في القطار من روتردام إلى بروكسل
على رصيف القطار وقفَت مجموعة من الشباب والشابات الهولنديات من أصلٍ عربي. أنا أُطل عليهم من نافذة القطار، إلى جواري «بيلجي» بلجيكية من أصلٍ ألباني.
– مع السلامة يا دكتورة نوال، في انتظار عودتك إلى روتردام. أرجوكِ لا تنسينا.
عيونهم مليئة بالبريق، والفرح والحماسة والأمل. تركوا الأهل والوطن والأرض، هاجروا وحدهم أو مع الأسرة الصغيرة. واجهوا مخاطر البحار، بحثًا عن الكرامة، أو الحرية، أو التعليم أو العمل الكريم. نسُوا لغة الأب والجد؛ نسُوا قسوة الفقر والتقاليد الموروثة منذ العبودية؛ نسُوا آلام الطفولة وذكريات الماضي القريب أو البعيد؛ نسُوا السجن والجلد بالكرباج؛ نسُوا الكيَّ بالنار والضرب بالجنازير؛ نسُوا شفرة الموسى تقطع اللحم الطفولي، تحت اسم الله أو العفة أو قانون الدولة والدين.
كيف أنساكم؟ قلتُ لهم والقطار يتحرك، لم يسمعوا صوتي. لوَّحوا لي بأياديهم ومناديلهم البيضاء. رأت بيلجي الدموعَ في عَينيَّ، قالت: أنتِ لهم أكثر من الأم والأب، غيَّرَت كتاباتك نظرتهم إلى الحياة، لكِ يا نوال في روتردام وفي كل بلاد العالم بناتٌ وأولاد لم تلديهم من الرحم بل من عضوٍ آخر في الرأس: العقل.
لماذا تبكين يا نوال؟ لو كنتُ مكانكِ لشعرتُ بالسعادة الطاغية. أنا أحسدك بصراحة. كانت معي بيلجي في زيارتي للمركز العلمي في روتردام، أنشأه هؤلاء الشباب والشابات منذ أعوام، أعطوه اسم: مركز نوال السعداوي، بناء من أربعة أدوار لونه أبيض، يشبه حمامةً بيضاء وسط الشجر الأخضر، يحتوي على مكتبةٍ مليئة بالكتب، منها كتبي بالهولندية والعربية، وقاعات للبحث والقراءة والدراسة، وغرف لإقامة المهاجرين والمهاجرات من المغرب أو المشرق، وكل من ليس لهم بيت أو أهل. يعيشون في هذا المبنى حتى يحصلوا على العمل أو مكان في الجامعة أو المعهد.
رأيت اسمي محفورًا فوق الباب الخارجي، تذكرتُ الباب الخارجي لمكتبة قريتي كفر طحلة. أنفقتُ من عمري أربع سنوات لأُنشئها، علق أهالي قريتي يافطة فوق الباب تحمل اسم: مكتبة نوال السعداوي، في الليل جاء رجال البوليس، نزعوا حروف اسمي من فوق الباب، حسب أمر الوزير، وضعوا يافطةً جديدة لامعة تحمل اسم سوزان مبارك زوجة رئيس الدولة. تجمَّع الأهالي في اليوم التالي، نساءً ورجالًا وشبابًا وشابات، ونزعوا اسم السيدة حرم الرئيس، بقِيَت المكتبة بلا اسمٍ محفور على الباب. لكن أهل القرية أطلقوا عليها اسم مكتبة نوال السعداوي، دون حاجة إلى يافطة، دون حاجة إلى قوة البوليس أو السلاح. تم حفر الاسم في تاريخ القرية والناس، في العقول والأذهان. تبقى الحقيقة في الذاكرة، حية لا تضيع، تتوالد مع الأجيال ومرور السنين.
في القطار جلسَت بيلجي في المقعد أمامي، إلى جوارها في الممر وضَعتُ حقيبة ملابسي الحمراء. جلستُ أمامها، وضعتُ الحقيبتَين الصغيرتَين تحت مقعدي إلى جوار الممر، واحدة سوداء من القماش السميك بها أوراقي الهامة، منها جواز السفر والفيزات وتصاريح الدخول وعقود حضور المؤتمرات وتذاكر السفر، ومحفظة النقود، الجنيهات واليوروهات والدولارات التي حملتُها معي، وصور ابنتي وابني حملتها أيضًا، حين يشتد الحنين في البعد، أنظر إلى عيونهما في الصورة، فأعود إلى الوطن.
الحقيبة الثانية الأكبر قليلًا، عليها رسم امرأةٍ إندونيسية تكتب بالقلم. حصلتُ على هذه الحقيبة العام ٢٠٠٦م في مؤتمر جاكارتا الدولي للمسرح النسائي، ملأتُ الحقيبة بأوراق روايتي الجديدة، مائتان وتسعون صفحة، مكتوبة بخط يدي، بدأتُ كتابتها منذ عامَين. لم يبقَ إلا الفصل الأخير. حملتها معي من القاهرة، بأمل إكمالها خلال السفر. انهمَكَت بيلجي كعادتها في الحديث إلى المرأة الجالسة إلى جوارها باللغة الفرنسية، تابعت حديثهما قليلًا، ثم شردَت عيناي إلى التلال الخضراء، من خلال زجاج النافذة الكبيرة، قلبي يخفق بفرح، وحزنٍ غامض، يغلب الفرح على الحزن دائمًا، لا أعرف كيف. القطار مزدحم بالناس، بعض العيون ترمقني باستطلاع وريبة، تكاد تشبه عيون البوليس السري. أُحرِّك رأسي بعيدًا عنها إلى جمال الخضرة والأنهار خارج القطار، ثم توقَّف القطار في إحدى المحطات على الحدود ما بين هولندا وبلجيكا. بدأ بعض الركاب يهبطون وبعضهم يركبون. أحد الركاب توقَّف في الممر إلى جواري وهتف بالإنجليزية: سقطَت بعض نقودي على الأرض تحت قدمك يا مدام، هل تساعدينني في الحصول عليها بسرعة لأهبط من القطار؟ صدقتُه على الفور لأني فعلًا سمعتُ صوت نقودٍ فضية تسقط على الأرض، ورأيت في يده بعض نقودٍ أخرى وجهازًا صغيرًا جدًّا يشبه التلفون المحمول، يصب في عيني ضوءًا متحركًا يشبه العين الإلكترونية، لكن الوقت كان ضيقًا لأفكر، فانحنيتُ بسرعة لأجمع النقود الساقطة تحت قدمي، لكن لم تكن هناك أي نقود. أخذتُ أبحث تحت قدمَي السيدة الجالسة في المقعد إلى جواري، رغبةً في مساعدة ذلك الراكب المسكين، ثم اعتدلتُ في جلستي حين لم أجد النقود، واعتذرتُ للرجل بأسفٍ شديد، فاعتذر الرجل وهبط من القطار بسرعة مع طابور الناس الهابطين.
