الموت المبكِّر للشباب في الوطن
تخلَّفتُ عن حضور حفل تأبين الدكتور محمد فتوح (الذي أُقيم خلال الشهر الماضي نوفمبر ٢٠٠٨م بمكتبة القاهرة بالزمالك) لأني هنا في أطلانطا، فيما وراء المحيط الأطلنطي. لولا هذا البعد الجغرافي الكبير، عشرات آلاف الأميال من الأرض والماء، لكنتُ ضمن الحاضرين، من الشباب والشابَّات، من جيل ابني وابنتي، الذين زاملوا الدكتور محمد فتوح، أو عرفوه، عن قُرب أو عن بُعد. لا يمكن أن تَعبُره في حياتكَ كما تعبُر الشارع، كما تعبُر الآلاف أو الملايين العابرة في طريق حياتك. هناك وجوه أو شخصيات تلقاها لأول مرة فتصبح جزءًا منك، لا تفارقك وإن غاب الشخص في المنفى أو السجن أو الموت. عاش محمد فتوح هذه المصائر الثلاثة؛ المنفى داخل الوطن مثل غيره من شباب الكتاب والمفكرين، السجن دون قضبان مثل العاشقين للحرية والعدل. لم يحظَ أبدًا بالشهرة أو المال أو المنصب. مات فقيرًا مريضًا لا يملك ثمن العلاج. كان يكتب المقالات والكتب دون أن يحصل على مليمٍ واحد، مثل أغلب الشباب والشابات. كان يكتب في الفلسفة والسياسة، يؤلف الموسيقى والألحان، كله ببلاش، كان سعيدًا في حياته أكثر من أصحاب المال والنفوذ، يستمد سعادته من الإبداع والخلق. هل هناك سعادة أكبر منهما؟
اليوم السبت ٦ ديسمبر ٢٠٠٨م، الشمس غائبة في سماء أطلانطا على غير العادة، ودَّعتُ الطلاب والطالبات في الجامعة بالأمس، أعطيتُهم جميعًا الدرجة النهائية «عشرة على عشرة»، أو حرف «أ» باللاتينية، أول حصة قلتُ لهم: لا تُفكِّروا في الدرجة النهائية، لا تهتموا بالشهادة العليا، لا يحفظ التاريخُ أسماءَ حَمَلة الدكتوراه ولا أصحاب البلايين والبنوك، ولا أسماء رؤساء الدول والملوك. هل تذكرون اسم الملك أو رئيس الدولة في عصر شكسبير أو فرجينيا وولف أو أنشتاين؟ لم يحمل محمد فتوح درجة الدكتوراه إلا قبل أن يموت بعامٍ واحد، ربما أراد أن يُهديَها لأبيه، كما فعلتُ مع أبي، أردت لأبي أن يفرح بابنته الدكتورة، ثم ألقيتُ بالشهادة في صفيحة القمامة بعد موته، لكن والد الدكتور محمد فتوح مات قبل أن يفرح به، قبل أن يرى أول كتاب يحمل اسمه. نشره الحاج مدبولي. يتميز مدبولي وسط الناشرين بشجاعةٍ نادرة (رغم أنه يحرق بعض الكتب بعد أن ينشرها ومنها كتابان لي العام الماضي). لماذا يفعل مدبولي ذلك مُعرِّضًا نفسه لخسارة الآلاف من الجنيهات؟ ربما لأنه عاشق لنشر الممنوعات وإن أعدمَها فيما بعدُ، ربما من شدة العشق (ومن الحُب ما قتل). تجاوز الحاج مدبولي السبعين من العمر مثلي. يحتفظ بمرح الشباب وجرأته، لهذا ينشر للشباب غير المعروفين مثل محمد فتوح. لا يسعى إلى الربح من كل كتاب، قال لي مدبولي قبل أن أغادر الوطن في أوائل فبراير ٢٠٠٧م: كتاب يعوض كتاب، أكسب في كتاب وأخسر في كتاب، يومٌ لك ويومٌ عليك، هي دي الدنيا يا دكتورة!
يا مدبولي لك وحشةٌ أكثر من أقربائي من عائلة أمي وأبي! لم تعُد علاقات الدم أو صلات الرحم أو ما تُسمى العائلة البيولوجية هي التي تُحدِّد لنا الأصدقاء والصديقات. أصبحتِ الصداقة، مثل الحب، تموت أو تنمو بين الناس مع نمو العقل والإنسانية والصدق والأمانة في القول والعمل.
