الخيال الشعْري وَالمرْأة في رأي الأدَب العَربيِّ
لقد علمتم، كيف كان الأدب العربي ينظر إلى الطبيعة في عصوره المختلفة، وعرفتم مبلغ تطور هاته النظرة على اختلاف العصور والبيئات، وأدركتم حظ تلك النظرة من الخيال الشعري في جميع الأعصر العربية، وسمعتم قبل ذلك شيئًا من الأساطير العربية وعرفتم ما هي عليه من الخيال الشعري بالنسبة لغيرها من أساطير الأمم الأخرى. كل هذا قد علمتموه ولست أنوي إعادته ولكنني أريد أن أتناول الآن نوعًا آخر فيه ما في الطبيعة من سحر وفن، ومن قوة ودَعَة، لننظر كيف كان هو في رأي الأدب العربي، وهل نال نصيبًا من الخيال الشعري لم تَنَلْهُ الطبيعة ولا الأساطير أم كان حظه كحَظِّ أخويه؟ وهذا النوع هو (المرأة)، هو هذا اللغز الجميل الذي يفتننا بسحره ويختلبنا بجماله، فنتبعه مرغَمِين دون أن نستطيع له حلًّا، هذا اللغز الجميل هو الذي سنستمع إليه في فم الأدب العربي وأناشيده.
يقول الفلاسفة الأقدمون: (إن النفس البشرية قد خلقت من عنصر الحسن وجبلت من فن الجمال …) وفي هذا الكلام شيء من الحق غير قليل، وإلا فبماذا تُعَلِّلُونَ هاته اللذة السامية التي تشعر بها النفوس جميعًا كلما شاهدت مرأى جميلًا من مرائي هذا الكون البهيج؟ وبماذا تفسرون هذا الشغف بالجمال الذي قد يصبح في بعض النفوس تعطشًا دائمًا وحنينًا لا يرتوي، وقد يسمو في بعض النفوس الشاعرة إلى أفق أعلى، فإذا هو غيبوبة كلية في هذا الكون البديع تستغرق المشاعر وتطغى على كل الميول …
تلك هي النفس الإنسانية: فلذة خالدة من هذا الجمال العبقري الذي يتفجر من قلب الحياة تَفَجُّرَ العطر من الوردة اليانعة، فيشمل كل ما في هذا الملكوت من حي وميت، وينسجم على قسمات هذا العالم ووجوه هذا الوجود …
تلك هي النفس الإنسانية: فلذة خالدة، فصلتها يد القدر عن جمال الحياة؛ ولذلك فهي أبدًا تحن إليه في أي مظهر كان وفي أى لون بدَا، فإن فقدته ظلت تبحث عنه بين سمع الأرض وبصرها حتى تظفر به.
… أما العرب فقد حُرِمُوا كما قلنا من قبل من هذا الجمال السماوي الذي يجد عنده القلب لذة الحس وسعادة الشعور، ولم يكن لديهم من مظاهر الجمال على اختلاف فنونه غير فن واحد هو: «المرأة»، ففي المرأة وحدها استطاعوا أن يجدوا ذلك الينبوع السحري المتفجر من قلب الحياة … وفي المرأة وحدها ظفروا بتلك الكأس الروية التي تطفئ ظمأ القلب إلى الحسن وغلة النفس إلى الجمال، فتَغَنَّوْا بمحاسن المرأة وشَبَّبُوا بمفاتنها ما شاء لهم الشعر والعاطفة.