وتحركَت عيناي بعد لحظة لأطمئن على وجود الحقيبتين فوق أرض القطار تحت مقعدي، فانطلقَت مني صرخة حادة أفزعَت الركَّاب جميعًا: أمسكوا الحرامي أمسكوا الحرامي. واندفع جسمي خارج القطار لألحق بالحرامي الذي سرق الحقيبتَين لحظة انشغالي بجمع النقود لذلك الرجل. فهمتُ أنه خدعني ليشغلني، فلا أرى زميله الذي سرق الحقيبتَين في تلك اللحظة الخاطفة وهبط من القطار. لحسن حظي لم يكُنِ القطار قد غادر المحطة بعدُ، فانطلقتُ أجري وراء الناس الذين غادروا القطار، مئات من ظهور الرجال ليس فيهم ذلك الرجل، وكيف أعرفه من ظهره وأنا لم أرَ إلا وجهه. لونه أبيضُ قمحي، ملامحه خليط من جنوب البحر الأبيض وشماله، أنفٌ إيطالي مع فمٍ إسباني أو فرنسيٍّ جنوبي، عيناه سوداوان من المغرب أو المشرق، أو من إيران أو تركيا.
ترمقني عيون الناس وأنا أجري وأصيح: أمسكوا الحرامي، بعض الأطفال ضحكوا في مرح وسعادة، يستمتعون بالنظر إلى هذه المرأة المكلومة. توقفتُ لحظة ألهث غاضبة، الأطفال قلوبهم متحجرة أكثر من الكبار. الأطفال أبرياءُ نفوسهم صافية! من قال هذه الأكذوبة؟
لم أتوقف عن الجري حتى سمِعتُ صفارات رجال البوليس يجرون ورائي، ومعهم بيلجي تجادلهم بالفرنسية، وهم يُهدِّدونها، القطار سوف يغادر المحطة ولن ينتظر صديقتها، إن لم تصعد فورًا إلى القطار فسوف يمضي القطار دون صديقتها (صديقتها التي يتكلمون عنها هي أنا لا بد)، وأنا فوق الرصيف اللانهائي أطارد شبحًا لا نهائيًّا، لن أموت قبل أن أقبض على الشبح، هكذا تصورتُ.
عدتُ إلى القطار بعد لحظاتٍ منكسرةَ القلب، مملوءة حزنًا وهزيمة وهولًا، لا أكاد أستوعب أنني فقدتُ كل شيء في لحظةِ غباءٍ خاطفة، حتى الرواية المكتوبة بخط يدي فقدتها، جهد عامَين من الزمن والعرق، وسهر الليالي والأرق، وكل ما عندي من النقود، وأوراق المؤتمرات والتذاكر والفيزات وجواز السفر. أطرقتُ في مقعدي بالقطار، سقط رأسي وحده فوق صدري، غفوتُ قليلًا أحس الضربات القوية السريعة تحت ضلوعي، أيمكن أن تتسرب الروح من جسدي في تلك اللحظة؟ أيمكن حقًّا أن أموت؟
شيءٌ ما يحدث للإنسان قبل الموت بلحظةٍ واحدة، عقلٌ جديد يتسرب إلى رأسه، روحٌ جديدة تتقمص جسده، ماردٌ هائل يخرج من كيانه، قوةٌ شيطانية إلهية خبيثة تتملكه، يتحدى قوى الأرض والسماء والطبيعة، يتحدى الآلهة والشياطين، يخالف المنطق والعقل الظاهر والباطن، يقول لنفسه سأقتل العالم قبل أن يقتلني، سأفعل المستحيل ولن أستسلم أبدًا أبدًا.
منذ طفولتي كانت هذه القوة كامنة في أعماقي العميقة، كانت ماردًا ضخمًا يتثاءب داخلي حتى لحظة الخطر، فإذا به يصحو ويفرد قامته العملاقة، وينهض. سمعَتْني بيلجي أضحك من كل قلبي، سألتني بدهشة: ماذا يضحكك في هذه الفجيعة؟ قلتُ: شر البلية ما يضحك. قالت: كاد البوليس يقبض عليَّ ويضعني في السجن. لماذا يسجنك ولا يسجن اللصوص الذين سرقوني؟ قالت: البوليس لا يقبض إلا على الأبرياء في الغرب أو في الشرق. قلتُ لها: أنت فيلسوفة، لكن لماذا يقبض البوليس عليك؟ هل سرقتِ أحدًا في القطار؟ ماذا كانت جريمتك؟ قالت بيلجي: أوقفتُ القطار بالقوة؟ كيف؟ وحكت بيلجي حكايتها العجيبة، رغم شجاعتي وجنوني لم أتصور أنني كنتُ أفعل ما فعلَتْه.