بدأَت صداقتي للدكتور محمد فتوح منذ عام ١٩٨٢م، حين بدأنا نُكوِّن الفرع المصري لجمعية تضامُن المرأة العربية. وفَد إلينا الكثيرون من الشابات والشباب، منهم محمد فتوح، انضم إلى اللجنة الثقافية للشباب، وإلى فريق الموسيقى والشعر، كان عزفه على العود مثل صوته في الغناء، يجمع بين القوة والرقة، مثل شخصيته وإدراكه لمعنى الرجولة. لم يكن له شارب ولا لحية أو غيرهما (مما يُسمى في علم البيولوجيا أو الطب «المظاهر الثانوية للذكورة»). كان واثقًا بنفسه الأصلية، لم يكن في حاجة إلى المظاهر الثانوية البيولوجية ليقول أنا راجل. كذلك أيضًا لا تحتاج المرأة الواثقة بأنوثتها إلى إبراز نهدَيها وردفَيها، أو تلوين شفتَيها وتكحيل عينَيها. لكن كيف مات وهو شاب قبل أن ينتهي من كتابه الثاني؟ ليس هو وحده الذي يموت شابًّا في بلادنا، أمي ماتت وهي شابة، وأبي مات شابًّا، وأخي مات شابًّا، وكثير من أصدقائي وصديقاتي ماتوا شبابًا. أنا وحيدة زميلاتي في المدرسة والجامعة التي بقيت حية. أغلبهن غادرن هذا العالم في الأربعين من العمر أو الخمسين لمن يطول بها العمر. تنشد الموت كثير من النساء غير السعيدات في حياتهن. من النادر أن تسعد المرأة في ظل قانون يجعلها نصف رجل، أو يمنح زوجها حق خيانتها علنًا وسرًّا. من النادر أن تسعد امرأة أو رجل لا يستطيع أيٌّ منهما التعبير عما يجول في عقله، أو لا يستطيع نشر أفكاره في كتاب، أو السير في مظاهرةٍ سلمية شعبية تنشد العدل أو الحرية. أحيانًا أشعر بالخجل أو تأنيب الضمير لأني تجاوزتُ السبعين عامًا من العمر؛ لأن الشباب يموتون، وأنا لا زلت أستمتع بالحياة. لا أعرف ما السر في طول عمري، رغم عشرات المآسي في حياتي. ربما هو الحُب المستحيل أنتظره قبل أن أموت؟ ربما هي سعادة الإبداع أو الكتابة تمسح من الذاكرة كل التعاسات، لا أدري لماذا أعيش وقد نشرتُ سبعة وأربعين كتابًا. وشبابٌ يموتون دون نشر كتابهم الأول، أو الثاني مثل محمد فتوح؟ ألهذا أدرك غياب العدل وغياب المعنى من هذا الكون؟ ألهذا أكتب ولا أملُّ الكتابة بحثًا عن المعنى والهدف من الحياة؟ وكم من فلاسفة في الشرق والغرب ماتوا قبل أن يكتشفوا هذا اللغز!
وكم من فلاسفة أعلنوا قبل موتهم أن معنى الحياة ليس له معنى؛ أن نعيشها كما هي الحياة بالمعنى أو اللامعنى! أن نستمتع ونسعد بها دون أن نعرف لماذا، وإن عرفنا لماذا فالأمر سيان، في النهاية نموت كما تموت كل الكائنات الحية. أما الكائنات الميتة فهي لا تموت؛ لأن الموت لا يموت. ومن هي الكائنات الميتة؟ هي التي تعيش وتموت دون أن يدرك العالم أنها عاشت وماتت، دون أن تفعل شيئًا يغير العالم، دون أن تترك أثرًا يُشجِّع الناس على العدل أو الحرية أو الصدق. هذه هي كلمات محمد فتوح منذ عامَين وأكثر، بعد أن نشر مقالًا في إحدى المجلات فأصبح متهمًا بالإلحاد والكفر؛ لأنه قال إن الله هو العدل وليس الدروشة والفتاوى الذكورية. نصحه بعض أصدقائه بعدم إثارة غضب التيارات الدينية والسياسية المتعصبة، وإلا تعرضت حياته للخطر، سمعته يرد عليهم قائلًا: الناس من خوف الموت في موت، والناس من خوف السجن في سجن، والناس من خوف الذل في ذل!