وتلك جِبِلَّةُ الإنسان في العالم كله منذ القدم، فالمرأة هي النصف الجميل الذي يحمل في قلبه رحيق الحياة وسلسبيل المحبة، والمرأة هي الطيف السماوي الذي هبط الأرض ليُؤَجِّجَ نيران الشباب ويُعَلِّمَ البشرية طهارة النفس وجمال الحنان، تلك هي المرأة في رأي البشرية جمعاء إلا قلوبًا لم تعرف نعمة الحب ولا سمعت نشيد الجمال فظلت مغلقة موصدة كأفئدة الصخور … ولكن العرب تجاوزوا في التغني بالمرأة كل حد حتى أصبحت هي اللحن الجميل الذي تستهل به القصائد، وهي الكلمة السحرية التي تنفتح لها كنوز الشعر وحتى أصبحت عندهم كآلهة الشعر عند قدماء اليونان لا يبدأون الشعر إلا بنجواها، ولكن لا تتعجلوا فتحسَبوا أنهم أَجَلُّوا المرأة ونظروا إليها نظرة سامية فيها طهر العبادة وفيها معنى التقديس والإجلال كما كان ينظر قدماء اليونان إلى آلهة الشعر حينما يناجونها في مستهل القصائد. كلا! فإن شيئًا من هذا لم يكن، لأن الشاعر العربي ما كان يُبَوِّئُ المرأة المنزلة السامية وذلك المقام الجميل إلا ليتحدث عن ملهاته الساحرة التي أَلْفَى عندها متعة الجسد ومنهل الشهوات … أو لكي يفاخر رفاقه من أبناء البادية بأنه قدير على تَصَبِّي قلوب النساء والعبث بهن ليس غير …!
أجل، فإن نظرة الأدب العربي إلى المرأة نظرة دنيئة سافلة منحطة إلى أقصى قرار من المادة، لا تفهم من المرأة إلا أنها جسد يُشتهى ومتعة من متع العيش الدنيء …
أما تلك النظرة السامية التي يزدوج فيها الحب بالإجلال والشغف بالعبادة، أما تلك النظرة الروحية العميقة التي نجدها عند الشعراء الآريين فإنها منعدمة بتاتًا أو كالمنعدمة في الأدب العربي كله لا أستثني إلا الأندر الأقل على الرغم من أن أكثره في المرأة.
لم يعرف العرب ولا الشاعر العربي تلك النظرة الفنية التي تعد المرأة كقطعة فنية من فنون السماء يلتمس لديها من الوحي والإلهام ما تضن به ينابيع الوجود … ولم يحاول الشاعر العربي أن يحس بما وراء الجسد، من روح جميلة ساحرة، تحمل بين جنبيها سعادة الحب ومعنى الأمومة وهما أقدس ما في هذا الوجود، ولا بذلك القلب النقي الذي يزخر بأسمى عواطف الحياة وأشعارها، وأجمل أحلام هذا العالم الكبير، ولا شَعَر بما بين هاته الطبيعة الكبرى وبين المرأة من اتصال وثيق، حتى كأنها قلبها الإنساني، الذي يحمل بسمة الفجر، ويأس الظلام، ذلك شَأْوٌ لم تُحلق فيه أجنحة الشاعر العربي ولا نالته، بل ولم يطمح إليه بصره الذي أَلِفَ مَغَاوِرَهُ الأولى وكهوفه الضيقة … بل إن الشاعر العربي لم يرفع بصره إلى ما هو أدنى من ذلك بكثير، فهو إذا حَدَّث عن جمال المرأة لم يتحدث عنه كفَنٍّ مستقل متجرد عن هاته المظاهر المادية التي تتصل بالخصر والردف ونحوهما، وإنما تحدث عن هذا الجمال المتهدل (الذي يوزن بالرطل والقنطار من الشحم واللحم) كأنما الجمال جسد يُجس ومادة تُمس، أما أن يتحدث عنه كما يقول تاغور: (أمسكت يديها وضممتها إلى صدري، حاولت أن أملأ بحسنها ذراعي، وأن أنتهب بقُبَلي ابتساماتها العذبة، وأن أترشف بعيني وميض أجفانها، ولكن، أواه! أين هي؟ من يستطيع أن يسلب من السماء زرقتها؟ حاولت أن أقبض على الجمال ولكنه غادرني غير تارك بين يدي سوى الجسد، فانثنيت خاسر النفس كَلِيلها، كيف يقدر الجسم أن يلمس الزهرة التي لا يقدر على لمسها غير الروح؟) أما أن يتحدث عن جمال المرأة، بمثل هذا الحديث، فذلك ما لا يستطيعه الشاعر العربي بحال، وذلك ما لا يظفر به الباحث في الشعر العربي كله، لا أستثني أحدًا غير ابن الرومي ومن لَفَّ لفه وهو نفر قليل، فإن ابن الرومي تحدث عن جمال المرأة كشيء مستقل عن الجسد مصدره النفس الخالدة، يقول:
فالشاعر العربي لا يتكلم عَمَّا وراء جسد المرأة من تلك المعاني العميقة السامية، ولكنه مُجِيدٌ كل الإجادة إن أراد أن يحدث عن قدها الأهيف الممشوق وعن طرفها اللامع الوسنان وعن وجهها المتورِّد المنضور وعَمَّا إلى ذلك من تلك الأوصاف المادية الملقاة أمام كل رائح وغادٍ والتي يحس بها كل الناس إحساسًا متوازيًا لا تظهر معه مَزِيَّةٌ للشاعر على غيره في الالتفاف إليه إلا في رصانة التعبير، وجمال الديباجة وخلابة الأسلوب … ولكن ليت شعري! هل تلك هي وظيفة الشاعر وغايته من هذه الحياة؟ إذن يا خيبة الشعر ويا سخف الحياة! أجل يا خيبة الشعر وإن كان كثير من الناس لهم عقول يفهمون بها ثم لا يزالون يحسبون أن رسالة الشاعر ألفاظ منمقة نضيدة، وعبارات مرصعة، وكلام مرصوص!
