هل يحدث تغييرٌ جَذْري في عصر باراك أوباما؟
عدتُ إلى أطلانطا بالأمس، من رحلةٍ قصيرة إلى مدينة نوردهايم في الجزء الشمالي من النرويج، لقد دُعيتُ لإلقاء كلمةٍ رئيسية في مؤتمر الطلاب الدولي، الذي يُعتبر من أكبر المؤتمرات الدولية الشبابية، كانت القاعة الواسعة مكتظة بآلاف من الطلبة والطالبات من جميع بلاد العالم. أستعيد شبابي بين الشباب وأمشي معهم فوق الثلوج، أنسى سِنِي عمري المديد، وأحمل مثلهم شُعلةً من النار. آلاف الشعل النارية رأيتها تتحرك في الليل فوق آلاف الرءوس منها رأسي، يُسمُّونها مسيرة الشباب الصامتة ليلة ٢٢ فبراير ٢٠٠٩م من أجل السلام في العالم.
قدماي تغوصان في الثلج، وأمشي وأمشي كأنما إلى نهاية العمر، لا أشعر بالبرد، أستمد الدفء من حرارة الشباب وحماسهم من أجل السلام.
في الصباح، قلتُ لهم في كلمتي إن السلام لا يمكن أن يتحقق دون تحقيق العدل بين الدول في العالم الكبير وبين أفراد الأُسرة الصغيرة. إن السلام دون عدلٍ هو فلسفة العبودية التي تحكم نظام العالم حتى اليوم. السلام دون عدل هو أكذوبةٌ كبيرة شائعة في المؤتمرات وفي قاعات الأمم المتحدة، وفي المفاوضات الرسمية بين الدول، وفي الخطب السياسية والإعلام والتعليم الزائف، وإلا فلماذا فشلت كل عمليات السلام بين إسرائيل وفلسطين؟ ما معنى عمليةِ سلامٍ قائمة على اغتصاب الأرض بالقوة المسلحة، ما معنى أن تدوس على عنقي بكعب البندقية ثم تتفاوض معي على السلام، قبل أن تتفاوض معي على السلام عليك أن ترد إليَّ الأرض المغتصبة، عليك أن ترفع عن عنقي البندقية، لا بد أن يتحقق العدل قبل أن يتحقق السلام، أليست هذه بديهية من بديهيات المنطق البسيط؟
إلا أن البديهيات ضاعت في عالمنا القائم على القوة وليس العدل، وضاعت البديهيات أيضًا في الأُسرة الصغيرة حيث يحكمها منطق القوة ذاته. ألا يقوم قانون الأُسرة في أغلب بلاد العالم على سيطرة الجنس الذكوري دون منطق ودون عدل؟ حتى في النرويج، رغم الحقوق الكثيرة التي نالتها المرأة فإن الأُسرة محكومة بالنظام الأبوي الطبقي، تترابط السلطة الأبوية مع سلطة الكنيسة مع سلطة الدولة مع سلطة المال والشركات والبنوك. تتزايد سلطة الدين في العالم الرأسمالي مع تزايُد الهوة بين الفقراء والأغنياء وتزايد الهُوة بين النساء والرجال، كلما زادت سيطرة رجال ونساء الأديان تزايد الخداع وضاعت البديهيات تحت دخان المباخر وضباب المقدسات.
دعتني حاكمة نوردهايم إلى العشاء ليلة الإثنين ٢٣ فبراير مع عددٍ قليل من الرجال والنساء، اسمها ريتا أوترفيك، امرأةٌ قوية الحضور ألقت كلمةً قصيرة قبل العشاء ثم شربنا النبيذ نخب الصداقة بين الدول والمساواة بين البشر، أدهشَني حماسُها وحماس المدعوين جميعًا للقضية الفلسطينية، بعضهم كان في غزة أثناء المذابح الأخيرة، تكلَّم أحدهم وهو موسيقي اسمه جيرهالد دالين عن دولة إسرائيل، قال إنها دولةٌ نازية تتستر وراء الدين لاغتصاب أرض فلسطين. زار هذا الموسيقي الفنان فلسطين وعاش مع أهلها ثم عاد إلى النرويج يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني ويكشف جرائم إسرائيل، سألَتْه إحدى المدعواتِ ما علاقة الموسيقى بالسياسة والحروب؟ رد عليها قائلًا: الموسيقى أو الفن الحقيقي يناضل ضد الظلم والحرب ومن أجل العدل والسلام، في أيِّ بلد في العالم، والعلم والطب أيضًا، ألم يذهب أطباءُ من النرويج إلى مستشفى الشفاء في غزة لعلاج الجرحى خلال المذابح الأخيرة؟
تردَّد اسم الطبيبَين النرويجيَّين مادز جيلبيرت وإريك فوسي اللذَين عادا من مستشفى غزة يفضحان بشاعة الجُرم الإسرائيلي ضد الأطفال الفلسطينيين، كيف استخدمَت إسرائيل أسلحةً خطيرة غير معروفة وغير مشروعة؟ كيف تغاضت ما تُسمى الشرعية الدولية عن جرائمِ إسرائيل لمجرد أنها مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأخرى في العالم؟
وتحدثتِ النائبة الحاكمة التي تكتب لها كلماتها السياسية، واسمها آن صوفي هانستاد وقالت: نحن هنا في نوردهايم نساند الشعب الفلسطيني بكل قوتنا، إنها قضيةٌ عادلة، قضية يتحمس لها أصحاب الضمائر الحية، الضمير الحي لا علاقة له بالقومية أو الهوية أو الدين، لا علاقة له بالكتب المقدسة أو الكنيسة أو الصلاة والصيام، الضمير الحي يتكون منذ الطفولة، حين يتربى الطفل أو الطفلة على العدل والحرية وشجاعة التعبير عن الرأي، لكن التربية الدينية والسياسية في أغلب بلاد العالم لا تُكوِّن الضمير الحي، بل إنها تقتل الضمير بالخوف والتخويف من نار الجحيم أو العقاب من أصحاب السلطة في الأُسرة أو المدرسة أو الدولة.
