الرُّوح العَرَبية
-
طبيعتها الخاصة والعوامل التي كَوَّنَتْ فيها ذلك الطبع. والمؤثرات التي عملت على إبقائه في مختلف العصور.
لقد علمتم من كلماتنا السابقة، أن كل ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره، قد كان على وتيرة واحدة، ليس له من الخيال الشعري حَظٌّ ولا نصيب، وأن الروح السائدة في ذلك هي النظرة القصيرة الساذجة التي لا تنفذ إلى جواهر الأشياء وصميم الحقائق، وإنما همها أن تنصرف إلى الشكل والوضع، واللون، والقالب، أو ما هو إلى ظواهر الأشياء أدنى من دخائلها، فهي لا تتحدث عن الطبيعة إلا بألوانها وأشكالها، ولا يهمها من المرأة إلا الجسد البادي، وهي في القصة لا تتعرف إلى طبائع الإنسان وآلام البشر، وفي الأساطير لا تعبر عن فكر سامٍ وخيال فياض، وإنما هي أوهام لائشة وأنصاب جامدة.
كل هذا علمتموه من قبلُ حينما عرضت له في شيء من التحليل والإطناب والاستقراء، أما الذي يهمني الآن بعد أن علمتم أن كل ما أنتجه العقل العربي كان مطبوعًا على غرار واحد ومصطبغًا بصبغة واحدة، فهو أن نعرف طبع الروح العربية التي صقلت منتجاتها هذا الصقال، وأرسلت عليها من هذا اللون الذي عرفتموه، وأن نعرف العوامل التي عملت على خلقها هذا الخلق الذي وسم كل ما جادت به قريحتها بوسم خاص.
وإذن فما هذه الروح وما هو طبعها الخاص؟
الروح العربية خطابية مشتعلة، لا تعرف الأناة في الفكر فضلًا عن الاستغراق فيه، ومادية محضة لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر مما يدعو إلى الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى. ومن هاتين النزعتين — الخطابة والمادية — اللتين ذهبا بها في الحياة مذهبًا خاصًّا، كان لها ذلك الطبع الشبيه بالنحلة المرحة لا تطمئن إلى زهرة حتى تغادر إلى أخرى من زهور الربيع؛ ولذلك فهي أبدًا منتقلة وهي أبدًا حائمة، تلك هي الروح العربية وذلك هو طبعها وإن فيما رأيتم من أثارها العقلية لصداق لما قلته.
وقد كان لهاتين النزعتين الأثر الكبير في إضعاف مَلَكَةِ الخيال الشعري في النفسية العربية حتى كانت آثارها على ما رأيتم؛ لأن الخيال مصدره الشعور، فما كان الشعور دقيقًا عميقًا إلا وكان الخيال فياضًا قويًّا. ولا يمكن أن تجتمع الخطابة ودقة الإحساس في نفس إلا ندورًا؛ لأن الخطابة تعتمد المزاج الناري والنظرة البسيطة والإلمامة القانعة، ودقة الإحساس تستلزم المزاج الهادئ والنظرة الطويلة المتدبرة والإحاطة الشاملة المتقصية، ولهذا كان الخطباء المصاقع والفصحاء المصاليت قَلَّمَا يجتمع لهم مع اللسن وشدة العارضة قوة الفكر وسمو الخيال.
