الرحيل الدائم بحثًا عن الحب والإبداع والعدل والحرية
في المؤتمرات الدولية عن الهُويَّة الأصلية، التي أَصبحَت موضة العصر، في الغرب والشرق، يسألونني دائمًا: ما هي هُويَّتُك؟ هل أنتِ مصرية أم عربية؟ أفريقية أم بحر أبيض متوسطية؟ مسلمة أو مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوكية؟ هل أنتِ سوداء أو بيضاء أو صفراء؟ هل أنتِ رجل أو امرأة أو شابة أو عجوز؟ هل أنتِ طبيبةٌ نفسية أو جسدية، أو ناشطةٌ سياسية أو باحثةٌ جامعية أو كاتبةٌ روائية؟ أتأمَّل السؤال طويلًا ثم أبتسم وأقول لهم: أنا كل ذلك؛ لأن دمائي مختلطة وهُويَّتي متعددة؛ فالدم النقي أو الهُويَّة النقية هي العنصرية أيها السادة والسيدات، جذور الإنسان مثل جذور الشجرة، تمتد وتشرب من مياه الأرض كلها، وفروعها تمتد إلى الفضاء تتنفَّس ما تشاء من الهواء. أصلنا واحد هو الإنسانية في سعيها الدءوب إلى العدل والحرية والحب والإبداع والتطور اللانهائي.
وفي أحد المؤتمرات الدولية النسائية في أطلانطا، ٨ مارس ٢٠٠٩م، يوم المرأة العالمي، التقيتُ ببعض الشخصيات التي تُطلِق على نفسها لقب «فيمينيست» في بلادٍ متعددة، منها أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وأفريقيا وآسيا وبلادٌ عربية. تحمَّسَت بعضهن لما يُسمَّى الدفاع عن الهوية الأصلية، والخصوصية الثقافية، والتراث الديني والثقافي في كل بلد. هذه هي النغمة الحديثة أو ما بعد الحديثة لفكرة احترام التعددية الثقافية والدينية والأخلاقية، تحت اسم الهوية الأصلية لكل شعب في الشرق أو الغرب.
قالت الأستاذة الأمريكية رئيسة قسم دراسات المرأة في جامعة كاليفورنيا:
نعم أيها السادة والسيدات، يجب أن نحترم الهوية الأصلية للمرأة المسلمة في مصر والسودان واليمن والصومال وغيرها، والخصوصية الثقافية والدينية في هذه البلاد، ولا نفرض عليهم أفكارنا الغربية التي لا تتماشى مع هُويَّتهِم الأصلية وتُراثهم وقِيَمهِم. مثلًا يجب ألا نُوجِّه النقد إلى حجاب المرأة المسلمة أو ختانها. هذه القِيَم جزء من هُويَّة المرأة في تلك البلاد، تقتضي الديمقراطية القائمة على التعدُّدية أن نترك الحرية لهؤلاء النساء لارتداء الحجاب أو الخضوع للختان.
نَهضَت شابة من اليمن وقالت:
لا أوافق على هذا الكلام أيها السادة والسيدات؛ لأنه يفتح الباب أمام العنصرية والتفرقة بين الناس، بسبب الجنس والطبقة والدين والتراث والثقافة والهُويَّة وغيرها من المُسمَّيات. أنا من اليمن وقد رفض أبي وأمي ختاني حفاظًا على صحتي وشخصيتي. أبي طبيبٌ يعرف مضارَّ الختان، وأمي تمَّ تختينها في طفولتها وعانت من ذلك آلامًا نفسية وجسمية واجتماعية، أقلُّها أن أبي كان يُعاشِر نساءً من أوروبا تعويضًا عن البرود الجنسي لدى أمي بسبب الختان. حين عرفَت أمي بخيانة أبي لها طلبت الطلاق. هكذا عانيتُ أنا أيضًا بسبب ختان أمي، وعشتُ ممزقةً بين أم وأب أحبهما، لكن لا يمكن لهما الحياة معًا، ومن قال إن الختان جزء من التراث العريق أو الهُويَّة الأصلية للمرأة المسلمة في اليمن؟ أرجو منكم دراسة تاريخ اليمن وحضارة حضرموت القديمة الإنسانية، التي احترمَت النساء. هل سمعتم عن الملكة بلقيس؟ الملكة بلقيس لم يختنها أحد، عملياتُ ختان الإناث في اليمن طرأت على اليمن منذ نشوء العبودية، أو النظام الطبقي الأبوي. الختان لا علاقة له بالهُويَّة الأصلية للمرأة اليمنية أو تراثها العريق.
