هل تكفي الكتابة لرفع الحجاب عن العقل؟
لم ينقطع انبهار النخبة في بلادنا بما يُسمُّونها أعرق الديمقراطيات في العالم، البرلمان الإنجليزي، رغم الفساد الذي انكشف بداية فبراير ٢٠١٠م. أكثر من نصف أعضاء هذا البرلمان (٣٦٦ عضوًا من ٦٤٦) انكشف فسادهم باختلاس الأموال. ليست هذه هي أول فضيحةٍ مالية (أو جنسية) يتورط فيها أعضاء البرلمان في بلاد أوروبا أو أمريكا، أو ما تُسمى النظم الديمقراطية في الغرب، لا تقل فسادًا عن النظم الدكتاتورية فيما يُسمُّونه الشرق، أو الشرق الأوسط، أو أي منطقةٍ أخرى في هذا العالم الرأسمالي الأبوي، الذي يحمل في جوفه بَذْرة فساده وفنائه، طالما أنه يُفرِّق بين البشر على أساس الدين والجنس والطبقة والقومية والجنسية والهويات الأخرى الأصغر، المنبثقة من هذه الهويات الأكبر. أحد مظاهر الانهيار لهذا النظام العالمي غير العادل هو الأزمة الاقتصادية الطاحنة الأخيرة (ليست الأُولى أو الأخيرة. سبقتها أزماتٌ مماثلة وستتبعها أزماتٌ مماثلة) التي عصفَت بالبنوك الكبرى والشركات الرأسمالية التجارية والعقارية، وتم الخروج منها على حساب الفُقراء لصالح البنوك والأغنياء سبب الأزمة.
السؤال الوارد هو: هل يمكن أن تتحقق الديمقراطية في ظل نُظمٍ رأسمالية استعمارية عسكرية أبوية مسيحية؟ سيقول بعض الناس إن بلاد أوروبا وأمريكا ليست بلادًا مسيحية، يحكمها القانون المدني وليس القانون الديني؛ يعني هي دولٌ علمانية.
بالطبع تمُّ فصلُ الكنيسة عن الدولة، في معظم هذه البلاد مع النهضة العلمية، واتساع المدارك، واستمرار النقد للثوابت الدينية والسياسية. لكن النظام الطبقي الرأسمالي القائم على الفكر الأبوي المسيحي يستمر حتى يومنا هذا، بأشكالٍ مختلفة، تحت أسماءٍ أكثرَ بريقًا، أكثر خداعًا لملايين الناس في الغرب والشرق.
يكفي أن تَسمعَ أجراسَ الكنائس أيامَ الأحد، أو تشهدَ احتفالاتِ ميلاد المسيح «الكريسماس» أو تتطلعَ إلى قباب الكاتدرائيات، ناطحات السحب، في كل مدينةٍ كبيرة وصغيرة في الغرب، أو تتطلعَ على مناهج التعليم في المدارس الأوروبية والأمريكية، لتدرس أن الكتاب المقدَّس (الإنجيل والتوراة) لا يزال يشكل الوجدان العام والقيم السياسية الأخلاقية الأبوية المزدوجة لهذه البلاد، في الغرب الديمقراطي.
تتغنَّى بعض النخب المصرية والعربية بالديمقراطية البريطانية والأمريكية، دون إدراك لأهم الأُسس التي تقوم عليها الديمقراطية الحقيقية، وهي العدالة الاجتماعية الاقتصادية داخل البلد وخارجه، حين يكذب توني بلير أو جورج بوش على العالم ويغزو العراق بوحشية، أو فلسطين أو غيرها من الشعوب، فهل هذه هي الديمقراطية البريطانية أو الأمريكية؟ إن دافعتَ عن مصالح دولتك وقتلتَ الشعوب الأخرى جشعًا واستعمارًا، فهل أنت ديمقراطي؟ هل أنت إنسانٌ أم حيوان في غابة؟
إنْ أرسل الرئيس الأمريكي وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون أو مبعوثًا سياسيًّا آخر إلى بلادنا، لِمَا يُسمُّونه تحريك عملية السلام، فهل نثق به؟ كم من السنينَ مرت تحت اسم تحريك عملية السلام؟ والنتيجة ليست إلا المزيد من إبادة الشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى، فيما يسمونه الشرق الأوسط؟ ألا نتعلَّم من تجاربنا مع مرور الزمن؟ إنْ أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنه حريص على تحقيق الديمقراطية في بلادنا، فهل نثق في كلامه؟ هل يهتم الرئيس الأمريكي بالديمقراطية أو الحريات الدينية في مصر؟ أو بالنهضة التعليمية والعلمية؟ هل يمكن فصل الأهداف السياسية للاستعمار البريطاني أو الأمريكي عن الأهداف الاجتماعية؟ أو الدينية أو التعليمية أو العلمية؟ أو الفكرية والأدبية والفنية؟
أهو الانفصام في عقل النُّخَب في بلادنا، يسارًا ويمينًا، معارضة وحكومة؟ هذه الطنطنة الإعلامية المصرية، والمديح المنقطع النظير لمبعوث الرئيس الأمريكي (أوباما) إلى مصر للنهوض بالعلم والتعليم في بلادنا؟ أَلِأن هذا المبعوث يحمل جنسيةً مصرية، أو حاصل على جائزة دولية (نوبل أو غيرها) يصبح هذا المبعوث الأمريكي بطلًا مصريًّا أو بطلًا قوميًّا ينتشل بلادنا من الجهل؟ أو ينهض بها علميًّا وتعليميًّا؟