وقد كان لهاتين النزعتين آثار أخرى في آراء العرب وأذواقهم، منها أنهم كانوا لا ينظرون إلى الشاعر كما ننظر نحن له الآن من أنه رسول الحياة لأبنائها الضائعين بين مسالك الدهر، بل كانوا لا يفرقون بينه وبين الخطيب من أنه حامي ذمار القبيلة، والمناضل عن أعراضها بلسانه، والمستفز لنخوة الحمية في أبنائها حينما تأزف الآزفة ويجد الجد. إلى أن الشاعر ينظم خطبته والآخر ينثرها نثرًا، حتى إنهم لما جعلوا لشعرائهم أرواحًا تملي عليهم الشعر، لم يجعلوا تلك الأرواح ملائكة أو آلهة تُسمِعهم الوحي وتملأ قلوبهم بالأناشيد الخالدة … كما كان في أساطير غيرهم، وإنما جعلوها شياطين تصقل لسان الشاعر وتجعله أدنى إلى بلاغة القول وجزالة الخطاب، وما ذلك إلا لأنهم لا يرون في الشاعر إلا خطيبًا ينظم ما يقول. وقد تأثر الشعر العربي بهذا الفهم الذي كان يفهمه العرب من الشاعر فكان فيه شيء كثير من الخطابة المنظومة …
ولو استقرأ الباحث الأدب العربي وبالأخص الأدب الجاهلي والأموي لَعلم أن فيه كثيرًا من هاته القصائد التي لو فُكت من قيود الشعر وأصفاد القريض لكانت خُطَبًا رائعة لا ينقصها شيء من روح الخطابة وطابعها. وماذا يكون غير الخطابة في معلقة عمرو بن كلثوم، ومجمهرة بشر بن حازم وأمية بن أبي الصلت وخداش، وملحمة الفرزدق والأخطل وجرير والراعي؟
ولو شئت أن آتي بأمثلة كثيرة من الشعر العربي الذي لا فرق بينه وبين الخطب إلا في الوزن والقافية لامتدَّ نفس القول ولضاق المجال، ولكني سأكتفي بقصيدة واحدة تدلكم على مبلغ تأثر الشعر العربي بالخطابة.
صوروا لأنفسكم أيها السادة بدويًّا موثورًا يدوي صوته بين قومه بمثل هاته القطعة النارية الملتهبة: يبكي فتاة ويأمر أمه أن تبكي، ثم يستعيد أمام قومه صورة من بسالة القتيل، ويتلهف عليه ليستثير فيهم الحمية إلى الحرب، ثم يقول إنه لم يكن خائضًا لَظَاها لولا ظلم تغلب، ليظهر براءته لدى قومه وإنه منصف محق في الثأر لابنه والانتقام له، ثم يصرخ فيهم هاته الصرخات الهائلة، يظهر لهم تغلب بمظهر الباغي الغشوم، وأنهم إن سكتوا حملوا سُبَّةَ الدهر وذلة الأبد:
فأي نفس لا تهب؟ وأي قلب لا يستجيش؟ وأي صدر لا تزخر به نخوة العز، وسَورة الأحقاد القديمة؟ حتى إذا ما استيقن من صبوة قومه إلى الحرب هدَّد تغلبَ وافتخر بقومه ليؤجج فيهم نيران الحماس وينفخ في قلوبهم من روح البطولة، ثم صاح قائلًا:
وماذا يقول بعد ذلك وقد أيقظ في أنفسهم حميتها الخامدة فاندفعت عارمة طاغية تعصف بكل شيء، وظل يردد هاته الكلمات متحسرًا آنًا، ومستبسلًا آخَرَ، ومتفجعًا مرة، ومهيبًا بقومه أخرى، وعلى صوته تتناوب النبرات المختلفة: فمن رنة الحزن إلى صيحة الانتقام، ومن لهجة المسكنة إلى صرخات الجبابرة، حتى إذا لعب بألباب قومه واستثار مشاعرهم، فأصبحت مسحورة تنتظر أمره لعبت بعطفيه نخوة العز، وهاجت بنفسه عوامل الفخر المتأصل في الطبع العربي الصميم، فنسي الحزن والدموع، وانقلب إلى فارسٍ فاتكٍ يلهج ببأسه:
ثم نهض بقومه إلى موقف الحرب يرتل لهم أغاني المجد القديم ويعيد على مسامعهم أناشيد الفوز والانتصار:
