مَن هم اللاأدريون الأوائل؟
توجد طريقتان للتعامل مع هذا السؤال. الأولى أن نسأل: مَن هم أول مَن «أطلقوا» على أنفسهم اسم «اللاأدريين»؟ إجابة هذا السؤال واضحةٌ ومباشِرة: عالِمُ الأحياء توماس هِنْري هكسلي (١٨٢٥–١٨٩٥)؛ والد فيرجينيا وُولف الكاهنُ السابق لِيزْلي ستِيفن (١٨٣٢–١٩٠٤)؛ والفيلسوف هِربِرت سبِنسَر (١٨٢٠–١٩٠٣). الطريقة الثانية للتعامل مع السؤال هي أن نتساءل عمَّن ابتكر «فكرة» اللاأدرية، تحت أي مُسمًّى كان، وليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال. لقد تأثَّر هكسلي وستيفن وسبنسر جميعًا بالكُتَّاب الأوائل، ومن الممكن تتبُّع الاهتمام بحدود المعرفة الإنسانية عبر تاريخ الفلسفة والعلم والدِّين بأكمله تقريبًا. وفي سردنا لتاريخ اللاأدرية (على نحوٍ موجَز وغير مكتمل تمامًا)، سنبدأ بأوائل هؤلاء اللاأدريين البارزين في العصر الفيكتوري، ثم سننتقل بالزمن إلى مَن سبقوهم.
توماس هكسلي و«الجمعية الميتافيزيقية»
في إحدى أمسيات نوفمبر عام ١٨٦٨، وفي منزله الواقع في كلابام كومون، كان جيمس نولز، محرِّر «مجلة القرن التاسع عشر» الدَّورية، يستضيف ناظر مدرسته العجوز تشارلز بريتشارد والشاعر ألفريد تينيسون. اقترح نولز تشكيلَ مجتمع لاهوتي، يكون الغرض منه مناقشة القضايا الدينية بالحياد والانفتاح اللذَين ميَّزا المناقشات العلمية. ولما أن تلقَّى نولز تعهدًا من الآخرين بالانضمام إلى مثل هذه المجموعة، وجَّه دعوات للأفراد الذين يغطُّون مجموعة واسعة من وجهات النظر الدينية. وكان أحد هؤلاء الدكتور ستانلي؛ كاهن وِستمِنستَر. رأى ستانلي أن التركيز الحصري على المسائل اللاهوتية منظور ضيق للغاية، ولن يفيد كثيرًا في سد الفجوة المتزايدة بين العلم والدين. عندئذٍ اقترحت الليدي أُوجَستا، زوجةُ ستانلي، أن يُطلق على المجموعة اسم الجمعية الميتافيزيقية، واعتُمِد اقتراحها. ووُسِّعت العضوية بعد ذلك لتشمل العلماء والفلاسفة والسياسيين، ومنهم رئيس الوزراء ويليام إيوارت جلادستون.
وكان من بين هؤلاء الأعضاء الأوائل في الجمعية، توماس هِنْري هكسلي، الذي كان في ذلك الوقت عالمًا معروفًا ومحاضرًا عامًّا. بعد أن درس الطب، أمضى أربع سنوات جرَّاحًا مساعدًا على متن سفينة «إتش إم إس راتِلسنيك» وعُيِّن محاضرًا في المدرسة الملَكية للمناجم في عام ١٨٥٤، وبعد ذلك أصبح أستاذًا فوليريًّا لعلم وظائف الأعضاء في المعهد الملكي. أكثرُ ما يشتهر به هكسلي اليوم هو تأييده لنظرية الانتقاء الطبيعي لداروين. فعلى عكس داروين، الذي كان ينزع إلى التجنُّب والانطواء، كان هكسلي خطيبًا نشيطًا ومؤثِّرًا للغاية ووصل إلى جمهور واسع من خلال محاضراته وكتاباته العديدة في الدوريات الرائجة. وقد أكسبه دفاعه العنيد عن الداروينية لقبَ «الكلب الحارس لداروين».
ومن بين أعضاء الجمعية الميتافيزيقية، أدرك هكسلي أنه على الرغم من مدى تنوُّع مجموعة الآراء الممثَّلة، بدا أن كل الأعضاء الآخرين لديهم نظرةٌ محدَّدة للعالم غالبًا ما يمكن التعبير عنها بكلمة واحدة: كالوضعية، أو المادية، أو الإيمان بالله، أو غير ذلك. تساءل هكسلي عن الاسم الذي سيصف موقفه. وكانت المشكلة هي أنه لم تكن هناك كلمة موجودة مناسبة لذلك تمامًا؛ فكلُّ مصطلح كان يستقر عليه كان يشير إلى مستوًى من الثقة لم يشعر به. خطر له بعد ذلك أنَّ ما حدَّد نظرته هو هذا «الافتقار إلى اليقين» على وجه التحديد. ولمَّا لم يكن لهذه النظرة اسمٌ حتى ذلك الوقت، فقد اخترع لها واحدًا: اللاأدرية (أو ربما تَذَكَّر كلمة «لاأدري» من رسالةٍ كتبَتْها قبل عشر سنوات إيزابيل أرونديل، زوجةُ المستكشف السير ريتشارد بيرتون).
ثمَّة قصتان عن كيفية اختيار هكسلي لهذا الاسم. تذكُر القصة الأولى أنه وَفقًا لرسالة كتبَها محرِّر مجلة «سبيكتيتور» ريتشارد هاتون (اقْتُبِسَت لاحقًا في طبعة عام ١٨٨٨ لِما أصبح فيما بعدُ قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية)، استوحى هكسلي الاسم من الفقرة التالية في العهد الجديد، التي تسرُد زيارة القديس بولس إلى أثينا:
حينَئِذٍ، وَقَفَ بُولُسُ في وَسطِ أريُوسَ بَاغُوسَ وَقَالَ: «يَا رِجَالَ أثِينَا، لَاحَظتُ أنَّكُم مُتَدَيِّنُونَ جِدًّا فِي كُلِّ شَيءٍ. فَقَدْ تَجَوَّلْتُ فِي المَدِينَةِ وَرَأيْتُ مَعبُودَاتِكُم، فَوَجَدْتُ مَذْبَحًا كُتِبَ عَلَيْهِ: «هَذَا المَذْبَحُ لإلَهٍ مَجهُولٍ». فَأنَا أُنَادِي لَكُمْ إذَنْ بِمَنْ تَعْبُدُونَهُ وَأنْتُم تَجْهَلُونَهُ.»
