أهي بَرَكة الأُمِّ البركانيَّة أم انتقامُها؟
كان المفروض أن أكتب مقالي هذا من القاهرة، لكن الطبيعة «الأمُّ»، الإلهة الكبرى، انفجرت غضبًا، على معاقل النظام الرأسمالي الصناعي العسكري في الغرب، من بركانها المتفجر في أيسلندا، غطَّت سحب رماده السموات العليا فوق القارة الأوروبية الاستعمارية العجوز. عطَّل الدخان الأسود الكثيف، المشبع بذرَّاتٍ بركانية، طرق الطيران الجوي في بلادٍ كثيرة، منها بريطانيا، حيث كنت في العاصمة «لندن» بعد أن ألقيتُ كلمتي في المهرجان الأدبي العالمي، بدعوة من نادي القلم الدولي، قلتُ في كلمتي: كيف يتجاهل النقاد الذكور إبداعات الكاتبات في الشرق والغرب، كما تجاهل المؤرخون الذكور إسهامات الأم الكبرى إلهة المعرفة والحكمة، في اكتشاف الزراعة والعلم والفن؟ خيانةٌ ذكورية عالمية ومحلية، من الدولة والعائلة، مقابل الإخلاص والتضحية النسائية.
في الفندق الذي نزلنا فيه بجوار جامعة لندن والمتحف البريطاني، تجمَّعنا، نحن المدعوين من مختلف البلاد، أُدباء وأديبات، فنانين وفنانات من كافة فروع الفن، الموسيقى والغناء والمسرح والسينما. بدءوا يثورون ضد الطبيعة الأم، قالوا إنها خذلَتْنا جميعًا، لنصبح سجناء في لندن بلا عمل، وقد انتهى المهرجان، وتم إلغاء كل الرحلات من مطار هيثرو الرئيسي في لندن، ولم يعُد أمامهم إلا أن يصبُّوا اللعنات على الأم الكبرى إلهة الطبيعة والبراكين والزلازل، إلهة الموت سخمت، سخماط كما كانت جدتي تقول في الكوارث وترجعها إلى سخماط إلهة الموت، وإلهة الحياة أيضًا. كانت جدتي الفلاحة فيلسوفة بالسليقة، تقول إن أمُّنا سخماط هي إلهة الموت والحياة معًا، القادرة على صنع الحياة قادرة على أخذها أيضًا.
كان الرجال الذكور أكثر غضبًا منا نحن النساء، خاصة أنا (نوال السعداوي) الكاتبة المصرية، التي أشادت بإلهة المعرفة إزيس في مصر القديمة، وإلهة العدل معات. وفي مسرحيتي «إزيس» أعدتُ إليها مكانتها الفكرية والفلسفية، لم أجعلها مجرد زوجة لأوزوريس، أو أرملة تبكي على زوجها، وتُرمِّم أجزاء جسده المبعثرة في وادي النيل، كما صوَّرها معظم الكتاب الرجال ومنهم توفيق الحكيم، في مسرحيته «إزيس».
بدأتُ أغضب على الأدباء والفنانين من كافة الجنسيات، يُنفِّسون عن غيرتهم الأبدية من المرأة المبدعة الخلَّاقة، أو خوفهم التاريخي العتيق من أي امرأة لها عقل يفوق عقولهم، أو غضبهم الخفي القديم والحديث من زوجاتهم أو من أمهاتهم، أو من أمهات زوجاتهم (حمواتهم)، يعالجون عقدهم النفسية الدفينة تجاه المرأة بالغضب من الأم الكبرى الإلهة الأولى، أنجبت الآلهة الذكور، ومنهم إله التوراة، إله البراكين والزلازل والجهل والدم المُراق في الحروب. لم تكن الأم الكبرى إلهة الجهل والموت، بل كانت إلهة الحياة والمعرفة والعلم والأدب والنور، هي أول من قطف الثمرة المحرَّمة من شجرة المعرفة، وشجرة الحياة؛ لهذا كان اسمها حوَّاء من كلمة حياة حية.
أيَّدَتني النساء بحماس، وبعض الرجال غير المؤرَّقين بذكورتهم وتفوُّقهم الجنسي، أغلبهم من الشباب المبدع المساند لقضية تحرير النساء والفقراء وشعوب فلسطين والعراق وغيرهما. لكن العجائز من الأُدباء والنقاد التقليديين تأفَّفوا من خلط الأدب بالأيديولوجيا. راحوا يصطادون الشابات من الأديبات. رأيت ناقدًا أدبيًّا ألمانيًّا في التسعين من عمره يجري وراء شابة انبهرت بثرائه المالي وفقره الأدبي.
تحوَّل بهو الفندق إلى خشبة مسرح، شاركنا جميعًا في مسرحيةٍ تلقائية، كنا نحن المؤلفين والممثلين والمخرجين والموسيقيين. أصبح نزلاء الفندق هم الجمهور المتفرج، هكذا تغلَّبْنا على السأم والغضب بالإبداع الجماعي والخلق الفني والأدبي. أذاب الإبداع الجدران والفروق الموروثة بين البشر، اتسعَت مساحة الوطن والأهل وشملَت الكون.
