صمتوا حين كان الكلام واجبًا!
ما هذه الظاهرة الغريبة؟ أن يحتل شخصٌ منصب الوزير لعدة سنوات، يشارك في فساد الحكومة، بالصمت على الأقل، فيستمر الفساد والسرقات ونهب أموال الشعب المصري، ثم يُكافأ الوزير بعد الخروج من الوزارة بمنصبٍ مرموق، في بنكٍ كبير أو مؤسسةٍ ضخمة، أو الأمم المتحدة في نيويورك، أو جنيف، أو بيروت، أو فيينا. يتحول إلى رجلِ أعمالٍ يربح الملايين، ثم بعد سنوات من المتعة والمكاسب له ولأولاده وأحفاده، يطرأ له فجأة أن يُشارك في الحملة الإعلامية ضد فساد الحكومة، ويصبح من أقطاب المعارضة المصرية وبطلًا من أبطالها، وقد يُرشِّح نفسه في انتخابات البرلمان أو الشورى أو رئاسة الجمهورية.
كم مرة فكرت في الكتابة عن هذه الظاهرة المريضة، ثُم تجِدُّ الأحداث فأنشغل بها وأنسى، حتى طالعتُ يوم ٢٦ مايو ٢٠١٠م، في الصحف والإعلام، تصريحاتٍ خطيرة أدلت بها وزيرة التأمينات والشئون الاجتماعية السابقة الدكتورة مرفت التلاوي. قالت إن الحكومة استولَت على ٤٣٥ مليار جنيه مصري من أموال أصحاب المعاشات، لدعم البورصة وسد العجز في الميزانية. وقالت إن الحكومة لم تسمح لها، أثناء تولِّيها الوزارة، أن تفعل شيئًا لمنع هذا العمل غير القانوني بل غير الدستوري؟
لماذا لم تكشف الوزيرة، وهي في منصبها، عن هذه الجريمة، هذا النهب الحكومي لأموال الملايين من فقراء الشعب المصري، العجائز الذين يعيشون على معاشٍ ضئيل لا يكفي لسد الرمق؟ لماذا سكَتَت كل هذه السنين؟ بعد خروجها من الوزارة حصلَت على منصبٍ كبير في الأمم المتحدة، ولا أعرف إن كانت ما تزال تشغل هذا المنصب أم لا.
قابلتُ د. مرفت التلاوي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كانت تعمل مع د. عمرو موسى بإدارة المؤتمرات الدولية بوزارة الخارجية بالجيزة. أعجبَتْني شخصيتها المستقيمة المساندة للحق. لعِبَت هي دَورًا في تسجيل جمعية تضامُن المرأة العربية الدولية بوزارة الخارجية، كما أنها تحمَّسَت لإنشاء الاتحاد النسائي الذي شَرعْتُ في تكوينه، مع مجموعةٍ كبيرة من النساء والشابَّات المصريات. شجعَتْنا مرفت التلاوي يومها، وكانت وزيرة الشئون الاجتماعية المختصة بالجمعيات الأهلية. في مكتبها بالوزارة، سلَّمَتْني قائمةً بأسماء وعناوين الجمعيات النسائية في مصر، للاتصال بها لتنضم إلى الاتحاد النسائي، وفعلًا اتصلنا بهذه الجمعيات التي تحمَّسَت للانضمام، واستمر النشاط ليلَ نهار. انضمَّت الكثيرات من الشخصيات والجمعيات النسائية، ثُم حدَّدنا موعد الاجتماع الكبير، لإعلان إشهار الاتحاد النسائي المصري. قبل الاجتماع بيومٍ واحد نشرت الصحف الحكومية، على رأسها جريدة «الأهرام»، تصريحًا بلسان الوزيرة مرفت التلاوي تقول فيه إن هذا الاتحاد النسائي غير قانوني. دُهش الجميع، لم نفهم السر في التغيُّر الطارئ على موقف الوزيرة مرفت التلاوي، حتى التقيتُ بالدكتورة فرخندة حسن بالصدفة، فقالت لي إن السيدة الأُولى تشرع في عملٍ بديل للاتحاد النسائي، باسم المجلس القومي للمرأة.
وفعلًا لم يمضِ وقتٌ طويل حتى نشَرت الصحف الكبرى الخبر العظيم عن تكوين المجلس القومي للمرأة، برئاسة السيدة الأُولى.
