كيف ينبغي على اللاأدري أن يحيا حياته؟
الإلحاد العملي!
يمكننا التمييز بين نوعين من الإلحاد: النظري والعملي. أن تكون ملحِدًا نظريًّا يعني أن تؤمن إيمانًا واعيًا بأن الله غير موجود. أن تكون ملحِدًا عمليًّا يعني أن تعيش دون إيمان بالله: أن تعيش حياةً لا مكان فيها لفكرة الله بكل بساطة. يمكن للمرء أن يكون ملحِدًا عمليًّا دون أن يكون ملحدًا نظريًّا (على الرغم من أن كون المرء ملحدًا نظريًّا دون أن يكون ملحدًا عمليًّا سيكون مزيجًا غريبًا أيضًا).
فكيف ينبغي أن يحيا اللاأدري حياته؟ يبدو أن الإجابة الواضحة هي: ملحِدًا عمليًّا. (نحن نفترض هنا أن السؤال يتعلق بنوع اللاأدرية التي تمنع الإيمان؛ وكما أشرنا سابقًا، يمكن للمرء أن يعتقد أن الله موجود دون أن يدَّعي «معرفة» ذلك.) إذا كان اللاأدري لا يؤمن بالله، إذن، كما تقول الحجة، فإنه لن يفعل أيًّا من الأشياء المرتبطة بهذا الاعتقاد؛ مثل الصلاة، والعبادة، وتفسير تجاربه في ضوء ديني، والرجوع إلى الأفكار الدينية في تقرير ما يجب عليه فِعله، وما إلى ذلك. وهذا في الواقع رفضٌ للدِّين أو تجاهُل له. سيكون من غير المنطقي بالطبع أن نعيش حياةً دينية، مع رفض الأساس النظري لمثل هذه الحياة؟ إنَّ مثل هذه الحياة — كما يبدو — لا يمكن أن تقوم إلا على خداع الذات. («أنا لا أومن بذلك، ولكنني سأتظاهر بالعكس، وربما أُقنِع نفسي جزئيًّا بأنني مؤمن».) وكيف يمكن لأي شخص أن يختار حياة خداع الذات بعقلانية؟
ومع ذلك، فمن الواضح أنَّ لاأدريي القرن التاسع عشر، أو بعضهم، كانوا مُتديِّنين. فنحن نجد في شِعر اللاأدري آرثر هيو كلوف (١٨١٩–١٨٦١) واللاأدري ماثيو أرنولد (١٨٢٢–١٨٨٨) استجابةً دينية للعالم. كيف يكون هذا ممكنًا؟ ألم يتمكَّنا من التخلص تمامًا من بقايا قناعات شبابهما اليقينية؟ أم إنهما توصَّلا إلى فهمٍ مختلف لطبيعة الله؟ هل يمكن للمرء أن يكون، من الناحية النظرية، لاأدريًّا، لكنه مؤمن من الناحية العملية؟ لنقارن بين تأثيرات اللاأدرية في مجالين آخرين، ألا وهما العلم والأخلاق.
