هروب
السابعة صباحًا إلا ربعًا، تسري في أذني زقزقة عصافير وطيور الغابة المتعددة الألوان والأشكال. لم أرَ مثلها ولا أعرف اسمها، وحفيف أوراق الأشجار الكثيفة المتعانقة فوق رأسي، وهدير مياه النهر المتدفقة مثل شريانٍ من الفضة يشق الصخور من قمم الجبال إلى السفح، وقطرات مطر بقايا سيول الأمس، تتساقط رقراقة فوق ورق الشجر، تلمع تحت ضوء الشروق، فصوص من اللؤلؤ، تشف حرارة الشمس، تُبلِّل وجهي، لها ملمس قطرات الندى في طفولتي، والرائحة ذاتها، وأنا أمشي بين المزارع في قريتي بحضن النيل، في الأربعينيات من القرن الماضي.
كنتُ طفلة في السابعة تتطلع إلى الكون بانبهار ودهشة.
لم تفارقني الدهشة الطفولية، رغم مرور سبعين عامًا، اجتزتُ البحار والمحيطات. والقارات الخمس زرتها وعرفت مدنها وقراها وغاباتها، من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، من القطب الشرقي إلى القطب الغربي. عرفتُ كل الأجناس اللطيفة والغليظة، وكل ما في الغابات والبيوت من حيواناتٍ مفترسة أو أليفة. لم يعُد تحت الشمس من جديد، أحيانًا أمشي وعيناي مغلقتان زهدًا في النظر، وأحيانًا تتسع عيناي بالدهشة الطفولية لرؤية عصفورٍ صغير يزقزق.
في رياضتي اليومية كل صباح أمشي في الغابة، بالقرب من منطقة اسمها الحلق الذهبي، في ولاية جورجيا، لا أعرف أين أكون بالضبط فوق الخريطة، سوى أنني في أغوار الجنوب الأمريكي، في يدي عصا طويلةٌ من الخشب الناعم كالرخام أو العاج، لها بوزٌ حديدي أسود، أعطتنيها صديقتي الأمريكية الإيرانية صاحبة البيت والمزرعة والأرض الممدودة نحو الجبل اسمها أذار.
قالت أذار وهي تناولني العصا: هذه العصا يا نوال للدفاع عن نفسك ضد حيوانات الغابة؟ انقرضَت الحيوانات المفترسة تقريبًا إلا القليل من الكلاب المتوحشة أو الذئاب. إن هاجمك ذئبٌ أو كلب منها لوِّحي له بالعصا، لا تظهري أي خوف وإلا هاجمك وأكلك أكلًا.
قلت لها: يا أذار، الكلاب المتوحشة مثل البشر لا تأكل إلا الضعفاء الجبناء؟
قالت أذار: لكن الكلب المتوحش مثل الأسد لا يأكل الفريسة إلا حين يجوع، أما البشر فيأكلون الآخرين وبطونهم متخمة. كلما ازداد الحيوان قوة ازداد إنسانية، بعكس الإنسان، تزيده القوة السياسية جشعًا، أما القوة العسكرية فتجعله أقل من حيوانٍ مفترس. وسكتَت طويلًا ثم تمتمَت: أما القوة الدينية العمياء فتجعله حيوانًا أعمى يبطش بالرفقاء أكثر من الأعداء، وبالنساء أكثر من الرجال. تصوَّري يا نوال أنني حين أمشي في الغابة أكون أكثر اطمئنانًا مما لو كنتُ أمشي في شوارع تكساس أو نيويورك أو فرانكفورت، أو إسلام أباد أو كابول أو طهران. أصبح خطر العصابات السياسية الدينية في العالم أشد من خطر حيوانات الغابة. قد تلقى المرأة حتفها لمجرد السير في الشارع أو الذهاب إلى المدرسة أو مكان العمل، وقد تنطلق الرصاصة في صدر أي كاتبة أو كاتب إذا حاول أحدهما أن يُقدِّم مسرحية أو قصيدةً جديدة من الشعر. أصبح العالم غابة. لا أمان في أي مكان إلا الغابة. وضحكَت ضحكةً طويلة مبحوحة تنتهي بشهيقٍ مديد أو زفيرٍ طويل.
