باراك أوباما في القاهرة؟
كنت جالسة أمام الشاشة أتابع باراك أوباما، من وراء المحيط والبحار، يُلقي كلمته في مدينتي، القاهرة لأهلها منذ الإله آمون رع حتى باراك مبارك أوباما.
عددهم ألفان وخمسمائة رجلٍ وامرأة، يتشابهون في الملامح، فيما عدا الطرحة أو الأساور والخواتم، النخبة المصرية من الرجال والنساء، تم حشدها داخل قاعة جامعة القاهرة بدعوةٍ من الحكومة المصرية والأمريكية. النخبة المختارة من الحكومتَين الحاكمتَين، الملابس الفاخرة والأحذية اللامعة، بُوزُها مُدبَّب، الوجوه المشدودة بمشرط التجميل، المصقولة بالكريم المستورد، المُتْخَمة بالأمن والغذاء.
صُوَرهم في الصفحات الأُولى والشاشة على حدٍّ سواء، حكومة أو معارضة يتشابهون، فيما عدا اليافطة المعلَّقة من فوقهم. اللون الأسود علامة الحداد على موتى الحرب أو المجاعات، الأحمر علامة اليسار ومن تبع الشيطان، الأبيض علامة اليمين ورجال الأعمال، الأخضر علامة التقوى والإيمان، الأصفر علامة الحقد والبغض، الأزرق إعلان عن نظاراتٍ أمريكية جديدة لحجب ضوء الشمس.
التهبَت أكفُّهم البَضَّة الناعمة بالتصفيق الحاد، صفَّقوا ثلاثين مرة خلال كلمة استغرقَت خمسين دقيقة، دفع الحماس بأحدهم فصاح بصوتٍ جهوري: أحبك (آي لاف يو). توقَّف أوباما لحظة ليرُد: أشكرك.
هذه النخبة المختارة من ٢٥٠٠ شخص، لا تمثل ٨٠ مليونًا، أو الشعب المصري. لم ينتخبها الشعب بحرية دون تدخُّل البوليس. كان يحوط القاعة عشرة آلاف رجلِ بوليسٍ مصري، وثلاثة آلاف رجلٍ أمريكي من البوليس والمخابرات سي آي إيه.
يختلف أوباما كشخصٍ عن سابقه جورج بوش، يبدو أوباما أكثر إنسانية، لكن السياسة والاقتصاد والمصالح لا تعرف الإنسانية. نحن نعيش في عالمٍ واحد نظامه رأسماليٌّ أبوي ديني، تحكمه القوة وليس العدل أو الحرية أو المبادئ العليا.
السياسة لعبة في ظل هذا النظام، يتدرب عليها الإنسان: تغطية أقبح الأعمال بأجمل الكلمات، استخدام اسم الله للسيطرة على قلوب الناس، اختيار ما يناسب من الكتب المقدَّسة لإخفاء التناقُضات وازدواجية المعايير، أن تقتل الناس وتنهب أرضهم ومواردهم ثم تعتذر لهم بالدموع في عينَيك «دموع التماسيح». لو كان أوباما امرأةً لارتدى الحجاب كما فعلَت وزيرة خارجيته؛ هيلاري كلينتون، صفَّقوا لها طويلًا بحماسٍ منقطع النظير، وصفَّقوا أكثر لأوباما حين قال إن من حق المرأة المسلمة أن ترتدي الحجاب إذا كان ذلك اختيارها، كأنما ارتداء الحجاب شيء تختاره المرأة. كأنما لا ضغوط هناك على النساء للتحجُّب (تحم اسم أمر الله) أو للتعري (تحت اسم السوق الحرة والاستهلاك). وما رأيك يا سيد أوباما في هؤلاء الفتيات اللائي يخترن تغطية رءوسهن (إرضاءً لله) وتعرية بطونهن في الجينز الأمريكي (إرضاء للديمقراطية والحرية)؟ وما رأيك في البنات والأولاد الذين يختارون الختان أو قطع البظور أو غُرلة الذكور (حتى لا يكون هناك اختلاف بينهم وبين الآخرين والأخريات)؟ كأنما القهر شيء يختاره الإنسان أو الفقر أو الموت. وكم قرأنا عن أن الفقراء يختارون الفقر (بسبب الكسل أو الجهل) وأن الفلسطينيين يقتلون أنفسهم وأطفالهم ليصبحوا ضحايا وينالوا عطف العالم! تحت اسم «حرية الاختيار» يتجاهل أوباما الضغوط الواضحة بشتى أنواعها السياسية والدينية، والقهر المفروض من قُوى الأرض والسماء على المقهورين من الرجال والنساء.