علمٌ بلا إيمان؟
كيف تتصور التقدُّم العلمي؟ هل هو مثل مجموعة متنامية من المقتنيات المتحَفِية، أو تراكُم تدريجي للأفكار والنظريات التي لا تُعتمد إلا بعد اختبارات شاقَّة، وكل نظرية تضم ما سبقها بطريقةٍ ما وتُحسِّن منه؟ أم إن التشبيه السياسي أكثر ملاءمة؛ حيث يتقدم العلم من خلال ثورات مفاجئة وعنيفة، تزيح الأفكار القديمة جانبًا من خلال تقويض افتراضاتها الجوهرية والاستعاضة عنها برؤًى جديدة جذريًّا، وهو لا يستند في ذلك مبدئيًّا إلا على ما هو أكثرُ من التخمين بقليل، وربما تظهر الأدلة على هذه الرؤى الجديدة من تجربة جريئة لاحقًا؟ ربما نحتاج إلى كِلا النموذجين؛ فكلٌّ منهما يصف فتراتٍ مختلفة في تاريخ العلم. خُذِ الكيمياء بين عامي ١٨٣٠ و١٩٣٠، على سبيل المثال. من إدراك أن العناصر تتسم بأنماطٍ معينة متكررة وفقًا لكُتلتها الذَّرِّية، ظهرت صياغة مندليف للقانون الدَّوري والتعبير عنه في شكل الجدول الدَّوري، مما أدى إلى اكتشاف عناصر جديدة، والتفسير النهائي للأنماط الدورية بالنموذج الإلكتروني للذَّرَّة. وكل خطوة في هذه الحالة تعتمد على سابقتها. لكن انظر إلى نفس العلم في الأعوام المائة الماضية لها، بين عامي ١٧٣٠ و١٨٣٠، فسترى تغيُّرَين جذريَّين وثوريَّين: الأول، هو الإطاحة بنظرية الاحتراق القديمة، المبنية على مادة الفلوجستون الوهمية، والاستعاضة عنها بنظرية جديدة قائمة على عنصر الأُكسجين المكتشَف حديثًا؛ والثاني، هو التخلي عن المذهب الحيوي المتمثِّل في وجود فرقٍ جوهري بين المواد الموجودة في الكائنات الحية وتلك المميِّزة لعالم المعادن، وذلك في بدايات الكيمياء العضوية. (ومع ذلك، من المؤكَّد أننا نستطيع العثور على أمثلة على تغيُّرات تدريجية في الفترة الأولى وتغيُّرات ثورية في الفترة الثانية.)
النموذج الأول يُفضي إلى رؤية التقدم العلمي بعدِّه نهجًا تدريجيًّا للوصول إلى الحقيقة (وربما مؤلم في بعض الأحيان). ربما لم نصل إليها بعد، ولكن كل تطوُّر جديد يقربنا قليلًا. الحقيقة هي الهدف على أي حال. أما النموذج الثاني، فصحيحٌ أنه لا يتعارض مع هذا الرأي، لكنه قد يجعلنا أكثرَ حذرًا بشأن الادعاء حتى بأنَّ النظرية العلمية تقريبٌ للحقيقة. ربما ستُستبدَل بنظرياتنا التي نعتز بها حاليًّا نظرياتٌ أخرى بعيدة كلَّ البعد عن كونها تنقيحًا لتلك النظريات، وتستلزم التخلي عنها تمامًا. ومع ذلك، فحتى النظريات المهجورة لم يثبت بالضرورة أنها عديمة الفائدة. فقد تعمل عملًا جيدًا جدًّا، لدرجة أن تسمح لنا بوضع تنبؤات معينة يتبين فيما بعدُ أنها مبرَّرة. فمن الممكن الاستمرار في استخدام فيزياء نيوتن لحساب الحركات والقُوى، مع أن النظرية نفسها قد استُبدِلت بها الفيزياء النسبية. وهذا يوحي بصورة تمثِّل التقدم العلمي بعدِّه بحثًا عن النفع لا عن الحقيقة المراوغة. وفي هذه الحالة، تكمن قيمة أي نظرية في قدرتها على تمكيننا من التنبؤ بالظواهر والتغيير في البيئة لتحقيق أهدافنا الخاصة. وبناءً على هذا، قد نستخدم نظريةً ما، وربما حتى نكون حريصين للغاية على الالتزام، لكننا نظل لاأدريين بشأن حقيقتها.
ولذلك فإن اللاأدرية العلمية لا تتعارض مع النشاط العلمي والتقدم العلمي. الحق أنَّ مثل هذه اللاأدرية قد تُشجِّع على تبني موقف منفَتِح، وعلى الاستعداد لقبول الظواهر التي لا تتوافق جيدًا مع النظرية. ألا يمكن أن نتوصَّل إلى نتيجة مماثلة فيما يتعلق بالدِّين؟ ربما يكون ذلك مُتسرعًا بعض الشيء في هذه المرحلة. فلنتناول أولًا مثالًا آخر، وهو مثال بعيدٌ تمامًا عن المشروع العلمي.
