من وحي النخبة في مصر والبرتغال
كنتُ في مدينة لشبونة عاصمة البرتغال، من ١٦ إلى ١٩ مايو ٢٠١٠م، بدعوة من المجلس الأوروبي، بمناسبة مرور عشرين عامًا على إنشاء مركز الشمال والجنوب، تحت شعار «عالم واحد» من أجل التضامن العالمي، التعاون والتنمية والتبادل المشترك بين البلاد، أو ما تُسمَّى بالعربية «الشراكة»، منذ عام ١٩٩٥م. بدأ مركز الشمال والجنوب يمنح جائزةً سنوية لشخصيات تبرز عالميًّا، بسبب أعمالها الهامة، في مجال الفكر أو الفلسفة أو الفن أو العلم أو السياسة والاجتماع. من أوائل من حصلوا عليها «بيتر جابرييل» الموسيقار البريطاني، مؤسس «موسيقى العالم». عُرفت باسم «ويرلد ميوزيك». وحصلَت عليها «ماري روبنسون» رئيسة أيسلندا عام ١٩٩٧م. اختاروني عام ٢٠٠٤م لهذه الجائزة، تقديرًا لأعمالي الأدبية والفكرية، قدَّمها لي رئيس البرتغال في اجتماعٍ كبير في مدينة لشبونة، حضره رئيس البرلمان وأعضاؤه والوزراء والسفراء (منهم سفير مصر في البرتغال) والأدباء والمفكرون والفنانون والموسيقيون. طلبوا مني إلقاء كلمة كما هو متبع بعد استلام الجائزة. قلتُ فيها إن الأهداف والكلمات التي سمعتُها جميلة، لكن كلمة «الشراكة» تصيبني بالشك فأتساءل: هل يمكن أن تحدث الشراكة الحقيقية بين شركاءَ غير متساوين؟ هل يحدث تضامُن أو تعاوُن أو سلام بين بلادٍ تملك السلطة والثروة والسلاح النووي، وبلادٍ سُلبت مواردها بالحرب العسكرية أو الحرب الاقتصادية؟ ألا يتخفَّى الاستعمار دائمًا بالكلمات الجميلة؟ ألم تحتلَّ بريطانيا مصر عام ١٨٨٢م تحت اسم الحماية والرعاية؟ ألم يحتلَّ الجيش الأمريكي (وبعض الجيوش الأوروبية) العراق عام ٢٠٠٣م تحت اسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق النساء؟ ألا تحتلُّ إسرائيل كلَّ عامٍ المزيدَ من أرض فلسطين تحت اسم عملية السلام؟ ألم تُؤدِّ مشاريع التنمية والشراكة في السنين الأخيرة إلى مزيد من الفقر، في أغلب البلاد والبطالة، والهجرة، والإرهاب العسكري والاقتصادي والثقافي، وصعود اليمين السياسي الديني؟
عام ٢٠٠٨م حصل على الجائزة «جورج فيرناندو سامبايو». منذ كان طالبًا بكلية الحقوق في جامعة لشبونة، انخرط في الحركة الثورية ضد النظام الفاشستي في البرتغال، ورأس اتحاد الطلبة في ١٩٦١م. تخرج محاميًا ثوريًّا يدافع عن المسجونين السياسيين، ثم أصبح أحد مؤسسي حركة اليسار، والحزب الاشتراكي البرتغالي، أصبح عضوًا في البرلمان حتى انتخابه رئيسًا للجمهورية عام ١٩٩٦م. أُعيد انتخابه وظل رئيسًا للبرتغال من ٢٠٠١م إلى ٢٠٠٦م، في عام ٢٠٠٧م أصبح ممثل الأمم المتحدة لتحالف الحضارات.
كنتُ من المشاركين في المائدة المستديرة يوم ١٨ مايو ٢٠١٠م، في حوار حول تحالُف الشمال والجنوب، التضامن العالمي، التنمية، الديمقراطية، تحالف الحضارات. ضمن المشاركين: جورج سامبايو، وأولافور جريمسون (الرئيس الحالي لدولة أيسلندا، يقود فكرة استبدال الفحم والبترول بالطاقة الخضراء النظيفة، الكهرباء، كما تفعل أيسلندا والهند والصين)، وماريو سوياريس (زعيم المعارضة في البرتغال ضد حكم أنطونيو سالازار الفاشستي، دخل السجن ثلاث عشرة مرة ونُفي عدة سنوات، قبل أن يصبح رئيس الوزراء عن الحزب الاشتراكي، تم انتخابه رئيس دولة البرتغال عام ١٩٨٥م، وأُعيد انتخابه عام ١٩٩١م). ضمن المشاركين أيضًا شخصيات من الشمال والجنوب منهم: عبد الرحمن يوسفي (رئيس الوزراء السابق في المغرب، دخل السجن مرتَين ونُفي عدة سنوات، برز في اتحاد المحامين العرب مدافعًا عن العدالة وحقوق الإنسان، أصبح رئيسًا للوزراء عام ١٩٩٨م، حصل على جائزة الشمال والجنوب عام ١٩٩٩م). جلستُ إلى المائدة المستديرة وسط هذه النخبة من الطبقات العليا، شعرتُ بالغربة رغم تاريخهم النضالي ضد النظام الرأسمالي الاستعماري، ربما لانضمامهم إلى الطبقات الحاكمة، أو ثرائهم الواضح وملابسهم الفاخرة. نساءٌ بالكعب العالي والمكياج المتقن. تسريحة الكوافير الألترا مودرن والعطر. أنا أرتدي صندلًا من الجلد، مفتوحًا بسبب الحر، وبنطلونًا وقميصًا من القطن، وجهي مغسول بالماء والصابون.