لكن وَفقًا لرواية هكسلي الخاصة عن هذه المسألة، التي نُشرت بعد عشرين عامًا من صياغته لهذا المصطلح لأول مرة في عام ١٨٦٩، كان يهدف إلى التفريق بين عدم يقينه وادعاءات المعرفة السِّرِّية والخاصة التي تميَّز بها الغُنوصيون. كان الغُنوصيون الأصليون طائفةً دينية سبقت المسيحية، وكانت تدَّعي فهمًا خاصًّا لطبيعة الإله وإرادته. لاحقًا، اندمجت هذه الطائفة مع المسيحية لإنتاج مجموعة (مجموعة هامشية، كما يراها البعض) تميَّزت عن المسيحيين العاديين بالإيمان بفهمٍ رفيع للأناجيل الموروثة من التلاميذ، وأخيرًا تميَّزت عن يسوع نفسه. رصد هكسلي مَيلًا مشابهًا نحو الغُنوصية عندما تأمَّل بعض معاصريه المؤمنين. أما هو، فعلى النقيض من ذلك، كان لاغُنوصيًّا؛ أي لاأدريًّا.
انتشار الكلمة
يخبرنا هكسلي أنه انتهز «أقرب فرصة لعرض» الكلمة الجديدة في اجتماع للجمعية الميتافيزيقية. وعلى الرغم من أنه ربما استعرضها في المحادثات، فلم يفعل ذلك في مؤلفاته المطبوعة لعدد من السنوات، ومعظم مَن استخدموا هذا المصطلح منذ عام ١٨٦٩ فصاعدًا لم يعرفوا أن هكسلي هو مَن اخترعه بالأساس. كان أول استخدامٍ منشور له لهذه الكلمة في كتابه «عن هيوم»، الذي ظهر عام ١٨٧٨، بعد تسع سنوات من تفكيره في هذا المصطلح لأول مرة. وبحلول ذلك الوقت، أصبح مصطلحًا شائعًا، ويرجع الفضل في ذلك في المقام الأول إلى جهود مُحرِّري المجلات الرائجة. وكان أحد هؤلاء هو ريتشارد هاتون، الذي كتب العديد من المقالات عن هذا الموضوع في صفحات مجلة «ذا سبيكتيتور». في مقالٍ بعنوان «البابا هكسلي»، يصف هاتون هكسلي بأنه «لاأدري عظيم، بل صارم، يحث جميعَ الرجال على معرفة مدى قلةِ ما يعرفونه». جيمس نولز أيضًا أسهم في انتشار الكلمة من خلال مجلته الدورية «ناينتينث سينشري». كانت الدوريات الشهيرة الأخرى التي ظهر فيها الاسم هي «لِيجر أوَرْ»، و«فرِيزرز ماجازين»، و«نوتس أند كوِيريز»، و«وِستمِنستر رِيفيو». وتناولت الموضوعَ أيضًا الدورياتُ الدينية؛ مثل المجلة اللاهوتية، «ثيولوجيكال ريفيو»، والمجلة الربع سنوية للكنيسة، «تشيرش كوارتيرلي ريفيو».
ومن أوائل الأشخاص الذين صرَّحوا علنًا أنهم لاأدريون صديقُ هكسلي: ليزلي ستيفن، الذي نشر في عام ١٨٧٦ مقالًا بعنوان «اعتذارٌ مِن لاأدريٍّ». كان ستيفن قد نشأ في منزل مسيحي مُتديِّن، وأخذ نذوره الكهنوتية في عام ١٨٥٥، وفي العام التالي انتُخِب للالتحاق بزَمالة في «ترينيتي هول» بكلية كامبريدج. على الرغم من ذلك، كان يعاني، في غضون خمس سنوات، شُكوكًا دينية قادته حِدَّتها، في إحدى الروايات، إلى التفكير في الانتحار. بحلول عام ١٨٦٢، شعر بأنه غير قادر على تقديم الخدمات الجامعية، وبعد سنوات قليلة استقال من زمالته. وبعد فترةٍ قضاها في الولايات المتحدة، استقر في لندن؛ حيث أصبح محررًا لمجلة «كورنهيل»، وأوَّل محرِّر ﻟ «قاموس السيرة الذاتية الوطنية». وقد حصل على لقب فارس في عام ١٩٠٢. يوضِّح «اعتذارٌ مِن لاأدريٍّ» مدَى ابتعاده عن معتقَداته الدينية السابقة، ورفضه الجدل اللاهوتي باعتباره تلاعُبًا فارغًا بالألفاظ. وصحيحٌ أنه أعلن أنه غير قادر على تقبُّل الإيمان بإله عادل في ظل وجود المعاناة، لكنه لم يَعدَّ نفسه مُلحدًا.
اللاأدرية من أحد منابر أُكسفورد
على الرغم من أن قادة الكنيسة سارعوا إلى رمي اللاأدرية بتهمة أنها اسمٌ آخر للإلحاد فحسب، فإنَّ أحد أوائل الأشخاص الذين اعتبرهم هكسلي من المناصرين للفكرة كان من رجال الكنيسة البارزين وهو، هِنْري لونجفِيل مانسل، وذلك بناءً على محاضراته التي ألقاها ضمن فعاليات «محاضرات بامبتون» في أكسفورد عام ١٨٥٨ من منبر «كنيسة الجامعة، كنيسة سانت ماري». كان القس جون بامبتون قد أسَّس برنامجَ «محاضرات بامبتون» في عام ١٧٨٠ بغرض الدفاع عن العقيدة المسيحية. وفي ضوء نوايا المؤسِّس، كان موضوع محاضرات عام ١٨٥٨ هو «حدود الفكر الديني»، الذي كان موضوعًا جريئًا نوعًا ما. لاقت المحاضرات نجاحًا كبيرًا، وفي العام التالي، عُيِّن مانسل أستاذًا للفلسفة الأخلاقية والميتافيزيقية بزمالة وينفليت في جامعة أكسفورد. في عام ١٨٦٦، شغَل منصب الأستاذ الملَكي لقسم التاريخ الكَنَسي، وفي عام ١٨٦٨، قبل ثلاث سنوات فقط من وفاته، أصبح عميدًا لكنيسة القديس بولس في لندن.
كانت رسالة مانسل مزيجًا من التقيُّد بالعقيدة التقليدية (وإن لم يكن يرى الأمر بهذه الطريقة) والهرطَقة. فالإله، بوصفه كيانًا ساميًا، يقع خارج حدود المعرفة الإنسانية، وهي ليست إلا معرفة محدودة. ومن ثمَّ؛ بالنسبة إلينا، لا يمكن معرفة الإله. على الرغم من ذلك، عبَّر الإله عن مشيئته إلى الإنسان، وهذه الرسائل محفوظة في النصوص المقدسة. ولذا، فالنصوص المقدسة فوق النقد، ويجب أن نسترشد بها في إيماننا.