كنتُ أرقب أوباما فوق الشاشة وهو يُلقي خطابه، أتابع حركة شفتَيه ويدَيه، تبدو شفتاه ويداه أقل قسوة من جورج بوش، بشرته أكثر جاذبية، لا سوداء، لا بيضاء، لا صفراء، مزيج من الدماء وأجناسٌ متعددة امتزجَت وانصهرَت وتطورَت لتصنع إنسانًا أكثر ذكاءً.
أوباما ممثلٌ بارع، أبرع الممثلين هو من لا نظن أنه يمثل. يحفظ النص عن ظهر قلب حتى نظن أن لا نص لديه، تدرَّب أوباما طويلًا على التلقائية، حتى اكتسب ما تُسمى الكاريزما، هذا السر وراء جاذبية الشخصية، هي تدريب وفنٌّ في آنٍ واحد، مثل عزف الموسيقى أو الرسم أو الكتابة أو أي إبداعٍ آخر.
هذه القدرة الإبداعية على مخاطبة الجماهير لا يدركها أغلب الجماهير في مصر أو أمريكا أو غيرهما من البلاد، خاصة هؤلاء الموظفين في الحكومات، وإن كانوا من نخبة الأدباء أو الصحافيين. لم يبلغوا من الذكاء ما يُؤهِّلهم لفهم هذا النوع الآخر الأذكى.
ألم تُصفِّق الجماهير في ألمانيا لهتلر؟ ألم يعشقِ الناس في روسيا ستالين؟ ألم ينتخبِ الأمريكيون جورج بوش أكثر من مرة، ألم ينجحِ السادات في جميع الانتخابات في مصر بما لا يقل عن ٩٥٪؟
أخطر القادة السياسيين هم أكثرهم كاريزما، يجعلكَ تغني: «اقتلني برفقٍ يا حبيبي.» تُضحِّي بحياتك من أجلهم دون تردُّد، هذه هي لعبة السياسة وسحرها الخلاب؟
أشاد أوباما في كلمته بملك السعودية، جعله مثلًا عظيمًا على حرية الحوار بين الأديان، تحولَت الدولة العنصرية الدينية التي تُفرِّخ التيارات المتطرفة سياسيًّا ودينيًّا إلى مثالٍ للديمقراطية، المشيئة العليا للإمبراطورية الأمريكية، تجعل الديكتاتور الموالي لها بطلًا ديمقراطيًّا. ألم يكن صدام حسين وبن لادن في يومٍ من الأيام من المكافحين الأبرار من أجل الحرية؟
أشاد أوباما بذكاء نتنياهو، لم يصف أوباما واحدًا من الحكام العرب بالذكاء، حتى مبارك الذي فتح له أبواب مصر وفرش شوارعها بالسجاجيد العجمي والورود، وعزف له النشيد الإمبراطوري، لم يذكر أوباما اسم مبارك مرةً واحدة في خطابه الطويل في قاهرة المعز.
هل أراد أوباما أن يبعد نفسه عن الحكم في مصر؟ أم أراد أن يبعد الحكم في أمريكا عن نفسه؟
أوباما ذكيٌّ مدرَّب على ركوب اللحظة الحاضرة، يعرف كيف يركب الموجة دون أن تركبه.
يُتقِن أوباما لغة الجسد، تبدو حركته طبيعية، يقفز سلالم الطائرة ويداه أمام صدره تقفزان معه. يشبه تلميذًا لم يبلغ العشرين من العمر يسرع إلى لقاء حبيبته، هذا ليس رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، هذا باراك حسين أوباما.
شهدتُ خطابه على الشاشة وقرأته مرتَين لعلني ألتقط تغييرًا ما إيجابيًّا في السياسة الأمريكية، وجدتُ الكلمات الجميلة العامة العائمة، وبعض آياتٍ مأخوذة من الكتب السماوية الثلاثة، يشبه البابا في كلمته بالأردن منذ شهورٍ قليلة.
يجيد أوباما استخدام اسمه الأوسط «حسين» حين يخاطب المسلمين، كما يعرف متى يخفيه عن الأعين كأنما هو عضوٌ مُشوَّه.
