نصف رجل وأمي الأبية
الكرامة والإباء والشمَم، تعلَّمتُها كلها من أمي. كانت مرفوعة الرأس، عزيزة النفس، رافضة الظلم دون مساومات، دون تنازلات. رأت في منامها ذات ليلةٍ زوجها (أبي) في الفراش مع امرأةٍ أخرى. قبل شروق الصبح جمعت ملابسها في حقيبة وقالت لأبي: أشتغل غسالة في البيوت ولا أقبل الخيانة! أنا أعطيك كل نفسي ولا أقبل منك نصف نفسك، لا أقبل نصف رجل!
كنت طفلة في التاسعة، لأول مرة أسمع كلمة «نصف رجل». لم أُدرك معنى الكلمة تمامًا، لم أتخيل جسد أبي مشطورًا نصفَين بالطول أو بالعرض، سمعت أبي يقول لأمي: يا زينب أنا غير مسئول عن أحلامك، أقسم بالله العظيم أنكِ المرأة الوحيدة في حياتي، لا يمكن أن أكذب عليك، فكيف أخونك مع امرأةٍ أخرى؟
ورأيتُ أبي يبتسم في سعادة: الغيرة دليل الحب يا زينب. ردت أمي: ليست الغيرة يا سيد بل الكرامة وعدم قبول الخيانة.
كان ذلك في عام ١٩٤٠م، ولم يكن لأمي مأوى إلا بيت زوجها، إلا أن كرامتها والصدق والإخلاص كانت أكبر عندها من المأوى والخبز. لم تكن أمي تغطي رأسها بحجاب أو تمارس الطقوس الدينية، كان الله عندها هو الكرامة والعدل والحرية والمسئولية. كانت تؤمن أن الصدق والإخلاص الزوجي أهم من الصوم والصلاة. كان أبوها (جدي) يخون أمها (جدتي) ويكذب عليها كل يوم، ثم يصلي ويصوم رمضان ويسافر إلى مكة ليمسح ذنوبه.
في خلايا عقلي وجسدي رسخَت مبادئ أمي على مدى سبعين عامًا، لا يمكن اقتلاعها بأي قوة، فوق الأرض أو تحتها. أصبحتُ قادرة، من أجل الصدق وكرامتي، على التضحية بكل شيء في الدنيا والآخرة، بالحب والجنس والزواج والطب والأدب وجوائز الدولة والبوكر ونوبل. أصبحتُ مثل أمي، لا يمكن أن أقبل نصف رجل (وخائن أيضًا) وإن كان بيل كلينتون أو باراك أوباما، أو العلامة أينشتاين، أو سيدنا يوسف عليه السلام الذي قطعَت النسوة، عند رؤيته، أيديهن بالسكاكين. هيلاري كلينتون رضِيَت بزوجها الخائن طمعًا في السلطة والمال. سيمون دو بوفوار رضِيَت بخيانات بول سارتر المتكررة لأنها كانت أسيرة شهرته الواسعة، داخل فرنسا وخارجها، وكانت تعالج غضبها منه بعلاقاتها المتعددة بالرجال؛ العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم، اكتشفَت بالصدفة ذات يوم أن زوجها يذهب إلى فراش امرأةٍ أخرى، يكذب عليها ويقول إنه ذاهب إلى اجتماعٍ سياسي في الحزب، لو كانت أمي هي زوجته، ماذا تقول له؟ أمي التي رفضَت نصف رجل، في منامها، وليس على أرض الواضع والحقيقة، أمي التي لم تملك المأوى والخبز؟ فما بال ابنتها؟ طبيبة وكاتبة حرة مستقلة اقتصاديًّا ونفسيًّا، حفَرَت في الصخر وأدمت قدمَيها ويدَيها ونزفت الدم، لتحافظ على كرامتها وصدق كلمتها؟
قلتُ له بهدوء: هل تقبل نصف امرأة؟ أنا أيضًا مثلك لا أقبل نصف رجل!
قالت صديقة: تفارقين زوجك في نهاية العمر بعد خمس وأربعين سنة من زواجكما؟ قلت: كرامة الإنسان لا عمر لها.