الغريب الأخلاقي
لن يكون من الصعب على الإطلاق أن نتخيل اللاأدري العِلمي الذي يسعى سعيًا حثيثًا للوصول إلى نتائج النظرية العلمية بينما يظل غير ملتزم بحقيقتها. الحق أنَّ هذا الوصف يُجسِّد وجهةَ نظر معظم العلماء الممارسين تجسيدًا دقيقًا. ولكن ماذا عن اللاأدري الأخلاقي؟ هذه الشخصية لا تعرف الإجابة الصحيحة، فيما يخص أيَّ مسألة أخلاقية مهما كانت. فهي لا تعرف، على سبيل المثال، ما إذا كان من الصواب أم من الخطأ أن تكذب في موقفٍ ما، أو ما إذا كان من الصواب أم من الخطأ السماح لشخصٍ ما بالموت في موقف آخر. ولا شك أننا سنكون لاأدريين أخلاقيًّا في مجموعة واسعة من المواقف، فهناك حالات لا نعرف فيها ما هو الصواب الذي ينبغي علينا فعله. لكننا (في المعتاد) لا نكون لاأدريين أخلاقيًّا في جميع المواقف؛ لذا فإننا نتخيل هنا حالةً متطرفة إلى حدٍّ ما. كيف ستعيش هذه الشخصية التي تتبنَّى موقفًا لاأدريًّا تمامًا فيما يتعلق بالأخلاق؟
لا يمكن أن تكون هناك إجابة واحدة عن هذا السؤال؛ فذلك يعتمد على مِزاج هذا الشخص. قد يكون شخصًا حريصًا جدًّا على القيام بالشيء الصحيح، ومع ذلك فهو في حيرة تامة بشأنِ ما هو الشيء الصحيح، بحيث ينتهي به الأمر إلى عدم اتخاذ أي تصرف حاسم على الإطلاق، وببساطة يتأثر بالظروف، مثل الشخصية الرئيسية في مسرحية كريستوفر هامبتون «محب الخير» (ذا فيلانثروبِست). في معارضةٍ لمسرحية موليير «عدو المجتمع»، تظهر شخصية دون فيليب المحب للجِناس في مسرحية هامبتون، وهو حريص للغاية على إرضاء الجميع وعدم الإساءة إلى أحد. لكنَّ عدم قدرته على الاسترشاد بأي مبدأ أخلاقي قوي يؤدي في النهاية، لسوء الحظ، إلى الإساءة للجميع.
هناك شيء مشترك بين هاتين الصورتين المختلفتين تمامًا لأفراد قد نصفهم بدرجةٍ من التبرير بأنهم لاأدريون أخلاقيًّا، وهذا الشيء المشترك هو أنه من الصعب اعتبار الكثير من سلوكهم سلوكًا أخلاقيًّا. لكنه ليس سلوكًا غير أخلاقي بالضرورة، وإن كان سلوك ميرسو أقربَ إلى أن يُفسَّر على أنه غير أخلاقي. ما يميز أفعاله هو عدم التأثر بالمشاعر المتصلة بها. إن انخراط المشاعر المناسبة، بدلًا من اتباع قواعد سلوكية بلا عاطفة، أمرٌ ضروري للفاعلية الأخلاقية الحقيقية. (مع ذلك، علينا أن نكون حذرين في كيفية التعبير عن ذلك. ربما يكون اكتساب المشاعر الأخلاقية في حد ذاته مسألةً أخلاقية. ومن المؤكد أننا لن نعلِّق كلَّ الأحكام الأخلاقية على شخصٍ ما لمجرد أنْ تبيَّن أنه يفتقر إلى المشاعر ذات الصلة.) الحق أنَّ فكرة كون اللاأدري الأخلاقي فاعلًا أخلاقيًّا حقيقيًّا تبدو موضع شك. يمكن للاأدري العلمي أن يكون عالمًا فاعلًا تمامًا؛ لأننا نستطيع أن نفهم اتباع نظريةٍ ما لكونها مفيدة. فالعواطف لا تدخل في هذا الأمر، وإذا تدخلت، فهي ليست جزءًا أساسيًّا من السلوك العلمي. لكن اللاأدري الأخلاقي لا يمكن أن يكون فاعلًا أخلاقيًّا فعالًا تمامًا؛ لأنه إذا قام بفعل لا يعتقد أنه صواب أو خطأ، إذن فالدافع الأخلاقي ليس هو ما يحركه. هذا الدافع الأخلاقي، هذا الشعور بالانجذاب نحو فعلٍ ما، لأن ضمير المرء يدفعه إلى القيام به، لا يتوافق مع الانفصال الكامل عن مسألةِ ما إذا كان هذا الفعل صوابًا أم خطأً.
