في غرفتي بالفندق بمدينة بروكسل
خبرٌ منشور في الصحف يُبشِّر النساء الفقيرات في إنجلترا وأوروبا كلها: سوف تحصل المرأة على ٢٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا مقابل ما تعطيه للبنك من بَيْضاتها، سوف يمكن للعجائز الأثرياء من الرجال والنساء أن ينجبوا أطفالًا في أي وقت، وبأي عدد، وبأي شكل.
تكتب المُحرِّرة في الجريدة: هذا المبلغ سوف يساعد الأم الفقيرة على سد نفقات أطفالها في المدارس، أو شراء الطعام لهم أو الملابس الشتوية الجديدة، كما أن المرأة لن تخسر شيئًا؛ فهي تفقد بيضتها التي يفرزها المبيض كل شهر، مع دم الحيض الذي يطرده الرحم شهريًّا، هي امرأةٌ فقيرة لا تحتاج مزيدًا من الأطفال، مُرهَقة بالعمل ليلَ نهار، ليس عندها الوقت أو الجهد للتفكير في بيضاتها أو في ممارسة الجنس أو الحب، أو غير ذلك من كماليات الحياة، مع زوجٍ أو حبيب إن كان لها زوجٌ أو حبيب، وسوف يستفيد من هذه البيضات النساء والرجال المصابون بالعقم، أو بأمراض الشيخوخة والثراء، مثل مرض القلب وتصلُّب الشرايين وألزهايمر والباركينسون والانفصام، أو نتائج الفياجرا في حياة العجائز من الرجال مع عشيقاتهم المراهقات الفقيرات، من عمر الابنة أو الحفيدة. وقد أصبح الشبق الجنسي لدى العجائز الأثرياء شائعًا في بلاد العالم؛ إذ تحسَّنَت صحة العجائز مع تطوُّر عمليات القلب، وتوسيع الشرايين المتقلِّصة المتكلِّسة بالدعامات. أصبح الواحد منهم يعيش حتى التسعين أو المائة (أو ما بعد المائة) بقوةٍ جنسية يُحسَد عليها. وتساعد حبوب الفياجرا على تدفُّق الدم إلى أعضائهم الذكورية المنكمشة بالزمن، وهناك بحوثٌ علمية جديدة لاكتشاف نوع من الفياجرا للنساء العجائز، زوجات هؤلاء الرجال العجائز، حتى يمكن للزوجة العجوز الثرية التي هجرها زوجها إلى فتاةٍ شابة أن تكتسب قوةً جنسية جديدة تُشجِّعها على أن تفعل ما يفعله زوجها، فيصبح لها من العشاق الشباب الفقراء ما تشاء، وأن تنجب منهم بعد شراء البيضات من البنك.
قد يبدو الأمر مُقزِّزًا، لكن هذا هو العالم الرأسمالي الذكوري القائم على السوق، لا يسعى إلا إلى الربح، وإن تضاعف القرف.
أحيانًا أفكر في أمي، يتراءى لي وجهها من خلال ضبابٍ كثيف، يسري صوتها الهامس مثل حفيف النسيم: اسمعي يا ابنتي، السرطان لم يقتلني بل الحزن، اضحكي يا ابنتي اضحكي فالضحك يطيل العمر. أكانت أمي فيلسوفة أم شاعرة؟ هي التي حرَّرَتني من سطوة الدين، همسَت في أذني وأنا طفلة وقالت: ما فيش نار ولا جهنم، الجحيم فوق الأرض. آه يا أمي الحبيبة! لم أعرف قيمتك إلا بعد موتك، لم أسألكِ عن منبع الحزن في حياتك، كنتُ أظنك زوجةً سعيدة مع أبي، وكان أبي في نظري ونظر العالم زوجًا وأبًا مثاليًّا، فمن أين جاء الحزن؟
هل ورثَت ابنتي الحزن عنكِ يا أمي، فكتبَت هذه القصائد الحزينة: «مسافرة إلى المُحال»، هذا عنوان قصائدها الجديدة. تعشق ابنتي المحال، المستحيل، تراه جميلًا مثل الموت، لولا الموت لأصبحَت الحياة مستحيلة، تعشق ابنتي جمال المُحال، جمال الحياة يكمن في فَنائها، لا كائن حيًّا يعيش إلى الأبد. الأبدية ليست صفة الأحياء بل الأموات، ألهذا يعيش الإله إلى الأبد؟
الأبدية شيءٌ مرعب، لا يفكر في الأبدية إلا المرضى من البشر أمثال الفراعنة، الأباطرة، الملوك، السلاطين، المساطيل الذين فقدوا العقل والبصيرة. يعيشون وَهْم أنهم خالدون إلى الأبد، لا يموتون، وإن ماتت أجسادهم (وتعفَّنَت وأكلها الدود) فإن أرواحهم تعيش، تتقمَّص أجسادًا أخرى بعد الموت، وتعيش في دار النعيم إلى الأبد.
