه، ولا تصدعونه بكلمة، وأنا الذي صرت وحدي مخالفًا وشاذًّا، ووجَّه عليهم اللوم في نقضهم العهد والأيمان، وانفض المجلس» دون الوصول إلى نتيجة.
وهكذا — كما يقول الشيخ الجبرتي — «تفرَّقت الآراء، وراج سوق النفاق، وتحركت حفائظ الحقد والحسد، وكثر سعي المشايخ الحاقدين على عمر مكرم وتناجيهم بالليل والنهار»، ومع ذلك لم ينقطع الباشا في أثناء هذا كله عن مراسلة السيد عمر، يطلبه للحضور إليه والاجتماع به، ويعده بإنجاز ما يشير عليه به، وظن الباشا من المحتمل أن مبعث إصرار السيد النقيب طمع في المال؛ حيث قد انتفى — في نظر الباشا — ما يدعو لتمسكه بموقفه، طالما أنه قد أوضح الأسباب التي دعته إلى تقرير الطلب على الأوسية والرزق في إقليم البحيرة، وأنقص طلب فائظ الالتزام إلى الربع ووعد برفع المظالم، والأهم من ذلك كله أن يسأل عمر مكرم النصيحة، ويريد التشاور معه، وقد فطن الباشا — ولا شك — إلى أن مقصد النقيب كان المشاركة في الحكم بطريق هذه المشاورة، فلما لم يقنع هذا، أوفد إليه كتخداه (محمد آغا اللاظ)؛ ليترفق به، وليعرض عليه ثلاثمائة كيس عطية من الباشا تُدفع إلى السيد النقيب فورًا، عدا كيس يُعطى له يوميًّا، فلم يقبل.
وكان هذا آخر سهم في جعبة محمد علي لاستمالته، فزادت الوحشة بينهما، وتيقَّن الباشا أن من العبث إغفال أمره، وعدم الاحتياط منه، فلم يزل … متعلق الخاطر بسببه ويتجسس ويتفحَّص عن أحواله، وعلى من يتردد عليه من كبار العسكر، وربما أغرى به بعض الكبار فراسلوه سرًّا، وأظهروا له كراهتهم للباشا، وأنه إن انتبذ لمفاقمته ساعدوه وقاموا بنصرته عليه، ولكن لم يخفَ على السيد عمر مكرم، ولم يزل مصممًا وممتنعًا عن الاجتماع به والامتثال إليه، ويسخط عليه، وراح المترددون على عمر مكرم ينقلون ما يبدر منه في مجالسه معهم إلى الباشا، ويحرِّفون بحسب الأغراض والأهواء.
(٥-٥) نفي عمر مكرم
وتعذَّر دوام هذه الحال، وكان لا مناص من أن يبت الباشا في أمر عمر مكرم، سواء بتقريبه منه وإرجاعه إلى مكان الصدارة الذي كان له، أم بإقصائه وتحطيم ما تبقى له من وجاهة وصدارة تحطيمًا نهائيًّا، ومبعث الأمرين واحد، الانفراد بالسلطة، القاعدة التي بنى عليها محمد علي برنامج حكمه في سياسة شئون البلاد الداخلية، والتي اندرجت تحت برنامجه الأعلى، استقرار الأمر له في باشويته، والظفر بالحكم الوراثي في مصر.
على أن الباشا ما كان يستطيع تقريب عمر مكرم منه طالما بقي هذا مصرًّا على تجنبه، مصممًا على معارضته، ولم يشأ الباشا أن يبطش به إلا بعد استنفاد كل ما لديه من وسائل لحمله على السير على جادته، واتضاح عجزه عن ذلك، فكان لا بد من محك أخير بين الرجلين ليصدر الباشا حكمه النهائي.