رهان باسكال ودفاع جيمس
ومع مراعاة التناقض بين اللاأدري العلمي واللاأدري الأخلاقي، دعونا نُلقِ نظرةً على حجة الإيمان الشهيرة، والسيئة السمعة في الواقع، المعروفة باسم «رهان باسكال». يستهل باسكال حُجَّته بتذكيرنا بمحدوديتنا في تقرير مسألة وجود الله:
إذا كان هناك إله، فهو يتجاوز فَهْمنا تجاوزًا مطلقًا؛ لأنه كُلي ولا حدود له، ومُفارق لنا في كل شيء. لذلك نحن غير قادرين على معرفةِ ما هو عليه أو ما إذا كان موجودًا … «إما أن الله موجود أو أنه غير موجود». ولكن إلى أي وجهة نظر سنميل؟ العقل لا يمكنه حسمُ هذا السؤال. الفوضى اللامُتناهية تحول بيننا وبين ذلك. وفي آخر النهاية البعيدة لهذه المسافة اللامتناهية، تدور عملة معدنية ستسقط في النهاية إما على وجه الملك أو على وجه الكتابة. فعلامَ ستُراهن؟
ربما يكون الشيء العقلاني الذي يجب فِعله هو عدم الرهان على الإطلاق. ولكن عدم الرهان هو في الواقع رهان على أن الله غير موجود. في المقابل:
دعونا نَزِن المكاسب والخسائر المرتبطة باختيار أن الله موجود. دعونا نُقيِّم الحالتين: إذا فزت فقد ربحت كل شيء، وإذا خسرت فلن تخسر شيئًا. لا تتردد إذن؛ راهن على أنه موجود.
«إذا فزت، ستفوز بكل شيء». أي أنك ستفوز بالحياة الأبدية في الجنة. لاحظ أن هذا ليس سببًا للاعتقاد بأن الله موجود، بل سبب للاعتقاد بأن الإيمان أفضل من عدم الإيمان. أو بالأحرى (بما أنه لا يمكن استدعاء الإيمان حسب الرغبة)، من الأفضل أن نتصرف بطريقة ستجعل هذا الإيمان يأتي في النهاية، وهذه الطريقة هي أن نحيا وَفقًا للدِّين.
لعلك تتذكر حجَّة ويليام جيمس القوية المتعلقة بطبيعتنا العاطفية في التعامل مع المعتقَد الديني (انظر الفصل الخامس). ألا يقترح جيمس وباسكال شيئًا مماثلًا؟ ومع ذلك، فإن جيمس لا يوافق موافقة تامة على اقتراح باسكال، بالتماسِه الواضح والمخزي للمصلحة الذاتية. ما لا يمكن إنكاره هو أن كلام باسكال عن «الفوز» أو «الخسارة» في الرهان ينمُّ عن وجه وضيع من أوجه المصلحة الذاتية. لكن ذلك يعتمد على ما إذا كنت تنظر إلى الجنة بعَدِّها جنةَ الملذات الأرضية والحسية، أو بعَدِّها الاتحادَ الكامل مع الله. هل الرغبة في الحصول على أفضل أنواع الوجود التي يستطيع البشر تحقيقها وأسماها مصلحةٌ ذاتية فحسب؟ مع ذلك، فإن اعتراض جيمس الرئيسي على الرهان هو أنه عمليةٌ حسابية باردة تمامًا، وقبول للإيمان لما يجلبه من فوائد، وليس التزامًا شغوفًا بشيءٍ ما لذاته. إن تبنِّي الحياة الدينية على أساس مثل هذه العملية الحسابية يُشبه تبني اللاأدري العلمي لنظريةٍ علمية بغرض استغلال فائدتها. وفي حين أن اللاأدري العلمي يمكن أن يكون عالمًا حقًّا، فإن اللاأدري الديني (وفقًا لتصوُّر جيمس للمسألة) لا يمكنه أن يعيش حياةً دينية حقيقية. فالعلم يمكن ممارسته دون عاطفة؛ أما الدِّين فليس كذلك. يبدو أن اللاأدري الديني في نفس موقف اللاأدري الأخلاقي؛ مثلما أنَّ الأخير لا يستطيع الانخراط في فعل أخلاقي حقيقي، لا يستطيع الأول الانخراط في حياة دينية حقيقية. ومع ذلك الانطباع الذي تركه الرهان، فقد كانت وجهة نظر باسكال نفسه عن الإيمان بعيدةً كلَّ البعد عن الانفصال الشعوري؛ إذ كان الإيمان بالنسبة إليه مسألةَ التزام عاطفي واقتناع كامل.