وقالت شابَّةٌ من مصر:
أيها السادة والسيدات، لكل بلدٍ تراثٌ قديم، بعضه إيجابي يتماشى مع العدل والحرية، وبعضه سلبيٌّ يُكرِّس الظلم والتفرقة بين الناس، على أساس الجنس أو العقيدة أو اللون أو العِرْق أو غير ذلك. نحن نعيش مرحلة الرأسمالية الاستعمارية العسكرية الجديدة القائمة على العولمة الاقتصادية، أو كسر الحواجز القديمة بين الدول لمرور البضائع ورءوس الأموال في سهولة ويسر، مع إقامة حواجزَ جديدةٍ تمنع مرور البشر المهاجرين من دولة إلى دولة، بحثًا عن الرزق أو فرص العمل. تشمل الحواجز الجديدة أيضًا مفاهيمَ قديمة. عبودية تُكرِّس روابط الدم والدين والعِرْق والإثنية والقومية واللغة والثقافة والقيم والتقاليد، وغيرها من الهُويَّات الصغيرة الضيقة، أو ما يسمى الخصوصية المحلية أو الهُويَّة الأصلية أو الهُويَّة النقية، وهي فكرةٌ عنصرية تعود بنا إلى عصور العبودية، وسيطرة النظام الطبقي الأبوي العنصري الديني على المجتمع، وبالتالي تقسيم المجتمع وتفتيته ليسهل التحكُّم به.
هل العودة إلى الماضي، إلى التراث القديم، إلى الدين والهُويَّة البيولوجية، هل هي رَدُّ فعل الشعوب على العولمة الاستعمارية الشرسة وحروبها العسكرية في منطقة البترول، بترول الخليج العربي والإيراني، وفي أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟
إذا كانت هي ردَّ فعل في مواجهة العولمة فهي ردُّ فعل خاطئ أيها السادة والسيدات، هي ضد مصلحة الشعوب المقهورة بالعولمة والاستعمار الجديد. انظروا ما يحدُث في العراق تحت الاحتلال الأمريكي الإسرائيلي. يتفتَّت الشعب العراقي وتُراق دماؤه باسم الدين والطائفة والمذهب والهُويَّة والخصوصية وكل تلك الشعارات الخادعة للشعوب الساذجة، والنخب الثقافية غير الواعية، أو التابعة عقليًّا لمفكري الرأسمالية الاستعمارية، يُردِّدون شعاراتهم الحديثة كالببغاوات، من نوع صراع الحضارات، صراع الثقافات، صراع الأديان، صراع الهويات. هذا الغطاء المزيَّف للصراع الحقيقي على البترول والأراضي ومياه الأنهر والبحار والكواكب في الفضاء وما تحت الأرض من معادن ثمينة وذهب وفضَّة وألماس. أيُّ صراع حضارات؟ ونحن نعيش حضارةً واحدة رأسمالية طبقية أبوية ذكورية دينية يهودية أو مسيحية أو إسلامية أو بوذية أو هندوكية أو غيرها. هل هناك هُويَّةٌ نقية في أي بلد؟ هل هناك دينٌ نقي غير مخلوط بدياناتٍ سابقة عليه؟ هل هناك دمٌ نقي غير ممتزج بدماءٍ أخرى كثيرة متعددة؟ هل هناك هُويَّةٌ ثابتة مثل درعٍ عسكرية حول الصدر أو حذاءٍ حديدي في القدم؟
الدم النقي أو الهُويَّة الأُحادية النقية هي «العنصرية» أيها السادة والسيدات، هي النازية الفاشستية، هي ادِّعاء «هتلر» أن الدم الألماني «نقي» لا تُلوِّثه دماءٌ أخرى، أن الهُويَّة الألمانية صافية لا تشوبها شبهاتُ هوياتٍ أخرى. هذا التشبُّث الساذج بالهُويَّة العرقية الدينية القومية الجنسية الثقافية في مواجهة الاستعمار الجديد والعولمة ليس إلا خدعةً عالمية ومحلية للانحراف بالمقاومة الشعبية عن هدفها الصحيح، عن تحرير الأرض والعقل، من أجل تقسيم الشعوب تحت اسم الخوف على فقدان الهوية أو ضياع الجذور والتراث وفكر الأسلاف.