حين رأت بيلجي القطار يتحرك بدوني شعرَت بالفزع، كيف تتركني فوق الرصيف دون نقود، دون أوراق تثبت شخصيتي، في مدينة لا أعرفها، أجري وراء لصوص هربوا كالأشباح في غمضة عين؟ انتفضَت بيلجي من مقعدها، سارت بخطواتٍ سريعة ثابتة، أمسكت مقبض فرامل القطار في السقف بيديها الاثنتَين. مقبضٌ حديدي كبير، شدَّته بكل قوتها إلى أسفل، ارتجَّت أجسام الركاب ارتجاجةً عنيفة، ارتطمَت رءوسهم بمقاعدهم وانطلقَت أصواتهم المذعورة. ظهر على الفور رجال البوليس، حوَّطوا بيلجي الممسكة بمقبض الفرامل لا تتركه حتى توقف القطار تمامًا، أمسكوها متلبسة بالجريمة: «إيقاف القطار وهو يتحرك وتعريض مئات الركاب للخطر.»
لكنها، بيلجي، امرأةٌ قوية، متعددة الدماء والأجناس والهويات، ورثَت الجسارة عن خليط من جينات أمها البلجيكية وأبيها الألباني. كان جنديًّا جسورًا في الجيش مثل محمد علي، الجندي الألباني الذي حكم مصر عشرين عامًا وأكثر. أيضًا هي امرأةٌ ثارت ضد تقاليد ألبانيا وبلجيكا وكل العالم، تمشي في المظاهرات، تهتف ضد حكومة بلدها وعائلة أبيها وأمها، ضد أمريكا والصهيونية والعنصرية والرأسمالية. بيلجي لا تخاف الآلهة الذكور أو الإناث ويمكنها أن تُبحلق في عين الشيطان لا يطرف لها جفن.
صوَّبَت بيلجي عينَيها الزرقاوَين البراقتَين بقوة في عيون رجال البوليس، وقالت بفرنسيةٍ فائقة تنم عن جذورها البلجيكية الأصيلة: أنا أوقفت القطار لسببٍ قوي جدًّا، ذلك أن شخصيةً مهمة، كاتبةً عالمية، قد تمَّت سرقتُها في هذا القطار وهي في طريقها إلى بروكسل لتفتتح صباح الغد مؤتمرًا دوليًّا هامًّا. كيف أتركها على الرصيف تبحث عن اللصوص؟ هذه هي مهمة البوليس، واجبكم أنتم أن تقبضوا على اللصوص وتُعيدوا إليها الحقيبتَين. إنها من مصر أيها السادة، ليست من هنا، كيف أتركها في بلادٍ غريبة عنها، وليس معها نقود ولا أوراق تثبت شخصيتها، وليس معها ملابس، لأن حقيبة ملابسها معي هنا في القطار؟
وأشارت بيلجي إلى الحقيبة الحمراء المركونة بالممر.
هبط رجال البوليس من القطار ومعهم بيلجي، كنتُ أطارد اللصوص الأشباح حتى آخر الرصيف، حتى آخر العمر، ثم توقفتُ لحظة ألتقط أنفاسي، رأيت الرجال ذوي اليونيفورم من حولي، سمعتُ أحدهم يقول بالفرنسية:
عليك الصعود إلى القطار وإلا فسوف يمضي القطار بدونك، لا يمكن أن نُعطِّل مائتَين وخمسين راكبًا من أجل فردٍ واحد؟
قلتُ: طبعًا هذه هي الديمقراطية الحقيقية، ليت جورج بوش يتعلم منكم.
وضحكتُ، لا أعرف كيف ضحكتُ، لكن المصيبة بدَت لي كبيرةً إلى حد الضحك.
في القطار جلسَت بيلجي إلى جواري، قالت: حين يصل القطار إلى بروكسل لا بد أن نذهب إلى مكتب البوليس في المحطة ونبلغ عن السرقة. البوليس البلجيكي مدرب على ضبط اللصوص من هذا النوع. اجتاحني أمل من وراء العقل أن الحقيبتَين ستعودان إلى بكل ما فيهما، وأغمضتُ عيني مستسلمة للوهم، ثم أفقتُ على صوت رجل يقول: أنا مستعد لتعويضك عن كل ما فقدت. كان واقفًا أمامي، طويل القامة، يرتدي بذلةً أنيقة، حليق الوجه، عيناه سوداوان مليئتان بالعطف والحنان، يشبه الرجال في بلادنا في المشرق أو المغرب أو إيران أو تركيا، رأيته منذ دقائق جالسًا على مقعده في القطار يرمقني من بعيد بهذه النظرات المتعاطفة مع مأساتي، وهمستُ في أذن بيلجي ما هذا؟ قالت بيلجي: لا يخلو العالم من الإنسانية. قلتُ لها، شيء في أعماقي لا يصدقه، ربما يكون واحدًا من عصابة اللصوص. وضحكَت بيلجي: خيالك الروائي واسع يا نوال، يبدو أنه كريم الخُلق. قلت لها: أتصدقينه؟ قالت نعم، قلتُ لها: خذي منه رقم تليفونه الأرضي والمحمول، وقولي له إننا سوف نتصل به من الفندق في بروكسل. كتبت بيلجي رقم تلفون الرجل في مفكرتها، سمعته يقول: بدلًا من الفندق، عندي شقة في بروكسل خالية لا يسكنها أحد، يمكنها الإقامة فيها أي مدة تريدها دون مقابل، كما أنني مستعد لإعطائها المبلغ كله الذي سُرق منها، كم كان المبلغ؟
تركتهما يتبادلان الحديث وانغلقَت عيناي من شدة الإرهاق.