إنهم الفراعنة في مصر القديمة الذين اخترعوا فكرة الأبدية والحياة بعد الموت، ودار النعيم (أو الجنة) التي يستمتع بها الفرعون الأكبر توءم الإله الأكبر، وأعوانه من الكهنة ورجال الدولة والدين. لم يكن الحاكم الأرضي ينفصل عن الإله السماوي، وكان الحاكم الإله «إخناتون» الذي نصَّب نفسه إلهًا واحدًا على السماء والأرض، يتبدَّى في قرص الشمس كل صباح. إخناتون هو أول حاكم وأول إلهٍ واحد يخترع فكرة التوحيد، ورثها عنه موسى، مؤسس الدين اليهودي، ثم مؤسسو المسيحية والإسلام وغيرهما من الأديان.
أوَّل مرة رأيتُ صورة إخناتون ظننتُ أنه امرأة، له ثديان كبيران وردفان ثقيلان عريضان أكبر من أرداف الإناث، فهل كان إخناتون امرأةً حكمَت مصر وتبدَّت في قرص الشمس مثل الإلهة إزيس؟ ثم حوَّله المؤرخون الرجال إلى رجلٍ ذَكرٍ مع تصاعُد القوى السياسية الأبوية الذكورية العبودية؟
الحياة إلى الأبد لا تستهويني، الفجر لا يكون دون الغسق، الحب لا يكن دون الموت، لو عاش الحب إلى الأبد أصبح رعبًا، الفراق في قمة الحب أفضل منه عند الموت. ألهذا تعددت قصص الحب في حياتي، أفترق عنه قبل أن يفترق عني. أُنهي قصة الحب قبل أن تموت؟ أمضي وأتركها حيةً تنبض في الطريق، قبل أن يخبو في العينَين البريق، قبل أن ينطفئ في القلب الحريق، قبل أن تتبخر قطرات الندى ويخلو الزهر من الرحيق، أتركه وأمضي وحيدة في الكون دون رفيق، لماذا نخاف الوحدة أو الموت وهما الغسق الجميل قبل الفجر الجديد؟ لماذا لا أفارق الحب في عنفوانه قبل أن يأتي الرحيل، قبل أن يصبح غريبًا عني وأنا غريبة عنه في القبر الدفين؟
أقول لأمي وابنتي الشاعرتَين الحزينتَين: لماذا نعجل بالفراق قبل أن يأتي الرحيل؟ لماذا لا نمشي في الكون لآخر الطريق؟ لماذا لا نشرب كئوسنا لآخر قطرة في الرحيق؟ لماذا نُنهي الحب قبل أن يبرد في القلب اللهيب؟ لماذا نصبح غريبَين في قمة الرغبة قبل أن تذوب الشهوة في البحر الغريق؟ آه يا أمي ويا ابنتي كم يشدو الشعر بسحر المحال وجمال المستحيل، وما هو المستحيل؟
هو كل ما يتعارض مع التفكير العقلي المنطقي العلمي المبني على البرهان والدليل. كيف أصبح المستحيل هو الحقيقة غير القابلة للشك واليقين؟ لماذا حرَّمَت الأديان التساؤل عن حقيقة وجود خالق للكون أو حياة بعد الموت، أو جنة فيها حُورٌ عذراوات يستمتع بهن الرجال، أو نار جهنم يحترق فيها الناس إلى الأبد؟
في طفولتي تساءلتُ عن عدالة الله، سألته لماذا تُفضِّل أخي عليَّ، مع أنني أشتغل أكثر منه في البيت والمدرسة، وأنجح بتفوق وهو يرسب كل عام. قال لي المدرس إن هذا السؤال إثمٌ عظيم سوف يعاقبني عليه الله بالحرق في نار جهنم. كان يمكن لي أن أكُفَّ عن الأسئلة خوفًا من الحرق لولا أمي التي همست في أذني قائلة: لا تُوجد نارٌ يا ابنتي، لا تسمعي كلام المدرس.
