الخيال الشِّعْري والطبيعَة في رَأي الأدب العَربي
أما ذهبتم في يوم من أيام الربيع الحالمة إلى بعض ضواحي المدينة، حيث البرية المهتزة الناضرة والغاب المونِقُ الجميل؟ أما رأيتم ذلك البلبل الأنيق المتنقل بين الغصون المورِقة، يترنَّم بأغاريده الرقيقة الشجية؟ أما أبصرتم تلك القُبَّرَةَ الرشيقة المتخطرة بين مخاوف الأشجار وحول مسارب الحقول تتغنى بتلك الأناشيد العذبة الطاهرة؟ أما شاهدتم في ضحوة النهار تلك الفراشة الجميلة ترفرف حول الأعشاب البليلة، وتلك النحلة الهاجزة تحوم بين الزهور السكرى بأنوار النهار؟ أما ساقطت إليكم ذات يوم نسمات المساء الوادعة ذلك الصوت الفضي الجميل المتجاوب في ظلام الغاب؟
ثم أما أحسستم إذ ذاك وأنتم بين أحضان الطبيعة بذلك الشعور القوي الغامض الثَّمِل يستحوذ على مشاعركم ويستولي على نفوسكم فيجعلها أدنى إلى الخلود منها إلى هذا العالم الفاني؟ ستقولون: بلى! ولكن أي شيء هو هذا الذي حَرَّكَ في نفس البلبل حب النشيد فانطلق يغني بين الغصون المزهرة، وداعب قلب القُبَّرَةِ الصغيرة فاندفعت تتغرد راقصة بين الحقول، وأثار الفراشَ فرفرف بين الشقيق والأقحوان، وأهاج النحلة فانطلقت تدمدم فوق أعشاب الربيع باحثة عن رحيق الورود. وأيقظ في أعماقكم ذلك الإحساس المبهم المبهج اللذيذ؟ أي شيء يا ترى هذه القوة الساحرة التي تسكر كل شيء وتعبث بكل شيء؟ إنها هذا الروح الإلهي النبيل الذي تبصرونه في السماء والماء والنور والفضاء، وفي الوردة الناضرة والنسمة الطائرة وفي حلة الموج ووميض النجوم. إنه الجمال الخالد المعبود الذي أحس به أهل بابل فعبدوه في (عشتروت) وشعر به اليونان فقدسوه في (أفروديت) واستفز قلوب الرومان فمجدوه في (فينيس) وأقامت له الإنسانية كلها معابد المجد في أعماق القلوب …
فالجمال هو الذي نَبَّه الطائر فغرد وأيقظ الفراش فحوم واستخف النحلة فطافت بين الرياض واتخذ من أنفسكم هيكلًا شعريًّا تعبدونه فيه وأنتم لا تشعرون.
والجمال هو الذي أنطق شعراء الوجود بتلك الأناشيد الخالدة المتغنية بجلال الكون ومجد الحياة.
والجمال هو الذي مهد للإنسانية هذا السبيل الذي تضرب فيه واستثار أفكار الجبابرة من مراقد النسيان.
