أخطاؤها المقدسة
صديقة عمري اسمها «صديقة»، رسَّامةٌ مبدعة لا تنتمي لأي مدرسة في الرسم، لا يرى لوحاتها أحد، لا تحب الإعلام. تقول: الشهرة مرضٌ عضال، تُحوِّل الإنسان إلى حيوان. نُقَّاد الفن في نظرها ديدانٌ طفيلية. لم تعرض صديقتي لوحاتها في مكانٍ عام.
تقول: المعارض مثل المباول العامة، تنتهك الذوق والإحساس.
لا تدَّعي صديقة الهروب من الأضواء كما يفعل المشهورون العاشقون للأضواء. تقول: لا يحرق اللوحة مثل الضوء. يتهمها الناس بالجنون، لكنها في نظري أعقل من العقلاء، لا تختلف عن المجانين في شيء إلا أنها ليست مجنونة. بلغت صديقة ستة وسبعين عامًا من العمر في ٢ مارس ٢٠١٠م، وُلدت في ٢ مارس عام ١٩٣٤م. تمارس رياضة السباحة لمدة ساعة كل يومَين، تلعب التنس مرتَين في الأسبوع، لا تذهب إلى أي مكان يستدعي ركوب سيارة، أو حيث يُدخِّن أحدهم سيجارة. تُقاطِع الاجتماعات الأدبية والفنية والسياسية، ومهرجانات توزيع جوائز العلم والإيمان. كلُّ شيء تريده لا يَبعُد عن بيتها أكثر من خمسة كيلومترات. النادي الرياضي تذهب إليه سيرًا على قدمَيها. لا تسمح لأحد بزيارتها في بيتها إلا صديقة عمرها، وشقيقتها التي تسكن البيت المجاور، وفي أحيانٍ قليلة يزورها صديقٌ جديد كانت تحبه، أو حبيبٌ قديم تحوَّل إلى صديق. قلبها ربيعيٌّ لا يكُفُّ عن الخفَقان، مثل عقلها وروحها وجسدها.
شقيقتها التوءم وُلدت قبلها بسبع دقائق، كأنما وُلدت قبلها بسبع سنين أو سبعة قرون، تجاوزَت شقيقتها الشيخوخة وما بعد الشيخوخة. أحزان وجهها محفورة في أحزان الجسد والروح.
تبدو صديقة إلى جوارها شابةً نشيطة الحركة تفيض بالسعادة، في كل مرةٍ أراها أسألها: من أين تأتيك السعادة يا صديقة؟ تُطلِق ضحكتها الطلِقة تَرنُّ كالفضة: عاوزة السبب الحقيقي يا نوال؟ قابلتُ الرجل الخطأ في حياتي، كلُّ من قابلتُهم لم يكونوا ما أريد، تعلَّمتُ من الخطيئة أكثر مما علَّمَتني الفضيلة، أصبحَت أخطائي مُقدَّسة. عنوانٌ جيد لروايتي الجديدة، سأجعلُكِ بطلة الرواية يا صديقة.
لا أُحب كلمة بطل أو بطلة، الأبطال مقدَّسون لا يخطئون، معقَّمون مثل مِشرَط الجراحة، إن لم تُقدِّسي أخطائي فلن تدخل روايتك التاريخ، لن يلعنها نقَّاد الأدب والفن، لن يجمعها البوليس من البيوت والأرصفة، لن يحرقوها بالجاز والبنزين، وفي عيد الأدب تنالُ روايتُكِ الجائزة الأُولى.
فماذا تُريدين لروايتكِ؟ البقاء أم رضا النقاد؟ أسألها: وماذا تريدين أنتِ بلوحاتك؟
أريد تجسيد أخطائي، المُحلِّقة في سماء حياتي، مثل ضوء العذراء فوق قُبة الكنيسة، اليوم يُقدِّسونها، كلهم يبالغون في تقديسها اليوم. بالأمس حين عاشت لعنوها، فرضوا عليها الهرب والهجرة من وطنها، اتهموها بالخطيئة، كيف حملَت ووضعَت طفلها دون رجل؟ لم تَردَّ عليهم، لاذت بالصمت البليغ.
كانت تعرف أن الطفل المقدَّس لا تُنتجه إلا الأم وحدها حين تحترم خطيئتها، ترفعها إلى درجةٍ عُليا، أعلى منهم ومن حياتهم المزيَّفة. لا تستسلم الأم المقدَّسة العذراء، لا تنتحر، لا تنهزم، تطلب العدل من أصحاب الضمير وصاحباته، لا تطلب الصفح ولا التسامُح من الآلهة وأصحاب القداسات.
لوحاتها قبل الأخيرة بعنوان: «ظهور العذراء في القرن الواحد والعشرين، عادت بكبرياء وشموخ تطلب العدل لكل المقهورات والمقهورين، مثل الآلهة المصرية «إزيس أو معات»، أحبَّت كرامة العدل الإنساني وليس مذلة الصفح أو التسامُح الإلهي» تسألهم هذا السؤال بلوحتها:
من يملك حق التسامُح؟ من يصفح عمَّن؟ وماذا عن أخطائكم أنتم يا أيها المقدَّسون المعصومون الذين لا يخطئون؟
لوحتها الأخيرة تُصوِّر مجلسًا من آلهة العدل الرجال (بعد موت الإلهتَين إزيس ومعات وأُمِّهما نوت) يمنعون دخول امرأةٍ واحدة من بابهم، تقول لهم: إلى هذا الحد تخافونها؟ هل واحدةٌ فقط قادرة على تفكيك عالمكم الواهي؟ فقط رجلٌ واحدٌ منهم لا يخافها، فتح لها الباب مُرحِّبًا، واحدُ فقط قادر على حبها؛ فالخوف والحب لا يجتمعان في قلبٍ واحد.