بعد بضع دقائق هبط الرجل في إحدى المحطات وهو يُلوِّح بها بيده. بدت السعادة على وجه بيلجي وقالت: يبدو أن الله موجود. قلتُ لها: أُقسم أن هذا الرجل واحد من العصابة، قالت: ولماذا لم يغادر القطار معهم؟ قلت: إنهم مجموعة من اللصوص، لكلٍّ منهم دور محدد، كانوا أربعة رجال على الأقل، أولهم الرجل الذي شغلني بجمع النقود الساقطة منه، الثاني هو الرجل الذي توقَّف عندك لحظةَ قبل أن يهبط وسألك عن شيء باللغة الهولندية (الفليميش) ليشغلكِ عن الرجل الثالث الذي سحب الحقيبتَين بسرعة من تحت مقعدي وهبط من القطار. أما الرجل الرابع فهو الذي بقي في القطار يدرُس ما يحدث ويوهمنا بالمساعدة الإنسانية. هذه العصابة يا بيلجي كانت تراقبنا منذ صعدنا إلى القطار في روتردام، درسونا بدقة، عرفوا بدقة أين وضعتُ الحقيبتين، عرفوا أن بهما أشياءَ ثمينة لأني كنت أتحسَّسُهما من حين إلى حين، أطمئن على وجودهما. عرفوا أنني من بلدٍ أجنبي، أن ملامحي ليست شريرة، كما أن شعري أبيض ولن يمكنني، بحكم السن، أن أجري وراءهم. هؤلاء اللصوص مثل الاستعمار الأوروبي-الأمريكي تحكمه القوة وليس الإنسانية أو العدل؟ صاحت بيلجي: يا لخيالك الجامح يا نوال! يمكنك تأليف قصة عن هذه السرقة. قلتُ: ليست قصة بل الحقيقة، هذه العصابة تتدرب على السرقة بطريقةٍ علمية دقيقة، وقد بقى الرجل الرابع ليدرس سلوك البوليس، وسلوك الضحية. يخفي دوره الحقيقي بدورٍ إنساني مزيف. وقالت بيلجي: لقد أعطاني رقم تلفونه، قلتُ: إنه رقم مزيف وسوف تتأكدين من ذلك حين تطلبينه في بروكسل ليُسلمنا مفتاح الشقة والشيك بالمبلغ المسروق، لماذا هبط من القطار قبل بروكسل؟ قالت بيلجي: ربما لا يعيش في بروكسل، أغلب الأغنياء مثله يعيشون خارج العاصمة، في الضواحي النقية الهواء، الخالية من التلوث والضجيج.
في مكتب البوليس في محطة بروكسل قضينا ثلاث ساعات، كتبتُ البلاغ، ملأتُ الاستمارات، أعطيتُ أوصاف الحقيبتَين، اتصل البوليس بجميع مراكز الأمن على طول خطوط السكة الحديدية من روتردام إلى بروكسل، والعكس. كان رجل البوليس متعاونًا إلى أبعد الحدود. كان الوقت بعد منتصف الليل فأحضر لنا عصير البرتقال وساندويتش جبنةٍ بلجيكية مع قطع طماطم، قدَّم لنا التلفون لنطلب السفارة المصرية لتجديد جواز سفري المسروق، وأسرتي في القاهرة لترسل لي بعض المال، والمسئولين عن المؤتمر الدولي لتأجيل كلمتي الرئيسية في الصباح. كان الجميع نيامًا فتركتُ رسالة على الآلة الأوتوماتيكية. أعطت بيلجي رقم تلفونها المحمول لمكتب البوليس للاتصال بها عند اللزوم. أدركتُ لحظتها فائدة التلفون المحمول، وقررتُ أن أمتلك هذا الجهاز السحري الصغير بمجرد استرجاع نقودي المسروقة. وضحك رجل البوليس البلجيكي، اهتز جسمه السمين داخل اليونيفورم الرسمي وقال بالفرنسية: كل ما نتمناه أن يرسل اللصوص إليك جواز سفرك وأوراقك الأخرى، إن كنت محظوظة وإن كانت عندهم شفقة، أما الفلوس فعوضك على الله يا مدام.
في غرفتي بالفندق لم أنم، الساعة الرابعة صباحًا من يوم الثلاثاء ٦ فبراير ٢٠٠٧م، يومٌ أسود. ليلةٌ سوداء لا تريد أن تسقط مع الماضي في العدم، سأُلقي الكلمة الرئيسية في المؤتمر الدولي في التاسعة صباحًا. أريد أن ينام عقلي ثلاث ساعات على الأقل ليسترد قدرته على التركيز، الورقة التي أعددتُها للمؤتمر راحت، ذاكرتي أيضًا راحت، لا أستطيع التفكير في شيءٍ آخر سوى حادث القطار. يلوح لي وجه الرجل الذي توقَّف عندي بالممر، في يده جهازٌ صغير أحدث الصوت المزيف الذي يشبه نقودًا فضية تسقط على الأرض، وبؤرة ضوء زغللَت عينيَّ قليلًا فلم أرَ ملامحه جيدًا، لم أفكر لحظتها. أسرعتُ بحكم الإنسانية الغافلة وانحنيتُ بجسمي إلى الأرض لأجمع له نقوده الساقطة، بينما زميله يسرق الحقيبتَين ويهبط من القطار.