تكلم أوباما عن الهولوكوست ومحرقة اليهود في ألمانيا القرن الماضي، لم يتكلم عن الهولوكست الفلسطيني والمذابح في غزة التي حدثَت بالأمس، طالب أوباما الفلسطينيين بإيقاف العنف ضد أطفال إسرائيل، لم يطالب إسرائيل بإيقاف العنف ضد الأطفال الفلسطينيين. كل ما طلبه من إسرائيل هو إيقاف بناء مستوطناتٍ جديدة. وماذا عن المستوطنات القديمة التي سلبَت آلاف الفلسطينيين أراضيَهم وديارهم؟ وماذا عن المستوطنات التي تواصل إسرائيل بناءها تحت اسم «النمو الطبيعي للمستعمرات القديمة»؟
ذكر أوباما عدد اليهود الذي عُذِّبوا القرن الماضي في ألمانيا، لم يذكر عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا وشُرِّدوا ولا يزالون يُقتلون ويُشرَّدون منذ نشوء دولة إسرائيل فوق أراضيهم منذ ٦٠ عامًا وحتى اليوم. طالب أوباما الشعب الفلسطيني أن ينسى آلام الماضي وينظر إلى المستقبل، كما طالب الشعب الأمريكي منذ فترةٍ قليلة أن ينسى جرائم التعذيب التي اقترفَتها حكومة جورج بوش ضد السجناء داخل أمريكا وخارجها.
تحت اسم التسامُح والإنسانية يتجاهل أوباما الجرائم البشعة ضد جميع القوانين والقيم الأخلاقية والدينية التي يتلوها على الناس. تحت اسم نسيان الماضي والتطلُّع إلى المستقبل يغُضُّ أوباما النظر عن تطبيق القوانين والقيم والشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان وحقوق النساء وغيرها. ولماذا تُوضع هذه القوانين الدولية والمحلية إذا لم تُطبَّق وتُنفَّذ؟ ما جدوى القانون إذا لم يُستخدَم لمحاكمة مجرمي الحرب والتعذيب والاغتصاب وعقابهم، حتى لا تُكرَّر هذه الجرائم في المستقبل؟ المفروض تطبيق القانون على الجميع دون تفرقة بين الدول أو الأفراد، لكن القوة هي التي تحكم العالم وليس القانون.
أوباما يطبق القانون على إيران لا على إسرائيل. يُحذِّر إيران من العقاب القانوني لو امتلكَت أسلحةً نووية، ولا يعاقب إسرائيل أو يحذرها وهي تمتلك أكبر ترسانةٍ نووية في المنطقة كلها!
يُغطِّي أوباما تناقُضه بآيات الله، مثل كل رجال السياسة، خلط السياسة بالدين هي اللعبة التي يجيدها رجال الحكم ونساؤهم، ألَمْ ترتدِ هيلاري كلينتون الحجاب فوق رأسها تأكيدًا لفكرة تحجيب النساء، كما ارتدى أوباما الحجاب فوق عقله تأكيدًا لفكرة تحجيب العقول؟ أخطر الساسة في التاريخ من مزجوا بين الإله فوق الأرض وإله السماء.
ألم يفعل ذلك كل الحكام من الفراعنة حتى اليوم؟
ينتقل أوباما ما بين الأرض والسماء في غمضة عين، بكلمةٍ واحدة، ينتقل برقة ولباقة ونعومة من المصالح الاقتصادية إلى القيم الإنسانية والأخلاقية، كأنما لا تناقُض ولا تعارُض.
دُهِشتُ حين سمعتُه يقول: ليس لأمريكا مصالح في العراق، ولا تطلب شيئًا من موارد العراق. نسي أوباما أن الحكومة الأمريكية مارسَتِ الضغوط على الحكومة العراقية تحت الاحتلال العسكري لتوقيع ما سُمي: قانون البترول الجديد الذي يُقرِّر احتكار الشركات الأمريكية لبترول العراق ثلاثين سنةً كاملة! كيف نسِي والعالم كله يتذكَّر؟ كيف يُصفِّقون له بحرارة في القاعة بالقاهرة؟ أليس ذلك بعض إبداع الكاريزما الخطابية؟ وكم يعشق الناس الخطابة في بلادنا والعالم أجمع! الإنسان حيوانٌ ناطق، أكثر من أي شيء. لا تزال الظاهرة الصوتية والحنجرية سمة العصر الذكوري السائد، في الشرق والغرب.