تذكرتُ كيف تغلبتُ على السأم والغضب في سجن النساء بالقناطر الخيرية (خريف ١٩٨١م) في عصر السادات. السجن هو أي مكان تعجز عن الخروج منه، بأمرٍ من الحاكم المستبد، في سجنٍ مصري يشبه أقفاص الحيوانات، أو بأمر من بركان أيسلندا المستبد، في سجن فندق خمسة نجوم في لندن، السجن معاناةٌ نفسية أكثر من المعاناة الجسدية، هو الإحساس بالظلم، بالقهر، بالعجز أمام قوةٍ كبرى، سماويةٍ بركانية أو أرضية، سياسيةٍ اجتماعية، طبيعيةٍ فيزيائية، أو فوق الطبيعة، ما وراء الطبيعة، ميتافيزيائية، كما يقولون باللغات الأجنبية.
بالكتابة الإبداعية كسرتُ قضبان السجن، خلال ثلاثة شهور كتبتُ «مذكراتي في سجن النساء» على ورق تواليت، بقلم حواجب، هرَّبَتهما لي سجينة في عنبر المومسات. كان عنبرهن يتمتع بكل ما حُرمنا منه نحن المسجونات السياسيات والأديبات، يُفتِّش العساكر زنزانتنا كل يوم من الأرض إلى السقف، يصرخ رئيسهم في وجوهنا: إن عثرنا على ورقة وقلم أخطر من العثور على طبنجة!
منذ طفولتي كرهتُ كافة السجون في حياتي، منها جدران البيت الأربعة، أنتظر صفارة الإنذار بالغارة الجوية، لأجري مع أسرتي والجميع إلى المخبأ تحت الأرض، حيث تزول الجدران العائلية، وألعب مع ابن الجيران والكونُ من حولنا مطفأ العيون والأنوار. اقترن الحب في الثامنة من عمري بسعادة الحرية؛ انتظارًا للموت، في الحرب العالمية الثانية.
أخفُّ السجون هو السجن السياسي بأمرٍ من الحاكم المستبد. قفص الزوجية ربما أخطر لعامة النساء. الزوج المستبد يخرج من القفص بإرادته المنفردة، يُطلقِّ زوجته كما يفرقع أصابعه. يفتح فكَّيه ليتثاءب ويقول طالق ثلاث مرات فقط، تصبح في الشارع مطلقةً محتقرة دون مورد. اليوم يمكن للزوجة أن تخلع زوجها إن تنازلَت عن حقوقها كلها، لا بد أن تكون مستقلة تعول نفسها، تستطيع تسديد أجر المحامي ليرفع قضية الخلع، شيء لا يحدث لأغلب النساء الكادحات بمن فيهن الطبقة الوسطى. أصبح نصف الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، يبيع الأب ابنته الطفلة لرجلٍ عجوز، تتعذب الزوجة في سجن الزوجية بسبب الفقر، وتتعذب في الطلاق بالعار والفقر الأشد.
في سجن النساء بالقناطر الخيرية شعرَت بعض النساء بالحزن حين صدر القرار بالإفراج عنهن، لا أنسى دموع سجينةٍ شابة وهي تُودِّعنا، تمنت أن تبقى في السجن لآخر عمرها. كان الإفراج أو الخروج إلى الحرية مخيفًا لها، كالطلاق أو الانطلاق من سجن الزوجية.
إحدى الفنانات معنا في سجن لندن، كانت سعيدة بهذا البركان المتفجر في أيسلندا، منع سفرها إلى بيتها في ستوكهولم، شمس لندن هذا الربيع لا تعرفها ستوكهولم، هي أيضًا لا تريد العودة إلى زوجها، يكذب عليها ويخونها. عاشت معه أربعين عامًا دون أن تعرف حقيقته، التقت في لندن بشابٍ مسرحي في الأربعين من عمره، سألَتْني بعد أن أفرغت زجاجة نبيذٍ أحمر مُعتَّق: أحببتُه يا نوال وهو يصغرني بعشرين عامًا؟ قلتُ لها: زوجُكِ في التسعين ويعيش مع فتاةٍ تصغره بخمسين عامًا؟ قالت: هل من حقي التمتع بالحب في الستين من عمري؟ قلتُ: من حقك التمتع بالحب حتى الموت، ثم إن عشرين عامًا ليست شيئًا يا ماريانا، السيدة خديجة أم المؤمنين المثل الأعلى لنا جميعًا تزوجت الرسول ﷺ وهي أكبر منه بعشرين عامًا؟ هتفت ماريانا: فانتاستيك! وأطلقت ضحكةً ارتج لها البركان في السماء وقالت: نسيت الضحك منذ أربعين عامًا. ثم شربت زجاجةً أخرى نخب الطبيعة الأم وبركة بركانها المتفجر.