حوار حول مذابح غزة في راديو أطلانطا
مدينة أطلانطا هي عاصمة ولاية جورجيا في الجنوب الشرقي للولايات الأمريكية المتحدة. هي أكثر الولايات تخلفًا من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية. لم تنتخب ولاية جورجيا باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية ٢٠٠٨م، انتَخبَتْ جون ماكين عن الحزب الجمهوري، الأكثر رجعية من أوباما وحزبه الديمقراطي، رغم أن أكثر سكانها سود البشرة. تتحيز ولاية جورجيا إلى الأسياد البيض، ربما هي سيكولوجية العبيد، حين يحتقر أخاه العبد، عقدة النقص النفسية، تعاني منها كل الفئات المُستعبَدة بما فيها النساء، والأُجراء المقهورون، بصرف النظر عن الجنس أو الجنسية. حتى في الجامعات تظل رواسب العنصرية قابعة في قاع النفوس، ويحظى الأستاذ الأبيض باحترام أكثر من أستاذةٍ سوداء، وراتبٍ أكبر أيضًا. تطغى الفروق الدينية والعرقية، وترتفع الكنيسة الكاثوليكية فوق الدستور والسياسة، رغم الكلمات الرنانة عن الديمقراطية والحرية والمساواة، يعيش أغلب سكان جورجيا أَسْرى التعليم الديني، والإعلام الديني المتعصب لنوعٍ معين من المسيحية.
هنا يعيش مليونا عربي، أغلبهم من رجال الأعمال، البيزنس، خمسة جوامع في أطلانطا، وكنيسةٌ مصرية قبطية، كنيسةٌ مارونية لبنانية، وكنيسةٌ كاثوليكية رومانية لبنانية أيضًا. يزداد الناس تدينًا في الغربة، يتشبثون بما تُسمى الهوية القومية أو الدينية، خوفًا من الذوبان في الآخرين الأغراب الأجانب. بعض الناس يفرضون الحجاب على نسائهم، أو يُجرون عمليات الختان لأطفالهم الإناث والذكور، كمحاولة للحفاظ على الهوية القومية أو الدينية. بعضهم يقتل البنت دفاعًا عن الشرف أو يُطلِّق الزوجة دون سبب، أو ليتزوج عليها امرأةً ثانية أو ثالثة أو رابعة حسب العقيدة. بعضهم يعادي البعض الآخر لمجرد اختلاف الدين أو المذهب. هكذا لا تُغيِّر المسافات البعيدة أو الأماكن الجديدة كثيرًا من الموروثات القديمة، بل يزداد العقل انغلاقًا رغم الانفتاح على عوالمَ أوسع.
لكن اليوم أذاع الراديو في أطلانطا برنامجًا يستحق التفاؤل، لمدة ثماني ساعاتٍ كاملة، طلب مني المذيع، واسمه مارك جلاسبي، أن أشارك في حوار عن أحداث غزة الأخيرة، مع أستاذٍ أمريكي اسمه موري سالاكان. سبق لهذا الراديو أن أذاع حوارًا معي، وهو راديو متقدِّم يتبنى قضايا العدالة في العالم خاصة في مناطق الصراع، ومنها الصراع العربي-الإسرائيلي، دار الحوار بيننا نحن الثلاثة، رجلان أمريكيان وأنا المصرية، أعطاني المذيع الكلمة في البداية بصفتي من المنطقة التي تدور فيها المذابح.