يمكن النظر إلى رهان باسكال على أنه محاولة لحثِّ اللاأدري على اتخاذ قفزة إيمانية جريئة. في المقابل، لا يخاطب جيمس اللاأدري بهذه العبارات. فهو لا يرى أن اللاأدري يجب أن يُقدِم على خطوة حاسمة، ويقبل الإيمان لما يجلبه من فوائدَ، بل إنه إذا كان جيمس — مدفوعًا بطبيعته التي تتسم بالعاطفية أكثر من العقلانية — يؤمن بالله، فلا يمكن للاأدري أن ينتقده. يقول جيمس إن اللاأدري لا يؤمن بسبب تمسُّكه بالمبدأ القائل بأنه يجب على المرء ألا يؤمن بشيء إلا إن كانت لديه أدلة كافية تُبرِّره. لكن هذا المبدأ في حد ذاته ليس له ما يبرِّره من الأدلة العقلية، وليس التمسُّك به أكثر من مثال آخر على الانسياق وراء المشاعر؛ في هذه الحالة، الخوف من تصديق شيء باطل. إنَّ جيمس لا يُقدِّم حافزًا للاأدري، بل دفاعًا عن الإيمان ضد شكوك اللاأدري.
حبُّ المجهول
من المؤكد أن جيمس على حق في أن الإيمان بالله يجب أن يشرك مشاعرنا بوصفه استجابةً دينية حقيقية للعالم، وفي أنه يُعَد جزئيًّا استجابةً عاطفية للعالم. إنه يختلف عن الفرضية العلمية، والتعامل معه كما لو كان مماثلًا لها يسيء إليه إلى حدٍّ ما. وكما يُسارع الملحدون إلى الإشارة، فإن فرضية الإله لا تفيد كثيرًا في تقديم تفسيرات. فالإيمان بالله أقرب إلى الاعتقاد «بوجود» تفسيرٍ من نوع معيَّن، تفسيرٍ يَعُدُّ الحب والذكاء من بين المكوِّنات الجوهرية للواقع، حتى وإن لم نفهم هذا التفسير تمامًا، أو لم ندرك بوضوحٍ كيف يمكن التوفيق بينه وبين ما يبدو في الظاهر أنه أدلة تُكذِّب ذلك. وما يجعل هذه الثقة في أنَّ وجود مثل هذا التفسير أهمُّ بكثير من الثقة بوجود تفسير مادي — وهو ما يقوم عليه كلٌّ من علم الكون وفيزياء الكَم — هو التركيز الذي تُولِيه فكرةُ الله لعواطفنا.
لكن هذا التركيز يترك الكثير مما هو غير معروف. محبة الله هي إلى حدٍّ كبير محبة الله المجهول. لذا، فحتى داخل الإيمان الديني قد يوجد قدرٌ كبير من اللاأدرية بشأن تفاصيل طبيعة الله، بل إنَّ ذلك مؤكد في واقع الأمر. قد يبدو من المحيِّر أن تكون فكرة الله مَركزًا لمشاعر قوية رغم أنَّها فكرة ضبابية إلى هذا الحد. ولكن ذلك لأن فكرة الله مرتبطة بالفعل بأمور عاطفية للغاية، وتُعَرَّف من خلالها، مثل حب المرء للآخرين، والرغبة في تحقيق الهدف الأسمى في الحياة، وصوت الضمير.