قد يبدو أن هذَين الاتجاهَين الفكريين — محدودية الفكر البشري وكونه عُرضة للخطأ من ناحية، وعصمة الكتب المقدَّسة من ناحية أخرى — متضاربان. إذا كانت النصوص المقدسة عملًا بشريًّا، وكان الإنسان غيرَ معصوم من الخطأ، إذن فالنصوص المقدَّسة نفسها غير معصومة من الخطأ. كيف يمكننا التأكد من أنها تنقل أيَّ حقائق فعلية عن الرب؟ وإذا كانت تنقل مثل هذه الحقائق، ألا يكون لدينا إذن معرفةٌ بالرب في نهاية الأمر؟ غير أنَّ مانسل يتجنَّب هذا التناقُض من خلال نظريته عن «الحقيقة التنظيمية». فهو يرى أنَّ النصوص المقدَّسة مستلهَمة من الإله؛ لذا فهي تُعطينا طريقًا مباشرًا إلى مقاصده، لكنها لا تكشف لنا عن طبيعة الرب الحقيقية، بل الطريقة التي يُريدنا الرب أن نتصوَّره بها. ومن ثَم، كلمات الكتاب المقدَّس واللاهوت «تنظيمية»: فهي تضع حدودًا لما ينبغي أن نفكِّر فيه عن الرب وما لا ينبغي أن نفكِّر فيه، وكيف يجب أن نتصرف تبعًا لذلك. ولكنها لا تعكس حقيقته الكاملة. وفي اللحظة التي نُحاول فيها تصوُّر ماهية الرب في ذاته، على عكس الطريقة التي يكشف بها عن نفسه للإنسان، ينتهي بنا المطاف إلى التناقُض والارتباك. لا بد أن نكتفيَ بالمظاهر وحدَها. كانت تلك هي نسخة مانسل الفريدة من اللاهوت السلبي.
اتَّقد هكسلي حماسةً عندما قرأ محاضرات مانسل، لكن حماسته هذه لم تكن بشأن الدفاع عن الكتاب المقدس، بل بشأنِ ما قاله مانسل عن المعرفة الإنسانية، وقد أوصى آخرين بقراءة هذه المحاضرات. على الرغم من ذلك، مرَّت عشر سنوات أخرى قبل أن يجد مسمًّى للموقف الذي رصده في محاضرات مانسل التي نُشِرَت تحت عنوان «حدود الفكر الديني».
تصحيح رأي هكسلي: المبدأ اللاأدري
من الحقائق الغريبة أنه بين عامي ١٨٦٩ و١٨٨٣، وهي الفترة التي وصلت فيها مناقشة اللاأدرية إلى ذروتها، لم يفصح هكسلي قط في مؤلَّفاته المطبوعة أنه مخترِع الكلمة. فلماذا صمت طويلًا؟ يبدو أنه كان سعيدًا جدًّا بأنَّ آخرين، مثل ريتشارد هاتون، يُروِّجون لها؛ إذ ربما رأى أنَّ ذلك سيجعل للكلمة تأثيرًا أكثرَ فعالية على الوعي العام. وهو يشير في روايته الخاصة بالمسألة إلى أنه لو كان قد عُرِف منذ البداية أنه هو مُنشئ هذا المصطلح، لكان قوبل ببعض الشك.
في نهاية المطاف، خدعه محرِّر مجلة جديدة تُسمَّى «اللاأدرية السنوية»، للإدلاء باعتراف علني. ففي ردٍّ منه على رسالةٍ بعثها إليه محرر المجلة، تشارلز واتس، أقر هكسلي أنه مخترع الكلمة، معتقِدًا أن هذه المراسلة خاصة تمامًا، وثار غضبًا عندما نشر واتس رسالته في العدد الأول من المجلة.
غير أنه لم يمضِ وقت طويل على هذه الواقعة إلى أن أصبح لدى هكسلي ما يدفعه إلى الإعلان عن موقفه صراحة. فقد وجد أنه يُحسَب على فريقين متعارضَين. فمن ناحية، كانت هناك شكوى من رجال الكنيسة وآخرين من أن اللاأدرية ليست سوى غطاء للإلحاد وتقويض للدِّين. كان من أبرز شخصيات هذا الفريق، الدكتور هنري ويس، مدير كلية كينجز كوليدج في لندن، الذي وصف اللاأدريين ﺑ «الكفار». ومن ناحية أخرى، غالبًا ما كان هكسلي يوضَع في نفس الخانة مع هربرت سبِنسَر، الذي حاجج مؤيدًا الوجود الحقيقي ﻟ «مطلَق» لا يمكن معرفته، وقد بدا تعريف هذا الكيان شبيهًا بتعريف الإله على نحوٍ يثير الريبة. وجد هكسلي أيضًا أن اللاأدرية تُقَدَّم على أنها شبيهة بدِينٍ ما، أو عقيدة لها بنود الإيمان الخاصة بها، وإن كانت سلبية إلى حدٍّ ما. يبدو أن اللاأدرية كانت تتخذ بالفعل طابعَ المعتقَدات التي وجدها القديس بولس لدى الأثِينيين. وأخيرًا، في عام ١٨٨٩، قرَّر هكسلي وضْعَ الأمور في نِصابها الصحيح. وفي مقاله «اللاأدرية والمسيحية» كتب يقول:
لا يمكن وصفُ اللاأدرية على نحوٍ صحيح على أنها عقيدة «سلبية»، ولا على أنها عقيدة من أي نوع في واقع الأمر، إلا إذا كنا نعني أنها تُعبِّر عن الإيمان المطلَق بصحة مبدأ محدَّد، وهو مبدأ أخلاقي بقدرِ ما هو فكري. يمكن صياغة هذا المبدأ بطُرقٍ مختلفة، لكنها جميعًا تتجسَّد فيما يلي: من الخطأ أن يزعم الإنسان أنه متأكد من الحقيقة الموضوعية لأي افتراضٍ ما لم يتمكن من تقديم دليل يُبرِّر هذا اليقين منطقيًّا. هذا ما تؤكده اللاأدرية؛ وهو في رأيي، جوهر اللاأدرية وكلُّ ما تُعنى به.
ويضيف فيما بعدُ قائلًا:
وأنا لا أهتم كثيرًا بالحديث عن أي شيء بوصفه «لا تمكن معرفته».
