حَيْرة امرأة بين الجنس والفقر
حين صدر كتابي الأول في مصر عن قضايا النساء، منذ نصف قرن تقريبًا، قلتُ: القهر الاقتصادي والقهر الجنسي متلازمان في حياة النساء، من مختلف الطبقات. واشتمل الكتاب على نقد النظام الطبقي الأبوي الرأسمالي والإقطاعي، وربْط مشاكل المرأة الجنسية (الختان، العذرية، المفهوم الخاطئ للشرف، البغاء المقنَّع في الزواج، إلخ) بمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية (الفقر، الأمية، حرمانها من العمل بأجر، تمييز الولد عن البنت، إلخ).
بالطبع تمَّت مصادرة الكتاب بقرارٍ حكومي، وتمَّ جمعه من المكتبات العامة بتهمة الشيوعية وإحداث بلبلةٍ وتحريض على الفتنة، وتهديد الاستقرار والسعي لقلب النظام.
في المجتمع والإعلام المصري تنوَّع الهجوم ضدي، حسب التيارات السياسية والدينية المتصارعة، في منتصف القرن الماضي العشرين. اتهمَني اليمين الإسلامي والقبطي معًا ﺑ «الخروج عن دائرة الدين والتقاليد والأخلاق». اتهمَني اليسار الشيوعي والاشتراكي بتقليد الغرب والاهتمام بالجنس وليس بهموم الطبقات الكادحة من الفلاحات والفقيرات المعدمات.
كنت شابَّةً في ربيع العمر، لا أعرف بحور السياسة العويصة. أتعرَّض كل يوم للخداع السياسي وغير السياسي، شابَّةً ساذجة تؤمن أن الإنسان بريء وصادق، حتى يثبُت العكس؛ لهذا كانت هذه الاتهامات تُؤرِّقُني. لم أكن أريد الانتماء إلى أي شلة من هذه الشِّلَل السياسية أو الأدبية. يمين أو يسار أو إخوان أو معارضة أو حكومة. كلهم كانوا يتشابهون في النزعة للسيطرة والخداع، يتشدَّقون بالحرية والعدالة والصدق والإخلاص، حتى أَشهدَهم في الحياة الواقعية فإذا بالقول يناقض الفعل، خاصة فيما يتعلق بعلاقة المرأة والرجل، أو علاقة الزوج بزوجته. يتشدَّقون بالدفاع عن الطبقات الفقيرة أو النساء المقهورات. مجرد كلام لا يكلفهم شيئًا. يكتبون عن حق المرأة في الحرية والاستقلال. يتنافسون على إقامة علاقات مع المرأة المستقلة الحرة بشرط ألا تصبح زوجة لأحدهم.
بالطبع تعلَّمتُ من تجاربي في الحياة أكثر مما تعلَّمتُ من الكتب. لم أقتنع أبدًا بالازدواجية السائدة؛ أن يكون للإنسان وجهان متناقضان. أن تكون له حياةٌ علنية وأخرى خفيةٌ نقيضة لها. ربما كان ذلك بسبب تربية أمي وأبي. نشأت على الثقة بنفسي وعقلي، والصدق في القول والإخلاص في العمل، كلمتي شرف لا أخونها، وإن كانت شفهية لم تُدوَّن في عقدٍ مكتوب وشهود. هذه القيم التي تُغرس في الطفولة وتنمو وتنمو لتصبح شجرةً عملاقة من الصعب اقتلاعها.
منذ طفولتي رأيتُ القهر المزدوج الواقع على النساء الفقيرات الريفيات من أُسرتي، قهر الفقر وقهر الجنس، الزوج أو أحد رجال الأُسرة. أنا نفسي تعرضت لهذا القهر المزدوج في البيت والشارع والمدرسة، رغم ارتفاع وعي أبي وأمي عن الآخرين، إلا أنني تمرَّدتُ عليهما حين حاولا تقييد حريتي وانطلاقي إلى آفاقٍ أوسع. كان عقلي يكسر الحدود المفروضة والمقدسات الموروثة. بالطبع دفعتُ ثمنًا باهظًا، من حياتي العامة والخاصة، مقابل حرية عقلي، لكني لم أندم أبدًا على الطريق الذي اخترتُه في حياتي. ليس مفروشًا بالورود، فيه الكثير من الأشواك. الألم والمعاناة والحرمان من أساسيات الراحة والأمان، لكن سعادتي الفكرية والأدبية الإبداعية تغلَّبَت على مكاسبَ أخرى أقلَّ قيمةً في نظري، مثل الحصول على المال أو السلطة أو المناصب أو الجوائز، وغيرها مما يغري الكثيرين.
عشتُ العصر الملكي، والاستعمار البريطاني، في الطفولة والمراهقة، ثم عشتُ في شبابي عصر عبد الناصر، ثم عصر السادات، ثم عصر مبارك حتى اليوم من عام ٢٠١٠م، أربعة عهودٍ مختلفة عشتُها، وتمرَّدتُ عليها، دون أن أُدرك ما يُسمُّونها الكهولة أو الشيخوخة، وما هي الشيخوخة إلا فقدان الأمل في التغيير والتوقف عن التمرد أو الثورة في وجه الظلم والكذب والقيود!