أليست هاته القصيدة إنما هي خطبة رائعة ألقاها خطيب مُفَوَّهٌ عليهم بأفواه النفوس؟ ألا تذكركم هاته القصيدة النارية بتلك الخطبة التي ألقاها (أنطونيوس) على شعب روما يطالبهم بالانتقام لقيصر، فامتلك أهواءهم وأصبح يصرفها كيف شاء وأنى أراد، فإذا هم مظاهرون له بعد أن كانوا متألبين عليه؟
ومن هاته الآثار التي أثرتها النزعة الخطابية كثرة المترادفات في اللغة العربية كثرةً هائلة، وما ذلك إلا لأن الخطابة تؤثر الفصاحة على أي شيء آخر، ولا بد للفصاحة من مورد غزير تستمد منه جمال القول وبراعة الأسلوب، ومنها ميل العرب إلى الإيجاز ميلًا قويًّا حتى إنهم ليعدونه روح البلاغة، وليس ببعيد عنا خبر ذلك البدوي الذي وقف على خطيب لا يحضرني اسمه وكان مُدِلًّا بقوله، فسأله ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز، فقال: وما الحصر؟ قال: ما أنت فيه منذ اليوم. وما ذلك إلا لأن طبيعة العرب الخطابة، والخطابة منشؤها حدة الطبع، ومن كان حَادَّ الطبع فإنه لا صبر له على الإطناب والإسهاب؛ لأن الطبع الجادَّ متسرع عجول، عجول في حكمه، عجول في فعله، عجول في قوله أيضًا. ولا يلائم هاته السرعة النفسية إلا السرعة في أداء المعاني على أخصر أسلوب، وذلك هو الإيجاز، وهاته النزعة الخطابية التي تؤثر الإيجاز وتميل إليه هي التي فرضت في الشعر العربي (وحدة البيت)، فكانت القصيدة العربية لا تدور على محور واحد تحيط به من جميع النواحي، وإنما هي كون صغير تُحشر فيه الأفكار حشرًا وتُرَصُّ فيه المعاني رصًّا …
ثم إن هذا الطابع الذي انطبعت عليه الروح العربية آدابها وأذواقها الروحية وليس للعرب به يدان، بل إن ذلك كل ما يمكن أن يُنتظر من أمة عاشت على ذلك النحو الخاص من المعيشة وفي تلك القطعة الخاصة من الأرض، فقد نشأ العرب في رقعة من الأرض ساهمة واجمة لم تجر عليها الطبيعة ريشة الفن، ولا ضربت عليها سحر الجمال، فظلت محرومة من ذلك الجمال الإلهي الذي يغمر النفس بما يفيض عليها من سعادة الحس ونشوة الشعور، حتى كأنما حقت عليها لعنة الحياة الناقمة، وحل عليها سخط الأبد الرهيب!!
شب العرب تحت سماء ضاحية صاحية، لا يحجبها سحاب مركوم، ولا يسترها ضباب كثيف، وليس تحتها غير الصحراء الأبدية الصامتة التي لا يعرف الطرْف لها حدًّا، تضرب في مراكبها سمائم القيظ وأرواح الرياح، مروعة تائهة شاحبة كأرواح ضائعة في آباد الجحيم … فكان لهم من ملامح الصحراء الشاحبة، ومن طبيعة الأرض القاحلة الجدوب، هذا النحو من الحياة الذي عاشوا عليه، هذا النحو الذي لا يعرف رغد العيش ولا روح السلام، ولا يفقه دعة الحياة الآمنة المطمئنَّة، ولا غبطة العيش الرخية الحالمة، وإنما هو ثورة جامحة كالرياح، ظامئة كالهواجر، مشرقة كشمس الظهيرة، لا ترتوي ولا تشبع، ولا تسكن إلى الراحة، ولا تخلد إلى السكون.
وكيف يستمرءون لذة الأمن الوادعة، وقد طوحت بهم يد القدر في تلك الأرض الشحيحة الممسكة التي لا يجدون فيها ما يدفع غائلة الجوع ويصد عن إضرام الحروب؟ وما الذي يشغلهم عن إسعار الحروب وهم مخلدون إلى البطالة في أكثر الفصول، وكان لهم من صحو السماء، ووقدة الصحراء، ولفح الهواجر، صفاء في النفس، وتلهب في الطبع، وحدة في المزاج.