في هذه الملاحظات المتأخرة، يحاول هكسلي أن ينزع عن المصطلح الذي صاغه مختلفَ الدلالات التي ارتبطت به من خلال كتابات الآخرين وفي أذهان الجمهور. ولكنها كانت بمثابة معركة خاسرة؛ فبحلول الوقت الذي كُتبت فيه هذه المقالة، كان «قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية» قد عرَّف كلمة «اللاأدري» بالفعل بأنها «الشخص الذي يعتقد أن الدليل على أي شيء فيما وراء الظواهر المادية غير معروف، ولا يمكن معرفته، وذلك وفقًا لما يمكننا الحكم عليه».
إنَّ هكسلي يستعصي على التوصيف وفقًا للشروط التي قدَّمناها في الفصل السابق. فهو ليس لاأدريًّا قويًّا؛ لأنه لا يذهب إلى حد القول بأننا لا يمكننا أن نمتلك المعرفة بشأن وجود الإله وطبيعته. وإذا كان لاأدريًّا ضعيفًا، فإنَّ لاأدريته الضعيفة تقوم على مبدأ، وهو مبدأ عدم ادعاء اليقين أبدًا بشأن أيِّ شيء ليس لدينا مبرِّر كافٍ له، وهذا هو: «المبدأ اللاأدري».
عدم إمكانية معرفة عالَم الباطن: إيمانويل كانط
توصَّل مانسل إلى وجهات النظر التي عبَّر عنها في محاضرات بامبتون، نتيجةً لتأثُّره الشديد بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤). قلة قليلة من جمهور مانسل في كنيسة «سانت ماري» هم مَن كانوا يعرفون أعمال كانط. وصحيحٌ أنَّ كتاباته تمثِّل صعوبات هائلة لأي شخص يرغب في فهم وجهة نظره، لكن أولئك الذين بذلوا الجهد اللازم لقراءتها بعنايةٍ يرون أنه أحدُ أعظم المفكرين على مر العصور. وتجعله تأمُّلاته عن المعرفة جزءًا أساسيًّا من أي تاريخ يتعلَّق باللاأدرية.
عاش كانط طوال حياته في كونيجسبيرج (كالينينجراد الآن)، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية البروسية. دَرَّس في الجامعة سنواتٍ عديدة في منصب أستاذ بريفاتدوزنت، وهو منصب من دون راتب، وكوفئ على صبره عندما انتُخِب وهو في السادسة والخمسين من عمره لرئاسة قسم المنطق والميتافيزيقا، وهو المنصب الذي شغَله حتى عامه الثاني والسبعين. وبحلول الوقت الذي عُيِّن فيه في هذا المنصب المرموق، كان قد ألَّف كُتبًا في الرياضيات والفيزياء، وكذلك الفلسفة. لكنه خلال شَغْله لهذا المنصب كرَّس نفسه للفلسفة، وفي تلك المرحلة العمرية التي كان الكثير من الناس في ذلك الوقت يعتبرونها خريفَ عمرهم نشر الأعمال التي اشتهر بها: «نقد العقل المحض» (١٧٨١) و«نقد العقل العملي» (١٧٨٨).
في «نقد العقل المحض»، يقدِّم كانط ردَّه على النظريتَين الرئيسيتين للمعرفة: الإمبريقية، التي سادت في بريطانيا في ذلك الوقت، والعقلانية، التي سادت في القارة الأوروبية. وفقًا للإمبريقية، فإنَّ مصدر المعرفة بالعالم مستمَدٌ بالكامل من الخبرة الحِسية. وعلى النقيض من ذلك، ترى العقلانية أنه من الممكن اكتسابُ المعرفة اكتسابًا بحتًا من خلال استخدام العقل. ويعتقد كانط أن المنهجَين كليهما خاطئان. فالإمبريقية خاطئة؛ لأنه على الرغم من أن الخبرة قد تكون «فرصة» لاكتسابنا المعرفة، فإنها لا يمكن أن تكون «المصدر» الوحيد للمعرفة؛ لأن التجربة البحتة (إن أمكن وجودُ شيء من هذا القبيل أصلًا) لن يكون من الممكن تفسيرها على الإطلاق. لا بد أن يفرض العقل على الخبرة فئاتٍ من التفكير قبل أن تصبح قابلة للفهم، وهذه الفئات ليست منفصلة عن العقل. ومن ناحية أخرى، لا يمكن للعقل المحض أن يمنحنا المعرفة، ومحاولات إثبات الحقائق المتعلِّقة بالعالم على أساس العقل وحدَه تؤدي إلى التناقُض. وفي «نقد العقل المحض»، يقدِّم كانط أمثلة بارزة على ذلك تتجسَّد في «تناقُضاتٍ أربعة للعقل المحض»، يتكون كلُّ تناقض منها من حُجَّتين، عند وجودهما جنبًا إلى جنب، تؤدِّيان إلى استنتاجات مُتناقضة. والنتيجة أننا نُضطر على ما يبدو إلى اعتقاد أشياء متناقضة عن العالم. يتعلق «التناقض الأول» بالحدود المكانية والزمانية للعالم: أن العالم كان له بداية في الزمن، وأنه لم يكن كذلك؛ وأن العالم محدود من حيث النطاق المكاني، وأنه ليس كذلك. ويتعلق التناقض «الثاني» ببنية الأشياء: أن الأشياء تتكوَّن في نهاية المطاف من أشياءَ بسيطة ليس لها أجزاء، وأن مثل هذه الأشياء البسيطة ليس لها وجود. ويتعلق التناقض «الثالث» بالحرية: أننا أحرار، وأننا مقيدون بقوانين السببية التي لا فِكاك منها. ويتعلق التناقض «الرابع» بوجود كينونة عُليا: وهو أنه توجد كينونة وجودها (على عكس وجودنا) ضروري للغاية، وأن مثل هذه الكينونة غير موجودة. لا عجب إذن أن الميتافيزيقا، ذلك الفرع من الفلسفة الذي يُفترَض أنه يخبرنا بالطبيعة الحقيقية للواقع، غارقةٌ في الجَدَل!
فما حل هذه المعضِلة؟ هل لدينا أي معرفة على الإطلاق؟ الحل، كما يقترح كانط، هو الاعتراف أولًا بأن المعرفة تقتصر على الأشياء التي يمكن أن تكون لدينا خبرة بشأنها، وهو ما يصِفه كانط بعالَم «الظاهر»؛ وثانيًا، أن البُنى التي يستخدمها العقل لكي تصبح الخبرة مفهومة — بُنًى مثل المكان والزمان — لا تنتمي إلى الأشياء بمعزل عن خبرتنا معها. هذا العالم الذي يتجاوز الخبرة هو عالَم «الباطن». لا يمكننا أن نقول أيَّ شيء عن هذا العالم، وربما لا يمكننا حتى قول ما إذا كان موجودًا أم لا، ومع ذلك، فربما نستطيع أن نقول ما هو «ليس» عليه.