وكل ذلك بالطبع من وجهة النظر الإيمانية. قد يُقال إن اللاأدري الحقيقي يقف خارج ذلك الإطار كله، ومن ثَم فهو غير قادر على الانخراط على المستوى العاطفي المناسب. لا يوجد بالطبع ما يمنع اللاأدري من الحفاظ على طقوس الحياة الدينية: حضور الخدمات الكَنَسية، وقراءة النصوص الدينية، وحتى الصلاة. ولكن، ألن يكون هناك دائمًا انفصال؛ شعور مَن ينظر من الخارج دون انخراط، وألن يكون الاتباع الواضح للحياة الدينية بالضرورة مجردَ أمر تجريبي مؤقت؟ «سوف أستمر في هذا حتى يحدث شيءٌ ما أو أُدرك أنه لن يحدث، ويمكنني أن أتخلى عن التجربة بعدِّها فاشلة». بالطبع، إذا حدث شيءٌ ما، كما يقترح باسكال أنه سيحدث، وأجد أنني صرت مؤمنًا حقًّا، فسوف أعيش حياةً دينية أصيلة؛ لكن يبدو أنني سأكون حينها قد تخلَّيت عن لاأدريتي.
على الرغم من ذلك، فثمَّة ظاهرة مألوفة للغاية تكون المشاعر القوية فيها مصحوبة بتعليق الاعتقاد: استجاباتنا للقصص الخيالية. يقال إنه عندما نُشِر لأول مرة الجزء الأول من رواية أُوليفَر تويست، الذي تعرَّضت فيه نانسي للضرب المبرِّح حتى الموت على يد بيل سايكس، في مجلة «بينتليز ميسيلاني»، فقدَ عدد من القراء الوعي بسبب الصدمة. قد نكون قُراءً أكثرَ صلابةً وانعدامًا للحساسية في الوقت الحاضر، ولكن القصص الخيالية احتفظت بقدرتها على إحداث الصدمة، والترويع، والحزن، والتأثير في مشاعرنا. علاوة على ذلك، يمكن للقصص الخيالية أن تثير فينا مشاعرَ أخلاقية؛ فقد نوافق على تصرفات الشخصية الخيالية أو نرفضها. وقد نتعاطف مع المعضِلة الأخلاقية للشخصية. كيف يمكن للقصص الخيالية أن تثير هذا النوع من الاستجابة؟ ففي نهاية المطاف، نحن نعلم، ونحن نقرؤها أو نشاهدها، أنها لا تُصوِّر أحداثًا حقيقية. أحدُ التفسيرات المحتملة أنها توجِّه انتباهنا إلى حقائق مجردة بشأن الطبيعة البشرية، وهي تصبح موضوعات تثير مشاعرنا عندما نتأملها. ربما تزعجنا رواية «سيد الذُّباب» لأنها تكشف عن احتمالٍ مزعج بشأن طبيعة الطفولة. ولكن لا يمكن أن تكون هذه هي القصة بأكملها، حيث إن مشاعرنا غالبًا ما ترتبط بشخصية معينة؛ فأنا أشعر بالأسف تجاه بيجي، ولا أشعر بالأسف فحسب لأن الأطفال يمكن أن يكونوا قاسِين أحيانًا مع مَن قد يبدو أنهم مختلفون. ربما تنخرط عواطفنا للغاية مع القصص الخيالية لأننا ننسى مؤقتًا أنها خيال، ومن ثَم نعلِّق عدم تصديقنا. لكن هذا يبدو موضع شك أيضًا؛ لأننا لن نميل في أي وقت إلى القول بأن ما نتعامل معه حقيقي. إن فيلمًا مُخيفًا يحكي عن تهديد كامن في كل جهاز كهربائي لن يجعلنا نتصرف تجاه تلك الأجهزة كما لو كنا نؤمن حقًّا بوجود مثل هذا التهديد (على الرغم من أننا قد نشعر بالقليل من الانزعاج عندما نُشَغِّل الغلاية في المرة التي تلي مشاهدتنا للفيلم).