لم يمت محمد فتوح من الخوف، بل مات بالفيروس الشائع الذي يأكل أكباد الشباب في بلادنا فيروس «سي» هذا المجهول الذي ينهش في الظلام كبد الإنسان، والذي يزيد ثمن العلاج في شهرٍ واحد على ضعف الأجر الشهري للفرد العادي، أعني الفرد الذي له عمل بأجر، فما حال الذي ليس له عمل، أو يعمل دون أجر، مثل أغلب الشباب الذين يكتبون المقالات أو الكتب دون مليمٍ واحد، مثل الدكتور محمد فتوح؟ كيف يقضي الشاب على فيروس «سي» قبل أن يقضي الفيروس عليه؟
أعترف أنني كرهتُ الأطباء ومهنة الطب. في ربيع عمري كنتُ طبيبة أعالج مرضى السل الرئوي، بالمشرط أو بالأقراص. كلاهما، المشرط أو الأقراص، لم يكونا يقضيان على جرثومة الدرن؛ فهي لا تنهش إلا رئة الإنسان المحروم من الطعام، أو المرهق بالعمل الجسدي والنفسي. الطعام الجيد والراحة الجسمية والنفسية يحميان الإنسان من مرض الدرن. كلاهما يصنعان (مع السعادة) المناعة الحامية لنا من جرثومة الدرن؛ فهي جرثومةٌ عديمة الإنسانية، مثل العالم الرأسمالي الأبوي الذي نعيش فيه، تحكمها القوة وليس العدل. تنقَضُّ الجرثومة على الضعفاء فقط، تخشى الأقوياء، لا تختلف عن غيرها من الكائنات التي تتربى على نهش الضعفاء، خاصة فصيلة البشر، الرجال والنساء. أقسى الوحوش تتربى على الخوف والجشع. أكثر الحيوانات إنسانية هو الأسد، لا يأكل الأسد فريسته إلا إذا جاع، لكن الرأسمالي البليونير، المشبع بالجشع والخوف، لا يتردد في نهش الأضعف وإن كان مصابًا بالتخمة!
هنا في أطلانطا أدفع من راتبي مبلغًا كبيرًا كل شهر لشركة التأمين الصحي، وهي شركةٌ رأسمالية قائمة على الربح، تستغل المرضى والأصحاء الخائفين من الأمراض. قلتُ لإدارة الجامعة إنني سليمة الجسم والعقل، ولا أريد أن أدفع شيئًا لشركة التأمين، لكن القانون الرأسمالي يحتم علينا أن نُؤمِّن على صحتنا رغم إرادتنا، لصالح الشركة بالطبع؛ لأن الحكومة تعمل لحساب الشركات وليس لحساب الأغلبية من العاملين المكافحين والمكافحات. لم ينجح باراك أوباما في انتخابات الرئاسة هذا العام ٢٠٠٨م إلا لأنه رفع شعار «التغيير». أغرق الناس بالوعود، بأنه سيحكم بالعدل وليس بالقوة، أن يراعي مصالح الأغلبية الفقيرة وليس الأقلية الثرية، أن يقلب هرم الحكم ليكون من أسفل، من القاعدة العريضة، إلى أعلى، وليس العكس. سوف نرى بعد ٢٠ يناير ٢٠٠٩م ماذا يفعل أوباما حين يعتلي العرش رسميًّا، بعد حفل التتويج الذي دفعت فيه الشركات الرأسمالية ملايين الدولارات.