فأين موقف الإله من هذا؟ لا يمكنه أن يكون جزءًا من عالم الظواهر؛ إذ ينبغي أن يتجاوز الإله كلَّ الخبرات. وعند تأمُّل «التناقض الرابع» بخصوص الكيان الضروري، قد نتوقَّع من كانط أن يقول إن الإله هو أحدُ تلك البُنى الفكرية التي لا يسعُنا إلا أن نفرضها على فهمنا للعالم، لكنها لا تتوافق مع أي شيء في عالَم «الأشياء في ذاتها» (هذا إن كان من المشروع أصلًا الحديث عن وجود هذا العالَم). إننا لا نصل إلى الله من خلال الخبرة الحِسِّية، لكننا لا نصل إليه من خلال العقل الخالص أيضًا. كانت هناك محاولات لإثبات وجود الله من خلال الحجة العقلانية وحدَها، لكنَّ كانط أظهر أنها محاولاتٌ فاشلة، بعد أن أفادنا بتصنيف هذه المحاولات. وبنهاية «نقد العقل المحض»، لا يبدو اللاهوت إجمالًا في وضعٍ جيد.
غير أنَّ كانط لم يتحدَّث بعدُ عن الأخلاق، وهذا ما فعله في «النقد» الثاني: «نقد العقل العملي». نحن ندرك في داخلنا وعيًا بما يُسميه كانط ﺑ «الضرورة الحتمية». فبعض الأشياء تبدو لنا أنها الشيء الصحيح الذي ينبغي فِعله إذا أردنا تحقيقَ أهداف معينة، وهو يصفها بأنها ضرورات «افتراضية». لكن الضرورة الحتمية لا تعتمد من هذه الناحية على أهدافٍ معينة قد تختلف من شخص لآخر؛ فما تتطلَّب منَّا فِعله هو الصواب المطلَق، دون أي قيد أو شرط. وهذه الضرورة الحتمية هي التي تقودنا إلى الله؛ أن الله هو المشرِّع الأعلى.
أيُعَد كانط لاأدريًّا؟ يوجد سببٌ للاعتقاد بأنه لاأدريٌّ نوعًا ما؛ وهو أنه مهتم برسم حدود المعرفة، وهو يضع لها حدودًا أكثرَ إحكامًا مما كانت ستضعها بديهتُنا. فعن العالم الذي يتجاوز الخبرة يقول كانط إننا لا نستطيع أن نعرف شيئًا. إنَّ هذه اللاأدرية تتعلق بالطبيعة، وربما حتى بوجود عالَم الماهية. ومع ذلك، لا يتبنَّى كانط موقفَ اللاأدرية بشأن الإله، رغم أن إيمانه به مستقلٌّ تمامًا عن «الأدلة» التي يُقدِّمها العالم فيما يخص إثبات وجود الله. غير أنَّ الإله الذي يؤمن به كانط شيء مجرَّد إلى حدٍّ ما، وليس منفصلًا تمامًا عن القانون الأخلاقي نفسه. وأي شيء آخر يُعَد جزءًا من طبيعة الإله فهو محجوب عنَّا.
كانط إذن، شخصيةٌ غامضة إلى حدٍّ ما في قائمتنا الخاصة بالشخصيات التاريخية اللاأدرية، ولكن كانط هو مَن ساعد مانسِل، وهكسلي، وسبِنسَر في التوصل إلى استنتاجاتهم اللاأدرية.
ديفيد هيوم وشَوكتُه
كان ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦) واحدًا من الإمبريقيين البريطانيين الذين كان كانط يرد عليهم. يقول كانط إن قراءة أعمال هيوم هي التي «أيقظت سُباتي الدوجمائي»، في إشارة إلى نزعة هيوم نحو تقويض ادعاءات المعرفة في مجالات معينة من الفكر. لدينا في هيوم إذن، شخصيةٌ مهمة أخرى لقصة اللاأدرية.
على عكس كانط، لم يكن هيوم فيلسوفًا محترفًا قط، رغم أنه حاول أن يصبح كذلك في عام ١٧٤٥، عندما تقدَّم بطلب لتولي وظيفة أستاذ الأخلاق والفلسفة الروحانية (الآن الفلسفة الأخلاقية) في جامعة إدنبرة. جاءته فرصة أخرى في عام ١٧٥٢ عندما أصبحت وظيفة أستاذ المنطق في جامعة جلاسكو شاغرة. لكنَّ تعيينه لاقى معارضةً في المرتَين، وقد جاءت المعارضة ممَّن احتجُّوا على وجهات النظر المناهِضة للدِّين التي رصدوها في كتاباته، ولا سيما في كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية»، الذي ألَّفه عندما كان عمره خمسة وعشرين عامًا فقط. الواقع أنَّ «الرسالة» لا تذكر الإله إلا ذكرًا عابرًا، لكنها (كما كان هيوم يدرك جيدًا) تتحدى المعتقَدات العادية المتعلِّقة بالسببية التي قد يُعتقد أنها ضرورية لفهمنا لله.
على الرغم من حرمانه من تولي منصب أكاديمي، حظي هيوم بمسيرة مهنية متنوعة؛ فقد عمل في البداية (فترة وجيزة) موظفًا في شركة لتُجَّار السكر، ثم مدرسًا لنبيلٍ شابٍّ (أُعلِنَ لاحقًا أنه مجنون)، ثم ضابطًا بالجيش، وأمينَ مكتبة في «كلية المحامين» في إدنبرة، ثم سكرتيرًا للسفير البريطاني في باريس، وأخيرًا موظفًا حكوميًّا في لندن. على المنوال نفسه تتنوع كتاباته، بما فيها من أعمالٍ سياسية وأخرى عن تاريخ بريطانيا.