ولولا هذا الجمال المنبث في مظاهر الكون وطواياه لاتخذت الإنسانية سبيلًا آخر غير هذا الذي تعرفه ولحُرِمَ العالم من ثمار خالدة أنتجتها العقول …
وبعد، فما الذي أريد قوله من وراء هذا الكلام؟ أريد أن أقول إن مثل هذا الجمال الطبيعي الذي يستفز كوامن الحس ويهز أدق أعلاق الشعور والذي عرفتم أثره في نفوسكم كلما خلوتم إلى أحلامكم بين أحضان الطبيعة. أقول إن مثل هذا الجمال الطبيعي هو القسطاس العادل الذي ينبغي أن توزن فيه نفسيات الأمم وشاعريات الشعوب لِيعلم ما هي عليه من قوة وضعف ومن صحة أو فساد، وأن على حسب ما في الإقليم من جمال وروعة تكون شاعرية الأمة، فإن كان وسطها الطبيعي بهيجًا نضيرًا كانت شاعرية الأمة خصبة منتجة، وإن كان كالحًا مقشعرًّا كانت كزة مجدبة. بل أزيد: أن على حسب طلاقة الجو أو قطوبه تكون نفسيات الأمم والشعوب، فإن كان الجو طلقًا ضحوكًا كان روح الأمة مفراحًا مرحًا، وإن كان الجو جهمًا عبوسًا كان روح الأمة داجيًا مكتئبًا. ولماذا لا يكون للوسط الطبيعي أثره الفعال في تكوين نفسيات الأمم وطبعها على غراره، وقد تحقق العلماء أن له الأثر القوي في خلق المزاج الفردي وتكوينه؟
وإذًا فماذا يمكنني أن أقول عن الأمة العربية إذا أخذت هذا القياس وطبقته عليها ناظرًا إلى الوسط الطبيعي الذي عاشت فيه، لا يمكنني أن أقول إلا أن شاعريتها ستكون شبيهة كل الشبه بالوسط الطبيعي الذي نَمَتْ وتدرَّجَت فيه. فبما أن الأمة العربية قد عاشت في أرض محرومة من هذا الجمال الذي يستفز المشاعر ويؤجِّج الخيال لأنها قطعة عارية قاحلة لا يعترض العين فيها غير الموامي المقفرة الموحشة والصحاري الضامية المترامية يخطف في حواشيها السراب، وقد يعثر الطرف فيها على رقعة يهتز فيها النبات أو جدول يتدفَّق بين الرمال أو غدير نائم بين الصخور العارية. بما أن الأمة العربية قد عاشت كذلك فينبغي أن تكون شاعريتها قريبة من هذه الأرض كل القرب فيها ما فيها من ضياء وإشراق ومن بساطة وسذاجة، وقد عرفتم من قبل كيف كانت أساطير هاته الشاعرية، والآن نريد أن نعرف كيف كانت الطبيعة في نظر هذه الشاعرية وهل كان لهاته النظرة من الخيال الشعري حظٌّ وافر أم لم يكُن، فأقول: أهم الأدوار التي ينقسم إليها الأدب العربي أربعة: الدور الجاهلي والدور الأموي والدور العباسي والدور الأندلسي، وفي هاته الأدوار الأربعة سيكون بحثي عن الطبيعة وحظها من الخيال الشعري.
أما الدور الجاهلي والدور الأموي فقد كانا خاليين أو كالخاليين من هذا الشعر الذي يتغنى بمحاسن الكون ومفاتن الوجود ويشبِّب بجمال الطبيعة وسحر الربيع، أقول أو كالخالي لأننا نجد في شعر هذين العصرين شيئًا من ذلك ولكنه نادر كل الندور، ثم إنه على قلته وندوره لم يكن من هذا النوع الذي يشتعل خيالًا وحسًّا ويتألق جمالًا وفنًّا، والذي تحس النفس من ورائه بنشوة الشعر وتلهُّب العاطفة؛ لأن الشاعر لم يكن يذكره في القصيد لأنه استغوى نفسه واستهوى شعوره، بل لأنه قد أتى به جميل السيل وفيض الكلام، ولولا الاستطراد وسوق الحديث لما ذكره. كان يعن له وصف محبوبته أو رائحتها فلا يجد وسيلة إلى ذلك إلا أن يقول كما قال الأعشى:
أو يقول كما قال كثير عزة:
أو يستعيد بذاكراته ما مَرَّ له في ريق العمر وانبلاج الشباب من لذة شائقة واغتباط أمين، ثم كيف عصف الدهر بذلك الشمل الجميع فأصبحت مراتع اللهو ومساحب أذيال الصبا ملعبًا من ملاعب الريح وملهًى من ملاهي الربيع كما يقول عنترة:
أو أن يحكي حديثًا من أحاديث محبوبته فيتعرض عرضًا لذكر الموضع الذي كانت فيه عند ذكر الحديث كما يقول ابن أبي ربيعة:
على أننا قد نجد أيضًا في شعر هذين العصرين، شيئًا من الشعر الطبيعي الجميل الذي يمثل مظاهر الطبيعة ويصور البرق والرعد والسحاب، ولكننا نقرؤه فلا نحس فيه روح الشاعر المُلْتَذَّةَ المُعْجِبَةَ، ولا نسمع صوتًا من أصوات القلوب، وإنما هي صور متتابعة يعرضها الشاعر عرضًا أمينًا، وقد لا تخلو في عرضها من أناقة وطرافة، كما يقول امرؤ القيس:
أو كما يقول أوس بن حجر:
أو كما يقول ملحة الجرمي:
فقد رأيتم كيف أن أدب هذين العصرين قد كان لا يعرض لوصف مناظر الطبيعة إلا إذا دعت إليها الضرورة دون أن يسهب في الوصف ويُشْبِعَ القول، وكيف أنه إذا تحدَّث عن ظواهر الطبيعة أسهب في القول وأطال البيان. ولكنه في كل ذلك لا يتحدث عن الطبيعة بشغف الشاعر وخشوع المتعبد، بل يتناولها تناول القاصِّ الذي لا يحفل بجلال المشهد أو جماله، وإنما الذي يهمه هو أن يصفه كما رآه، دون أن يخلع عليه حلة من شعوره أو عبقًا من عواطفه.