هذه هي النظرة الشائعة في الأدب العربي كله، والتي يتساوى فيها جميع شعراء العربية على اختلاف عصورهم، وتبايُنِ طبقاتهم، وتفاوُتِ أوساطهم، سواء في ذلك عَفُّهُم وفاجرهم، وأولهم وآخرهم، وقد يكون من الغريب أن بعضًا من هؤلاء الشعراء يؤمنون بالحب إيمانًا ساميًا، ويضمرون عنه في نفوسهم أبرأ المعاني وأنقاها ما داموا خالين إلى أنفسهم أو إلى من يحبون، حتى إذا ما أرادوا التحدُّث عن المرأة لم يتحدثوا إلا بما يتحدث به الفاسق الفاجر من تلك الأوصاف الجسدية السافلة، ولكن لو تَعَمَّقَ الباحث في فهم الروح العربية، لعلم أن ذلك ليس من الغرابة في شيء؛ لأن من طبيعة هذه الروح أن لا تحيط بغير الظاهر المحسوس، على ما سأبنيه في الفصل الخاص بالروح العربية.
- أولًا: هاته الفكرة الجائرة، التي كانت تستحوذ على أدمغة العالم العربي كله، من
أن المرأة مَثَلُ الغدر واللؤم، وخساسة الطبع، وحطة النفس، وخبث الضمير،
فإن الفكر الذي يعتقد مثل هذا في المرأة لا يمكنه بحال أن يبصر ما وراء
جسدها، من حياة عذبة ساحرة وعالم شعري جميل … وهل يبصر مثل هذا العالم
المشرق المنير من يرى أنه منبع الإثم، ومستقر الرذيلة الخائنة؟ ويقول مع
المتنبي:
ومن خبر الغواني فالغوانيضياء في بواطنه ظلام
- ثانيًا: هو أن المرأة لم تنل في جميع الأعصر العربية، قسطًا من الحرية الحقة، تتمكن معه من إظهار ما لها من مواهب وملكات تجبر الرجل على أن يحترمها ويبدل فيها رأيه، فيطلع على ما خلف الجسد من لج زاخر وبحر عميق، تختلف عليه الأمساء والأصباح، والأضواء والظلمات. ولا تَغُرَّنُكْم تلك الحرية الموهوبة التي تسمعون عنها فإنها ليست هي الحرية الحقة التي أتحدث عنها والتي كان يمكنها — لو وقعت — أن تحول هذه النظرة القاسية إلى ما هو أعف وأجمل. ذلك لأن الحرية التي وقعت في تلك العصور هي ضرب من الحرية متهتك خليع، يعبث بالفضيلة ويسخر بكل شيء … وما أجدره أن يسمى انحطاطًا أخلاقيًّا، من أن يسمى حرية، فيدنس هاته الكلمة الإلهية الطاهرة. ثم لأن الذي تمتع بهاته الحرية، هو قسم من النساء، لا حظ له من كرامة المرأة، بكل ما فيها من عفة سامية وطهر جميل، هو قسم من الإماء المتجنيات على الرجال، المتهافتات على اللذة، المتهالكات على الفجور، تهالكًا يأباه الدين والعقل، وينكره الحياء الإنساني العريق، هو هذا الضرب الذي يتحدث عنه أبو نواس، والخليع، ومن كان على شاكلتهما فسقًا ودعارة، وهو هذا الضرب الذي يجد عنده خلعاء الأندلس ومجانها ما يغريهم على تعاطي اللذة ومتابعة اللهو. ولا أحسب أن مثل هذا اللون من الحرية، وهذا الضرب من النساء، مما يدفع إلى إبدال تلك النظرة بما هو أرق وأعذب، وإنما هو يؤيدها بل ربما زادها قساوة وشدة، وإلا فما الذي جعل هذا الأدب الفاجر الخليع، يتفشى تفشيًا منكرًا في الأدب العباسي وفي الأدب الأندلسي، لولا مثل هؤلاء النساء.