تقوم فلسفة هيوم على أطروحتين مركزيَّتَين. الأولى أنه يتبنَّى النهج الإمبريقي: يكمُن المصدر المطلَق لجميع أفكارنا في الانطباعات، متمثلةً في التصوُّرات، والأحاسيس، والعواطف. فكل فكرة بسيطة — أي لا يمكن تفكيكها إلى أفكار أخرى — يجب أن يكون هناك انطباعٌ مُناظرٌ لها. يمكن بعدئذٍ استخدام هذه الأفكار البسيطة في بناء أفكار أكثر تعقيدًا منها. أما الأطروحة الثانية فقد أصبحت تُعرَف باسم «شَوكة هيوم»، وهي: أن جميع موضوعات المعرِفة الممكنة لنا يمكن تقسيمها إلى نوعين، «علاقات الأفكار»، و«الوقائع». من الأمثلة على الوقائع ما يلي: توجد شجرة في الحديقة، وتوجد عاصفة شديدة، وجميع الأشخاص في هذه الغرفة يستخدمون أيديهم اليُمنى. فالوقائع تُعنى بأوضاع العالم، وهو عالم يمكننا تصوُّره على نحو مختلف عما هو عليه: ربما لم تكن هناك أشجار في الحديقة، وربما كان الطقس جميلًا، وربما كان في هذه الغرفة شخص أعسر. على العكس من ذلك، تتعلق علاقات الأفكار بأشياء «لا» يمكن أن تكون على خلافِ ما هي عليه: فالجذر التربيعي ﻟ ٣٦ هو ٦، وأي شيء له وزن يشغل حيِّزًا، وكلُّ ما هو من ذوات الرِّجلين لديه قدمان، وما إلى ذلك. لا تتعلق علاقات الأفكار بوضع العالَم، بل بمحتوى مفاهيمنا، التي يمكننا تمييزُها بمجرد فحصها.
إن الجمع بين هاتين الأُطروحتين: اعتماد مفاهيمنا على الخبرة، والتمييز بين الوقائع وعلاقات الأفكار، يؤدي إلى بعض النتائج المدهشة. يرى هيوم — وفي رأيه صدقٌ ووجاهة — أن جميعَ أشكال تفكيرنا فيما يتعلَّق بالوقائع تعتمد على العلاقة بين السبب والنتيجة. ولكن ما هي هذه العلاقة؟ وكيف نُدركها؟ إننا نتصورها عادةً نوعًا من الصلة الضرورية بين الأحداث. فالأسباب لا تربط بينها وبين تأثيراتها أي علاقة اعتباطية فحسب، بل الأسباب ما «يجعل تلك التأثيرات تحدث». لكن هيوم يتساءل: من أين أتت فكرة الصلة الضرورية؟ فالضرورة هي شيء نربطه بعلاقات الأفكار. «أما» هذا النوع من الضرورة — ما نُسميه الآن «الضرورة المنطقية» — فليس له وجود في الحقائق السببية. يمكنني على سبيل المثال أن أتصوَّر وميضًا من البرق لا يتبعُه ضجيج الرعد الذي يُسبِّبه عادةً، ولن يكون تصوُّري ذلك من قبيل العبث. ما من صلة منطقية إذن ترتبط الأسباب بآثارها. فهل يكمُن النوع المناسب من الصلة الضرورية في الخبرة الحسية؟ كلا. ذلك أنَّ إدراكنا الحسي للسببية يقتصر على النتيجة التي تَتبع السبب. ليست كل التعاقبات سببية بالطبع؛ إذ لا بد من وجود اقتران مستمر بين الأحداث قبل أن ندرك وجودَ علاقة سببية. وحتى هذا لا يرقى إلى مستوى الضرورة. لكن الاقتران المستمر يُولِّد نزعةً ما في أذهاننا: عندما ندرك السبب، نتوقَّع أنه سيُتبَع بالنتيجة. وهذا الدافع «النفسي» القَهري هو مصدر فكرة الصلة الضرورية. ودون تمييز هذا الدافع القهري على أنه مصدر هذه الفكرة، فإننا نُسقِطه على الأحداث نفسها، مما يوضح، طبقًا لقول هيوم، «ما للعقل من نزعة كبيرة نحو إسقاط نفسه على الأشياء الخارجية».
إنَّ زعزعة هيوم لفكرة الضرورة السببية ونظرته العامة للمعرفة، التي ولَّدت هذه الفِكرة، ستُمثل مشكلة للمعتقَد الديني على الأرجح. إن مفهوم الإله باعتباره شيئًا موجودًا بالفعل في العالم — على الرغم من أنه ليس موضوعًا مباشرًا للخبرة — أي أنه موجود بالضرورة لا عرَضًا، وأنه السبب النهائي للأشياء، الذي يعتمد عليه كل شيء آخر بالضرورة؛ كل ذلك هشٌّ أمام وجهة نظر هيوم بشأن حدود المعرفة الإنسانية. ليس من المستغرب إذن أن ينتقد هيوم الدِّين عندما يناقشه، وهو يفعل ذلك مباشرةً في بعض الأحيان، كما هو الحال عندما يوضِّح لاعقلانية الإيمان بالمعجزات، أو على لسان شخصية خيالية في أحيان أخرى، كما هي الحال في «محاورات في الدِّين الطبيعي»؛ حيث يشن فيلو، وهو أحدُ شخصيات هيوم المشاركة في هذه المحاورات، هجومًا ساحقًا على الحجج المؤيدة لوجود إله.
لقد كان لشوكة هيوم — التمييز بين الوقائع والعلاقات والأفكار — تأثير هائل، أدَّت في نهاية المطاف إلى حركة القرن العشرين المعروفة باسم الوضعية المنطقية، التي أثَّرت هي ذاتها في وجهات النظر الفلسفية للدِّين مُغيِّرةً منها، كما سنرى في الفصل الخامس.