وإن لهذا علته المعقولة، فقد عاش العرب في وسط لا يعرف سحر الجمال الطبيعي كما قلتُ من قبلُ، فلم يتحدَّث أدبهم عن هذا الجمال، وكيف يتحدث عنه وهو لا يعرفه؟ ثم إنه لم يتحدث عن ظواهر الطبيعة بلهجة المعجب المأخوذ؛ لأن الطبيعة لم تخلع على أرضهم من نظارة الحسن ما يحرك في قلوبهم أدقَّ وشائج الحس ويفتح قلوبهم لتذوق ألوان الجمال … فظلت قلوبهم موصدة لا تعرف هاته اللذة ولا تفقه ذيَّاك الشعور. زيادة عن أنهم لم يختلطوا بغيرهم من شعوب الأرض اختلاطًا كبيرًا من شأنه أن يلطف الطبع ويرقق المزاج.
وإذن فقد كان الأدب العربي في هذين العصرين خاليًا من الشعور بجمال الطبيعة والحديث عنه إلا أصواتًا ضئيلة خافتة تنطلق من حين لآخر كغمغمة الحالم الذي لا يفْقَهُ ما يقول. وكان العرب واقفين أمام مشاهد الكون، لا وقفة المتهيب الخاشع؛ لأن مثل هاتِهِ الوقفة مما كان الباعث عليه نشوة الحس وسكرة الخيال لا بد أن ينفجر يومًا عن خير ما تتفق عليه القرائح والعقول، بل إنها وقفة الأخرس الذي لا ينطق، والأعمى الذي لا يبصر أضواء النهار …
وكذلك ظل الأدب العربي حتى أظل العصر العباسي حياة العرب، فكانت عادات وأخلاق وأمزجة وطباع، غير ما ألِفَ العرب من طباع وأمزجة وأخلاق. وكان أن اصطبغت الحياة الإسلامية بصبغة قوية مشتركة من حضارات عتيدة متباينة، تكوَّنت منها حضارة جديدة مهلهلة ناعمة، تجمع كل ما عرف الفرس والروم والإسلام من فكر وطبع ودين، فكان لهذا كله أثر غير يسير على النزعة العربية الجافية. وكان أن أتقن اللغة العربية كثير من الفرس والروم، ونظموا فيها الشعر بأمزجة غير الأمزجة العربية وأذواق غريبة عن طبائع العرب، وكان أن سكن نبغاء شعراء العرب العواصم والمدن واستبدلوا بشظف العيش وعُنْجُهِيَّةِ البداوة غضارة الحضر ورقة المدنية المترفة، فعاشوا في أوساط جميلة لم تبخل عليها السماء بما بخلت به على الوسط الطبيعي الذي نشأ فيه أدب العصر الأموي والجاهلي قبله.
وفي هذا الوسط المترف الذي تغيَّر فيه كل شيء، شَبَّ ذلك الفن الطبيعي الوليد، الذي يَتَغَنَّى بسحر الطبيعة في مختلف المظاهر وشَتَّى الألوان، فأصبحنا نسمع من الأدب أصواتًا لم تألفها أسماعنا من قبل فيها رقة وعذوبة، وفيها طلاوة وحلاوة. أصبحنا نسمع أبا تمام يقول:
ونجد البحتري يقول:
ويقول:
وأصبحنا نبصر في الأدب العربي مثل قول ابن الرومي:
ومثل قوله:
ولكن هذا الفن الوليد لم يكثر كثرة مطلقة في الأدب العباسي! ولم يَتَفَشَّ فيه كما تَفَشَّى في الأدب الأندلسي، وما ذاك إلا لأن الوسط الطبيعي الذي نَمَتْ فيه حياة الأدب العباسي لم يَكُنْ من الجمال والروعة كما كانت بلاد الأندلس الجميلة.