تطورت وسائل السرقة في البلاد الاستعمارية. يدرس اللصوص سيكولوجية الأفراد، بمثل ما يدرس المستعمرون سيكولوجية الشعوب وحكامهم. كل شيء أصبح يرتكز على الدراسة والعلم، حتى نشل جيوب المسافرين وحقائبهم، بالإضافة إلى التدريب على السرعة. تتحرك أصابع النشالين بسرعة الضوء، لم تكن إلا لحظة ضوئية خاطفة غفلتُ فيها عن حقيبتيَّ. تذكرتُ حادث سرقة وقع لي في مصر منذ عامَين، في شارع الهرم، كان الوقت ظهرًا وكنت قد تركتُ سيارتي الصغيرة بجوار الرصيف لأشتري بعض الأشياء من محل بقالة، حين عدت، حاولت تشغيل السيارة لكن الموتور كان نائمًا تمامًا. أتكون البطارية قد انتهت؟ أو قُطع سلك منها؟ أتكون البوجيهات؟ لست خبيرة بإصلاح العطل في السيارات. وبينما أنا حائرة رأيت رجلَين يسيران في طريقهما يتحدثان، وقد مرَّا بي غير منتبهَين لي. ناديتهما وسألتهما إن كانا خبيرَين بشئون الموتور النائم. قال أحدهما: أنا ميكانيكي سيارات، قلتُ لنفسي: يا للصدفة السعيدة، أخذ الرجل يفحص الموتور بعض دقائق ثم قال لي: الطرنبة بحاجة إلى تغيير، لا بد لك من شراء طرنبةٍ جديدة. وماذا أفعل الآن وعندي موعدٌ هام بعد قليل؟ رد الرجل: سأضع لك سلكًا مؤقتًا تسير به السيارة قليلًا حتى تصلي إلى محل يبيع قطع غيار السيارات، فتشتري الطرنبة الجديدة، قلتُ: شكرًا جزيلًا، كم أدفع لك نظير هذه الخدمة؟ قال الرجل: لا شيء. قلتُ: شكرًا جزيلًا. تحركت سيارتي وسارت بضعة أمتار ثم توقفَت. ناديتُ على الرجلَين السائرَين خلفي. وقال خبير السيارات: الأفضل أن أركب لك طرنبةً جديدة الآن، وأخرج من حقيبة يحملها طرنبةً صغيرة. قلتُ: كم ثمنها؟ قال في تعفُّف: لا شيء. قلتُ: لا يمكن، لا بد أن أدفع لك ثمنها وثمن تركيبها أيضًا. فقال الرجل: لن آخذ أجرة يدي، فقط ثمن الطرنبة ما دمتِ تُصرِّين. قلتُ: كم أدفع لك؟ قال: فقط ستة وخمسين جنيهًا. ركب الرجل الطرنبة وأخذ الفلوس. تحركت سيارتي بضعة أمتار ثم توقفَت. نظرت خلفي لأبحث عن الرجلَين، لم يكن لهما أثر، عرفتُ فيما بعدُ أن الرجلَين من اللصوص، يبتكران طرقًا جديدة لخدعة أصحاب السيارات، لقد سرقا الطرنبة السليمة في سيارتي وركبا لي طرنبةً قديمة بالية.
ملامح اللص في مصر تشبه ملامح اللص في بلجيكا. تطاردني الملامح وأنا ممدودة في سريري بالفندق، الساعة أصبحت السابعة والنصف دون أن أنام، أخذت حمامًا دافئًا وشعرت بشيء من التفاؤل، ربما يعثر البوليس على اللصوص. تضاعف التفاؤل بعد أن شربت الشاي الساخن (الإيرجراي) مع التوست المحمر ومربى البرتقال بالزبدة الفريش وبيضة مسلوقة بريشت، هبط الدم من رأسي إلى معدتي، تخدَّرَت خلايا المخ وبدت ليلة الأمس أضغاث أحلام.
في بهو الفندق قابلتني بيلجي، ليست عندها أخبارٌ جديدة من مكتب البوليس، قالت لي: اتصلتُ بالسفارة المصرية وسوف يستخرجون لك جواز سفر جديدًا بدل ضائع، لكن علينا أن نذهب إلى المؤتمر أولًا؛ فالجميع في انتظار كلمتك.
هناك شيءٌ عجيب يحدث لي حين أقف على المنصة. منذ طفولتي في المدرسة تعودتُ الوقوف على المنصة في قاعةٍ مليئة بعيونٍ شاخصة نحوي. أقف أمامهم رافعة رأسي عاليًا، مثبتة عيني في عيونهم، دون أن يطرف لي جفن. ربما رأيتُ أبي يفعل ذلك حين كان يخاطب الجماهير، لم يكن ينظر في ورقة كما يفعل زملاؤه من المتحدثين. كان ينظر في عيون الناس مباشرة، يُحدِّث المئات أو الآلاف بتلقائية وبساطة كما يحدثنا في البيت. لا تتغير شخصية أبي في أي مكان يذهب إليه، لا يتقمص شخصية الرجال العظماء ذوي المناصب العليا، لا يغير شكله أو مظهره، كان طبيعيًّا رابط الجأش لا يخاف الشياطين.
في المدرسة وفي الجامعة كانوا يختارونني من بين الطلبة والطالبات لأُلقي الكلمة، في حفل التخرج نهاية العام الدراسي، أو حفل توزيع الجوائز، أو في ذكرى الاستقلال أو الجلاء التام، أو تعديل الدستور.
أُجهِّز كلمتي في الليل وأنا داخل السرير، أُرتِّب أفكاري في عقلي مستلقية على ظهري، أكتبها دون قلم، دون ورقة في خيالي، أحلُم بها وأنا نائمة. عقلي يشتغل في النوم مثل اليقظة، في الصباح أجدها محفورة في ذاكرتي. تعودت الاستفادة من ساعات النوم الطويلة، أصبح عقلي وخيالي يكبران في الليل مثل النهار. لم تعُد ساعات النوم تضيع في الغيبوبة، حتى درستُ الطب وعرفتُ أن خلايا المخ تعمل وإن نام الإنسان. وكم من مخترع في العلم عثَر على فكرته العجيبة أثناء النوم! وكم من فنان أو روائي كتب في خياله وهو نائم!