وسألني الموسيقي الفنان: هل تظنين أن عصر أوباما سيكون أفضل من سابقيه؟ قلت: ربما يكون أفضل بالنسبة للشعب الأمريكي، من حيث علاج الهوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء، والنهوض بالتعليم، وتوسيع مظلة التأمين الصحي لتشمل قطاعاتٍ أكبر من المحرومين، وتأمين العمل للعاطلين، وكلها إجراءاتٌ اقتصادية لا بد منها لإنقاذ الوضع الأمريكي المتدهور، لكن أوباما سيظل عاجزًا عن تغيير السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة فيما يخص الشعب الفلسطيني. إنه مضطر للدفاع عن مصالح أمريكا القومية والاقتصادية في العالم العربي أو ما يُسمى الشرق الأوسط؛ وبالتالي هو مضطر لتأييد إسرائيل طول الوقت وإن خالف ضميره والمُثُل العليا التي يرددها في كل خطبه.
هزَّ الجميع رءوسهم علامةَ الموافقة على ما أقول، وساد صمتٌ طويل حزين، كأنما كان أوباما يمثل لهم أملًا جديدًا للقضاء على الحروب والمظالم في العالم، وقطعتُ الصمت الحزين بضحكةٍ مرحة قصيرة وقلت: وهل يمكن لفردٍ أن يغير العالم؟ هل يمكن لأي رئيسٍ أمريكي أن يحرر الشعب الفلسطيني أو أي شعبٍ آخر؟ التاريخ يؤكد لنا أن الشعب هو الذي يحرر نفسه بنفسه وبأفراده رجالًا ونساءً وأطفالًا، من الذي حرر الشعب النرويجي؟ وضحك الجميع وقالوا: نحن، نحن جميعًا.
وشربنا من جديدٍ النبيذَ نَخبَ الشعوب التي تُحرِّر نفسها بنفسها برجالها ونسائها دون تفرقة على أساس الجنس أو العِرْق أو الدين أو غيرها، وقالت آن صوفي هانستاد: عندنا مساواةٌ كاملة بين النساء والرجال في كل المناصب العليا في الدولة، عندنا حاكمات مثل ريتا حاكمة نوردهايم، وعندنا وزيراتٌ في كل مجال حتى الدفاع والجيش، وابتسمتُ وقلتُ: لكن هل تختلف سياسة وزيرة الدفاع والجيش عن نظيرها الرجل في ظل النظام الأبوي الطبقي؟ وساد صمتٌ طويل حزين.
عُدتُ من النرويج إلى أطلانطا، ركبتُ الطائرة من نوردهايم إلى كوبنهاجن، حوالي ساعتَين في الجو فوق الثلوج، تأخرتِ الطائرة في الإقلاع ساعة ونصف الساعة حتى أزاحوا الثلج عن جناحَي الطائرة، كل شيء يبدو لي كأنما أطير في حُلم أو أشهد فيلمًا سينمائيًّا في عالم آخر، ثم ركبتُ الطائرة إلى أطلانطا. اجتَزْتُ المحيط الأطلنطي في عشر ساعات. أخيرًا وصلتُ بيتي لأجد رسالة في الإيميل من القاهرة من ابنتي منى تقول: حمدًا لله ع السلامة يا أمي. أجمل رسالة من أجمل إنسانة تُبدِّد تعب السفر ومشاقَّ الطريق.