وقالت صديقة: أهي الغيرة على زوجك؟ قلت: ليست الغيرة يا صديقتي، بل عدم قبول الكذب والخداع. كيف أنادي بالصدق في كتاباتي لأكثر من نصف قرن، ثم أقبل الكذب في حياتي الخاصة؟ هناك كاتبات وزعيمات يضربهن أزواجهن، لا يتردد زوج الواحدة منهن في خيانتها سرًّا أو علنًا، مع ذلك تبقى الواحدة منهن مع زوجها، خوفًا من الطلاق وكلام الناس؛ هذه الازدواجية سائدة في مجتمعنا. ما أسهلَ الكتابةَ عن الصدق في الصحف والكتب، ثم الكذب في الحياة والواقع! أنا يا صديقتي أكتب ما أعيش وأعيش ما أكتب. ثمن الصدق والحرية باهظٌ لكن ثمن العبودية والكذب أشد، فلماذا لا ندفع ونتحرر يا صديقتي؟
وقالت صديقة: لقد ناضلتِ طولَ حياتكِ من أجل الحرية، فلماذا تضنين على زوجك بالحرية؟ قلتُ: الحرية والمسئولية لا تنفصلان، الحرية لا تعني الكذب والخيانة والطعن في الظهر.
قالت صديقة: كل الرجال خائنون، هذه طبيعة الرجل، الخيانة، طبيعة المرأة الإخلاص لرجلٍ واحد.
قلتُ: الطبيعة البشرية (امرأة أو رجلًا) ليست درعًا حديدية ثابتة، تتغير الطبيعة بتغير الزمان والمكان، والتربية منذ الطفولة، إذا تربى الإنسان على الكرامة والصدق أصبح صادقًا يعتز بكرامته. الإخلاص الزوجي أو الخيانة ليسا مسألة هرمونات، بل هما نظامٌ سياسي اجتماعي تعليمي ثقافي، يغرس في نفوس الأطفال الازدواجيات الأخلاقية. يتعلم الولد منذ الطفولة أن الرجولة تعني غزو النساء وخداعهن. تتعلم البنت أن الأنوثة طاعةٌ وخضوع واستسلام للظلم أو القدر أو أمر الله.
يفخر الرجل بأنه الدون جوان، أو زير النساء. لا يدين المجتمع أو القانون الفوضى الأخلاقية، بل يُشجِّعها تحت اسم الرجولة. يتباهى الرجال، خاصة الفنانين، بمغامراتهم النسائية. لنراجع ما كتبه أغلبهم في مذكِّراتهم داخل البلاد وخارجها، غزو السمراوات من أهل البلد عشقًا في الوطن، وغزو الشقراوات في أوروبا وأمريكا انتصارًا على الأعداء. في جريدة «المصري اليوم» قرأنا تحقيقًا كبيرًا عن حياة الفنان الراحل نجيب الريحاني، قالوا عنه: الأسطورة العظيمة، عملاق الكوميديا المصرية، عاش مخلصًا للفن وعاشقًا للنساء. وقالت ابنته جينا: والدي خُلق للحب، وكان يقع فيه كلما التقى امرأةً جميلة، فتركَته أمي، كان نجيب الريحاني متزوجًا من بديعة مصابني، يمارس غزواته خارج الزواج، جعل حياته مع ابنته جينا وأمها في الخفاء. حزنَت أمها وبكت كثيرًا، ثم تركَتْه وعادت إلى فرنسا. نُشر هذا الكلام في الإعلام، على سبيل الفخر وتكريم نجيب الريحاني. لو أن امرأةً فنانة مصرية فعلَت ما فعله الريحاني في حياتها الخاصة ونشرته على الناس، ماذا يقولون عنها؟ عاهرة، مومس؟ هل يُمجِّدونها مثل الريحاني ويمنحونها لقب عملاقة الفن والأسطورة العظيمة؟
أما المرأة في بلادنا فهي تُدان إن رفضَت الحياة مع زوجٍ خائن مخادع. عليها أن تقبل فساد الرجل بصبر وحب، فما بال نصف الرجل، أو ربعه (في حالة زواج الرجل بأربع نساء)؟ قد يتزوج رجلٌ عجوز في التسعين من طفلة أو فتاةٍ قاصر في الخامسة عشرة. انتشرت في السنين الأخيرة جرائم الزواج الموسمي من الأطفال والقاصرات، دون عقاب للرجال الكبار، فهل نُسمي هذا زواجًا أم بغاءً مُقنَّعًا؟ أصبح الفساد الأخلاقي يعم البلاد. لا يتردَّد الشاب العاطل عن اصطياد امرأةٍ ثرية في التسعين، يخدعها بالحب من أجل المال، والشابة الفقيرة تصطاد عجوزًا ثريًّا، تخدعه بالحب أيضًا من أجل المال. تفجَّرَت مشاكل الفقر والعنوسة والبطالة. أصبحَت الحاجة مُلحَّة لإصدار قانونٍ جديد يقضي على الازدواجية والتناقُضات الأخلاقية، داخل الأُسرة وخارجها.