لم تُقنِعني حكومةٌ مصرية واحدة بإخلاصها لما يُسمُّونه الشعب. لكل عهدٍ فضائحه ومفاسده التي تُكتشف بعد زواله، قد نكتشف بعضها قبل هذا الزوال. ليس إلا قمة جبل الثلج فوق الماء؛ لهذا عشتُ دائمًا في مشاكلَ عامة وخاصة، تعرَّضتُ لما يتعرض له الثائرون والثائرات في كل مكان وزمان، رغم اختلاف الحكومات، شرقًا وغربًا.
هناك لحظاتُ ضعفٍ تمر بنا، حين تشتد الأزمة والقهر من حولنا، حين يتخلى عنا الجميع، خوفًا من بطش السلطة، حتى أقرب الأقرباء، وأخلص الأصدقاء، قد يقفز بعيدًا في قارب نجاة. نواجه مصيرنا وحدنا، في منفًى أو سجن أو قَبْو، في هذا الوقت العصيب قد تمر بنا لحظة تردُّد. نسأل أنفسنا: هل نواصل الطريق أم نتراجع ونمشي مع القطيع؟
مررتُ بهذه اللحظات من حين إلى حين، لكنها لحظاتٌ مارقة، تمر بسرعة البرق، تعقبها بارقة أملٍ جديد، نجمة تبرق أمامي فجأة من حيث لا أدري، ربما هي الطفلة في أعماقي المتمردة أبدًا لا تموت، وإن قتلوها لحظة تصحو من جديد. كيف؟ يأتيني صوتها الطفولي العنيد من أعماقي العميقة يهتف: نوال يا نوال، انهضي انهضي، لكل جوادٍ كبوة. يُشبه صوت أبي أو أمي، ينتشلني الصوت من الغرق كقارب نجاة، يدان كبيرتان تنتشلان الطفلة من الغرق في البحر.
منذ أيامٍ قليلة جاءَتْني كاتبةٌ شابة، في التاسعة والعشرين من عمرها، تخرجَت في كلية الطب، ترتدي الحجاب، تعرَّضَت للهجوم العنيف بعد أن كتبَت مقالًا عن التحرير الجنسي للمرأة. قالت في مقالها إن تحرير الجسد يتبع تحرير العقل؛ لأن الفصل بين الجسد والعقل مستحيل. وشَرحَت مخاطر القيود الجسدية على صحة النساء الجنسية والنفسية، ربطَت بين الختان الجسدي والختان العقلي.
أصبحَتِ الفتاة مُؤرَّقة من شدة الهجوم عليها، اتهموها أنها من عملاء الصهيونية، أو جاسوسةٌ أمريكية. قالوا عنها فاجرةٌ داعرةٌ تُشجِّع النساء على الفساد الأخلاقي، لا تؤمن بالعذرية والفضيلة، خارجة عن دائرة الأخلاق والدين والوطنية. بعضهم كان أكثر تأدُّبًا قال لها: كيف تكتبين عن الحرية الجنسية للمرأة ونصف الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، وملايين النساء تسعى وراء لقمة العيش بالعَرَق والدم؟
بعد الأَرَق والمعاناة الطويلة، ارتدَت الفتاة الحجاب ثم نشرت مقالًا جديدًا عن مشكلة الفقر بين النساء المصريات. نالت المدح ممن هاجموها من قبلُ، خاصةً بعد ظهور صورتها بالحجاب مع المقال. أتبعَتْه بمقالٍ آخر عن مشكلة «تأنيث الفقر» في مصر والعالم، بمعنى أن الفقر أصبح يصيب النساء أكثر من الرجال. أصبح أغلب الفقراء نساءً، وأصبحت أغلبية النساء فقيرات. نالها مديحٌ كثير ممن كانوا يهاجمونها، واستمرت تكتب عن مشاكل الفقر، ونسِيَت مقالها الأول عن مشاكل الجنس.
سألتُها: هل أنت مستريحة الآن وراضية عن نفسك؟
قالت الفتاة: أنا غيرُ راضيةٍ عن نفسي، أشعر أنني تخليتُ عن نفسي الحقيقية، ارتديتُ الحجاب لأكون مثل أغلبية النساء، وأصبحتُ أكتب المقالات عن الفقر وليس الختان أو الجنس لأنال المدح وليس الذم، أصبحتُ مؤرقة وأشعر بالحَيْرة.
قلتُ لها: الحَيْرة ضرورية لنعيد التفكير في أنفسنا. تكلمي مع نفسك في هدوء واسأليها ماذا تريد؟ استمعي إلى الصوت البعيد في أعماقك، القادم من طفولتك ونفسك الحقيقية؟ استمعي جيدًا ثم اكتبي ما يقوله لك هذا الصوت.