قرأتُ بالأمس في الصحف أن عشرات الملايين من الدولارات دفعَتها الشركات لتأجير غرف في الفنادق للمدعوين إلى حفل تتويج أوباما في يناير، ويقولون إن البلد في أزمةٍ اقتصادية. لكن من يعاني هذه الأزمة؟ في نوفمبر، الشهر الماضي فقط، فقد نصف مليون شخص أعمالهم وأصبحوا في الشارع، في طابور العاطلين، لماذا لا يلغي أوباما حفل تتويجه ويدفع هذه الملايين للعاطلين أو المرضى بدون تأمينٍ صحي؟ أو بتأمينٍ صحي وجوده مثل عدمه! وكم دفعت لشركة التأمين الصحي دون أن أحصل على شيء، ثم قررتُ عدم الذهاب إلى أي طبيب للكشف أو ما يُسمى الوقاية من المرض. أدفع في زيارة للطبيب خمسة وعشرين دولارًا؛ أي ما يعادل مائة وأربعين جنيهًا، لماذا؟ كي يرمقني الطبيب من طرف أنفه باستعلاء، ويُحوِّلني لعمل صورة أشعة للثدي أو جزءٍ آخر من جسمي. يتصور في خياله الطبي المريض أنني لا بد مريضة بالسرطان، لماذا؟ لأنني تجاوزت السبعين عامًا! أول الأمر أطعتُ الطبيب، مثل كل البلهاء، ودفعتُ ألف دولار في صورة الأشعة، ثم اكتسبتُ الوعي ولم أُطعِ الأطباء ولم أعد أفكر في صحتي. وما إن كففتُ عن التفكير في صحتي حتى عادت إليَّ الصحة والسعادة، وأصبحتُ كما كنتُ قبل أن يقع بصري على الطبيب.
سألتُ الدكتور محمد فتوح قبل أن أغادر الوطن عن حالته الصحية، قال إن حالته تتحسن، وابتسم تلك الابتسامة التلقائية التي يتميز بها أهل مصر من الريف، ابتسامة الإنسان البسيط السعيد رغم قسوة الحياة، الإنسان الأبيُّ، عزيز النفس الذي لا يشكو، ولا يطلب شيئًا وإن شارف على الموت. وأنا أُودِّعه رأيت الدموع الحبيسة تحت الجفون، قال لي: خلي بالك من نفسك يا دكتورة، إحنا في انتظارك، عودي إلينا. في صوته، لأول مرة، رنة حزنٍ عميق دفين. هل دار في خياله أنه اللقاء الأخير، أنني سأموت في الغربة قبل أن يراني مرةً أخرى، أم إنه هو الذي يموت في الوطن قبل أن أعود؟
سألتُ نفسي بعد أن قضى فيروس «سي» على حياة الدكتور محمد فتوح قبل الأوان، أكان يمكن لو حصل على العلاج أن يعيش ثلاثين سنةً أخرى أو أربعين؟ يكتب فيها كتابه الثاني والثالث والرابع، حتى الأربعين؟ لو أن الدولة منحَتْه ثمن العلاج كما تفعل مع القلة المحظوظة؟ القلة من النخبة الحاكمة أو ما حولها من كُتَّاب وصحافيين. يسافر الواحد منهم إن عطس إلى لندن أو باريس، فما بالُك إذا احتاج إلى زرع كبد أو كلية تنقذه من الموت؟ في ولاية ميزوري العام الماضي أفتى أحد القسس، من الكتلة المسيحية الرأسمالية، أن عملية زرع المخ تتعارض مع إرادة الله. تذكرتُ قولة الشيخ شعراوي في مصر منذ أعوام: «زرع الكلية حرام لأنها تؤجل لقاء الإنسان بربه.» وكم من نقاش دار حينئذٍ في الصحف حول مقولة الشيخ الشعراوي، لكن الأغنياء لم يستمعوا إلى فتاوى الشيخ، ونجحوا في تأجيل لقائهم بربهم عشرات السنين، بعد أن دفعوا ثمن الكلية الجديدة!
منذ أعوامٍ كثيرة مات أخي في شبابه بالفشل الكلوي. ومنذ أيامٍ قليلة مات الدكتور محمد فتوح في شبابه بالفشل الكبدي. وكم من شباب يموتون في بلادنا دون أن تهتز شعرة في جسد الدولة أو يطرف لها جفن! مما يجعلنا نسأل: كم تساوي حياة الإنسان؟ ليس في بلادنا فقط بل في العالم كله، المحكوم بالمال والسلاح والإعلام والتعليم. هنا في أطلانطا انتحر شاب بعد طرده من عمله، منذ أسبوع، بسبب الأزمة الراهنة. وفي لندن، منذ أيام، مات رجل بالسرطان لأن التأمين الصحي لم يدفع له ثمن العلاج. في نظم التأمين الصحي الرأسمالي يحظى الرجل العجوز في التسعين من عمره بحبوب الفياجرا لتنشيط ذكورته المتهالكة مع البنات الصغيرات، ولا يحظى الشباب المرضى أو الأصحاء بضرورات الصحة أو الحياة.
دفع محمد فتوح حياته من أجل أن يغير هذا العالم القبيح، ومن يدفع حياته لتغيير العالم لا يموت.