أما هذا المحك الأخير، فقد تجمَّعت الأسباب لتهيئته منذ وصول سلحدار يوسف ضيا باشا إلى القاهرة في ٢٨ يونيو ١٨٠٩ — أي قبل أول اجتماع للمشايخ بالأزهر بيومين اثنين فحسب — فقد حمل السلحدار — على نحو ما مرَّ بنا — مرسومًا بطلب المال المتجمع ليوسف ضيا باشا مما كان أحدثه؛ حيث كان بمصر بصفة قلم كشوفية، وقد بلغ حساب ذلك ٢٨٠٠ كيس، عدا ألف أضافها الباب العالي بصفة إمدادية تجهيزات السفر الحربي ضد الوهابية، فقد تقدم كيف أراد الباشا التنصل من دفع هذا المبلغ، فأعد رسالته التي راح يعتذر فيها عن عجزه المالي، ويبين الوجوه التي أنفق فيها أموالًا طائلة، وكان إنفاقه لها سببًا في عدم قدرته على تلبية مطالب الباب العالي.
فقد ابتدأ الباشا بأن أعدَّ عرضحالًا طلب من عمر مكرم التوقيع عليه؛ لأنه كان موجودًا وقت استحداث الترتيب الذي يطالب يوسف ضيا بموجبه الآن بهذا المبلغ، ولكن عمر مكرم أبى التوقيع، ثم لم يكتفِ بالامتناع، بل طفق يطعن على البيانات التي تضمنها العرضحال ويعلن كذبها، وقد ذكر الباشا في عرضحاله أن الأكياس المطلوبة قد صُرفت في المهمات، منها ما صُرف في سد الترعة الفرعونية، ومبلغه ثمانمائة كيس، وعلى تجاريد العساكر لمحاربة الأمراء المصرية حتى دخلوا في الطاعة، كذلك مبلغًا عظيمًا، وما صُرف في عمارة القلعة والمجراة التي تنقل المياه إليها مبلغًا أيضًا، وكذلك في حفر الخلجان والترع، ونقص المال الميري بسبب شراقي البلاد، ونحو ذلك.
فانبرى السيد عمر يفنِّد ذلك كله بابًا بابًا، قائلًا: «أما ما صرفه في سد الترعة، فإن الذي جمعه وحياه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافًا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذه من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفاتر، فلما ردوا عليه؛ أي محمد علي، وأخبروه بذلك الكلام، حنق واغتاظ في نفسه. وفرغ محمد علي من كتابة عرضحاله للدولة في ١٤ يوليو ١٨٠٩، دون انتظار لتوقيع عمر مكرم.
وطلب الباشا عمر مكرم للاجتماع به فامتنع، فلما أكثر من التراسل، قال السيد النقيب: إن كان ولا بد فأجتمع به في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون، فلما قيل للباشا في ذلك، ازداد حنقه، وقال: إنه بلغ به أن يزدريني ويرذلني ويأمرني بالنزول من محل حكمي إلى بيوت الناس.»
فكانت هذه الواقعة هي الفاصلة.
فقد حضر الباشا يوم ٩ أغسطس إلى بيت ولده إبراهيم بك الدفتردار «وطلب القاضي والمشايخ المذكورين، وأرسل إلى السيد عمر رسولًا من طرفه ورسولًا من طرف القاضي، يطلبه للحضور ليتحاقق ويتشارع معه، فرجعا وأخبرا بأنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور في هذا اليوم»، وكان الباشا قد أحضر الشيخ محمدًا السادات الطامع في نقابة الأشراف من أمد بعيد، والشيخ عبد الله الشرقاوي، «فعند ذلك أحضر الباشا خِلعة وألبسها الشيخ السادات على نقابة الأشراف، وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر ونفيه من مصر (القاهرة) يوم تاريخه، فتشفع المشايخ في إمهاله ثلاثة أيام حتى يقضي أشغاله، فأجاب إلى ذلك، ثم سألوه في أن يذهب إلى بلده أسيوط، فقال لا يذهب إلى أسيوط، ويذهب إما إلى إسكندرية أو دمياط.»