أيقبل عالمٌ مصري وظيفة مندوب الرئيس الأمريكي لإصلاح التعليم والعلم في مصر؟ المفروض أن يكون مندوب الشعب المصري ليكون مرجعه الشعب المصري، وليس الرئيس الأمريكي. هل يمكن أن يرسل رئيس أي دولة مندوبًا عنه لإصلاح التعليم والعلم في دولةٍ أخرى؟ ماذا نُسمِّي ذلك؟
استعمارًا تعليميًّا؟ استعمارًا علميًّا؟ أدهشني هذا الانفصام في عقولنا. هذه المقالات المنشورة في صحف الحكومة والمعارضة على حدٍّ سواء، خلال الأيام الماضية، التمجيد والانبهار بالمبعوث الأمريكي إلى مصر للنهوض بالعلم والتعليم، وتحقيق الديمقراطية، والحريات!
قليلٌ من المفكرين في بلادنا هم الذين كشَفوا النقاب عن الأهداف الأمريكية الاستعمارية، وراء تلك الكلمات الجديدة الجميلة، منها الحريات الدينية، الديمقراطية، النهوض بالتعليم والعلم، تحريك عملية السلام، حقوق الإنسان، حقوق النساء وغيرها، (من ضمن التبريرات الأمريكية الكاذبة في عصر توني بلير وجورج بوش لغزو العراق، تحرير النساء العراقيات، وإنقاذ الشعب العراقي من أسلحة الدمار الشامل والحكم الشمولي الصدَّامي الحسيني).
لفت نظري مقال (من جزأَيْن) للأستاذ سمير مرقس، نُشر في «المصري اليوم» (٩ و١٦ فبراير ٢٠١٠م) تحت عنوان: «على هامش زيارة لجنة الحريات الدينية»، ينزع النقاب عن هذه الخدعة الاستعمارية الجديدة. يكشف المقال عن أسباب تكوين هذه اللجنة التي تتخفَّى تحت اسم الحريات الدينية، القانون الأمريكي للحرية الدينية أطلقَته جماعةٌ دينية متشددة أمريكية عام ١٩٩٦م، ومع تزايُد ضغط اليمين الأمريكي الديني والسياسي على الكونجرس بمجلسَيه، تمَّت الموافقة على القانون في صورته الدينية، وأَلزَم القانونُ في ١٩٩٨م الرئيسَ الأمريكي، مشتركًا مع الكونجرس، بتشكيل لجنةٍ مستقلة للحرية الدينية، تُصدِر تقريرَين حول العالم سنويًّا.
هذه اللجنة التي تزور مصر، تحت اسم الحريات الدينية، لا نعرف هُويَّتها، هل هي برلمانية أو حكومية؟ هل تتبع المجتمع المدني؟ ويقول الأستاذ سمير مرقس في مقاله: في عام ٢٠٠٤م بدأ تقرير هذه اللجنة للحريات يستخدم تعبير «المجموعات الدينية في مصر»، مصر التي يتحدثون عنها هي مصر المجموعات الدينية لا مصر الجماعة الوطنية القادرة على استيعاب الاختلافات بين مواطنيها. هناك فرقٌ جوهري بين أن تصل الحقوق إلى الجميع كمواطنين، وأن نمنح أو لا نمنح الحقوق لأفراد ينتمون لمجموعاتٍ دينية ومذهبية. منذ مائة سنة روَّج اللورد كرومر أن مصر «جماعةٌ دولية تتكون من مجموعاتٍ شتى من السكان لا تضمهم وحدة»، ويُكرِّس هذه الفكرة عدم تجانُس المجتمع المصري، وهو تصوُّر يخدم الأهداف الاستعمارية آنذاك. وقفَت الحركة الوطنية المصرية ضد هذا التصور الذي يُفتِّت مصر إلى مجموعاتٍ دينية ومذهبية وعرقية ولغوية. وفي ٢٠١٠م يتكرر الحديث مرةً أخرى حول مصر الدينية والمذهبية واللغوية والعرقية، في البدء تحدَّث التقرير عن الأقباط، ثم بات يتحدث عن «شهود يهوه» و«المورمون»، كما اقترب من السُّنة ومن الإخوان والجماعات، ومع الوقت تطرقَت التقارير للشيعة ثم للأقليات الدينية مثل اليهود والبهائية؛ هذا المنطق يُجدِّد منطق كرومر. هناك فرق بين أن نعمل معًا جميعًا كمصريين لاكتساب الحقوق بما يُحقِّق الاندماج الوطني، وبين أن نُكرِّس عزلة كل فئة عن الأخرى، أن نحقق الحرية الدينية حسب المادة ٤٦ من الدستور، في إطار الطابع المدني للدولة وليس إعادة تقسيم مصر على أساسٍ ديني ومذهبي. الخلاصة أن تقارير الحرية الدينية تنظر إلى مصر باعتبارها «مجموعاتٍ دينية» لا دولة لكل المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم، وأن المشاكل التي تواجه كل فئة يتم حلها على أساس المواطنة، من خلال الاندماج الوطني. تحاول لجنة الحريات الدينية الأمريكية تكريس النظام الطائفي في مصر لتقسيم البلد.