وكان لهم من تلك الحياة النابية القلقة، ومن هذا المزاج المشتعل والطبع المتوثب، ومن هاته النفس الصاحية المشرقة، كان لهم من كل ذلك تلك الروح الخطابية الثائرة التي تعصف بكل شيء ولا تلوي على شيء، فإنه متى اجتمع للنفس صفاء القريحة وحِدَّةُ الطبع ونُبُوُّ الحياة كانت خطابية ولا ريب، لأن الحياة الثائرة تجعل هَمَّ الناس في ألسنتهم، لأن الكل يَوَدُّ قَوْدَ الجموع بلسانه وخوض المعامع بسيفه، والطبع الحاد يجعل الكلام يندفع من أقاصي النفس اندفاعًا متسقًا متوازنًا، وصفاء القريحة يعين على تخير الكلمات. وهل الخطابة في الحقيقة إلا اندفاعات منقطعة وحركات متباينة وألفاظ فخمة رائعة. وكذلك تكونت النزعة الخطابية في النفسية العربية بحكم الطبيعة وبمفعول الوسط، وكذلك كان الروح العربي خطابيًّا صميمًا. أما المادية فقد تكونت في أنفسهم لأن العرب — كما سبق — لم يكونوا من خفض العيش الجميل وغضارة الحياة الناعمة وطلاقة الطبيعة الفاتنة على شيء يبعث في أنفسهم تلك النزعة المفكرة الدءوب التي لا تفتأ تتوغل في دخائل الأشياء وأسرارها دون ملل أو فتور، أو يكسبهم تلك الطبيعة الساجية الوادعة التي تنصرف إلى ما حولها من جمال الوجود مفكرة ملتذة شاعرة. لم يكن لهم من ذلك شيء: لا تلك النزعة ولا هاته الطبيعة.
إذ ذاك شأن أمة لبست من نضارة الحياة درعًا قشيبًا وعاشت عيشة غضيرة خضلة، وتذوقت من بهجة الكون ورواء الوجود لذة شعرية صافية لم يرنقها قطوب الأرض ولا سهوم الفضاء، واكتسبت من كل ذلك مزاجًا وادعًا مطمئنًا ونفسًا خيالية شاعرة. أما العرب فقد عرفتم لهم طبعًا متسرعًا عجولًا وأرضًا مغبرَّةً كالحة لا يزالون يمشون في مناكبها عسى أن يجدوا مكانًا مخصبًا تسوم فيه راعيتهم وتمرح فيه أطفالهم فإن وجدوه حسبوا أنفسهم سعداء!!
وما أحسب أن من عاش بين مثل هذا الطبع الجموح وتلك الطبيعة العارية بمستغرق في الفكر أو متعمق في الشعور، وأنى له بمثل ذلك والطبع العجول يحتثه ولا يدعه يتريث في فكر أو عمل، والطبيعة الكالحة لا تحرك في نفسه المشاعر ولا تحيي دفائن الإحساس، وليت شعري! ما الذي يوقظ الحس وينبه طائر الخيال إن لم يكن هو ذلك الجمال الفني الذي ينسدل على الكون وينسجم على ما بين السماء والأرض؟
فقد رأيتم كيف تضافرت طبيعة الأرض ولون الحياة على خلق الروح العربية مطبوعة بطبائع الخطابة، مصبوغة بصبغة مادية خالصة.
ولكنكم حَرِيُّونَ بعدئذٍ أن تقولوا: إن هاته العوامل لا يمكن أن تؤثر إلا في العصر الجاهلي؛ إذ فيه وحده يمكن توفر هاته العلل والأسباب، أما العصر الأموي والعصر العباسي والعصر الأندلسي فهي بمعزل عن مثل هاته العوامل التي ألقت على الروح العربية ذلك الرداء، حيث قد تغيَّرت في مثل هاته العصور الأوساط الطبيعية والمعنوية التي عاش فيها العرب وألِفُوها. فما السبب إذن في أن الأدب العربي قد ظلت تسود عليه روح واحدة في جميع هاته العصور، وقد ظلت نظرته إلى الحياة هي النظرة الأولى البسيطة الساذجة التي لا تعلق بغير الظاهر المحسوس؟
- العامل الأول: الوراثة، فقد كان العصر الأموي عصرًا عربيًّا صُراحًا في طبعه ومنزعه
وشعوره، لم تختلط فيه الأمة العربية بغيرها من شعوب الأرض اختلاطًا كبيرًا
يدخل في نفسيتها عناصر أخرى غريبة عنها، ولا تبدل عليها الوسط الطبيعي الذي
عاش فيه العرب الأولون، فظلت لذلك حافظة لميراثها الروحي الذي ورثته عن
آبائها الأقدمين، معتزة به لا تبغي عنه حولًا ولا ترضى غيره.