وإذن فنظر الآداب العربية إلى المرأة كنظرها إلى الطبيعة أو أدنى، لا سمو فيه ولا خيال. وإنما هو مادي محض لا يكاد يرى فرقًا بين المرأة والرداء وكأس من الخمر، فالمرأة تُتخذ لإشباع شهوات الجسد والرداء يقي الجسم هاجرة الصيف، ويدفع عنه عادية الشتاء، وكأس الخمر يتلهى بها في آناء الفراغ! بل ربما سمت نظرة بعض الشعراء إلى الخمر، حين لم تسمُ نظرته إلى المرأة، ولا تحسبوني مغاليًا أو مغرقًا، فإن الشعر العربي بين أيدينا شاهد على ما أقول، هاكم امرأ القيس فهو يقول:
ويقول:
ويقول:
فماذا رأيتم عنده؟ هل زاد على أن جعل المرأة (متعة ولهوًا)، وسوَّى بينها وبين الفرس السابق والخمر العتيق!؟
وها كم ما يقوله طرفة بن العبد شاعر الشباب المرح:
فهل أسمعكم خيرًا مما أسمعكم امرؤ القيس؟ وهل وجدتم عند هاته النفس الفتية الملتذة المتحفظة غير ما لقيتم عند تلك النفس الخليعة الماجنة الفاجرة؟ بل ها كم ما يقول أوس ابن حجر:
وهاكم ما يقول عبد الله بن عجلان النهدي قتيل الصبابة:
فما رأيتم؟ هل ألفيتم عند هذين ما هو أجمل مما لقيتم عند طرفة وامرئ القيس قبله؟ بل تأملوا مِمَّا يقوله أبو نواس في شباب المجد الإسلامي، وعنفوان الحضارة العباسية؟ ثم نبئوني ماذا رأيتم؟ إنه يهتف قائلًا:
وهكذا ينطلق يقول كلما حدثه شيطانه عن المرأة.
ثم استمعوا لأبي تمام كيف يقول:
ثم استمعوا لما يقوله البحتري من بعده:
وإلى هنا أقف خوف الإطالة، وأسألكم: هل رأيتم من فرق بين ما قاله امرؤ القيس وما قاله البحتري، وبين ما قاله أولئك وما قاله هؤلاء رغمًا عن تغيُّر الزمن وتباعد شُقَّةِ العصور، غير هاته الرقة اللفظية وهاته النعومة في التعبير اللتين لا تعهدهما البداوة الخشنة الجافية.
وإذا رأيتم في أي منزلة ينزل المرأة العربية، وبأي تعبير يعبرون عنها، فهلموا نستمع إليهم كيف يصفونها في أشعارهم وإلى أي ناحية منها يعرضون.
هذا امرؤ القيس يصف محبوبته البدوية فيقول:
وهذا الأعشى يتغنى بعشيقته فيقول:
ويقول طرفة:
ويقول كعب بن زهير:
وعلى مثل هاته السنة يذهب النابغة، وعنترة، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وأوس بن حجر، والمرقش، وزهير، وغير هؤلاء من شعراء الجاهلية، لا يختلفون إلا في كيفية التعبير عن هاته المعاني — وربما اتفقوا فيها — أو في قلة الأوصاف وكثرتها. ولو شئت أن أستعرض كل ما قاله شعراء الجاهلية والإسلام في هذا الصدد وأتقصاهم واحدًا واحدًا، أو عبقريًّا عبقريًّا، لاضطررت إلى تأليف مجلد ضخم أتعرف فيه أقوالهم وأبين مبلغ ما فيها من التفاوت وآثار العصور. وإن كنت على ثقة من أنهم في هذا الفن سواء، أو ما هو منه بسبيل. ولكنني لم أُرِدْ هذا وإنما أردت أن آخذ من شعر كل عصر شيئًا لنوابغ شعرائه، حتى يتضح هذا الرأي الذي أسلفت الحديث عنه.