وتلقى عمر مكرم هذه الضربة متجلدًا، «أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهد فيه، وليس فيه إلا التعب، وأما النفي فهو غاية مطلوبي، وأرتاح من هذه الورطة، ولكن أريد أن يكون في بلدة لم تكن تحت حكمه إذا لم يأذن لي في الذهاب إلى أسيوط فليأذن لي في الذهاب إلى الطور أو إلى درنة، فعرفوا الباشا، فلم يرضَ إلا بذهابه إلى دمياط، ثم إن السيد عمر أمر باشجاويش أن يأخذ الجاويشية (الواقفين على بابه بوصفه نقيبًا للأشراف) ويذهب بهم إلى بيت السادات (النقيب الجديد) وأخذ في أسباب السفر.»
وفي ثاني يوم (١٠ أغسطس) اعتنى السيد محمد المحروقي بن السيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار (المتوفَّى منذ نوفمبر ١٨٠٤) بأمر السيد عمر وذهب إلى الباشا وكلَّمه وأخبره بأنه أقامه وكيلًا على أولاده وبيته وتعلقاته، فأجازه بذلك، وقال الباشا: «هو آمن من كل شيء، وأنا لم أزل أراعي خاطره ولا أفوته»، وطلب محمد المحروقي ابن السيد عمر، وقابله الباشا وطمن خاطره، ولكنه أصر على وجوب سفر عمر مكرم إلى دمياط.
وفي ١٣ أغسطس، اجتمع المودعون للسيد عمر، وحضر محمد كتخدا الألفي وكان قد تعين بالسفر صحبته إلى دمياط، فخرج عمر مكرم وشيعه الكثير من المتعممين وغيرهم وهم يتباكون حوله حزنًا على فراقه، وكذلك اغتم الناس على سفره وخروجه من مصر؛ لأنه كان ركنًا وملجأ ومقصدًا للناس ولتعصبه على نصرة الحق، فسار إلى بولاق ونزل في المركب وسافر من ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج إليهم إلى دمياط. وفي ٢١ أغسطس رجع محمد كتخدا الألفي إلى القاهرة من تشييع السيد عمر معلنًا وصوله إلى دمياط واستقراره بها.
وهكذا انتهت مسألة معارضة عمر مكرم للباشا، فلم يتحرك الشعب للثورة تأييدًا لمعارضة زعيمه؛ لأن زعامة عمر مكرم كانت قد انقضت أيامها من زمن طويل، ولم يتحرك أحد من الرعية التي هدد النقيب بتأليبها على محمد علي لإنزاله عن كرسيه للدفاع عن هذا الزعيم والتمسك ببقائه والحيلولة دون نفيه؛ لأنه وإن كان موضع الاحترام والاعتبار عند الجميع، فإن هذا الاحترام لم يكن معناه تعلق الشعب به بالدرجة التي تحفِّزه على الثورة من أجله، فكان ما ظفر به عمر مكرم من حقوق الزعامة التي توهمها أن اغتم الناس على سفره وخروجه كما ذكر الشيخ الجبرتي.