فقد تفشى هذا الأدب الطبيعي الجميل في البلاد الأندلسية تَفَشِّيًا عظيمًا حتى كاد يسيطر على غيره من فنون الشعر، وحتى أصبحت الطبيعة هي الحُلم البهيج الذي يملأ قلوب الشعراء في سكرات الخيال، وهي الأغنية المُحَبَّبَة التي يترنمون بها في أمسياتهم الجميلة الحالمة ولياليهم العذبة الفاتنة.
غير أن لي في الأدب الأندلسي وبالأخص في الطبيعي منه رأيًا جديدًا ربما لا توافقونني عليه ولكنني قائله لكم ولولا ذلك لما أعلمتكم به.
ينحصر هذا الرأي في أن الفن الطبيعي في الأدب العباسي أبعد نظرًا وأعمق خيالًا، وأدق شعورًا منه في الأدب الأندلسي. رغمًا عن أن الأدب الأندلسي أحفل بهذا الفن من الأدب العباسي وغيره، ورغمًا عن أن الأدب الأندلسي أحفل بهذا الفن من الأدب العباسي وغيره، ورغمًا عن أن الأدب الأندلسي أنصع ديباجة وأرقى أسلوبًا وأدق تصويرًا، ورغمًا عن أن البلاد الأندلسية أشد جمالًا وأعظم روعة من البلاد الشرقية التي أنبتت ذلك الأدب العباسي الجميل؛ فإنني لأجد من صدق الشعور وقوة العاطفة عند البحتري وأبي تمام وابن الرومي ما لا أجده عند ابن خفاجة وابن زيدون وغير هذين من شعراء الأندلس.
ثم ما رأيكم أنتم؟ ألا تحسون بهذه النظرة البعيدة النافذة، وبهذا الخيال القوي العميق في بيت أبي تمام:
أيُّ خيالٍ أعمق وأيُّ نظرٍ أبعد؟ أليس من بعد النظر وعمق الخيال أن يحس الشاعر بتلك (الدنيا) الخيالية الرائعة التي يخلقها الربيع ويتكشف عنها الوجود. تلك الدنيا البريئة الطاهرة التي لم تخلق لمشاغل العيش وأرجاسه وإنما خلقت للذة «النظر» وإمتاع النفوس الشاعرة؟
ثم ألا تشعرون بهذا الإحساس القوي الصادق في بيت البحتري:
هذا الإحساس العميق اليقظ الذي يكاد يستمع إلى صوت الربيع؟
ثم ألا تحسون بهذا الشعور المشتمل في بيت ابن الرومي:
هذا الشعور الصادق الذي يحس بروح الحياة السارية في عروق الكون؟
بلى! إن في هذه الأبيات الثلاثة من عمق الخيال ودقة الإحساس بجمال الوجود ما لا يظفر بمثله في الأدب الأندلسي على ما في البلاد الأندلسية من نضارة وحُسْن لم ترزق مثلهما البلاد الشرقية، وقد صدمتني هاته الحقيقة لأول وهلة صدمة قوية كادت تزعزع إيماني بصحة تلك النظرية التي قلتها من قبل: نظرية (الوسط الطبيعي) ولكنني وجدت بعد ذلك العامل الحقيقي الذي أَثَّرَ في الأدب الأندلسي هذا الأثر البعيد، وهذا العامل هو أن الأدب الأندلسي قد نشأ في عصر توفَّرَت فيه أسباب الحضارة توفُّرًا منكرًا.
فانغمست النفوس في حمأة الشهوات انغماسًا أمات بها العواطف الهائجة وأخمد نوازي الشعور. فأصبح تيار الحياة يتدفَّق عن إيمان الناس وشمائلهم وهم لا يشعرون، وأصبحت الطبيعة في أنظارهم وسيلة جامدة من وسائل اللذة لا منبعًا خالدًا من منابع الإلهام. وهكذا أخمدت تلك الأنوثة المترفة توهُّج الشعر وضياء القرائح على أنها هذبت من الألسنة ورققت أساليب الخطاب فكان الشعر الأندلسي رقيقًا طليًّا ولكنه قليل الحظ من عمق الشعور.