وإذن فلنستمع إلى ابن أبي ربيعة ومن معه لننظر هل مِن فارِقٍ بينهم وبين من قبلهم من شعراء الجاهلية. يقول ابن أبي ربيعة:
لعلكم تقولون: إنه فاسق ولا يأخذ الفاسق من المرأة إلا مثل هاته المواضع التي هي أقرب إلى حسه وأدنى إلى طوية نفسه. فماذا تصنعون بالمجنون وهو ذلك العاشق البريء الذي لم تأخذ عليه ريبة قط إذ يقول عن ليلاه:
أفلا ترون أنه لم يخالف ابن أبي ربيعة في كبيرة ولا صغيرة مع اختلاف بين الاثنين في المنزع والهوية وفي الطبع والحياة؟ لعلكم تقولون: إنه مشكوك في وجوده، وقد جزم الدكتور طه حسين بأنه شخصية خيالية. وما يدريك لعل قائل هاته القطعة شاعر قريب الشبه بابن أبي ربيعة في المشرب والروح. إذًا فماذا تصنعون بجميل وهو شاعر لم يَشُكَّ أحد في وجوده ولا أقدم بشر على عَدِّهِ من أبطال الأساطير، وهو من تعرفون: عفة نفس وطهارة ذيل وحبًّا مكينًا، وحسب ذلك دليلًا ما ذكره صاحب الأغاني في الجزء الثامن من أنه زار بثينة في خدرها فبلغ النبأ أباها وأخاها فتقلدَا سلاحهما واعتزما قتله حتى إذا وصلا الخدر واستمعا لما يدور بين العاشقين من حديث طاهر وقول بريء وَلَّيَا من حيث أتيا دون أن يسفكا ذلك الدم الطاهر أو يزهقا تلك الروح النبيلة، ما رأيكم في شاعر هذا حظه من طهارة النفس وشعره يقول عن بثينة:
ويقول أيضًا:
بل ماذا يكون قولكم لو انتقلنا إلى العصر العباسي فإذا هو كالعصر الأموي والجاهلي دون أي تفاوت أو اختلاف؟ انظروا ما يقول أبو نواس:
ثم انظروا ما يقوله أبو تمام من بعده:
وما يقوله أيضًا:
ثم اسمعوا ما يقوله المتنبي:
ثم اسمعوا ما يقوله البحتري:
ويقول مهيار الديلمي:
فهل رأيتم أيها السادة من تطور بين العصر العباسي والعصرين قبله من حيث نظر الشعر إلى المرأة ومنزلتها منه رغمًا عن الاختلاف الشديد بين المدنية والفكر والعوائد في هاته العصور الثلاثة؟ أليست المرأة التي يتحدث عنها امرؤ القيس وطرفة وعمر بن أبي ربيعة هي نفس المرأة التي يتحدث عنها الحكمي والبحتري وأبو تمام؟ وأليس الحديث هو عين الحديث إلا رقة في المعنى وطلاوة في اللفظ وتنويقًا في العبارة خلا منها الأدب الأموي والجاهلي قبله وقضت بها المدنية العباسية من بعد.