ثمة لغزٌ إذن فيما يتعلق بالسبب الذي يجعل القصص الخيالية قادرةً على إثارة المشاعر التي تُثيرها. لكن الظاهرة نفسها مؤكَّدة. والآن لنطبِّق هذا على المجال الديني. ربما نشاهد إحدى مسرحيات الأسرار التي تُقام في مدينة يورك، والتي تصوِّر اعتقال يسوع ومحاكمته وصلبه. سيكون من الغريب ألا يثير فينا عَرْضٌ كهذا مشاعرَ قوية. لكن لنفترض الآن أنه بدلًا من أن نكون مُشاهدين سلبيِّين، كان علينا الانخراط في طقوس دينية، أو سردية ما على شكل «لعبة تخيُّل». ربما تنطوي كلمة «لعبة» على نوعٍ خاطئ من الدلالات هنا؛ لأن اللغة والصور التي تجسِّد الطقوس الدينية لا تُشبه الألعاب كثيرًا. لكن ما نقصده هنا أننا ننخرط فيها كما لو كنا نشارك في مسرحية. والآن، إذا كنا مُندمجين بما فيه الكفاية، ليس فقط في المسرحية التي تتكشَّف من حولنا، بل أيضًا في الأدوار التي نلعبها في تلك المسرحية، ألن تُثار عواطفنا بالعمق الذي اختبرناه عندما كنا مجردَ مُشاهدين، إن لم يكن أكثر؟ ربما علينا أن ننسى أننا ننخرط في قصة خيالية لكي ننغمس فيها بالكامل. ولكن أيًّا كانت الآلية العقلية، فكل الأسباب تدفعنا إلى افتراض أن انخراطنا في الدِّين بوصفه قصة خيالية سيكون قادرًا على استحضار نوع الاستجابة العاطفية نفسه الذي تستثيره فينا مشاركتنا في أنواع أخرى من الخيال.
والآن لنتقدَّم خطوة أخرى، ونفترض أننا في أثناء انشغالنا بالقصة الخيالية ندرك أننا «لا نعرف» ما إذا كانت خيالية أم لا. أو بالأحرى، مع أننا متأكدون تمامًا من أن بعض العناصر ستكون خيالية، فثمَّة عناصرُ أخرى، وربما هي عناصر مركزية بدرجةٍ أكبر، قد لا تكون خيالية. فما هو تأثير ذلك على انخراطنا العاطفي؟ لا يمكن بالتأكيد أن يُقلِّل منه. لا يمكن أن تزداد سيطرة الخيال علينا إلا إذا كان هناك شعور بأن عناصرَ منه قد تتوافق مع الواقع. ولكن هذا هو بالضبط موقف اللاأدري. هناك أجزاءٌ من أي دين تُعدُّ زخارف خيالية. على الرغم من ذلك، لا يمكن إثبات أنَّ الدِّين بأكمله مجرد خيال، وإن كان ذلك في حالة الأديان الكبرى على الأقل. فهل يُعدُّ قبول الدِّين بهذه الشروط استجابةً دينية حقيقية؟ يبدو أنه لا يوجد سببٌ يَحول دون ذلك. ففي نهاية المطاف، عادةً ما يكون المؤمنون لاأدريين بشأن جوانب معيَّنة من دينهم؛ ربما يكون هذا العنصر بالتحديد صحيحًا، وربما لا. ومع ذلك، فإن النسيج الديني بأكمله، بلُغته المميزة، وتاريخه، وأخلاقه، وصُوَره، يُعْتَنَق وحدةً واحدةً، وليس نسيجًا مقسَّمًا بدقة إلى أجزاءٍ يكون المؤمن على استعداد للقول إنه يعرف أنها صحيحة (والتي تثير أقوى الاستجابات)، وتلك التي يعترف بعدم يقينه بشأنها (والتي يشعر تجاهها بانفصال معين). إنَّ الالتزام العاطفي تجاه الدِّين ككل. لذلك، فحتى بالنسبة إلى المؤمن، يتوافق مثل هذا الالتزام مع درجة من اللاأدرية. وكلُّ ما يفعله اللاأدري الديني أنه يُوَسِّع المنطقة التي يُتَّخَذ عليها هذا الموقف.
الحياة الدينية إذن ممكنة بالنسبة إلى اللاأدريين، وليست مجرد علاقة حذِرة وتجريبية ومنفصلة في نهاية المطاف. ولكنها بالطبع ليست إلزامية. فقد يجد العديد من اللاأدريين أنهم غيرُ قادرين نفسيًّا على اتخاذ هذه الخطوة الخيالية والعاطفية.