ولما كان تقرير عمر مكرم في نقابة الأشراف، بعد حادث تجريده منها وتقليدها يوسف أفندي في غضون عام ١٨٠٢ قد جاء من الدولة، فقد عُني محمد علي بكتابة عرضحال موقَّع عليه من المشايخ كذلك يذكر الأسباب التي دعته إلى خلع عمر مكرم من النقابة؛ وحتى يبطل مساعي هذا في دار السلطنة، إذا حدثته نفسه بالقيام بمسعى هناك من أجل استرجاع النقابة، كما فعل في المرة السابقة، وكان لا بد من تسويد صفحة السيد عمر بصورة تقطع كل أمل ورجاء في ذلك، ووجد الباشا ضالته في الأشياخ الذين لم يتورعوا عن أن ينسبوا إلى عمر مكرم أشياء لم تحصل منه، وكان محمد السادات أول من أظهر الكامن في نفسه، وصرَّح بالمكروه في حق السيد عمر ومن ينتمي إليه ويواليه، وتعاون مع الدواخلي والمهدي في تسطير العرضحال بالصورة التي أرادها الباشا، وعدوا له مثالب ومعايب وجنحًا وذنوبًا ونسبوا إليه أنواعًا من الموبقات التي منها أنه أدخل في دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلم من القبط واليهود وقطع أناسًا من الشرفاء المستحقين وصرف راتبهم للأقباط المدخلين، ومنها أنه أخذ من الألفي في السابق مبلغًا من المال ليملِّكه مصر (القاهرة) في أيام فتنة أحمد باشا خورشيد، ومنها أنه كاتب الأمراء المصريين (البكوات المماليك) أيضًا في وقت الفتنة حين كانوا بالقرب من مصر ليحضروا على حين غفلة في يوم قطع الخليج، وحصل لهم ما حصل، وكان يريد تمليكهم القاهرة في غفلة الباشا والناس والعساكر، فنصر الله عليهم حضرة الباشا — والمقصود هنا حادث يوم ١٦ أغسطس ١٨٠٥ — فأراد التسبب في خراب الإقليم وإثارة الفتن وموالاة البغاة المصريين؛ أي البكوات، وتطميعهم في المملكة، ومنها أنه أراد إيقاع الفتن في العساكر لينقض دولة الباشا ويولي خلافه ويجمع عليه طوائف المغاربة والصعائدة وأخلاط العوام، ومنها أنه هو الذي أغرى المصريين (البكوات) على قتل علي باشا برغل الطرابلسي حين قدم واليًا على مصر، وهو الذي كاتب الإنكليز وطمَّعهم في البلاد مع الألفي حين حضروا إلى الإسكندرية وملكوها ونصر الله عليهم العساكر الإسلامية، وغير ذلك.
نمَّق المشايخ — الذين سماهم الشيخ الجبرتي «مشايخ الوقت» — هذا العرضحال في ١٢ سبتمبر ١٨٠٩ ليرسله الباشا إلى الدولة، ومن الواضح أن هذه الاتهامات التي كيلت كيلًا لعمر مكرم كلها كاذبة، وصف الشيخ الجبرتي ما جاء بهذا العرضحال بأنه زور وبهتان، وأن ما سُطر به كان من عبارات عكس القضية، وتنميق الأغراض النفسانية، ولو أن الشيخ لم يشعر بعطف على عمر مكرم في محنته هذه، لتعاونه مع الظالم، وتمكين سلطانه — في رأيه — فعلَّق على نفي عمر مكرم وتجريده من نقابة الأشراف ثم تسطير هذا العرضحال في حقه، أنه على حد من أعان ظالمًا سُلط عليه، وأن الذي وقع له بعض ما يستحقه، ومن أعان ظالمًا سُلط عليه، ولا يظلم ربك أحدًا.
وكان الممتنع عن توقيع هذا العرضحال أولًا وآخرًا الشيخ أحمد الطحطاوي فلم ينجُ من شر المشايخ، الذين زادوا في التحامل عليه وخصوصًا الشيخ محمد (ابن وفا) السادات، والشيخ محمد الأمير، ولحقت بالشيخ أحمد الطحطاوي إهانات كثيرة، وانتهى الأمر بعزله من إفتاء الحنفية في ١٤ سبتمبر ١٨٠٩، وتعين الشيخ حسن المنصوري بدلًا منه، وراحوا يبالغون في ذمه والحط عليه؛ لكونه لم يوافقهم في شهادة الزور، ثم تعين في مشيخة الحنفية بعد وفاة المنصوري في يناير ١٨١٥ ثم تُوفي في يونيو من العام التالي.
وأما عمر مكرم فقد طالت إقامته بدمياط وهو ينتظر الفرج وقد أبطأ عليه، وهو ينتقل من المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر على شاطئ البحر، وتشاغل بعمارة خان أنشأه هناك، والحرس ملازمون له، فلم يزل حتى ورد عليه صديق أفندي قاضي العسكر، فكلَّمه بأن يتشفع له عند الباشا في انتقاله إلى طندتاء (طنطا) ففعل، وأجاب الباشا إلى ذلك. وحوالي منتصف أبريل ١٨١٢، انتقل عمر مكرم إلى طنطا، فظل مقيمًا بها حتى شهر ديسمبر من عام ١٨١٨، فأذن له الباشا بالعودة إلى القاهرة.