استغرقَت كلمتي خمسين دقيقة، دون ورقة، قلتُ لهم إن ورقتي سُرقت مني في القطار. حكيتُ لهم القصة باختصار، دائمًا أبدأ كلامي من اللحظة الحاضرة، هنا والآن، ثم أعود إلى الماضي وما كان، وأُحلِّق في فضاء المستقبل كما أشاء. أربط بين الزمان والمكان، بين الاستعمار القديم والجديد، والسياسة الدولية والمحلية، بين الاستغلال الوطني والأجنبي، بين نصف المجتمع من النساء ونصفه الآخر من الرجال، بين ختان الإناث وختان الذكور وختان العقل، بين الحروب الدموية والأديان، بين الجنس والاقتصاد، بين الطبقية والأبوية. قلتُ لهم: المقاومة الشعبية ليست إرهابًا بل حقٌّ قانوني لكل شعب، هناك ترابطٌ وثيق بين الإرهابيين في الشرق والغرب، بين إرهاب الدولة وإرهاب الأفراد. جورج بوش وبن لادن توأمان، القاعدة والطالبان صناعة دولية استعمارية مثل إسرائيل، التيارات الدينية المتصاعدة ظاهرةٌ سياسية عالمية تشمل كل الأديان. هناك حاجة دائمًا لقوةٍ غامضة غيبية لتبرير الظلم، ليكون الظلم قانون السماء وليس قانون البشر. نحن نعيش في عالمٍ واحد لا ثلاثة. لا يُوجد شيء اسمه العالم الثالث، ومن هو العالم الأول أيها السادة؟ أهو جورج بوش رئيس العصابة التي نهبَت شعب العراق؟ أهي إسرائيل ابنة الاستعمار التي نهبَت فلسطين؟ نحن نعيش في غابة تحكمها القوة وأنياب الذئب لا العدل أو الإنسانية، وإلا فلماذا تبقى قرارات الأُمم حبرًا على ورق؟ ولماذا لا يُحاكم القتلة ومجرمو الحروب أمام محكمة العدل الدولية؟
ثم تكلمتُ عن علاقة قضايا النساء الجنسية بالسياسة الدولية والدين والتعليم، عن علاقة التمرد السياسي بالإبداع الفكري. هل يمكن أن تحدث ثورةٌ سياسية أو اجتماعية دون ثورةٍ فكرية وتعليمية وإعلامية؟ دون وعي الشعب بقدرته على التنظيم والمقاومة؟ إن غاب الوعي والتنظيم الواعي غابت المقاومة الشعبية. انقسمَت قوى الشعب وتشتَّتت تحت معاول الأديان والمذاهب والطوائف والهويات والشلل والأحزاب؛ لهذا يتعرض المفكرون والمبدعون من النساء والرجال للقهر والسجن والنفي والقتل. يتم اتهامهم بالخروج عن الدين، أو الزندقة، أو البلبلة، أو إثارة الشغب أو إثارة الجدل، لا تستطيع القوة المسيطرة في الدولة أو الاقتصاد أو الجيش أو الكنيسة أو الجامع أن تسيطر على الملايين، دون السيطرة على عقولهم. تحرير العقل أُولى الخطوات لتحرير السياسة والاقتصاد والجنس والقوانين والدستور. لا تُوجد حرية أو ديمقراطيةٌ حقيقية في مجتمعاتٍ رأسمالية أبوية. لا يمكن تحرير الدولة والقوانين العامة دون تحرير الأسرة والقوانين الشخصية، لا يمكن تحرير الجنس دون تحرير الاقتصاد، لا يمكن تحرير الرجال دون تحرير النساء، في الشرق أو الغرب، أيها السادة والسيدات.
واصلتُ كلامي من تجارب حياتي وحياة الآخرين وما يدور في عقلي، لا ألجأ إلى استعراض معلوماتي المستمدة من الكتب، كما يفعل أغلب المحاضرين، يتباهون بما قرءوا لأعظم المفكرين والفلاسفة، يُردِّدون مقولات الآخرين، يُفكِّرون بعقول غيرهم، لا يُعبِّرون عن أنفسهم بصدق، يتخفَّون وراء العبارات المعقَّدة والأفكار المبهمة، تحت اسم الموضوعية أو الحياد العلمي. لا يمكن لأحد أن يعرف رأيهم الحقيقي في أي شيء. إنه مرض النخبة في كل بلد، الرجال والنساء من طبقة المثقَّفين العليا، الحاصلين على الجوائز العلمية والأدبية، المحلية والعالمية، الأساتذة في أكبر الجامعات والأستاذات، أعمدة النظام الحاكم في الشرق والغرب، ينتمون إلى الحكومة والمعارضة في آنٍ واحد، يتأرجحون بين الإيمان بوجود الله وعدم وجوده، يقفون دائمًا في منتصف الطريق، أهل الوسط والوسطية، الفلسفة البراجماتية النفعية في أوضح صورها، عينهم على المصالح ولسانهم يتحدث عن المبادئ، يقولون: «قد يكون الله موجودًا أو غير موجود، والأفضل أن نؤمن بوجوده، لنتقي شره بعد الموت إن كان موجودًا.» ويقولون: «نظام العالم رأسماليٌّ أبوي عسكري، هذه هي طبيعة الكون، الحرب ظاهرةٌ طبيعية منذ الأزل وإلى الأبد، الرجل رجل والمرأة امرأة، والغرب غرب والشرق شرق.»
النخبة في كل بلد هي النخبة، لا تحدث الثورات الشعبية بإرادة القلة من النخبة، بل بإرادة الأغلبية من الشعب الواعي المنظَّم. تتحالف النخبة دائمًا مع أصحاب السلطة في السر أو العلن، حتى تقوم الثورة الشعبية فإذا بالنخبة تركبها، تقود الثورة ضد الحكام الساقطين، تصعد إلى الحكم مع الحاكمِين الجدد، ثم تعود إلى عادتها القديمة، تتعاون مع الحكام ضد مصالح الشعب. إنها البراجماتية التي تضحي بالمبادئ من أجل المنافع، تُضحِّي بحقوق النساء والأطفال من أجل تملُّق الرجال والآباء والأزواج، تقف مع الأقوياء ضد الضعفاء.