تعودتُ أن أمشي كل صباح ساعة وعشرين دقيقة لأحمي نفسي من الأمراض بكل أنواعها. الرياضة الجسمية هي رياضة للعقل والنفس والروح، يذوب الثلاثة في وجودي، وأنا أمشي، أُحرِّك ذراعيَّ وساقيَّ في انبهار ودهشة، كيف يتحرك جسمي الموغل في الزمن بهذه الخفَّة والسهولة، كأنما أنا طفلة أو شابة في ربيع العمر؟
تقول أذار الإيرانية: روحكِ الشابة تحمل جسمكِ يا نوال.
وسألتُها ماذا تعني بكلمة الروح؟ سألتني: ألا تؤمنين بالروح؟ قلتُ: العقل يا أذار يزداد شبابًا بازدياد العمر. وقالت أذار: هناك عقول تشيخ مع الجسد، بل تسبق الجسد في الشيخوخة والجمود، عندنا في إيران شبابٌ تجمدت عقولهم عند القرن السادس أو الخامس الميلادي. ثم صمتَت طويلًا تتذكر كيف هربت بحياتها من حكومة الخميني، كيف دخلَت السجن في عصر الشاه دفاعًا عن العدل والحرية، ثم دخلَت السجن في عصر الخميني دفاعًا عن العدل والحرية أيضًا. كان سجن الخميني أشد قسوة من سجن الشاه، تحت اسم الله تكون السجون مثل نار جهنم الحمراء.
وقالت أذار: كان الخميني ينافس الله في حرق الناس أحياءً ثم تبديل جلودهم المحروقة بجلودٍ سليمة، لتُحرق من جديد، وهكذا يستمر الحرق إلى الأبد. أما الفتاة العذراء فهي تُغتصب جنسيًّا بواسطة حراس السجن قبل أن تموت؛ فالعذراء تدخل الجنة لتكون ضمن الحور العين هدية الله للرجال الصالحين بعد الموت، أما تلك التي فقدَت غشاء بكارتها فهي تذهب إلى نار الجحيم.
سمعتُ هذا الكلام من أذار كثيرًا، منذ التقيتُ بها في يوم المرأة العالمي في مدينة أطلانطا العام الماضي. لا تكُفُّ أذار عن استرجاع الماضي في طهران، مات أخوها الأصغر رميًا بالرصاص في سجن الخميني، قبل أن تهرب بشهرٍ واحد، مات أبوها من الحزن وشربَت أمها السُّم بعد موت ابنها وزوجها وهرب ابنتها أذار إلى حيث لا تعلم.
قبل أن تشرب أمها السُّم جلسَت فوق سجادة الصلاة وراحت تخاطب الله بصوتٍ عالٍ جدًّا. سمعها الجيران من خلال النافذة تقول وهي تشير إليه في السماء: إذا كان الخميني هو مندوبك على الأرض فماذا تكون أنت؟ ألا ترى ما يفعله الخميني بنا؟ ألا تستطيع أن تمنعه بقوتك الجبارة؟ سكوتك يا رب على جرائم الخميني تُشكِّكني فيك؟ أنت إذن متعاونٌ معه، وأنا إذن لا أؤمن بك! ثم نهضَت الأم من جلستها، طوت سجادة الصلاة ووضعتها في ركن في غرفة الكرار. شربت السم كما فعل سقراط وماتت وعلى وجهها ابتسامة الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة. حكى الجيران في إيران قصة انتحار الأم لابنتها أذار في أمريكا عبر الهاتف منذ بضع سنين.
قرأَت أذار قبل أن تهرب من طهران كتابي الذي تُرجم إلى الفارسية بعنوان «الوجه العاري للمرأة العربية»، ترجمه ونشره أستاذ بجامعة طهران اسمه حسين صادق بازارداه، كان يملك دارًا للنشر باسم: «مركز الأفكار الجديدة». تم حرق هذه الدار وما فيها من كتب بعد أن حكم الخميني إيران.
في بداية الحكم الإسلامي تعرَّض هذا الأستاذ وزوجته وبنتاه لبطش الخميني، واستطاع الهرب إلى لندن، لحِقَت به زوجته وابنته الكبرى، أما الابنة الصغرى فقد تم اعتقالها قبل أن تجتاز الحدود ما بين إيران والسعودية، دخلت الابنة السجن وعُذِّبت، ثم ساعدها أبوها على الهرب إلى لندن.