تقوم العولمة الاستعمارية على كسر الحواجز الدولية والمحلية أمام تحرُّك الأموال والتجارة بكل شيء، حتى الجنس. النساء والشباب والأطفال، وأعضاؤهم من الكلية إلى العين والمخ والقلب وفلذة الكبد. الاستعمار الجديد هو كَسرُ الحواجز أمام السلع الرأسمالية لتسافر بحريةٍ في الأسواق، ثم إقامة الحواجز أمام البشر المهاجرين سعيًا وراء العمل أو الكرامة، أو هربًا من الموت في الحروب والمجاعات، أو داخل السجون وزنازين الديمقراطية الدكتاتورية المحلية الدولية.
منذ أن وعيتُ الدنيا وأنا في رحيلٍ دائم، داخل الوطن وخارجه، بحثًا عن الحب والعدل والحرية والإبداع. عشتُ الغربة داخل الوطن وخارجه. فما هي الغربة وما هو الوطن؟ لكني كنتُ دائمًا أعود إلى الجذور في أي بلد، إلى الأصل، إلى المعدن الإنساني الأصيل. خلال رحيلي الطويل خارج بلدي لم يكن يسأل عني إلا أفرادٌ قلائل، لا تجمعني بهم روابط الدم أو صلات الرحم، لم تلدهم أمي، كان صوتهم يأتيني عبر الهاتف، عبر الأسلاك أو اللاأسلاك. وفي يومٍ دقَّ جرس التلفون في بيتي بمدينة أطلانطا، في ربيع عام ٢٠٠٨م، رفعتُ السماعة: ألو، أنتِ نوال السعداوي؟ نعم، من أنتَ؟ أنا محمد السيد سعيد، مجلتنا الجديدة «البديل» مفتوحة لكِ لتكتبي فيها، ما رأيكِ؟ أشكركَ أولًا لأنكَ تذكَّرتني في غيابي، في وقتٍ لا يتذكرني فيه أقرب الأقرباء من الرحم الواحدة وروابط الدم، بل وأصدقاء العمر وصديقاته، لم يُكلِّمني منهم أحدٌ خلال غيابي الطويل. وقال محمد السيد السعيد: رغم غيابكِ فأنت حاضرة بأفكاركِ وكتبكِ في كل مكان، أرسلي إلينا مقالًا كل شهر على الأقل، وسلامي وسلام كل أسرة «البديل» إليكِ ونترقب عودتكِ قريبًا.
حين رأيتُ مقالي الأول منشورًا في مجلة «البديل» أحسستُ كأنما عُدتُ إلى الوطن، أصبحتُ مقروءة بلغة أمي العربية. نُشِرَت كتبي بلغات العالم كله، من إندونيسيا إلى اليابان إلى إريتريا والهند والسند وأوروبا وأمريكا، شمالًا وجنوبًا، لكن الكتابة بلغة الأم لها مذاقٌ خاص، لذَّة، وسعادةٌ خاصة. صوتُه في أذني يقول: نترقبُ عودتكِ قريبًا. تُشجِّعني كلماته الرقيقة على العودة إلى الوطن. وأعود في سبتمبر ٢٠٠٩م لأتلقَّى الخبر الحزين أن «البديل» لم تعُد تصدر، ومحمد السيد السعيد لم يعُد يظهر، حَجبَه المرض ثم الموت، قرأتُ الخبر في الصحف يوم ١٢ أكتوبر ٢٠٠٩م. أدركَتْني الدهشة، ليس لموته؛ فأصحاب الفكر المبدع لا يموتون، تبقَى من بعدهم أفكارهم ترفع الإنسانية إلى درجةٍ أرقى، لكني دُهشت لهذا السيل من المقالات المنشورة تنعَى موته، فقيد الوطن المفكر الكاتب الكبير، لا يحظى في بلادنا بهذا اللقب الضخم المفكرون الحقيقيون إلا بعد موتهم، وبعضهم لا يحظَون به أبدًا وإن ماتوا، أو بعد موتهم بأربعة قرون. ربما كان محمد السيد سعيد أكثر حظًّا من غيره من المفكرين الحقيقيين؛ ربما لأنه اشتغل ذات يومٍ في مؤسسة الأهرام العظمى، حيث يتحول فيها أي صحافيٍّ صغير إلى أحد أهرامات مصر. لكن ما جدوى النعي في الصحف الكبيرة؟ وهل يبقى الإنسان لأنهم نعَوه في الأهرام أو في أبو الهول؟ أم لأنه أنتج فكرًا جديدًا قائمًا على الإبداع والحرية والعدل والحب؟