وظلت آداب هذا العصر شبيهة كل الشبه بآداب الجاهلية الأولى، لا أثر للتجديد فيها إلا هذا الشعر القصصي الذي انفرد به ابن أبي ربيعة من بين شعراء عصره أجمعين، وإن كان جديرًا أن يسمى توسعًا لا تجديدًا؛ لأن الشعر الجاهلي لم يَخْلُ من مثل هذا الفن خلوًّا تامًّا، ولكن ابن أبي ربيعة قد بلغ فيه شأوًا لم يصلوه. وإلا هذا الشعر السياسي الذي أدخله الزعماء إدخالًا وأوجدته حالة الأمة العربية في ذلك العصر الحافل بأسباب التنافس والأحقاد. على أن هذا النوع من الشعر أيضًا قد كان معروفًا في أدب الجاهلية ولكن باسم غير هذا الاسم الذي عرف به في العصر الأموي، ولغرض غير الذي يراد منه فيه، وأعني به ذلك النوع الذي يتمثل واضحًا جليًّا في معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، هذا النوع الذي كان الشعراء يندفعون فيه اندفاعًا منشؤه تنازع القبائل لا على العرش والسلطان كما كان في أكثر المنازعات الشعرية في العصر الأموي، ولكن على الشهرة بين العرب بما يكسب الحمد ويجلب المجد.
وظلت الأمة العربية محتفظة بميراثها المعنوي إلى أن جاء العصر العباسي فاختلطت الأمة العربية بغيرها من شعوب الأرض، وامتزج الدم العربي بغيره من الدماء الأخرى امتزاجًا عظيمًا، واستوطن كثير من الأعراب المدن والأمصار يتملُّون جمال هاته الحضارة الناشئة الجميلة، فكان لهذا كله أثره في اختلاف الوسط الطبيعي ولون الحياة وفي المزاج العربي الموروث، وكان لهذا الأثر أن ظهرت في الأدب العربي ظاهرة جديدة هي الشعر الطبيعي الذي لم يعرفه الأدب الجاهلي والأدب الأموي إلا معرفة تكاد تكون منعدمة، ولكن المزاج العربي العتيد الذي لم يزل قويًّا شاعرًا بنفسه قد طبع هذا النوع الجديد من الأدب بطابعه الخاص وأسبغ عليه حُلَّةً ضافية من نزعته المادية، فكان حسيًّا لا يتحدث إلا عن اللون والشكل وما إليها إلا شيئًا قليلًا ضئيل الأثر حاول أن ينظر إلى الطبيعة نظرة قوية نافذة.