في حفل الغداء الفاخر، ألقى بعض المتحدثين كلماتٍ حماسية عن محاربة الفقر في أفريقيا، من حول الموائد العامرة باللحم المشوي والخضراوات والفواكه والمشروبات، دوَّت الكلمات الرنانة عن الفقراء المساكين، وكيف تُقدِّم البلاد الغنية المعونات للبلاد الفقيرة. قبل أن يهضموا الأكل والكلام طلبتُ التعليق دقيقتَين فقط، قلتُ فيهما: لن تُحل مشكلة الفقر في أي بلد بالمعونات المالية أو العينية، هذه المعونات لا تذهب أبدًا لمن يحتاجونها، بل تذهب إلى النخبة الحاكمة محليًّا والدولة الأجنبية المانحة للمعونة. هذه المعونات خدعةٌ استعمارية تحت اسم الإنسانية، مثل خدعة غزو العراق تحت اسم الديمقراطية، مثل خدعة مفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. لن يحل مشكلة الفقر إلا ثوراتٌ شعبية تحريرية تُخلِّص الناس من الحكومة الوطنية والأجنبية في آنٍ واحد. لم يحدث في التاريخ أن شعبًا ما تم تحريره بقُوًى من خارج نسائه ورجاله وشبابه وأطفاله. إن أردتم تحرير البلاد الفقيرة في أفريقيا فعليكم إسقاط حكوماتكم الاستعمارية هنا في الغرب، في أوروبا وأمريكا؛ فهي التي تنهب ثروة أفريقيا وتفرض علينا الفقر والقهر من خلال حكوماتنا الوطنية المتعاونة مع حكوماتكم. أيها السادة والسيدات، الحل هو أن ترفعوا أيديكم عنا وتتركوا لنا مهمة تحرير أنفسنا بأنفسنا.
دُهِشتُ حين سمعت التصفيق يُدوِّي، كما حدث حين أنهيتُ كلمتي في الصباح. رغم كل شيء ينتصر العقل على الخزعبلات، دفعَت الشعوب في أوروبا ثمنًا باهظًا من دمائها لتحرير العقل، ناضلوا بالعقل ضد رجال الكنيسة ونصوص الكتاب المقدس، ونجحَت النهضة العلمية، لكن سرعان ما امتلك سلاحَ العلم الجديد رجالُ السياسة والصناعة والحرب. غزت جيوش أوروبا بلادنا، نهبوا مواردنا، أخذوا الأرض وأعطونا كتاب الله، كما قالت إحدى الفلاحات الأفريقيات، مقولتها الشهيرة: «قبل أن يأتي الإنجليز إلى بلدنا كنا نملك الأرض وكانوا يملكون الكتاب المقدَّس، بعد أن خرجوا من بلدنا أصبحنا نملك الكتاب المقدَّس وامتلك الإنجليز أرضنا.»
بعد الظهر سمعَت بيلجي رنين تليفونها المحمول، صوتًا موسيقيًّا خافتًا ارتعشَت له حقيبةٌ صغيرة تُعلِّقها حول عنقها، أصبح الرجال والنساء في أوروبا يُعلِّقون مثل هذه الحقيبة الصغيرة حول أعناقهم، حتى لا يمكن للصوص أن ينشلوها في الشارع أو المترو أو القطار أو الأتوبيس. أهداني المؤتمر حقيبةً صغيرة خضراء لها حزامٌ طويل، علَّقَتها بيلجي حول عنقي، رغم أنها لا تحتوي إلا على قلم ونوتة من الأوراق البيضاء وكُتيبٍ سياحي صغير عن بروكسل. قلتُ لها بشيء من لسخرية: لم أعد أخاف من النشالين، وقد تم نشلي من قبلُ. رغم الحزن على ما فقدتُ شعرتُ براحةٍ غريبة، أنني أمشي بحرية دون خوف من اللصوص.
وقلتُ: تحررت يا بيلجي من الملكية الخاصة التي تسجن العالم في الخوف. ضحِكَت بيلجي وهي تشد التلفون الصغير من داخل حقيبتها قائلة: بدون ملكيةٍ خاصة لن يكون هناك استعمار.
ألو ألو، نعم، نعم، هذا شيء جميل، سنكون عندكم حالًا، سنأخذ سيارة أُجرة إليكم.
قالت بيلجي وهي تنتفض بالفرح: عثر البوليس على الحقيبتَين. لا بد أن نذهب حالًا لاستلامهما من مكتب البوليس، وجدوا الأوراق وجواز السفر ومفكرتك الخاصة وأشياءَ أخرى لكن لم يجدوا الفلوس طبعًا، قلتُ: والرواية؟ قالت بيلجي: لم يذكر البوليس شيئًا عن الرواية، سوف نعرف كل شيء حين نصل إليهم. المهم جواز السفر ومفكرتك بكل الأرقام والعناوين، وأوراقك الخاصة، هيا بنا.
لم تكن الرواية في الحقيبة، لماذا يسرق اللصوص في بروكسل روايةً مكتوبة باللغة العربية؟ أغلب الظن أنهم ألقَوا بها من القطار تخلصًا من ثقل ثلاثمائة صفحة، أو ربما سرقوها لنشرها وقبض الثمن، أو تسريبها للمخابرات البلجيكية، هل عندك نسخةٌ أخرى منها يا نوال؟
كانت هي النسخة الوحيدة بخط يدي. لم أكن أكتب رواياتي على الكمبيوتر بعدُ، وكان يمكن أن أضع الرواية مع ملابسي في الحقيبة الكبيرة، لكني رأيت أنه من الأفضل أن أحملها معي في حقيبة اليد الثانية، رغم ثقلها. أصبح ضياع الرواية مأساتي، أنفقتُ في كتابتها عامَين وأكثر. لم يبقَ إلا الفصل الأخير وأرسلها إلى الناشر، كيف أستردها من اللصوص؟ هل ألقَوا بها في الطريق؟ هل يحتفظون بها لغرض ما؟ قالت بيلجي: عندي فكرةٌ جهنمية لاسترداد الرواية، أن نعلن في جميع الصحف عن مكافأةٍ سخية لمن يعثر على الرواية. بالطبع أنت مفلسة وأنا لا أملك شيئًا من هذه المكافأة السخية، لكن يمكنني الاتصال باتحاد الأدباء البلجيكي كي يتبنى القضية، العثور على الرواية المسروقة، ما رأيكِ يا نوال؟
رأيي يا بيلجي أن هذا عنوان لروايةٍ جديدة: «الرواية المسروقة».