فهل يُعَد هيوم لاأدريًّا؟ من الجلي أنَّ هكسلي كان يرى أنهما متقاربان للغاية؛ إذ وصفه بأنه «والد كانط و… بطل طريقة التفكير الأحدث التي تُسمَّى «اللاأدرية»». وَفقًا لرؤية هكسلي، يُعدُّ هيوم لاأدريًّا بالفعل؛ لأنه يرسم حدود المعرفة بوضوح ويُبيِّن من ادعاءات المعرفة ما يتضح أنه واهٍ لا أساس له. على الرغم من ذلك، ففيما يتعلق بمسألة وجود إله على وجه التحديد، غالبًا ما يُعَد هيوم مُلحِدًا، ومن ثمَّ فإن تنازلاته العارضة للدِّين محضُ سخرية. والحق أنَّ تأمُّل البلاغة الساحقة لبعض الفقرات الواردة في «محاورات في الدِّين الطبيعي»، تجعل من الصعب ألا نصدِّق أن كاتبها شخص رفض المعتقَد الديني تمامًا بوصفه غير عقلاني. لننظر، مثلًا، في هذه الفقرة التي لا تُنسى، والتي يعلِّق فيها فيلو (الذي يرى البعض أنه يمثل هيوم) على حجة كلينذس التي تُرْجِع آثار التصميم في الكون إلى مصمِّم إلهي يتشابه ذكاؤه وقدرته على التصرف المستقل مع ذكائنا وقدرتنا، لكنهما أرقى مما لدينا بكثير:
باختصار، يا كلينذس، إن الشخص الذي يتبع فرضيتك، ربما يكون قادرًا على تأكيد أن الكون قد نشأ في وقتٍ ما من شيء يُشبه التصميم أو الاعتقاد بذلك ظنًّا، لكنه بعد تبنِّي ذلك الموقف لا يستطيع التقدُّم أكثرَ من ذلك وتأكيد ظرف واحد، ويعكف بعدئذٍ على إصلاح كل نقطة من نقاط عقيدته بأقصى درجات الخيال والفرضيات. هذا العالم، على حد علمه، مَعِيب للغاية وغير كامل مقارنةً بمعايير أعلى، ولم يكن سوى محاولة أولى غير متقَنة لإلهٍ وليدٍ تخلَّى عنه بعد ذلك خجلًا من أدائه السيئ؛ إنه ليس سوى صُنع إله تابع أدنى مرتبة، وهو موضعُ سخريةِ مَن يفوقونه نفوذًا؛ إنه نتاج شيخوخة وخَرَف إله عجوز متقاعِد، وقد ظل منذ موته قائمًا على المغامرات الناتجة عن الدفعة الأولى والقوة الفاعلة التي تلقَّاها منه. فمن اللحظة التي تُفترض فيها محدودية صفات الإله، يصبح لهذه الصفات مكان. وأنا من ناحيتي، لا يمكنني الاعتقاد أن مثل هذا النظام اللاهوتي الجامح وغير المستقِر هو، بأي حال من الأحوال، أفضلُ من لا شيء على الإطلاق.
إنَّ الإنكار الصريح لوجود إله يتجاوز الحدود التي وضعها هيوم للمعرفة على أي حال. ربما لا يدل النظام الذي نرصده في الطبيعة دلالة قاطعةً على خالقٍ خيِّر وكُلِّي القدرة، لكن فيلو (وربما أيضًا هيوم) على استعداد للاعتراف بأن الكون ربما يكون نتاجَ كيانٍ ما يحمل بعض التشابُه مع الذكاء البشري. ورغم ما ينطوي عليه ذلك من غموض، فإنه بالتأكيد لا يُغلق الباب أمام الإيمان بإله.
أتباع بيرو
يُعَد المصدر الأكثر أهميةً لمعرفتنا بالفلسفة الشُّكوكية القديمة هو عمل الطبيب والفيلسوف سيكستوس إمبيريكوس، الذي وصل إلى أَوْج نجاحه في حوالي عام ٢٠٠ بعد الميلاد. وقد ضاعت كتاباته لبعض الوقت، لكن أُعيد اكتشافها بعد ذلك في القرن السادس عشر. وفي كتابه «الخطوط العريضة للبيروية»، يشرح سيكستوس ما يقصده بمصطلح المتشكك، ويقارن المتشككين مع نوعَين آخرَين من الفلاسفة: الدوجمائيين الذين يعتقدون أنهم وجدوا المعرفة، والفلاسفةِ الأكاديميين الذين يعتقدون أنه لا يمكن العثور عليها. على العكس من هؤلاء وأولئك، يأتي المتشكِّكون، الذين يدركون أنهم لم يجدوا المعرفة بعد، ويضطرُّون إلى مواصلة البحث. وكم يذكِّرنا هذا بالتناقُض الذي أوضحه هكسلي بين الغُنوصيين، الذين كانوا يشعرون أن لديهم طريقَهم الخاص للفهم، وأشخاصٍ مثل سبِنسَر آمنوا بوجودِ ما لا يمكن معرفته؛ واللاأدريين الحقيقيين مثله، الذين اعترفوا بافتقارهم إلى المعرفة، لكنهم ترددوا في وصف أي شيء بأنه لا يمكن معرفته!
ما هي الشُّكوكية إذن؟ يخبرنا سيكستوس أنها:
قدرةٌ على تحديد التعارُضات بين الأشياء التي تظهر، والتي يجري التفكير فيها بأي طريقة كانت، وهي القدرة التي توصلنا بسبب تكافؤ الأشياء والتفسيرات المتعارضة إلى تعليق الحكم أولًا ثم إلى السكينة بعد ذلك.
ما يقصده ﺑ «التعارُض» هنا أننا نستطيع أن نجد لأي سببٍ يدفعنا إلى تكوين اعتقادٍ معين، سببًا آخر لتكوين الاعتقاد المعاكس. تتساوى هذه الأسباب المتعارضة في القوة أو قوة الإقناع، ولأننا لا نعرف أيُّ الاعتقادين يجب أن نتبنَّاه، تصبح النتيجة أننا نُعلِّق اعتقادنا تمامًا. على الرغم من ذلك، يجعل سيكستوس من هذه الحالة أمرًا يبدو مُحبَّبًا إلى حدٍّ ما؛ إذ لا تبدو حالةً سنعمل جاهدين للخروج منها. ولهذا قد نتساءل بشأن تعريفه للمتشككين بوصفهم أشخاصًا ما زالوا يبحثون عن المعرفة. ومجددًا تذكِّرنا الصورة التي يرسمها سيكستوس للأساليب التي يستخدمها المتشكك بالتشابُه بينها وبين مناقشةٍ لاحقة عليها في الزمن؛ فهي تذكِّرنا هذه المرة بالتشابه بين استخدام المتشكك للأسباب المتعارضة وتناقضات العقل الخالص التي اقترحها كانط. لكن في حين أنَّ المتشكك يُعلِّق الحكم، يأخذ كانط التناقضات ليُبيِّن أن العالم نفسه لا يمكن أن يكون بالطريقة التي يُمثَّل بها على أيٍّ من جانبي التناقُض. على سبيل المثال، ليس للعالم بداية زمنية ولا ماضٍ لا نهائي؛ لأنه ليس زمنيًّا على الإطلاق.
يُحدِّد سيكستوس عددًا من «الأساليب»، أو طرق الجدال، التي تُجسِّد هذه التعارُضات، مشيرًا، رغم ذلك، إلى أنه لا يؤيدها جميعًا بالضرورة. وهو لا يفعل في كثير من الحالات، سوى نقل حُجج أسلافه الذين كانوا نشطين خلال ذروة الشكوكية البِيروية. يتعلَّق بعض هذه الحجج بنسبية الإدراك؛ فالكيفية التي ندرك بها العالَم تتوقَّف على الأنواع التي ننتمي إليها (بما أن هذا يحدِّد ما لدينا من وسائلَ ندرك بها العالم؛ فثمة اختلاف بين البشر والنَّحل والخفافيش في ذلك على سبيل المثال)، وكذلك حالة أعضائنا الحسية، وقدرتنا على التمييز، وما إذا كنا مَرضى أو أصحاء، وما إذا كنا قريبين أو بعيدين عن الشيء المدرَك. لا يمكننا إذن أن نثق بحواسِّنا في تعرُّف حقيقة الأشياء مقابل الكيفية التي تظهر بها لنا في مناسباتٍ معينة.