وإذن فلنأخذ العصر الأندلسي لننظر كيف كان مقام المرأة في الشعر، وكيف كان حظ الحديث عنها من السمو والخيال، ولننتقل من تلك البيئة الشرقية إلى هاته البيئة الغربية لنعرف هل أَثَّرَتْ عظمة الطبيعة واختلاف التربية والوسط والمناخ على النظرة الشعرية إلى المرأة، هذا ابن خفاجة يقول:
ويقول:
وهذا ابن خاتمة يقول:
وهذا ابن سهيل يقول:
… والآن ما رأيكم بعد كل هذا؟ هل وجدتم بين من تلوت عليكم أشعارهم — وهم نوابغ الشعر وأبطاله — واحدًا يعبد في محبوبته ذلك الجمال الروحي المجسد، لا تلك المرأة التي تضم وتشم ثم تتصوح وتذوي بين الأحضان الفانية كما يقول لامرتين؟ أم هل وجدتم من يحاول أن يتكلم بقلبه أو بعقله عَمَّا وراء جسد المرأة من شعور سماوي رقيق، وعاطفة ندية ساجية وأحلام عذبة مستحبة تتألَّق سناء وبهجة وتشمل العالم كله بالعطف والحنان، فيتَّخذ من خياله أجنحة نارية ترفرف في ذلك العالم الشعري الذي تتراقص من حوله أشعة الطفل وضباب الصباح؟ … هل سمعتم بين هؤلاء وغيرهم من يتغنى بحنو المرأة وحبها كما يتغنى الطائر الغرد؟ هل سمعتم من يتحدث عن المرأة وهي معبد الحب في هذا الوجود كما يتحدث الخاشع المتعبد عن بيت من بيوت الله؟ هل سمعتم بين هؤلاء وغيرهم من يتحدث عن قلب (المرأة) بمثل هذا الحديث الجميل الذي تسمعونه من جبران في أجنحته المتكسرة … (إن قلب المرأة لا يتغير مع الزمن، ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلًا ولكنه لا يموت، قلب المرأة يشابه البَرِّيَّة التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم، ولكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنَّة، ويظل فيها الربيع ربيعًا، والخريف خريفًا إلى آخر الدهور …)؟
كلا! فأنتم لم تسمعوا مثل هذا الحديث ولن تسمعوه ممن سلف من شعرائنا لأن مثل هذا الحديث لا يقدم عليه إلا من أوتي شعورًا جميلًا مشرقًا وخيالًا قويًّا متمردًا لا يتهيب الأعماق المظلمة ولا يقنع بالظواهر البادية. أما الشاعر العربي فلم يُؤْتَ مثل هذا الإحساس ولا هذا الخيال على ما سُأَبَيِّنُهُ في الفصل الخاص بالروح العربية، وإنما كان له إحساس قاصر وخيال محدود لا يتجاوز الظواهر ولا يطمع فيما وراء المرئيات. وإذن فما الذي يدعوه لأن يفكر في قلب المرأة وهو مطمئن إلى أنه منبع الغدر والخيانة. وما الذي يدفعه إلى تفهم روحها وله من جسدها مرتاد مخصب لشعره ونشيده …؟
وبعد كل هذا فما الذي أخذناه؟ أخذنا أن المرأة في الأدب العربي لم تظفر بنصيب من الخيال الشعري ولو كان يسيرًا لأن النظرة التي نظر إليها بها كانت مادية محضة لا عمق فيها ولا ضياء، سواء في ذلك جميع العصور والأجيال. وغاية ما يمكن أن يؤخذ من الفرق أن الشاعر في العصرين الجاهلي والأموي قد كان صادقًا في ميله إلى المرأة وشغفه وإن لم يتحدث عنها إلا من الوجهة الجسدية، وأما الشاعر العباسي والأندلسي فقد قضت المدنية الفاجرة على منبع الرجولة فيه فأصبح أكثر حديثه عن المرأة كاذبًا لا تحس فيه حرارة الحب ولا صدق الهوى بالرغم عن أنه جميل الرنة، خلاب النسق، وإن كان السمع لا يعدم من حين لآخر صرخة ثائرة من صرخات الحب تتجاوب في ذلك السكوت الشامل العميق.
ولهذا التخالف علته المعقولة فإن المدنية ما تَفَشَّتْ إلا وتَفَشَّى معها الفسق والفجور وتوافرت أسباب اللهو والمجون فخمدت تلك الشعلة الكامنة في نفس الرجل. وما الذي يؤججها وفي كل حين تتلقاه بنات الهوى ولدات الدلال، أما البداوة فهي في مأمن من هذا الخطر الذي يقضي على جذوة الرجولة في الرجال، ولذلك فهي باقية يثيرها الحب ويؤججها الغرام.