وأما الأندلسي فقد تأثر بذلك المزاج العربي الذي أورثه إياه العرب كما تأثر الأدب الأموي والعباسي من بعده ولكنه كاد يكون لنفسه مزاجًا خاصًّا لولا حكم القدر، فإن العرب لما ذهبوا إلى الأندلس مع طارق بين زياد وفتحوها أعجبتهم تلك الأرض الجميلة المخصبة، فاستوطنها كثير منهم وظلوا يتقاطرون عليها يحملون معهم أمزجتهم العربية وميراثهم الروحي الصميم الذي عملت في تكوينه العصور والأجيال إلى أن أصبحوا هناك شعبًا كثيرًا قويًّا له عاداته وأخلاقه وطباعه، وله ما للعربي القديم من أنفة وعزة نفس وحدة طبع وادِّعاء عريق، وله ما للعربي القديم من تغنٍّ بمجد أسلافه وتَمَدُّحٍ بمفاخر آبائه، حتى إن عبد الرحمن الداخل لما يَمَّمَ الأندلس ألفى الحمية العربية مشبوبة بين تلك القبائل وألفى النعرة القديمة التي نبهتها حوادث العصر الأموي تكاد تندلع عن فتنة شعواء بين اليمانية والمضرية؛ حتى إنهم كانوا يتبادلون الولاية كل عام لقبيلة! وكان هذا الشعب العربي النازح الذي بيده مقاليد الأمور ينظم الشعر بتلك الطبيعة العربية التي تنفخ فيه من روح العرب فتجعله عربيًّا لا فرق بينه وبين الشعر العربي في الشرق من حيث الروح والنزعة، بل وحتى الأسلوب، ولكن امتزاج هذا الشعب العربي بالعنصر الأندلسي امتزاجًا شديدًا، ودخول هذا العنصر في الإسلام واتخاذه اللغة العربية أداة للتعبير عن ذات نفسه من شعر ونثر وحديث، واختلاف بلاد الأندلس عن جزيرة العرب في الهواء والمشهد وطبيعة الأرض، كل هذه الأسباب قد عملت عملها فأثرت في الأسلوب الأندلسي وطبعته بطابع تلك الأرض الجميلة وصقلته بصيقل ذلك الوسط فأصبح أنيقًا رشيقًا يحاكي هواء الأندلس لطفًا ورقة، ولكن الروح الشعري قد ظل بادئ بدء كما عهدناه في جزيرة العرب، ولما طال الزمن على الأمة العربية في ذلك البلد وتأثرت بروح الأمة الأندلسية وضعف فيها المزاج العربي الموروث إذ ذاك أحست الأمة الأندلسية إحساسًا غامضًا بالحاجة إلى التعبير عن روحها الأصلية التي تستوحي من طبيعة الأندلس وتمتاح من نهر الحياة الأندلسية، وأحس الشعراء بظمأٍ داخلي في أنفسهم إلى تَعَرُّفِ منابع جديدة للشعر، فجدوا في البحث ودأبوا في الطلب، ولكنهم لم يُوَفَّقُوا في بحثهم، فلم يعثروا على المنبع الحقيقي الذي يَتَنَدَّى ماؤه على الكبد الظامئة؛ ذلك لأنهم بحثوا عن منابع الشعر في قشور الحياة وأزيائها وفَتَّشُوا عن حقيقة النفس في فنون الكلام، فجددوا في الأوزان ولم يجددوا في الروح وتفننوا في الأساليب ولم يتفننوا في الجوهر واللباب. ولو لم يعجلهم القدر المتاح لظفروا بما تَشَوَّفَتْ إليه أرواحهم ولكان في الأدب العربي نوع قوي عميق لا عهد للأدب العربي بمثله، ولكن جف القلم بما هو كائن، وأخمد القضاء ذلك اللجوج.
- العامل الثاني: ما كان يفهم من الأدب عند نقدة الإسلام؛ فإن هؤلاء النقدة كانوا لا
يفهمون الأدب على حقيقته التي ينبغي أن يُفهم عليها من أنه صوت الحياة الذي
يهب الإنسانية العزاء والأمل ويرافقها في رحلة الحياة المُمِلَّةِ المضنية
المتعسفة في صحراء الزمن، وأنه المعزف الحساس الذي توقع عليه البشرية