وكان عمر مكرم عندما حصلت النصرة والمسرة للباشا بانتصاره في حرب الوهابية، قد أوفد حفيده السيد صالح بكتاب تهنئة لمحمد علي، وكان هذا وقتئذٍ بالإسكندرية، «فتلقاه بالبشاشة وطفق يسأله عن جده، فيقول له بخير ويدعو لكم، فقال له: هل في نفسه شيء أو حاجة نقضيها له؟ فقال: لا يطلب غير طول البقاء لحضرتكم، ثم انصرف إلى المكان الذي نزل به، فأرسل الباشا إليه في ثاني يوم عثمان السلانكلي — وقد صار قابجي باشا بعد قليل — ليسأله ويستفسره عما عسى أن يستحي من مشافهة الباشا بذكره، فلم يزل يلاطفه حتى قال: لم يكن في نفسه إلا الحج إلى بيت الله إن أذن له أفندينا بذلك، فلما عاد بالجواب، أنعم بذلك وأذن له بالذهاب إلى مصر وأن يقيم بداره إلى أوان الحج إن شاء برًّا وإن شاء بحرًا، وقال: أنا لم أتركه في الغربة هذه المدة إلا خوفًا من الفتنة، والآن لم يبقَ شيء من ذلك، فإنه أبي، وبيني وبينه ما لا أنساه من المحبة والمعروف، وكتب له جوابًا بالإجابة.»
وقد أثبت الشيخ الجبرتي صورة هذا الجواب، وهو يدل على ما يكنه محمد علي له من احترام وود، وينهض دليلًا بعد كل هذه السنوات الطوال على أن الباشا عندما ألَّح في مقابلة عمر مكرم وطلوع هذا إليه في القلعة لإنهاء الأزمة التي أفضت إلى نفيه، كان صادق النية وقتئذٍ في إزالة أسباب الجفوة بينهما، واسترضاء عمر مكرم، لا عن خوف من تأليب هذا للرعية عليه وإنزاله من الحكم الذي قال إنه أصعده إليه، ولكن عن عطف وإشفاق من أن تنقطع صلاته بالرجل الذي عاضده في كل أزماته السابقة منذ توليه الباشوية، ولم يفسد مسعى الباشا سوى عناد عمر مكرم واغتراره بالتفاف طائفة من المتعممين حوله، ودخول الغفلة عليه من جراء نفاق الأشياخ معه ومداهنتهم له، ثم كبريائه الذي جعله يشتط في إصراره على إذلال محمد علي، وعلى التمسك بمعارضته له حتى بعد أن تبين له انفضاض الأشياخ من حوله بالرغم من اليمين التي حلفوها على الاتحاد والتعاضد ضد سلطان الباشا.
وكتاب محمد علي إلى السيد عمر كتاب مشهور، سمَّاه فيه الباشا بوالده، بدأه بقوله: إلى «مُظهِر الشمائل سنيها، حميد الشئون وسميها، سلالة بيت المجد الأكرم، والدنا السيد عمر مكرم دام شأنه»، ثم راح يشكره على تهنئته له على ذلك الانتصار الذي كان مجلبة لثناء السيد، وأعلى الباشا بنيل مناه، ويبلغه إذنه له بالحج إلى بيت الله الحرام؛ تقربًا لذي الجلال والإكرام ورجاء لدعوات السيد بتلك المشاعر العظام، ويسأله ألا يدع الابتهال ولا الدعاء له، ثم إن الباشا بعث إليه مع كتابه هذا كتابًا آخر باسم الكتخدا بك محمد آغا لاظ، حتى يسهر على راحته بالقاهرة.