سألَتْني صديقة: هل قابلتِ رجلًا قادرًا على حبك؟ سألتُها أيَّ حب تقصدين؟ ضحِكَت صديقة وأخذَتْني إلى لوحةٍ أخرى في الركن، عنوانها: «تاريخ»، الرجل في اللوحة يرتعد خوفًا منها، دفين منذ قديم الزمان، وإن جلس على عرش الحكم يظل يرتعد، هشٌّ مصنوع من القش، كتِفاه العريضتان محشُوَّتان بالقطن وفضلات القماش في حوانيت الترزية، مثل العرائس. ممسوك من أعلى المسرح بخيوط المؤلف، لا يستطيع أبدًا أن يكون هو المؤلف أو المبدع الخلَّاق، وضحِكَت صديقة: ترزية بذلاتهم مثل ترزية قوانينهم، قشٌّ وقشٌّ وفضلات المحشي والأكل الدسم.
في لوحاتهم عن المرأة يحشُون ثديَيها بالقطن كالعروسة، مثل أكتافهم المحشوَّة، يألفون الحشو، يخافون دمها، لحمها الحي. أكثر ما يخافون هو عقلها، وجسدها حين يصبح العقل.
قالت صديقة: منذ ولادتها يتنافسون على تجريدها من سلاحها الوحيد «عقلها» يملئون الفراغ في رأسها بالبلاهة، يستبدلونها بكلمةٍ أخرى مثل «الأنوثة»، «الأمومة»، «الإخلاص للزوج». يبيعون لها الإخلاص في أكياس اللب والقرطاس، وروايات الحب العذري المنزوع الجسد، ومِقشَّات المسح والكنس، وصواني الفرن، ومراهم التدليك، وشد الجلد، وشفْط الدهون، ونتْف الشعر، وإخفاء التجاعيد. يمنعون عنها كتب الفلسفة باعتبارها كفرًا، وروايات الحب غير الروحي السماوي الطاهر. يسمحون لها بتعلُّم التدبير المنزلي، وفن الطبخ وسرير الزوجية، أو التمريض وغسل الصديد، أو الطب النسائي والأطفال. قد يسمحون لها بدراسة القانون (بشرط ألا تكون قاضية في مجلس الدولة) وعلوم الكيمياء والقوة النووية (بشرط ألا تكتسب أي قوة، وتظل أنثى هشَّة العظام تتكسَّر عظامها في أوَّل عناق).
هناك دائمًا شروط إن أرادت أن تخرج إلى العمل بأجر. أوَّل الشروط:
مكانُكِ الطبيعي في البيت، خروجُكِ منه هو خروج عن المعلوم من التقاليد والأخلاق والدين. خروجُكِ ممنوعٌ إلا بأمرٍ من زوجك ولصالح الأُسرة، هو الذي يُقرِّر هذا الصالح وليس أنتِ. يمكن أن يفرض عليكِ الاستقالة من عملك (بعد الاستقالة تُصبحين عالةً عليه مثل عياله، مثل دولةٍ تعيش على معونات الغير). بعد الاستقالة يمكن أن تجوعي في الشوارع، إنْ طردَكِ بكلمة الطلاق ينطقها مع الهواء، لا تعترضي إن طلَّقكِ دون سبب، وإن جمَع بينك والنساء الأخريات، فهذه أوامر الله. إنْ قال لك عقلك إن أوامر الله ليست عدلًا، فإن عقلك كافر. حاولي إلغاء عقلكِ طلبًا للإيمان الكامل، إن عجزتِ عن إلغاء عقلكِ فأنت تستحقين الضرب والرجم والموت، والحرق بالنار بعد الموت.
تنطق اللوحات بالغضب الإنساني من الظلم، الحيوان أيضًا يغضب إن ظُلم، لا يمكن لصديقتي أن تعيش مع رجلٍ ظالم، فما بالُ الإله؟ تقول لوحتها الأخيرة:
الطفلة تَتربَّى على إلغاء عقلها لقبول الظلم، إن رفضَتْه تصبح رافضة لأوامر الله. شيء لا يمكن لطفلة تحمُّله، الموت عندها أهون من عدم الإيمان، وفقدان العقل أهون من الموت.
سألتُ صديقة: وكيف خرجتِ في طفولتك من هذا المأزق الكبير؟
لم أخرج منه، ظل عقلي ملغيًّا حتى قابلتُ الرجل الخطأ، كم مرة قابلتُ الرجل الخطأ، تعلَّمتُ من تكرار الخطأ، أصبح الخطأ أستاذي المقدَّس، ألا يقولون يا نوال: من علَّمني حرفًا صرت له عبدًا؟
هذا المثَل لا أُحبه يا صديقتي، يشتمل على كلمة «عبد». أكره العبيد وكل مشتقات العبودية، ضحِكَت صديقة وقالت: لم أصبح عبدة لأخطائي، ولا أميل أيضًا إلى تقديسها، بل مجرد الاعتراف بها واحترامها. علينا إذن يا صديقة تغيير اللغة والأمثال الموروثة ونقول: «من علَّمني حرفًا صرتُ له صديقًا أو صديقة.»