مراثيها الباكية في ظلمة الليل وأناشيدها الفرحة في نور النهار، وإنما
كانوا يفهمون منه فهمًا معكوسًا يختلفون في تأويله ويتفقون على مداوله، فهم
يتفقون على أنه لا يقصد لنفسه كفنٍّ جدي من فنون الحياة له روحه وأطواره
ونزعاته، لكنهم يختلفون في الغرض من استعماله، أما القدماء كعمرو بن العلاء
وطبقته فقد كانوا ينظرون إلى الأدب كوسيلة من وسائل الدين؛ لأنهم كانوا لا
يمارسونه ويدرسونه إلا ليتفهموا به غريب القرآن والسُّنَّةِ، وهذا الفهم
الذي فهموا به الأدب قد جعلهم لا يفهمون من الأدب إلا أنه ألفاظ وتراكيب
وجمل وأساليب ليس وراءها روح ولا فكر، وهو الذي جعلهم يعتقدون أن الأدب
الجاهلي هو من خير المنتخبات العقلية التي عرفها العالم كأن العرب هم كل ما
بَرَأَ الله من قرائح وعقول. وقد لج بهم هذا الفكر حتى تعصبوا للأدب
الجاهلي وازدروا ما أنتجه الذهن الإسلامي، وحسبكم دليلًا ما ذكره الأصمعي
من أنه جلس بمجلس أبي عمرو بن العلاء ثماني حجج ما سمعه استدل ببيت إسلامي
قط. فكان إذا سئل عن ذلك أجاب: «ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من
قبيح فمن عندهم، ليس النمط واحدًا. ترى قطعة من الديباج وقطعة مسح وقطعة
نطع» ولماذا هذا؟ لأن الشعر الجاهلي أمتن أو أغرب؟ كلا فإن في شعر الأخطل
والفرزدق ما فيه من متانة وجزالة وفي رجز العجاج ورؤبة من الغرابة ما يعجز
عنه شعراء الجاهلية، ولكن لأن الشعر الجاهلي هو الذي يثقون بما فيه من لغة
يتخذون منها مادة صالحة لتفسير القرآن وشرح الحديث ومعرفة ما فيهما من
بلاغة وإعجاز.
وعلى هذه الفكرة الدينية في فهم الأدب، هذه الفكرة التي لا تفهم منه إلا أنه ألفاظ فخمة جاهلية بنوا لهم منطقًا خاصًّا غريبًا لا يخلو من شذوذ، وهو أن الخير كل الخير — إذا أراد الشعراء أن ينظموا الشعر! — هو أن يتابعوا العرب في الطريقة التي ساروا عليها في شعرهم من بدء القصائد بالنسيب والتشبيب ووصف تَرَحُّلِهَا وآثارها الباقية من دمنة مسودة ونوى جفيف، أو وتد مضروب وخباء منصوب وماشية راعية وإبل راعية، حتى ولو كان الشاعر من سكان الحواضر الذين لا يعرفون البادية ولا يفقهون الخباء! وحتى ولو كان شيخًا متهدمًا لا يخفق قلبه بالحب ولا تطربه نغمات الغزل، ومن التوسل إلى المدح بامتطاء الإبل الضوامر وقطع الفلوات المترامية وخوض الموامي القاحلة التي يرقص في أطرافها الآل ويلتمع السراب حتى ولو كان سميرًا من سُمَّارِ الملك الذين لم يتجشموا لرؤيته غير قطع شارع أو منعرج! ولم لا يكون ذلك خيرًا ولم لا يكون واجبًا؟
أليس امرؤ القيس قد كان لا يبدأ القصيدة إلا بالتحدث عن محبوبته؟ أليس النابغة أو الأعشى قد كان لا يمدح الملك إلا بعد أن يصف ما اعترضه في سبيله من الفلوات المقفرة التي جابها بأعمال المطايا؟ كأنهم يحسبون — سامحهم الله — أن مجرد كون امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية قد قال الشعر على نحو خاص يلائم طبعه وحياته يلزم الشعراء من بعده باتباعه واقتفاء خطاه وبأن لا يخرجوا على ما سَنَّه لهم أميرهم الضِّلِّيلُ من قانون وشرع. ألا ساء ما يحكمون!