يوم الأحد ٢٤ يناير ٢٠١٠م رفضتُ الاجتماع المغلق مع لجنة الحريات الدينية الأمريكية. صممتُ أن يكون الاجتماع علنيًّا في حضور الصحافة المصرية والإعلام. كنتُ أعرف أن هذه اللجنة تعمل بالضرورة لخدمة المصالح الاستعمارية الأمريكية، وتهدف إلى تقسيم مصر دينيًّا وطائفيًّا، حسب مبدأ فرِّق تسد، أعددتُ لأعضائها عدة أسئلة تكشف أهدافها، لم يقبل أعضاء اللجنة العلانية ووجود الصحافة؛ وبالتالي لم يتم الاجتماع.
تلعب ورقة الدين دورًا خطيرًا لتقسيم الشعوب لخدمة الاستغلال الخارجي والداخلي. لم يصلِ الوعي العام في بلادنا لإدراك هذه الخطورة بعدُ؛ فالشعور الديني الزائد عن الحد يُغذِّي التعصب، يضع حجابًا على العقول، يلعب الإعلام والتعليم دورًا في زيادة الجرعات الدينية المتشددة، العاجزة عن قبول العقائد الأخرى، أو إدراك معنى المواطنة الحقيقي؛ أي بحيث يكون المواطنون جميعًا سواء، متساوين أمام القانون المدني والدستور، دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو العرق أو المذهب أو غيره، بمعنًى آخر، إقامة المجتمع المدني والدولة المدنية، تعديل الدستور المصري وحذف المواد التي تُفرِّق بين المواطنين والمواطنات من مختلف الفئات.
لكن بعض النخب المتعلمة تقع في هذا المأزق دون وعي، أو من أجل المصالح، والتجارة بالدين في حلبة السياسة، نراهم يُقسِّمون الشعب إلى قسمَين: (١) الدينيون أو الأخرويون، الشرفاء الوطنيون المؤمنون، أصحاب الجنة الذين يعملون للآخرة وليس للدنيا. (٢) اللادينيون، الخائنون الملحدون الكافرون أصحاب الجحيم، الذين يعملون للدنيا وليس للآخرة.
أصبحَت هذه اللغة الدينية الإرهابية سائدة في الإعلام المصري والعربي، وأصبح الكثيرون يصمتون خوفًا من الألسنة اللاذعة التي يتمتع بها المتاجرون بالدين.
وتلعب الولايات المتحدة الأمريكية لعبتها الاستعمارية الدينية، ومعها إسرائيل بالطبع، ودول داخل الاتحاد الأوروبي، من هذه اللعب الأخيرة التدعيم الأمريكي للجماعات الصوفية الإسلامية، وقد أقدمَت لجنة الحريات الدينية الأمريكية على دفع مصر وبعض الدول العربية على تقوية الطرق الصوفية.
يدلُّنا التاريخ المصري على سلبية الجماعات الصوفية الإسلامية تجاه المشاريع الوطنية، للتحرُّر من الاستعمار الخارجي، أو الحكم المحلي المتعاون معه؛ لهذا يسعى الاستعمار الأمريكي الجديد لاستخدام بعض الصوفية لتحقيق تقسيم الشعب دينيًّا ومذهبيًّا.
ما العمل إذن في مواجهة هذا الخطر الخارجي والداخلي الذي يرتدي عباءة الدين؟ كيف نرفع الحجاب عن عقل النخبة المتعلمة وجماهير الشعب غير الواعية؟ وهل تكفي كتابة المقالات؟