ولنأخذ بعدَ هذا في الشعر الأندلسي لنعرف كيف كانت الطبيعة في نظره. يقول ابن خفاجة شاعر الطبيعة على ما يقول الكثير:
ويقول:
وعلى هذا النحو كل ما قاله ابن خفاجة في جمال الطبيعة: براعة في الوصف وجمال في الأسلوب. دون أن تجد خيالًا قويًّا أو شعورًا دقيقًا. وإنْ أَعْجَبْ فلطائفة تسمي ابن خفاجة شاعر الطبيعة. وغاية ما أرى فيه هو أن في نفسه ميلًا إلى الطبيعة شغلته اللذة واللهو عن الإفصاح عنه وإنَّ في قلبه شغفًا بالوجود كَفْكَفَهُ المُجون … يدل لذلك إكثاره من الحديث عن جمال الطبيعة ومواقع الفتنة منها.
ويقول ابن زيدون:
ويقول:
وتقول إحدى شواعر الأندلس:
ويقول ابن سهل:
•••
•••
•••
وعلى هذه السُّنَّة التي رأيتموها يسعى الأدب الأندلسي كله: ديباجة غضة ناعمة وتعابير عذبة ناصعة ووصف دقيق جميل، ولكن ليس وراء ذلك عاطفة حادة أو إحساس عميق. والآن وقد تلوتُ عليكم شيئًا من الشعر الطبيعي في عصوره المختلفة فأحسستم بهذا الفارق العظيم بين الدورين الأولين وبين الدورين الأخيرين في نمط اللفظ وصياغة الكلام، وشعرتم بهذه الفروق الدقيقة التي بيَّنها في تناول الأشياء والنظر إليها، ورأيتم شيئًا كثيرًا من البساطة وعدم الاكتراث في الشعر الجاهلي والأموي حينما يحاول أن يصف مواضع الفتنة والملاحة من هذا الوجود، ثم عرفتم كيف أن الحضارة العباسية قد حوَّرت شيئًا غير يسير من الحياة الإسلامية، فكان لهذا التحوير ما نشاهده في الشعر العباسي من هذه الرقة وهذا الجمال اللذين لا نجدهما في الشعر الأموي والجاهلي مهما جهدنا في البحث. ورأيتم سعة في المجاز، وجمالًا في الاستعارة، وخلابة في التعبير، وعمقًا في الشعور في الشعر العباسي كلما حدَّث عن تلك الرياض الأنيقة والمناظر البهيجة، ثم إنكم أبصرتم هاته الرقة الحضرية المهلهلة وهاته العذوبة الساحرة التي تتفجر في شعر ابن خفاجة وأضرابه تفجر ينابيع الغياض وتلقي على الشعر الأندلسي حلة ضافية من الطرافة والجِدَّة كلما تغنى بأودية الأندلس ورياضها حيث ترف ظلال الغصون الوارفة وتتغرد طيور الربيع.
الآن وقد سردت عليكم كل ذلك وعرفتم كل هذا، أريد أن أتلو على مسامعكم كلمتين لشاعرين من شعراء الغرب: أولاهما للامرتين وآخراهما لجيتي حتى تتبينوا الفرق بين الرنة العربية الساذجة البسيطة وبين الرنة الغربية العميقة الداوية، وتعرفوا كيف ينظر الأدب الغربي إلى الطبيعة بعد أن عرفتم نظرة الأدب العربي إليها، وتحكموا بأنفسكم على حظ نظرة أدبنا العربي من الخيال الشعري العميق.