وأرسل محمد علي كتابًا إلى كتخدا بك غير الذي بعث به إلى السيد عمر مكرم، ووصل هذا الكتاب قبل وصول السيد إلى القاهرة، وأرسل كتخدا بك ترجمانه إلى منزل السيد ليبشرهم بذلك، وأُشيع خبر مقدمه، فكان الناس بين مصدق ومكذب، حتى وصل عمر مكرم إلى بولاق في ٩ يناير ١٨١٩، «فركب من هناك وتوجَّه إلى زيارة الإمام الشافعي، وطلع إلى القلعة، وقابل الكتخدا وسلَّم عليه، وهنَّأ الشعراء بقصائدهم، وأعطاهم الجوائز، واستمر ازدحام الناس أيامًا، ثم امتنع عن الجلوس في المجلس العام نهارًا، واعتكف بحجرته الخاصة، فلا يجتمع به إلا بعض من يريده من الأفراد، فانكف الكثير عن الترداد.» وقال الشيخ الجبرتي: «وذلك من حسن الرأي»، ولم يحج إلى بيت الله الحرام لضعفه.
ولكن لم يكن مقدرًا أن يبقى السيد عمر طويلًا بالقاهرة يمضي ما تبقى له من حياة في شيخوخة هادئة؛ إذ لم يلبث أن حدث بعد عامين تقريبًا أن قامت اضطرابات بالقاهرة بسبب تذمر القاهريين من ضريبة فرضها الباشا على المنازل، واشتدت الفتنة، وظن محمد علي أن للسيد عمر يدًّا فيها، فأمره بمغادرة القاهرة في منتصف أبريل ١٨٢٢، منفيًّا إلى طنطا؛ حيث أقام بها إلى أن أدركته الوفاة، وهو في حوالي السبعين من عمره.
(٦) خاتمة المطاف بالمشايخ
انفسح المجال لمشايخ الوقت بنفي عمر مكرم إلى دمياط (في أغسطس ١٨٠٩)، ونال الشيخ محمد المهدي مكافأته على سعيه ضده في اليوم نفسه الذي غادر فيه السيد عمر القاهرة، فحضر في صبح ذلك اليوم عند الباشا وطلب وظائف السيد عمر، فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعي، ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وذلك بناء على طلبه، وكان الوقفان تحت يد السيد عمر ويتحصل منهما مال كثير، وزيادة على ذلك حاسب الشيخ المهدي على المنكسر له من راتب الغلال مدة أربع سنوات كان قد غابها عن القاهرة، فأمر الباشا بدفعها له من خزينته نقدًا، وقدرها خمسة وعشرون كيسًا، وذلك في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذُكر، وعند ذلك رجع الشيخ إلى حالته الأولى التي كان قد انقبض عن بعضها من كثرة السعي والترداد على الباشا وأكابر دولته في القضايا والشفاعات وأمور الالتزام والفائظ والرزق والأطيان وما يتعلق به في بلاد الصعيد والفيوم، ومحاسبة الشركاء، وازدحمت عليه الناس.