رغم الحملة الإعلامية التي قام بها اتحاد الأدباء في بروكسل لم أسترد الرواية المسروقة، لكنَّ روايةً جديدة بدأت تزحف ببطء في خيالي، ثم اتصل بي ناشرٌ بلجيكي في بروكسل، يسألني إن كنت قادرة على كتابة الرواية المسروقة من جديد، وسوف يدفع لي مقدمًا لهذه الرواية الجديدة بما يُعوِّضني عن كل ما سُرق مني.
وقعتُ العقد مع الناشر، ليس فقط من أجل الحصول على المال لأُعوِّض ما راح، بل لأنني كنت أود استرجاع روايتي المفقودة عن طريق الخيال، ولِمَ لا؟ ما دمتُ قد كتبتها مرة فلماذا لا أكتبها مرةً أخرى؟
بدأت شخصيات الرواية الضائعة تغزوني في النوم مع شخصياتٍ جديدة، لكنَّ قدرتي على الكتابة كانت قد ضاعت في زحمة الأحداث، وصدمة حادث القطار، مع الأخبار الجديدة التي نُشرت في الصحف المصرية، وانتشَرت في العالم عبر الإنترنت، «أرسل الأزهر مذكرة إلى النائب العام، يتهم فيها الكاتبة نوال السعداوي بازدراء الأديان والتهكُّم على الذات الإلهية، في مسرحيتها المنشورة في القاهرة نهاية العام الماضي ٢٠٠٦م، تحت عنوان: «الإله يُقدِّم استقالته في اجتماع القمة»، ويطالب الأزهر بمحاكمتها وتوقيع العقوبة المشددة عليها.» قالت بيلجي: أتعودين إلى مصر يا نوال؟ هذا جنون، لا بد من حملة ضد هذه التهمة الموجهة إليك، حملة عالمية يشترك فيها كل الأدباء في العالم، ونبدأ الحملة من هنا من اتحاد الأدباء في بروكسل، ومن البرلمان الأوروبي هنا أيضًا.
ضحِكتُ وقلت: ولكننا ضد الاتحاد الأوروبي يا بيلجي، أليس اتحادًا استعماريًّا رأسماليًّا أبويًّا؟
قالت بيلجي: نعم، لكن البرلمان الأوروبي ليس مثل الاتحاد الأوروبي، هل يمكنك إلقاء كلمة في البرلمان الأوروبي في عيد المرأة العالمي في ٨ مارس القادم؟ وتمَّت الترتيبات لألقي كلمتي يوم ٧ مارس ٢٠٠٧م في البرلمان الأوروبي. نشرَت الصحف كلمتي في اليوم التالي، ونشرتها الصحف المصرية في القاهرة بعد بضعة أيام، وأصبح التلفون لا يكفُّ عن الرنين في غرفتي بالفندق في بروكسل.
كنت أسمع أبي في طفولتي يقول: رُب ضارةٍ نافعة، تدربتُ منذ الطفولة على تحويل الفشل إلى نجاح، والهزيمة إلى نصر. أصبح للفشل في حياتي فوائدُ أكثر من النجاح، وأكسبَني الحادث الذي لا يقتلني قوة أكبر.
وفي يوم الثلاثاء ١٣ مارس كنت أُحلِّق في الطائرة عبر المحيط الأطلنطي، لأتسلم الجائزة الدولية للأدب الأفريقي، قدَّمها لي الدكتور «أوستاس بالمر» رئيس الجمعية العالمية للأدب الأفريقي، يوم الجمعة ١٦ مارس ٢٠٠٧م، في قاعة جامعة «وست فرجينيا» بمدينة اسمها «مورجان تاون». كانت غرفتي في الفندق تطل على نهرٍ عميق يشق الصخور بين الجبال الخضراء. أمشي في الطريق الرملي بين الماء والشجر. تُذكِّرني رائحة النهر والأشجار بقريتي «كفر طحلة» الراقدة في حضن النيل منذ آلاف السنين، وأصواتُ العصافير تُذكِّرني بصوت طفلي أو طفلتي يناديانني في الصباح، يغمرني الحنين إلى الوطن البعيد وراء البحار والمحيط. لا يتراءى لي من الوجوه إلا وجه ابني وابنتي، أو وجه أمي وأبي، أنسى الوجوه الأخرى، لا أذكرها، تمسحها الذاكرة غير الإرادية كما تمسح الآلام والأحزان.
أمضيت شهور ربيع ٢٠٠٧م ما بين الجامعات والمؤتمرات الأدبية، من جامعة ميشيجان إلى أوهايو إلى ميزوري إلى نيويورك إلى أطلانطا إلى جورجيا، وكان المفروض أن أعود إلى مصر يوم السبت ١٢ مايو ٢٠٠٧م لكني ألغيتُ تذكرة العودة وقررتُ البقاء في أطلانطا لأُدرِّس الإبداع والتمرد لمدة عامَين اثنَين. ينتهي العقد مع الجامعة في ٣١ مايو ٢٠٠٩م.
لم أشعر بالحنين إلى الماضي، لا يحمل جسمي من الماضي إلا جروحًا، ما إن تلتئم الجروح القديمة حتى تنكأها الجروح الجديدة، تُوجَّه الطعنات لي في الظهر، من أقرب الأقرباء، من منحتُهم ثقتي ومالي وحياتي، جاءت أقسى الضربات منهم، لم يحفظ العهدَ من الأهل إلا ابني وابنتي. الوجهان البريئان يلوحان لي في الغربة، من وراء البحار والمحيط يطلان عليَّ، يأتيني صوتاهما عبر أسلاك التلفون، ينتفض قلبي بالفرح، كأنما أرى وجهَي أمي وأبي.