تناولتُ العشاء الإيراني في بيت هذه الأسرة في مدينة لندن في الثمانينيات من القرن الماضي، أسرةٌ جميلة تجلس حول المائدة في الحديقة الصغيرة، تشبه أسرتي في طفولتي، تعاون الأب مع الأم في طبخ البامية باللحم، والأرز بالمكسرات، والزبادي بقطع الخيار مثلما نفعل في مصر. أتشمم أوراق النعناع في الحديقة، والخس والفجل والطماطم والجرجير، رائحة الخبز الإيراني الخارج من الفرن، أرشف الشاي بالنعناع بعد الأكل، تنغلق عيناي عائدة إلى الوطن.
قالت أذار: قرأتُ كتابك قبل أن يحترق في طهران مع دار النشر. أردتُ أن أقابلكِ أو أراسلكِ وأهنئكِ على هذا الكتاب. ملأني شجاعة على التحدي. كان يمكن أن يقتلوني مثل أخي لولا أنني نجحتُ في الهرب خارج إيران. عانيتُ القهر والعذاب هنا في أمريكا، عشت عدة سنوات دون أوراقٍ رسمية، مارست مهن الخدم والطباخين دون تصريح بالعمل. تم استغلالي كمهاجرةٍ غير قانونية، حصلتُ على أدنى الأجور عن أشق الأعمال. كافحتُ سنواتٍ لأدفع مصاريفي في جامعة جورجيا، حصلتُ على الماجيستير في الأدب الإيراني. كنتُ أحلم بأن أكون كاتبة مثلك، لكني انهمكت في العمل السياسي هنا في ولاية جورجيا، ضد النظام الخميني والأمريكي سواء بسواء، كلاهما وجهان لعملةٍ واحدة كما تقولين يا نوال، تعجبني عبارتك: بن لادن وجورج بوش توءمان. ثم قابلت «بابك» في اجتماعٍ سياسي لمناصرة الشعب الفلسطيني، نحن الإيرانيين نتحمس للقضية الفلسطينية مثل العرب، هناك روابطُ تاريخية بيننا وبين العرب، اللغة الفارسية فيها كلماتٌ عربية، والثقافة والموسيقى ونكهة الطعام، كنا نحب الأميرة المصرية فوزية زوجة الشاه رغم كراهيتنا له.
وقلتُ: هذه الأميرة عاشت في ظل الشاه حياةً تعيسة، مثل غيرها من نساء الملوك والأباطرة. ماتت الأميرة فوزية من الحزن والغربة في طهران. كان زوجها الشاه يسهر مع الغواني والمومسات مثل الملك فاروق في مصر، وكانت هي حبيسة القصر الإمبراطوري مثل الملكة فريدة في القاهرة. وضحِكَت أذار قائلة: لم أحلُم في حياتي بأن أكون ملكة أو أميرة، لم أحلم بأن أعيش في قصر أو بيتٍ كبير. كان حلم حياتي أن أصبح كاتبةً عظيمة تعيش كتبي بعد موتي.
تناولنا الفطور بعد رياضة الصباح، نحن الثلاثة، أنا وأذار وزوجها «بابك»، الشاي الإيرجراي والفول المدمس مع البيض المسلوق أربع دقائق، وصحنًا كبيرًا مُلئ بالخس والخيار والطماطم والنعناع، كلها من إنتاج بابك في المزرعة، وصحن الفاكهة الكبير، جمعها بابك من فوق الشجر في الحديقة، الخوخ، العنب الأسود والأحمر، الموز، الأناناس، البابايا، التوت الأسود بطعم العسل ألتهمه بنهم الطفلة، يُذكِّرني بشجرة التوت بطفولتي في قريتي كفر طحلة. كنت أتسلق الشجرة في الحقل وألتهم حبات التوت اللذيذ، لم أعُد قادرة على تسلُّق الشجرة، أمد ذراعي عاليًا وأشد ثمرة التوت من فوق الغصن، أحاول القفز فوق قدميَّ لأصل إلى الغصون العالية، وأضحك مستعيدة طفولتي منذ سبعين عامًا. وتضحك أذار ويضحك بابك، أشعر بهما من حولي مثل الأُسرة الحميمة، أشعر بينهما أنني في بيتي، يمتد مفهوم الأسرة والوطن ليشمل الصداقات النادرة.