ومن المناورات التشكُّكية الأخرى التي ذكرها سيكستوس: تسلسل الأسباب. قد نرى أنَّ اعتقادًا ما يقوم على أساس جيد لأن لدينا سببًا لهذا الاعتقاد. لكننا إذا أردنا النظر إلى هذا السبب باعتباره سببًا كافيًا للاعتقاد، فلا بد من تبريره في حد ذاته بسبب آخر. وهذا السبب الإضافي يجب أن يكون مدعومًا بسبب آخر، وهكذا إلى «ما لا نهاية». ولأننا، بصفتنا كائناتٍ محدودة، لا نستطيع تقديمَ سلسلة لا نهائية من الأسباب، فسيترتب على ذلك عدمُ وجود أي اعتقاد قائم على أساس جيد في نهاية المطاف.
إضافةً إلى ذلك، يقدِّم لنا سيكستوس سلسلةً من الحجج الموجَّهة إلى جوانب محدَّدة بشأن تصورنا للعالم. فمن الممكن القول إنَّ ظواهر مثل التغيير والحركة والدخول إلى الوجود والخروج منه والمكان والزمان، كلٌّ منها يورطنا في التناقض. لتناول ظاهرة الزمان مثالًا على ذلك. إنه مقسَّم إلى الماضي والحاضر والمستقبل. هل يمكن تقسيم هذه الأقسام نفسها؟ يبدو أنَّ الماضي والمستقبل قابلان للتقسيم، لكن ماذا عن الحاضر؟ إذا كان قابلًا للتقسيم، فلا بد أنه سيتضمَّن أجزاءً من الماضي أو أجزاءً من المستقبل، ومن ثمَّ فلن يكون حاضرًا، وهذا مستحيل. وإذا لم يكُن قابلًا للتقسيم، فلا شيء يمكن أن يتغير في الحاضر، لأن التغيير نفسه يمكن تقسيمه إلى أجزاءٍ سابقة ولاحِقة، ومن ثَم يجب أن يحدث ذلك في أي وقت يحدُث فيه التغيير. وبناءً على هذا، ينبغي علينا تعليق الحكم فيما يتعلق بطبيعة الزمن.
ماذا عن الله؟ إذا كان لدينا تصور عن الله، فيجب أن نكون قادرين على تحديد خصائصه. غير أنه لا يوجد اتفاق بشأن هذا الأمر على نحو ما يقول سيكستوس. فبعض الدوجمائيين يرون أن لديه جسدًا، والبعض الآخر يرون عكس ذلك؛ يزعُم البعض أنه في المكان، ويزعم البعض الآخر أنه خارجه؛ ويقول البعض إنه يُشبه الإنسان، لكن البعض الآخر يقول إنه لا يشبهه، إلى آخر ذلك. فكيف يمكننا إذن القول إن لدينا أيَّ تصوُّر عن الله، لمَّا كانت كل خاصية من خصائصه محلَّ نزاع؟ علاوةً على ذلك، لا يمكن أن تكون مسألة وجوده واضحة، وإلا لمَا تَبادر إلينا أيُّ شك بشأن طبيعته. من الواضح إذن أن وجود الله يحتاج إلى إثبات. ولكن إذا بدأ الإثبات من افتراض أساسي لا جدال فيه، وانتقل بالأساليب الصحيحة إلى النتيجة، فسيكون من الواضح أن الله موجود. فالإثبات إما أن يبدأ من شيء خلافي، أو يَستخدم وسائل خلافية للوصول إلى النتيجة، وفي هذه الحالة يتطلب المزيد من الدعم، ومرةً أخرى نجد أننا بدأنا تسلسلًا لا نهائيًّا من الأسباب. إذن، وجود الله ليس واضحًا، ولا نستطيع إثباته ولا نفيه.
يبدو من هذا أن سيكستوس لاأدريٌّ، وما ذلك بالأمر المفاجئ، أليس من المحتَّم أن يكون المتشكك لاأدريًّا؟ ألا يبدو لنا الآن ونحن نفكر في الأمر أنَّ «الشكوكية» و«اللاأدرية» ليستا سوى اسمين مختلفين لتعليق الحكم؟
ثمَّة اتصال بين اللاأدرية والشُّكوكية بالطبع، لكن بينهما أيضًا اختلافاتٌ مهمة. أن تتبنَّى اللاأدرية يعني أن تدرك أننا لا نمتلك أُسُسًا كافية لادعاء المعرفة، أو (بصورة أكثر جذرية) للإيمان. وفقًا لسكستوس، فإنَّ تبنِّي الشكوكية يعني أن تكون قادرًا على إثبات أن أي أسباب للإيمان تقابلها أسبابٌ مقابِلة للاعتقاد المعاكس. وفي هذا تختلف الشكوكية واللاأدرية. يمكننا أن نُعَرِّف التبايُن بينهما على هذا النحو: اللاأدرية هي حالة ذهنية؛ أما الشكوكية فهي منهج. ولمَّا كانت الشكوكية تؤدي إلى اللاأدرية، يمكننا القول إن الشكوكية هي السبب واللاأدرية هي النتيجة. (أو ربما ينبغي أن نقول إن الشكوكية «سبب» من الأسباب؛ إذ يوجد أكثر من مسار يقود إلى اللاأدرية.) بالإضافة إلى ذلك، فمعظم أشكال اللاأدرية من النوع الذي أطلقنا عليه في الفصل السابق اللاأدرية «الخاصة»، في حين أن الحجج الشكوكية غالبًا ما تكون واسعةَ النطاق إلى حدٍّ ما.
لا شك أنَّ المصطلحات قد تُستخدَم بدرجة أكبر من التساهل، وعندما يحدث ذلك، سيكون من الصعب تمييزُ بعضها عن بعض. ولكن ربما يمكننا أن ندرك السببَ في عدم اختيار هكسلي وصفَ نفسه بالمتشكِّك؛ إذ إنَّ نوع الشكوكية المتطرفة التي يُمثلها أتباع بيرو كان شديدًا للغاية بالنسبة إلى أهدافه، مما كان سيؤدي إلى تقويض العلم والدِّين على حد سواء. فلو أنه وصف نفسه علنًا بأنه متشكك، لأخرجه ذلك من الدوائر الفكرية التي كان يتنقل بينها.