دار النقاش حول كيفية علاج مشاكل العصر الكبرى، الأزمة الاقتصادية، أزمة المناخ، أزمة التنمية، تفاقم الفقر، الحروب، الصراعات الدينية المتصاعدة، تحالُف الحضارات. أكثرهم حماسًا لتحالُف الحضارات هو جورج سامبايو. كان فخورًا بدوره في تحالُف الحضارات. جاءتنا الأخبار الجديدة في الصحف، أعلنت الولايات المتحدة انضمامها لتحالُف الحضارات، الذي أصبح يضم ٩٩ دولة منها مصر والبلاد العربية وبلادٌ أوروبية وأفريقية وآسيوية. كان رئيس وزراء إسبانيا «خوسيه ثاباتيرو»، ومعه رئيس وزراء تركيا «طيب أردوغان»، هما أول المبادرين في إنشاء هذا التحالف خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والخمسين عام ٢٠٠٥م.
حصل كوفي عنان (السكرتير العام السابق للأمم المتحدة) على جائزة الشمال والجنوب عام ٢٠٠٧م، لدوره في تدعيم تحالف الحضارات، وقد شكَّل لجنة من الشخصيات العالمية، ضمت محمد خاتمي (رئيس إيران السابق) لوضع أسس التحالف بين الحضارات. بين عام ٢٠٠٥م وعام ٢٠٠٦م عَقدَت هذه اللجنة أربعة اجتماعات، أولها في إسبانيا، ثم قطر، ثم السنغال، ثم تركيا، نتجت عنها الوثيقة الدولية لحوار الحضارات. يفخر بها جورج سامبايو ويقول: «هذه الوثيقة حدثٌ هام جدًّا لأنها تدل على تغير الفكر العالمي خلال السنين الأخيرة، انهزمَت فكرة صراع الحضارات وحلَّت مكانها فكرة التحالف بين الحضارات.» حين جاء دوري للكلام في اجتماع المائدة المستديرة قلتُ: «نحن في حاجة إلى نزع الحجاب عن هذه الكلمات الجميلة، مثل التحالف والتعاون والشراكة والتسامح والحماية والسلام، التي لا تتحول إلى فعلٍ في الواقع والحقيقة؛ لأننا نعيش في ظل نظامٍ عالمي رأسمالي أبوي، غير عادل، قائم على القوة والظلم والحرب والاستعمار، وليس العدل والمساواة بين البلاد أو بين الأفراد أو بين النساء والرجال. كلمة التسامُح لا تعني المساواة بل مسامحة الآلهة الأقوياء للعبيد الضعفاء، مثل كلمة الحماية، وكم تُقهَر النساء وتُستعمَر البلاد تحت اسم الحماية؟ بالطبع يلعب تحالُف الحضارات دورًا لتخفيف حدَّة الصراعات الحضارية والثقافية والدينية في العالم، لكن هل الصراعات الأساسية بين الدول حضاريةٌ ثقافية دينية؟ أم هي صراعاتٌ مادية على الأرض ومياه الأنهار والزرع والطعام والصحة والعلاج؟ هل احتلَّ جورج بوش العراق بسبب الدين أو الثقافة، أم للاستيلاء على البترول والثروة والسلطة؟ هل الصراع بين إسرائيل وفلسطين ثقافيٌّ ديني أم صراعٌ على الأرض ولقمة العيش وشربة الماء؟ هذا الكلام لا ينتمي للشيوعية والإلحاد أيها السادة، بل إلى منطق العدل وسلامة العقل؟»
رأيتُ بريق الإعجاب في بعض العيون البعيدة عن مراكز الحكم، وبريق الغضب في عيون الحكماء والحكام. تصوَّرتُ أنهم سيسحبون الجائزة التي منحوها لي عام ٢٠٠٤م، لكني سمعتُ التصفيق وكلمات التأييد من الجميع، قلت: ربما يتغير العالم في المستقبل، القريب أو البعيد.
أقبل نحوي سفير مصر في البرتغال، قال: اسمي أمجد عبد الغفار، نحن فخورون بك يا دكتورة. أنا متزوج من ابنة صديقك الأستاذ المرحوم أحمد بهاء الدين. ضحِكتُ وقلتُ: يعني بهاء كان حماك وما أدراك ما الحما؟ ضحك وقال: كان حماي أستاذًا ومفكرًا كبيرًا. قلتُ له: فعلًا. ثم سألني: هل نشَرتِ الصحف المصرية خبر حصولك على هذه الجائزة عام ٢٠٠٤م؟ ضحِكْتُ: لا حس ولا خبر، قال: غير معقول، سوف أرسل الخبر اليوم ومعه تحقيقٌ صحفي كامل عن كلمتك اليوم. عُدتُ إلى الوطن يوم ٢٠ مايو، مَرَّت أيامٌ دون أن يُنشر شيءٌ في أي جريدة، حكومية أو معارضة. رأيتُ الصفحات الضخمة عن المعركة الحامية بين فصائل النخبة السياسية والأدبية، وتبادُل الاتهامات بالخيانة الوطنية والعمالة لأمريكا وللحزب الوطني الحاكم، و… و… و… و… و… و… و… همس في أذني شيطان الشعر: