في البدء كان الطعام والأرض
لم يكن كارل ماركس أوَّل من اكتشف التحليل المادي الاقتصادي للتاريخ البشري. سبقه الكثيرون من النساء والرجال المفكرين، شرقًا وغربًا. لم تبدأ الفلسفة في اليونان (أفلاطون وأرسطو وسقراط) كما علَّمونا في مدارس المستعمرات والفكر الأوروبي الغازي. بدأَت الفلسفة في الحضارات الإنسانية القديمة حول أودية الأنهار، في مصر والعراق وفلسطين وسوريا والأردن والهند والصين وغيرها من البلاد، بسبب وفرة الماء والطعام وخصوبة الأرض وناتج الزراعة، واكتشاف أدواتها من محراث ومجذاف، وآلاتٍ زراعية بدائية. تَفوَّقَت النساء في الحضارات الزراعية القديمة بسبب انشغالهن بإطعام أطفالهن. كانت الحاجة إلى الطعام هي الطريق إلى المعرفة والتقدم؛ لهذا سبقَت المرأة الرجل إلى العلم والفلسفة والمعرفة والعدل. كانت إزيس في مصر القديمة إلهة المعرفة والحكمة، معات إلهة العدل، حوَّاء إلهة المعرفة سبقَت آدم إلى شجرة المعرفة.
كان الأطفال يعرفون أمهم لأنها تلدهم من جسمها. بدأت اللغة بالمرأة، بالأمهات ينادين على أطفالهن للطعام، بالنساء ينادين على الرجال للإخصاب. كان الرجل يغتصب أطفاله أو يأكلهم دون أن يعرف أنهم أطفاله، بدأَت الأم قوانين التحريم، مَنعَت الرجالَ من اغتصاب الأطفال وأكلهم. لم تكن الأبوة معروفة حينئذٍ، بسبب الجهل بكيفية تكوين الجنين في الرحم، ولغياب الرجال الطويل في أعمال الصيد وقتل الحيوانات والطيور من أجل الطعام أيضًا. تصوَّرَت بعضُ هذه المجتمعات أن الجنين البشري بذرةٌ غامضة تهبط من السماء مع الهواء، يشبه تلقيح النخل عَبْر الرياح. كثيرٌ من الزعماء السياسيين والأنبياء في التاريخ البشري كانوا مجهولي الأب لهذا السبب. بعد نشوء النظام الأبوي الطبقي، انتزع الآباء من الأمهات السلطة والنسب والاقتصاد والثقافة والزراعة، والقدرة على إنتاج الأطفال أيضًا أو الولادة. أصبح الطفل يُولد من رأس رجل وليس رحم امرأة، مثل الإله زيوس، الشهير في اليونان القديم، وحوَّاء الشهيرة أمنا، لم تنجبها امرأة، بل وَلَدَها رجلٌ من ضِلعه، ثم تطورَت الفكرة تدريجيًّا مع التقدُّم العلمي، حتى تم اكتشاف الحيوان المنوي الذي يلتحم مع بويضة المرأة لينتج الجنين.
لكن أرسطو، فيلسوف اليونان الشهير، بسبب إيمانه حينئذٍ بالنظام الأبوي العبودي، تَصوَّر أن الجنين يصنعه الذكر وحده. قال إن الحيوان المنوي كائنٌ حي، أما بويضة المرأة فهي في نظره شيءٌ ميت لا حياة فيها. وَرِث هذه الفكرة أغلبُ الفلاسفة والأطباء والعلماء في عصرنا الحديث، وصَفُوا البويضة بالسكون أو «السلبية» أو الموت الكامل. كيف يحتوي جسد المرأة الحي على بويضةٍ ميتة؟ شيء يتناقض مع العقل المتطور، كان الرجال حينئذٍ يخشَون قوة المرأة الغامضة، يصفونها باللغز، الضرورة أم الاختراع؛ لهذا سَبَق التطور العلمي العسكري في أوروبا. بسبب الفقر في الطعام والزراعة والمياه وخصوبة الأرض، غَزَت أوروبا بنظامها الطبقي الأبوي (الرأسمالي) أفريقيا وآسيا. إنه الاغتصاب العسكري والسياسي والروحي، لتدعيم الغزو الاقتصادي المادي، سَبقَت الحملاتُ التبشيرية الروحية والدينية الحملاتِ العسكرية والاقتصادية إلى أفريقيا وآسيا. أوقفَت عجلة التطوُّر في بلادنا، أوقفَت الإبداع الفكري والتعليمي والثقافي، أصبح المفكرون في بلادنا ينقلون عن مفكري أوروبا (ثم مفكري أمريكا)، تدعيمًا لمصالحهم الاقتصادية المتخفية وراء حجاب الأديان، نذكر هذه المرأة الأفريقية العرافة التي قالت قولتها الحكيمة: قبل أن يأتي الإنجليز إلى بلدنا كنا نملك الأرض، وكانوا يملكون الإنجيل، حين خرجوا من بلدنا أصبحوا يملكون الأرض ونحن نملك الإنجيل. حكمة المرأة هذه تُلخِّص خطط الاستعمار القديم والجديد في مقولةٍ واحدة.