لم أفكر في عتاب مرفت التلاوي، أو محاسبتها على ما فعلَتْه مما يخالف الضمير الحي، وقد علَّمَتْني الأيام أن المسئولين الكبار في بلادنا يُغيِّرون ضمائرهم ومواقفهم بغتة، حسب الأوامر العليا التي تصلهم بغتة، لا يملكون إلا الطاعة، حفاظًا على المنصب. ثم فُوجئتُ بعد بضع سنوات برسالة بالفاكس تأتيني من بيروت، بتوقيع د. مرفت التلاوي المدير التنفيذي الأعلى لمنظمة الإسكوا في الأمم المتحدة، تدعوني لحضور مؤتمرٍ نسائي دولي يُعقد في بيروت. دُهِشتُ كثيرًا وسألتُ نفسي هل نسِيَت؟ أم أرادت لضميرها أن يستريح؟ واعتذرتُ عن حضور المؤتمر.
أكثر ما يُدهِشني اليوم هو تلك الصفحات الكبيرة المنشورة والتصاريح الإعلامية بلسان د. مرفت التلاوي، تكشف فساد الحكومة أثناء كانت وزيرة وجزءًا من هذه الحكومة. لماذا لم تعلن عن تقديم استقالتها؟ قالت للصحف منذ شهورٍ قليلة إنها قدَّمَت استقالتها لكن الحكومة رفضَت إعلانها، فلماذا لم تعلن هي بنفسها عن استقالتها؟ هل فرضوا عليها البقاء في منصبها رغم أنفها؟ هل فرضوا عليها الصمت رغم أنفها؟ ولماذا تتكلم الآن فقط بعد فوات الأوان؟ هل أصبحَت معارضة الحكومة موضة؟ أو شرفًا؟ أو بطولة يتنافسون على السطو عليها؟ لماذا لا يتركون المعارضة؟ لماذا لم يصمتوا وتكلموا حين كان الكلام واجبًا، ودفعوا ثمن المعارضة من حياتهم ودمهم ودم أولادهم؟ هل أصبحَت المعارضة لا تُكلِّف الوزراء السابقين شيئًا إلا الكلام ونشر صورهم في صحف المعارضة والصحف المستقلة؟ يبدو أن كل شيء أصبح مباحًا، ومعروضًا للبيع في السوق الحرة، بما في ذلك معارضة الحكومة! لقد تمَّ إقصاء المعارضين الحقيقيين الذين عانَوا القهر الحكومي على مدى السنين؛ حُرموا من المناصب والمكاسب، تمَّ تشريدهم وإفقارهم وتشويه سمعتهم، أو حبسهم ونفيهم إلى الداخل أو الخارج. أصبح على هؤلاء المعارضين الحقيقيين من النساء والرجال أن يصمتوا، أن يترفَّعوا عن التنافُس في سوق المعارضة، وليس لهم مكان في الصحف الكبرى أو الإعلام الحكومي أو القطاع الخاص؛ حيث يتبارى أصحاب الملايين أو البلايين في نقد الحكومة، كأنما لم يكونوا جزءًا منها، ومنهم وزراء أو رؤساء وزراء سابقون، لهم علاقاتُ قُربى وثيقة حميمة بالحكومة وأصحاب السلطة والثروة. كثُرت المقالات عن الفساد والفقر والمرض بأقلامٍ كانت من أهم أسباب الفساد والفقر والمرض. أقرأ هذه المقالات وأندهش، كيف ينسى الناس الماضي القريب؟ كيف ينسى الوزير السابق صمته الطويل؟
كم هي ضعيفةٌ ذاكرة الشعب المصري؟ فالذاكرة خلايا في مخ الإنسان، تضعف بالفقر ونقص الغذاء واليأس والحزن والإرهاق. لا يذكر الشعب المصري ما أكله بالأمس، ولماذا يذكر شيئًا مؤلمًا؟ من الطبيعي أن ينسى الإنسان الآلام، وإلا فكيف يعيش ويحتمل الحياة؟ ينسى الفقراء ذُل الفقر، وينسى الأغنياء فُحش الثراء. كلاهما ينسى، الفقر مؤلم إلى جوار الثراء، الثراء الفاحش عارٌ وخزي إلى جوار الفقر القاتل.
بعض الناس يقولون: كل إنسان يخطئ، الله يغفر للناس خطيئتهم، فلماذا لا نغفر أخطاء البعض منا؟ وهل نحن منزَّهون عن الخطأ؟ والشعب المصري طيب القلب ينسى الإساءة أو يغفرها لمن يعترف بالخطأ ولا يُكرِّره.
لكن إذا لم يعترف الإنسان بالخطأ، وبدا لنا كأنما لم يخطئ، أو أنه يُكرِّر خطأه ولا يصلحه، كما يحدث مع هؤلاء المسئولين الكبار، لم أقرأ لأحدهم اعترافًا بالخطأ، يلجئون إلى التبرير والتأويل والتمويه، وتغرق الحقائق في المراوغة والضباب.