وكان محمد السادات قد تولَّى نقابة الأشراف منذ ٩ أغسطس ١٨٠٩، وأقبل على الدنيا، وأنشأ دارًا عظيمة، ولكنه لم يلبث أن مرض ثم تُوفي في ٢١ مارس ١٨١٣، وتقلَّد نقابة الأشراف، الشريك الآخر في الوقيعة بالسيد عمر مكرم، الشيخ محمد الدواخلي، «فركب الخيول ولبس التاج الكبير، ومشت أمامه الجاويشية والمقدمون وأرباب الخدم، وازدحم بيته بأرباب الدعاوى والشكاوى، وعمَّر دار سكنهم القديمة وأدخل فيها دورًا وأنشأ تجاهها مسجدًا لطيفًا وعمَّر دارًا أخرى أسكنها إحدى زوجاته. وداخله الغرور وظن أن الوقت قد صفا له، وصار من أعيان الرءوس يطلع وينزل في كل ليلة إلى القلعة، ويُشار إليه، ويحل ويعقد في قضايا الناس، ويسترسل معه الباشا، وداخله الغرور الزائد، وصار يتطاول على كبار الكتبة الأقباط وغيرهم، ويراجع الباشا في مطالبه إلى أن ضاق الباشا منه، وأمر بإخراجه ونفيه إلى دسوق (عام ١٨١٦) فأقام بها أشهرًا، ثم توجه بشفاعة السيد محمد المحروقي إلى المحلة الكبرى، فلم يزل بها متعلق الحواس منحرف المزاج متكدر الطبع، وكل قليل يراسل السيد المحروقي في أن يشفع فيه عند الباشا وليأذن له في الحج، ومرة يحتج بالمرض ليموت في داره، فلم يُؤذن له في شيء من ذلك، ولم يزل بالمحلة حتى تُوفي» في ٢٣ يناير ١٨١٨. وكان تعليق الشيخ الجبرتي على نفي الدواخلي أن ما وقع له «إنما هو قصاص وجزاء فعله في السيد عمر مكرم، فإنه كان من أكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه وأخرجوه من مصر (القاهرة) والجزاء من جنس العمل.»
وأما الشيخ عبد الله الشرقاوي فقد تُوفي في ٩ أكتوبر ١٨١٢، وكانت وفاته مثار خلاف بين المشايخ على مشيخة الأزهر، فتحزب هؤلاء شيعًا متفرقة، بعضها يؤازر محمد المهدي، والبعض الآخر الشيخ محمد الشنواني، وفريق ثالث يرشح الشيخ بدوي الهيتمي، وفاز محمد المهدي بها ليوم أو اثنين فحسب، ثم قر الرأي على اختيار محمد الشنواني لها.
على أن المشايخ بعد نفي عمر مكرم كان قد انخفض شأنهم كثيرًا، وساعد على ذلك أن نفرًا من أبناء أصحاب المظاهر المتعممين كانوا قد ألَّفوا من بينهم عصابة، يقفون بالليل في صحن الأزهر لسلب من يعثرون عليه منفردًا واستمر الحال على ذلك مدة، «وكذلك أخرجوا طائفة من القوادين والنساء الفواحش سكنوا بحارة الأزهر، واجتمعوا في أهله، حتى إن أكابر الدولة وعساكرهم، بل وأهل البلد والسوق جعلوا سمرهم وديدنهم ذكر الأزهر وأهله ونسبوا له كل رذيلة وقبيحة، ويقولون: نرى كل موبقة تظهر منه ومن أهله، وبعد أن كان منبع الشريعة والعلم، صار بعكس ذلك، وقد ظهر منه قبلُ الزغلية، والآن الحرامية، وأمور غير ذلك مخيفة»، وتوالى وقوع الحوادث بخط الجامع الأزهر من سرقات وضياع أمتعة من الدور والحوانيت، وتكرر ذلك حتى ضج الناس وكثر لغطهم، واتضح أن جماعة من المجاورين هم الذين يسرقون ولم ينقطع ذلك حتى اقتصوا ممن ثبتت عليهم التهمة (في مايو ١٨١٢).
ولما كان الشيخ سليمان الفيومي قد تُوفي في يناير ١٨١٠، ومات كذلك الشيخ محمد الأمير في سبتمبر ١٨١٧، فقد انقضى عهد الأشياخ المتصدرين، وهم الذين عرفنا من قصصهم ما عرفنا، وأما غيرهم من المشايخ والمتعممين، فقد حذا أكثرهم حذوهم، وأصدر الشيخ الجبرتي حكمه عليهم فقال: إنهم قد «زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآتم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم، يتكالبون على الأسمطة كالبهائم، فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين، وللكباب والمحمرات خاطفين، وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين»، وأما هذا الرأي فقد سجَّله الشيخ في حوادث شهر ربيع الأول عام ١٢٣١؛ أي في فبراير ١٨١٦.