هذه المرأة الأفريقية لم تقرأ الكتب، لتدرك دور الاقتصاد في السياسة والحرب والدين، أن الاقتصاد يُحرِّك التاريخ والأساطيل. لو اهتدينا بحكمة هذه المرأة الأفريقية! لو استخدمنا مقولتها أداة لتحليل الوضع في بلادنا، لخرجنا بحالة من المعرفة تضيء لنا الطريق!
ساءت أحوال مصر بعد الاستعمار البريطاني القديم، وساءت أكثر وأكثر بعد الاستعمار الأمريكي الجديد. قبل أن يأتي الاستعمار القديم كنا نملك طعامنا (رغم الفروق الطبقية العنصرية الموروثة في العالم). من يملك طعامه يملك استقلاله، سواء أكان دولة أو فردًا، رجلًا أو امرأة. بعد الاستعمار البريطاني عام ١٨٨٢م اتسعَت الهوة الطبقية والعنصرية، سَيطَرَت على الاقتصاد في مصر طبقةٌ عُليا من كبار الملَّاك الإقطاعيين الزراعيين، ومعهم كبار الرأسماليين المصريين والإنجليز المديرين للقطاع الصناعي والتجاري. أدَّى ذلك إلى الثالوث المزمن الشهير «الفقر، المرض، الجهل»؛ فقط ٢٪ من الشعب المصري، ومعهم الأجانب ملكوا الأراضي والأموال والسلطة والتعليم والثقافة والكنائس والجوامع، ٩٨٪ من الشعب المصري لم يملكوا إلا ما يسُدُّ الرمق، طعامهم الخبز المقدَّد. ثم جاءت ثورة ١٩١٩م لكنها أُجهضت بواسطة الاستعمار البريطاني والحكومات المصرية المتعاونة مع الاستعمار، وقَف حزب الوفد مع المطالب الشعبية، وقَف ضد الإنجليز وضد الملك، ثم خضَع لهما بحكم كبار الرأسماليين والإقطاعيين في القيادة، السلطة تزوجَت الثروة ضد الأغلبية من شباب الوفد، ثم جاءت حركة ضباط الجيش ١٩٥٢م وسقوط الملك، ثم الإنجليز بعد ذلك، وقامت بعض المحاولات الاقتصادية لسد الهُوَّة الطبقية والعنصرية، تمَّ إجهاض هذه الحركة، بسبب استبداد الحكم العسكري تحت اسم الاشتراكية والوحدة والنظام. لم تحدث اشتراكية ولا وحدة ولا نظام. فشِلَت التأميمات، وتمَّت سرقة القطاع العام من قِبل الطبقة الحاكمة الجديدة، زواج السلطة بالثروة. اشتدَّت الأزمة في السبعينيات مع الانفتاح الاقتصادي الجديد. تمَّ تمرير الاستعمار الأمريكي تحت دخان وأبخرة الصحوة الدينية الإسلامية والمسيحية. تم تمرير الاستغلال المادي والقهر للفقراء والنساء تحت اسم الروحانيات. عاد الثالوث الخطير، الفقر والمرض والجهل، والبورصة، ومجتمع اﻟ ٢٪ من أصحاب الثروة والسلطة ورجال الأعمال. وزراء ورجال أعمال يكسبون البلايين، يتساقطون في فضائح الفساد المتتالية، يتاجرون بالدين الإسلامي أو المسيحي، أو بالاشتراكية والديمقراطية الخاوية من المعنى، أو التي تؤدي إلى العكس. مزيد من الاستبداد ومزيد من الفقر وقهر المرأة، مع مزيد من الشعارات الرنانة السياسية والدينية. أصبح لدينا يسارٌ يميني مستبد، ويمينٌ يساري يضارب في البورصة، الكل يحتمي برئيس الدولة عند السقوط.
انتقل الحكم في مصر من الاشتراكية الدكتاتورية إلى الرأسمالية الفاشية، من الاستعمار البريطاني الناعم الخبيث إلى الاستعمار الأمريكي الصهيوني، العاري من ورقة التوت. ويَتذكَّر الناس مقولة المرأة الأفريقية الفقيرة: أعطَونا كتاب الله وأخذوا أرضنا وأموالنا.