وماذا تعني كلمة أذار بالفارسية؟ تعني النار، وماذا تعني كلمة بابك؟ بابك اسم رجل إيراني ثار ضد الظلم والعبودية، قاد حركة مقاومة في إيران ضد الحكم منذ ألف عام، قتله الملك عبَّاسي بعد أن أودعه السجن.
سألتُه: هل دخلتَ السجن يا بابك؟
قال: رجال السافاك مباحث الشاه أودعوني السجن ثلاثة شهور واستطعت الهرب إلى لندن ثم إلى جورجيا، حيث قابلتُ أذار ووقعتُ في حبها.
وضحِكَت أذار: الحقيقة أنا التي وقعت في حبه ثم وقع هو بعد ذلك.
رد بابك: نعم أذار امرأة تملك إرادتها وتُقرِّر ما تريد، علَّمَتْني أذار ما لم تعلِّمنيه أمي في إيران، أن أحترم إرادة المرأة ورجاحة عقلها. دبَّرَت أذار أمر حياتنا معًا، وانتقلنا سويًّا من الفقر والجهل إلى الثراء والمعرفة، لسنا أثرياء بالمقياس الأمريكي، لكننا أثرياء بالنسبة لأهلنا في إيران.
وطرأ لي سؤال: لماذا يكون الهرب من السجن سهلًا في إيران؟ نحن في مصر لا يمكن أن نهرب من السجن إلا نادرًا جدًّا. لم أسمع في كل حياتي عن هروب سجين إلا أحد الرجال القتلة، وسجينٍ آخر من تجار المخدرات، يلعب الحراس دورًا في تهريب السجين نظير المال.
«في إيران أيضًا يلعب المال دوره في حالات الهروب من السجن، وأحيانًا تساعد الأحزاب السياسية في تهريب السجناء من أعضائها. أنا هربت بمساعدة حزبي.»
فتحت الكمبيوتر لأرد على الرسائل، إحداها تحمل يوتوب لأغنية أم كلثوم «وانت معايا يصعب عليَّ». رأيتُ على شاشة الكمبيوتر أم كلثوم، واقفةً مرفوعة الرأس بقامتها الشامخة، تُغنِّي أغنيتها الشهيرة، جسمها الممشوق الممتلئ قليلًا يتحرك مع الموسيقى بكبرياء الموسيقى، أكثر من كبرياء الملوك. عظمة الإبداع تعلو على عظمة الأباطرة، تشبه عظمة الآلهة وأكثر، عيناي تملؤهما الدموع، أبكي فرحًا بقوة الفن الساحقة، وأبكي حزنًا على تدهور الفن في الوطن. أصبح الفن حرامًا والموسيقى من وحي الشيطان. أصبح المبدعون والمبدعات يُساقون إلى المحاكم بتهمة الخروج عن دائرة الإيمان. أصبحت رءوس النساء ملفوفة بالطرحة البيضاء أو السوداء. وجوه الرجال يغطيها الشعر الكثيف الأسود أو الأبيض، عيونهم تطلق شررًا أحمر، لون الجحيم، يُهدِّدون كل من خالفهم الرأي بالموت.
أم كلثوم كانت تغني دون حجاب يغطي رأسها الشامخ، شعرها الأسود الغزير ملفوف حول رأسها كالتاج، مشبوك من الخلف بتوكةٍ فضية. يتحرك رأسها مع عنقها القوي، مع جسمها الممشوق داخل فستانٍ بسيط لا تبرج فيه ولا خلاعة. تمدُّ ذراعيها إلى الأمام وتشبُّ بجسمها إلى أعلى وهي تنشد:
«أدِّ كده مشتاق إليك، أدِّ كده ملهوف عليك، نفسي أندهلك بكلمة ما اتقلتشي لحد تاني.»