حين تكلَّم أوباما عن التنمية كشف عن أهدافه الأساسية من هذه الزيارة، ليس فقط حماية مصالح إسرائيل وأمريكا السياسية والأمنية، ليس فقط تعبئة مليار مسلم لإبادة التيارات المتطرفة الإسلامية، ليس فقط مد حبال الوهم للشعب الفلسطيني بعض سنواتٍ أخري، بل أيضًا المزيد من فتح الأسواق المسلمة للبضائع الأمريكية والإسرائيلية، تحت اسم التنمية والشراكة والصداقة والتعاون. أصبح الاستعمار الجديد يحقق أهداف الاستعمار القديم دون حاجة إلى السلاح العسكري، بكلمات المدح للقرآن وملك السعودية تضمن أمريكا بترول الخليج العربي؛ فالكلمات الجميلة لا تُكلِّف أمريكا إلا نفقاتِ زيارةٍ خاطفة لقلب العالم العربي والإسلامي «مصر العزيزة»، تتكفَّل الحكومة المصرية بنفقات الاستقبال والبوليس، ٥٠٠ مليون دولار دفعَتْها مصر العزيزة من خزانتها الصغيرة. عشرة آلاف عسكري وضابطٍ مصري لحماية أمن أوباما. عشرون مليون دولار خسرها المصريون بسبب الأوامر الصادرة بعدم الخروج إلى العمل والبقاء في البيوت دون فتح النوافذ حتى يغادر السيد أوباما مصر في أمان الله.
وإذا كان أمان الله أشد من أمان البشر، فلماذا كل هذه الجحافل من قوات البوليس والعربات المصفَّحة والهراواتُ تطرد الأطفال من الرؤية عن بُعد؟ فما بالُك بالاقتراب بالجسم!
وصدَرتِ الأوامر أيضًا بإغلاق المدارس والجامعات، حتى مدارس الأطفال في جميع المناطق التي يزورها أوباما، من جامعة القاهرة الكبرى والأهرامات العظمى وحديقة الحيوان في محافظة الجيزة، إلى جامعة الأزهر الشريف والقلعة المبجَّلة وجامع السلطان الأكبر، ومقابر الموتى على طول الطريق من المطار إلى قلب المدينة، والقصر الجمهوري بالقبة، وكل ما حوله من شوارع وأحياءٍ راقية للنخبة المختارة، أو عشوائيات القاهرة حيث الفقراء والعاطلون والباعة الجائلون والزبالون وسكان الضواحي البعيدة مثل حلوان وعين شمس والدرب الأحمر والأخضر والأسود وجبل المقطَّم وقاع المدينة.
تعطَّل آلاف التلاميذ والطلاب عن الدراسة والامتحانات التي تُؤدَّى في هذا الوقت من كل عام.
السيدة ميشيل أوباما لم ترافق زوجها إلى مصر، لتُلازم ابنتَيهما في واشنطن، فلا تتعطل الطفلتان العظيمتان عن أداء الامتحانات في المدرسة!
خلَت شوارع القاهرة من الناس، توقَّفَت الحياة في المدينة، إلا رجال الأمن والمخابرات، والبوليس المصري والأمريكي، انتشروا في كل مكان، حوَّطوا جامعة القاهرة، لم يسمحوا لأحدٍ بالاقتراب إلا ثلاثة عشر من الأمريكيين حصلوا على تصريحٍ خاص بعمل مظاهرةٍ أمام بوابة الجامعة، يهتفون بأصواتٍ رقيقة، يا أوباما اذهب إلى غزة في زيارة يا أوباما.
ظهَرت صورهم في أجهزة الإعلام الكبرى باعتبارهم المعارضة في مصر الديمقراطية.
أما المعارضة المصرية الحقيقية فكانت في المنفى خارج مصر، أو نزيلة السجون، أو حبيسة في البيوت ممنوعة من الخروج إلى المدرسة أو العمل، أو مجرد فتح النوافذ المطلة على المواكب الفرعونية.
بعد أن غادرَت طائرة أوباما أجواء القاهرة بثلاثين دقيقةً فقط انتشَر في شوارع القاهرة العمال المساكين بوجوههم الضامرة الحزينة، وأياديهم المحروقة بالشمس المشققة، انكَفَئوا فوق الزهور والأشجار الصناعية يخلعونها من أماكنها على جانبَي الطرق والميادين، مع الصور والأعلام المرفوعة فوق أقواس النصر، بما فيها صُوَر الإله آمون رع وباراك مبارك أوباما.