كلمات أمي فتحَت عقلي، جعلَتني أطرح ما أشاء من الأسئلة دون خوف من النار، قتلَت أمي فيروسَ الخوف في جسدي وعقلي، قتلَت فيروسَ الشر في كياني؛ لأن الشر والخوف توءمان؛ لأن حرية التفكير هي أساس الإبداع والخلق في العلوم والفنون.
لكن كم من الأطفال لهم هذه الأم الواعية الشجاعة؟!
في المؤتمر النسائي الدولي في بروكسل، قلتُ لهم إن التعليم الديني يقتل في الأطفال التفكير الإبداعي الحر، يجعلهم عبيدًا يطيعون السلطة الحاكمة، في البيت والمدرسة والدولة والدين. يلعب التعليم الديني السياسي دورًا في قتل العقل النقدي للطفل، ينمو خادمًا أسيرًا لكل من له نفوذ عليه، هكذا تنجح الأنظمة الحاكمة في الاستبداد بالشعوب، هكذا تخضع الشعوب نساءً ورجالًا للحكم السياسي الديني، دون تمرد أو ثورة. لم ينفصل أي حكم منذ الفراعنة حتى اليوم عن الدين. وقد زادت أعداد المدارس الدينية في جميع بلاد العالم في هذا القرن الواحد والعشرين، تحت حكم توني بلير وجورج بوش وأنجيلا ميركل وغيرهم في أوروبا وأمريكا. مع تصاعُد التيارات المسيحية واليهودية، عاد كثير من الناس إلى الإيمان بالخزعبلات والردَّة إلى الوراء، وبالمثل تصاعدَت التيارات الإسلامية السياسية في بلادنا وتصاعدَت معها الخزعبلات والردَّة إلى الوراء. تُسانِد الأديان بعضها البعض؛ لأن سقوط أحدها يقود بالضرورة إلى سقوط الآخر. إنْ تهاوى الإله الجبار في التوراة تهاوت معه الآلهة الأخرى المنتقمة الجبارة التي تحرق الناس في النار وتأمر بقتلهم لمجرد اعتناقهم أفكارًا أخرى. أخطر ما في الدين تحريم الإبداع والمعرفة. قامت النهضة العلمية في أوروبا بعد معارك عنيفة بين العلماء ورجال الدين، في كل بلاد العالم نهض الفكر والإبداع ضد إرادة رجال الدين.
حاول أستاذٌ متخصص في المسيحية أن يقنع الحاضرين أن المسيحية دين التسامح والمحبة. راح ينتقي من الأناجيل ما يشاء ليدعم فكرته. حاول أستاذٌ متخصص في اليهودية أن يقنع السامعين أن اليهودية دين السلام والعدل، دعم كلامه بعباراتٍ اقتطعها من التوراة. وفعل الأستاذ الإسلامي مثلهما، واختار من القرآن الآيات التي تدعو إلى العدل والرحمة والسلام وحرية الفكر والعقيدة. جاء دوري للكلام فقلت إن مشكلة هذه الكتب الدينية أنها تحتوي على الشيء ونقيضه، تدعو للعدل والسلام والحب في صفحة، وفي صفحةٍ أخرى تدعو للنقيض؛ الظلم والحرب والكره. ينتقي الحكام وأعوانهم من رجال الدين الآيات التي تُحقِّق مصالحهم في ذلك المكان وذلك الزمان، ضد مصالح الأغلبية من الشعب، لتبرير القتل والقهر والتفرقة بين الناس لاختلاف الدين أو الجنس أو العقيدة. يغرق تاريخ الأديان في الدم والحروب من أجل المال والسلطة تحت اسم الله. راجعوا تاريخ اليهودية منذ نشوئها حتى اليوم، هذه المذابح المستمرة للشعب الفلسطيني بالآلة العسكرية الإسرائيلية، أليست تستند إلى آية في التوراة عن الأرض الموعودة؟ كيف يعطي الإله العادل هذه الأرض لشعبه المختار ويأمرهم بقتل سكانها وإبادتهم؟ ولماذا يُفضِّل هذا الإله شعبًا على شعبٍ آخر، لمجرد الاختلاف في العقيدة، أو الفكر أو الجنسية أو الهوية؟ ولماذا يُفضِّل الرجال على النساء؟ لماذا يعتبر دم الوالدة نجسًا، تتضاعف النجاسة إذا كانت المولودة أنثى؟
لا تَقِلُّ المسيحية ازدراءً للمرأة عن اليهودية، وتاريخ المسيحية لا يَقِل دموية عن تاريخ اليهودية. لقد شرع الله لليهود سرقة أرض فلسطين وقَتْل أهلها، لكنه شرع للمسيحيين سرقة الكرة الأرضية وما عليها. تحت اسم سيف المسيح، قامت الإمبراطورية الرومانية بسيف المسيحية ونارها وجيوشها وبوليسها. تحت شعار الإمبراطورية: لا تُوجد أي قوة إلا قوة الله (وهي نفسها قوة الجيش الروماني والبوليس ورجال الدين)، ملايين القتلى تحت شعار «الإنجيل في يد والسيف في اليد الأخرى» (مثل شعار الإخوان المسلمين في مصر «المصحف والسيف»). أقامت المسيحية محاكم التفتيش، أَحرقَت الكتب والمكتبات بما فيها مكتبة الإسكندرية في مصر. قتَلَت المفكرين والفلاسفة، نساءً ورجالًا، ومَزَّقَت أجسادهم، بمن فيهم الفيلسوفة المصرية هيباثيا. أشعلت حروب الاستعمار، بما فيها الحروب الصليبية، بدأت الحرق بالنيران منذ القرن الرابع في عصر قسطنطين، تاجرت في البشر بمن فيهم عبيد أفريقيا.