بدأتُ كلامي من جذور المشكلة وقلتُ: دولة إسرائيل هي مشروعٌ صهيوني استعماري أوروبي أمريكي، منذ أكثر من ستين عامًا. لا يمكن أن تُحَل المشكلة أو يحدث السلام في المنطقة دون تحقيق العدل، وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الأجنبي لفلسطين، إنهاء المشروع الاستعماري الأمريكي الصهيوني الأوروبي في المنطقة العربية، وهذا لن يتحقق إلا بنا نحن شعوب المنطقة، بمزيد من الوعي والتنظيم، مع شعوب العالم التي خرجت في مظاهرات ضد وحشية إسرائيل وقَتلِها الأطفال والأمهات، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية. لن تحُل المشكلةَ الأممُ المتحدة أو مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية، أو توني بلير أو ساركوزي، أو مبعوث أوباما للمنطقة. هؤلاء جميعًا يخدمون المشروع الاستعماري الأمريكي الأوروبي الصهيوني. لا يمكن لأحدٍ منهم أن يتحرر من هذا المشروع الاستعماري القديم الجديد. لا يمكن لهيئةٍ ما أو لفردٍ ما، وإن كان رئيس أيِّ دولة، كبرى أو صغرى، أن يحُل المشكلة. إنها مشكلةٌ استعمارية يقوم عليها النظام العالمي القديم والجديد، والأنظمة المحلية في كل بلاد العالم، بما فيها الأنظمة العربية، حيت تحكم القوة والمال والحرب والخداع من أجل الاستغلال، وليس من أجل العدل والصدق والحرية والسلام. وكم حاولنا كشعوبٍ عربية أن نتحرر من الاستعمار الخارجي الأجنبي والاستعمار الداخلي الحكومي، دون جدوى، بسبب تعاوُن القوة الداخلية مع الخارجية في البطش بنا، في وضعنا في السجون، في طردنا إلى المنافي، في تشويه سمعتنا وخلق الإشاعات الكاذبة حولنا، في تزييف الوعي لدى الناس ونشر الأكاذيب. إن المشروع الاستعماري في المنطقة العربية ينشُد البترول أساسًا بأي شكل، بأي وسيلة، وإن قتلَنا جميعًا، وليس أهل غزة أو فلسطين فقط. مع المنافع الأخرى وفتح الأسواق الجديدة للشركات الرأسمالية القائمة على الربح فقط وإن قتلَت ملايين البشر بالسموم. لقد غُرست دولة إسرائيل وسط المنطقة بالقوة المسلحة، لتكون الحَجَر الاستعماري الأساسي الذي تقف عليه القوى الحاكمة في أوروبا وأمريكا. كان حفر قناة السويس واكتشاف البترول في المنطقة كارثة علينا نحن شعوب المنطقة. كل محاولة للتحرر من الاستعمار أو الفقر الذي يجلبه الاستعمار تُجهض بالحرب أو المؤامرة. كيف تآمر الاستعمار ضد جمال عبد الناصر في مصر حين أمَّم قناة السويس، وحاول تحريرها من قبضة الاستعمار؟ كيف أسقط الاستعمار «مصدق» حين أمم البترول في إيران؟ كيف تعاون الاستعمار مع صدام حسين لضرب إيران ثم ضرب صدام حسين حين حاول تحرير بترول العراق من الاستعمار؟ كيف تعاون أنور السادات في مصر مع الاستعمار وضرب الشعب المصري وسجن قياداته داخل الزنازين؟ كيف أجهض السادات الحركة الشعبية المصرية وعقد مع أمريكا وإسرائيل معاهدةَ سلام زائفةً خادعة، أنتجَت المزيد من الحروب والتصفية للشعب الفلسطيني، والمزيد من المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، إلى أن أصبحت إسرائيل تملك أكبر سلاحٍ في المنطقة بما فيه الأسلحة النووية؟ لماذا لا تفتش الأمم المتحدة البرنامج العسكري النووي الإسرائيلي؟ لماذا يصمت العالم الاستعماري عن الترسانة النووية الإسرائيلية، ويصرخون لأن إيران أو غيرها تُطوِّر برنامجًا نوويًّا في مجالات سلمية؟ لقد ضغطَت أمريكا على مصر وغيرها من البلاد العربية والأفريقية لتُوقف أبحاثها النووية السلمية، حتى في مجال الطب. يستخدم الاستعمار أي وسيلةٍ مشروعة أو غير مشروعة لضرب الوحدة الشعبية في المستعمرات. فَرِّق تسد، لهذا تم تقسيم البلاد العربية وتمزيق الوحدة بين الشعوب. يلعب الدين ورقةً رابحة في تقسيم الناس. ألم تكن إسرائيل هي التي شجَّعَت حماس الإسلامية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية فتح؟ والآن تضرب إسرائيل حماس لتقوية فتح. ألم تُشجِّع أمريكا بن لادن والقاعدة لضرب الاتحاد السوفييتي؟ والآن تضرب أمريكا القاعدة وبن لادن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. لعبة الاستعمار غير النظيفة القائمة على التناقض والخديعة.
وتكلم الأستاذ موري سالاكان المشارك معي في البرنامج وقال: أتفق مع الزميلة فيما قالته.