أجل، فأنا سأتلو عليكم هاتين الكلمتين ثم أسألكم بحق ما تقدسون في هذا العالم؛ هل تجدون بين شعراء العربية هذه الروح القوية المضطرمة الشاعرة، هذه الروح التي تنظر إلى الطبيعة كلها ككائن حي يترنم بوحي السماء فيثير في حنايا النفوس ما تثيره أنَّات القيثارة في يد الفنان الماهر من هواجع الفكر وسواجي الشعور، هذه الروح اليقظة التي تحس بما في قلب الطبيعة من نبض خافق وحياة زاخرة تفيض على مظاهر الكون هذا الجمال الإلهي الوضيء، فإذا الحياة بأسرها صورة من صور الحق، وإذا العالم كله معبد لهذه الحياة. يقول لامرتين: «إن الطبيعة أكبر قساوسة الله وأمهر مصوريه وأقدر شعرائه وأبرع مغنيه، وإنك لتجد في عش العصفور تتناغى فيه أفراخه تحت رفرف الهيكل الدارس، وفي أنفاس الرياح تهب من البحر حاملة إلى أديرة الجبل المقفرة خفوق الشرع وأنين الأمواج وغناء الصيادين، وفي الزهور ينتشر أرجها في الفضاء وينتشر ورقها على القبور، وفي صدى أقدام الزائرين تقع على مضاجع الموتى من هذا الدير، تجد في كل هذا من التقى والروعة والتأثير ما كان في هذا الدير منه وهو في إبان عهده وعنفوان مجده!»
ويقول جيت: (أرى كل شيء حولي ينبت ويزهر، وحينما كنت أبصر هذه الجبال المغطاة بأشجار الدوم من أسفلها إلى أعاليها، وتلك الأودية المظللة مجانيها بالغابات الأنيقة وذلك النهر ينساب هادئًا بين نغمات القصب المهتزة، وتتراءى في جوانبه تلك السحب الجميلة المزجاة في جو السماء بنسيم المساء، وأسمع الأطيار تحيي بأغاريدها موات الغابة جمعاء، وخشارمة الذباب ترقص طربة مرحة على أشعة الشمس الأرجوانية الغاربة، وأرمق الأرض ببصري فأرى الأشنان يمتص غذاءه من الصفاة الصلدة، والرتم ينبت فوق سفح الأكمة القاحل المرمل فيكشفان لي عن ذلك النبع المقدس وتلك الحياة القوية في باطن الطبيعة، أقول حينما كنت أرى وأسمع هذه الأشياء أشعر كأن قلبي يحيط بها ويعيها بما شئت من حرارة وقوة، وكنت أشعر أني أقرب ما أكون إلى التألُّه بما يفيض في قلبي من الشعور والحس، ويخيل إليَّ أن صور العالم الجميلة الفخمة تتحرَّك في نفسي فتملؤها حياة جديدة.
… آه، كم تمنَّيْتُ في ذلك الزمن أن أقطع أجواز الفضاء على جناحَيْ ذلك الكركي الذي يطير فوق رأسي فأبلغ ساحل ذلك البحر الأعظم الذي لمَّا ينكشف سره للإنسان لأشرب من اللانهاية كأسًا دهاقًا تبسط القلوب وتنعش المشاعر!
وأشعر لحظة واحدة، على قصوري وضعفي، بنقطة تجري في دمي من سعادة ذلك الموجود الذي يخلق كل شيء في ذاته وبذاته).
تلك كلمة لامرتين وجيتي، ولست بمستحلفكم مرة أخرى أي النظرتين إلى الطبيعة أعمق؟ وهل عندنا في العربية مثل هاته الروح القوية الشاعرة؟ ولكني أقول كلمتي، وهي أن النظرة العربية إلى الطبيعة بسيطة إزاء هذه مهما بلغت من العمق والشعور، وأن تلك الكلمات الأخيرة التي قالها جيت هي الأغنية الخالدة التي ترددها النفوس الشاعرة في أعماقها كلما شاهدت بهجة الكون وجلال الوجود. أما شعراء العربية فلم يعبروا عن مثل هاته الإحساسات الشعرية العميقة لأنهم لم ينظروا إلى الطبيعة نظرة الحي الخاشع إلى الحي الجليل وإنما كانوا ينظرون إليها نظرتهم إلى رداء منمق وطراز جميل لا تزيد عن الإعجاب البسيط، ومثل هاته النظرة الفارغة لا ينتظر منها أن تشرق بالخيال الشعري الجميل لأن الخيال الشعري منشؤه الإحساس الملتهب والشعور العميق، وشعراء العربية لم يشعروا بتيار الحياة المتدفِّق في قلب الطبيعة إلا إحساسًا بسيطًا ساذجًا خاليًا من يقظة الحس ونشوة الخيال، هو ذلك الإحساس الذي تشاهدون أثره في شعر البحتري وابن الرومي وأبي تمام وبعض شعراء آخرين.