ثم بعد أن شَبِعَت من قتل الآخرين انقلَبَت على نفسها تقتل المسيحيين لمجرد الاختلاف في المذهب أو الطائفة. أُريقت الدماء في الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت. كم من الملايين قُتلوا تحت شعار الأخوة والمحبة؟! سعَوا إلى المال والقصور العامرة، بنَوا الكنائس بالذهب والياقوت والرخام الفاخر. ضربت عساكرهم الفقراء والجوعى الثائرين.
والفاتيكان (بكل ما فيه من بابوات وكنائس وقسس) أيد أدولف هتلر وتعاون مع النازية والفاشستية، وفي عصرنا الحديث في عام ١٩٩٣م اعترف البابا جان بول الثاني بشرعية دولة إسرائيل.
يغرق تاريخ الأديان جميعًا في الحروب والغزوات، لم ينفصل الدين عن الدولة والحكم. يُشارِك رجال الدين في السلطة والمال واقتناء الذهب والفضة. بُنيَت المساجد بالذهب والرخام مثل الكنائس. ضرب عساكر الحكام المسلمين الفقراء والجوعى الثائرين. بعد أن يقتلوا الكفار يندار الحكام المسلمون لقتل بعضهم البعض. تقوم الحروب والمذابح الطائفية بين السُّنة والشيعة. لا تكُفُّ الحروب الطائفية حتى اليوم، يُشعلها الاستعمار العالمي مع الحكام المحليين. فرِّق تسُد. يلعبُ الدين دورًا ناجعًا في تقسيم البشر فيسهُل حكمهم بالحديد والنار.
أحدَث المؤتمر جدلًا ساخنًا في الجلسات المتعددة. لا يحب رجال الدين الجدل، يعتبرونه من وحي الشيطان. يخشى رجال الدين أن يقود الجدل إلى كشْف خزعبلاتهم ورفْع الحجاب عن العقل؛ لهذا يلجئون إلى قتْل العقل بالخوف من النار، وقتْل المفكرين المبدعين أو نفيهم أو حبسهم، حتى لا تنتشر عدوى التفكير إلى الملايين المضلَّلين، الذين يرثون الدين عن آبائهم دون تفكير.
طالَعَني خبر في صحف بروكسل منذ أيامٍ قليلة يقول: أرسل الأزهر في مصر مذكرةً إلى النائب العام بالتحقيق مع الكاتبة المصرية نوال السعداوي، بتهمة ازدراء الذات الإلهية في مسرحيتها «الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة»، وتوقيع أشد العقاب عليها. نوال السعداوي جاءت إلى بروكسل يوم ٨ فبراير للمشاركة في المؤتمر الدولي النسائي الذي عُقد يوم ٩ فبراير ٢٠٠٧م، لم تهرب نوال السعداوي من مصر كما ذكَرت بعض الصحف المصرية والغربية، وهي في طريقها إلى جامعة وست فرجينيا بأمريكا لتسلُّم جائزة الأدب الأفريقي الدولية عن عام ٢٠٠٧م، التي تمنحها الجمعية الأفريقية العالمية كل عام لأحد كبار الأدباء المبدعين من قارة أفريقيا.