وهذا المذهب اللفظي والديني في فهم الأدب هو الذي كان أبو نواس يندد عليه متبرمًا ساخرًا فيقول:
راح الشقي إلى دار يسائلهاورحت أسأل عن خمارة البلديبكي على طلل الماضين من أسدثكلت أمك قل لي من بنو أسدومَن تميم؟ ومن بكر سقوا مهلًاليس الأعاريب عند الله من أحدلا جف دمع الذي يبكي على حجرولا شفي قلب من يصبو إلى وتد!ويقول:
لا تبك رسمًا بجانب السندولا تحد بالدموع للجددولا تعرج على حمى عرجوالنوء كالحوض بالملا الجلدوعد عنها إلى دساكركمتربط بها خيمة إلى وتدولكنه بالرغم عن ذلك كان كثيرًا ما يسترضي أنصار هذا المذهب لكي يقبلوا على قصائده ويروونها فيتبع ذلك المذهب الذي يطربون له، فيبكي الربع وينعى الأحبة ويصف الناقة والمفازة وهو لم يغادر بغداده كما فعل في قصيدته:
أربع البلا! إن الخشوع لبادِعليك وإني لم أخنك وداديوأما الطائفة الثانية من النَّقَدَةِ فهي سليلة الأولى وربيبتها، وقد كان رأيها في الأدب أنه وسيلة من وسائل اللهو وتزجية الفراغ، وعلى عهد هؤلاء انتشرت تلك الأفكار المسمومة، التي لا تفهم من الشعر إلا أنه نوع من أنواع الشحاذة المنظمة وضربٌ من ضروب الاستجداء لا غير، والتي تجأر بكل قحة ورقاعة أن أعذب الشعر أكذبه، ومن أيمة هاته الطائفة — بكل الأسف — وطنينا ابن رشيق، فقد كان يصرح بمثل هاته الآراء في غير موضع من مواضع العمدة، وكان من آثار هاتين الطائفتين في الأدب العربي أن أصبح لا يُعْنَى فيه إلا باللفظ وما مَتَّ إليه من مجاز واستعارة وجناس ومقابلة، وإن كثرت ثروته اللفظية وقلت ثروته المعنوية، إذ انصرف الشعراء إلى تمويه الألفاظ وتنويقها، وتجديد الأساليب المتباينة دون أن يجدوا شيئًا في جوهر الشعر وروحه، بل ظل كما عهده العرب في الروح والفكر والخيال، وإن كان الشعر العربي كذبًا أكثره. وكيف لا يكون كذلك وقد أصبح من الفرض على الشاعر أن يستهل القصيدة بالغزل والنسيب عند إرادة المدح وأن يصرف هَمَّهُ في المدح إلى المبالغات الكاذبة والإطراء البغيض؟
- العامل الثالث: عدم اطِّلَاعِ العرب في جميع العصور الماضية على آداب الأمم الأخرى، فإن
العرب بالرغم عن أنهم ترجموا من مختلف العلوم العقلية ما أحدث الأثر الجميل
في الذهن العربي لم يترجموا من آداب الأمم الأخرى ما يحدث انقلابًا في
الروح العربي، فهم قد ترجموا فلسفة اليونان وحكمة فارس وعلومها، أما آداب
اليونان والرومان فإنهم لم يترجموا منها شيئًا، وأحسب أنهم لم يترجموا هاته
الآداب لما فيها من النزعة الوثنية، ولكن هذا لا يمنع الشك والتساؤل، فما
لهم لم يترجموا أدب فارس والهند وقد ترجموا حكمتها واطلعوا عليها؟ هذا سؤال
لم يُجب عليه التاريخ، وما أخال السبب في ذلك إلا الغرور، فقد كان العرب
معتزين بأدبهم يحسبونه أنه هو كل شيء في العالم فلم يجدوا حاجة تدفعهم إلى
ترجمة الآداب الأخرى وظل المثل الأعلى الذي تحتذيه العصور الإسلامية في
روحه وأسلوبه هو الشعر الجاهلي.
فكان لعدم اطلاع العرب على آداب الأمم الأخرى أثر كبير في إبقاء الروح الشعرية العربية على حالها في جميع الأجيال زيادة على تلك الدعايات المتكررة التي قام بها طوائف النقدة في جميع العصور، وعلاوة على ما حمل التاريخ هاته الأمم والشعوب من ذلك الميراث الروحي الذي خلفه العرب لأحفادهم.
وقد تآلفت هاته العوامل الثلاثة على إبقاء ذلك المزاج العربي الصميم في نفسيات الأمم الإسلامية وعلى طبع آدابها بالطابع الذي انطبع به الأدب الجاهلي من قبل.