من خلفها الفرقة الموسيقية، كلهم رجال، أجسامهم ناحلة داخل بذلاتٍ باهتة، وجوههم ضامرةٌ ممصوصة، تشبه وجوه الفلاحين الفقراء في قريتي. أم كلثوم تستدير إليهم من حين إلى حين بحركةٍ سريعة، تشجعهم بهزة من رأسها أو ابتسامةٍ خفيفة، يردون عليها بحماسٍ أكبر في العزف. تنتفض الأوتار الرفيعة تحت ضربات أصابعهم النحيفة، عظامها القوية بارزة.
«نفسي أندهلك بكلمة ما اتقلتشي لحد تاني، أد كده مشتاق إليك، أد كده ملهوف عليك.»
أم كلثوم تُردِّد المقطع عشرات المرات، مئات المرات، كل مرة تختلف عن الأخرى في اللحن وطريقة الغناء.
الجمهور يصفق بحماسٍ شديد، يُغنُّون معها ويهزُّون رءوسهم طربًا. بعضهم يلقون بطرابيشهم إلى الأرض من شدة النشوة، يردِّدون في نفسٍ واحد: أعيدي أعيدي أعيدي يا ست. وأم كلثوم تعيد وتعيد، لا تمل الإعادة ولا هم يملون. السعادة تبدو على الوجوه. أغلبهم رجال بالبذلات الأنيقة والوجوه الحليقة. قلةٌ قليلة من النساء، ترتدي الواحدة منهن فستان سهرةٍ يكشف عن عنقها وجزءٍ من صدرها حتى الشق العميق بين النهدَين، تتنهَّد الواحدة منهن مع كلمات الحب تنهيدةً عميقة تنمُّ عن الحرمان الطويل. إلى جوارها زوجها متأججًا باللذة، يشعل سيجارةً محشوة بالحشيش. زوجتُه ترمقه بحسد، وأم كلثوم تغني، كأنما تغني لنفسها، عيناها مرفوعتان إلى أعلى، إلى أفقٍ بعيد غير محدود، لا ترى آلاف العيون الشاخصة إليها، والتي لا ترى غيرها، وهي لا تراهم ولا تكاد تحس وجودهم، ولا تسمع تصفيقهم. كانت تُحلِّق في عالمٍ آخر بعيد عنهم، عالم الإبداع.
«أدِّ كده مشتاق إليك، أدِّ كده ملهوف عليك، نفسي أندهلك بكلمة ما تقلتشي لحد تاني.»
تذكرتُ أمي وأنا طفلةٌ حين كانت تستمع إلى أم كلثوم ليلة الخميس أول الشهر، أراها جالسةً في صالة البيت تتابع الغناء والموسيقى، جالسة وحدها مع الراديو. أين كان أبي تلك الليالي؟ ربما كان ساهرًا في المقهى مع أصدقائه، ربما كان مسافرًا في مهمةٍ خاصة بعمله. المهم أن أمي كانت تجلس وحدها مع الراديو تستمع إلى أم كلثوم، تشرد عيناها بعيدًا بنظرةٍ حزينة، تبتلع دمعةً حبيسة أو تمسحها خلسةً بيدها أو منديلها. لم أعرف في طفولتي أحزان أمي، كانت تبدو سعيدة دائمًا متألقة متأنقة، تضحك ضحكتها التي تتردد في الجو بصوت العصافير المغردة.
أد كده مشتاق إليك، نفسي أندهلك بكلمة ما تقلتشي لحد تاني.
دموعي أحسها تجري فوق خدي. ماتت أمي في شبابها حزينة لم أعرف حزنها، ماتت أم كلثوم في كهولتها حزينةً مقهورة بالنظام الحاكم، وأنا مثلهما عشتُ الحزن في ظل حكمٍ قاهر. وأيضًا لم ألتقِ في حياتي برجل أقول له: «أد كده مشتاق إليك، نفسي أندهلك بكلمة ما تقلتشي لحد تاني!»
في رسالةٍ أخرى بالكمبيوتر رأيتُ بعض لقطات من مؤتمر عن المرأة في مصر عام ٢٠٠٩م، قرأَت زوجة الحاكم كلمةً فاترة من ورقةٍ طويلة مكتوبة. تململ الجمهور في القاعة مللًا، أغلبهم رجال وبعض النساء، أغلبهن محجبات، جالسات في مقاعدهن بوجوهٍ حزينة مُشبعة بالشحم والهموم، أجسامهن سمينةٌ مملوءة لحمًا وحزنًا.