رحلة كازاخستان
في أواخر الستينيات من القرن العشرين، سافرتُ إلى الاتحاد السوفييتي، في رحلةٍ طويلة قطعتُ بعضها بالطائرة وبعضها بالقطار، وبعضها على نهر الفولجا في سفينة مع «فالانتينا» بطلة الفضاء حينئذٍ، من بعد رائده الأول «جاجارين». زرتُ عددًا من المدن منها ليننجراد، ستالينجراد، موسكو حيث الكرملين ومقبرة لينين، رأيتُه راقدًا داخل بذلته السوداء الرسمية محنطًا مثل توت عنخ آمون، والطوابير من البشر تملأ الميدان الكبير، تنتظر بالساعات لتُلقي نظرة على زعيم الثورة البلشفية. لم أكن من أتباع لينين، أو غيره من زعماء الشرق أو الغرب. لكن احتفاء الشعوب بفردٍ ناضل من أجلها أمرٌ جليل. كانت مدينة «ألماتي» عاصمة كازاخستان تحت حكم السوفييت، حضرتُ فيها مؤتمرًا أدبيًّا عام ١٩٦٨م وأكلت تفاحها، (كلمة ألماتي تعني التفاح)، وجوه أهلها تشبه الصينيين. لكن في هذه الرحلة إلى كازاخستان، بعد أكثر من أربعين عامًا من الرحلة الأولى، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي بعشرة أعوام، أصبحت مدينة الآستانة هي عاصمة كازاخستان منذ ١٩٩١م. هبطتُ إلى مطارها بعد رحلةٍ طويلة في الجو، بدأت من القاهرة إلى فيينا في النمسا، ثم من فيينا إلى الآستانة. عشر ساعات طيران. كنت أعشق السفر في الطفولة والشباب. رغم مرور الزمن، لا زلت أفرح بالتحليق في الجو أو ركوب القطار مثل الأطفال. لا شيء مثل السفر وتجاوز الحدود يقضي على التعصُّب للقبيلة ومسقط الرأس. لا شيء مثل السفر يُوسِّع عقولنا وقلوبنا. تذوب الهويات الضيقة الصغيرة الموروثة بالدم والرحم والدين والعرق. نكتسب الهوية الإنسانية الأكبر التي تُوحِّد البشر رغم الاختلاف. أشعر بالراحة في السفر، وسعادة التحرر من القهر المزمن داخل سجن الأرض والأسلاف.
جاءتني الدعوة لإلقاء كلمة في مؤتمرٍ دولي «رفيع المستوى». ترددتُ حين قرأت هاتَين الكلمتَين «رفيع المستوى». هذه المؤتمرات تنظمها الحكومات، شرقًا وغربًا، تنفق عليها الملايين، والنتيجة! الملل والدعايات والحقائب المنتفخة بالأوراق، وصور الرؤساء والزعماء، ومجلدات خطبهم الطويلة المصقولة. لكن رغبتي في رؤية الآستانة تغلبَت. منذ المدرسة الابتدائية، قرأتُ في كتاب التاريخ عن الآستانة. تصوَّرتها عاصمة الإمبراطورية الممدودة شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، في آسيا حتى حدود الصين، البحر الأسود وبحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا، إلى مصر ونهر النيل في أفريقيا. كلمة الآستانة شغلَت خيالي الطفولي، مع اسم محمد علي باشا حاكم مصر، كان يجلب منها العلماء وإليها يرسل البعثات. حلمتُ بها وأنا في الثامنة من عمري، أزورها لأول مرة بعد أن أشرفتُ على الثمانين من العمر. رجال البروتوكول في المطار يشبهون رجال البوليس. لا بدَّ أن أتبع طقوسهم في الاستقبال، وأن أبتسم لصورة الرئيس المنشورة. ابتسامته عريضةٌ كاشفة عن أنيابه، تشبه ابتسامة السادات وجورج بوش وستالين وكل المستبدين. كنت مدعوة بصفتي الشخصية، كاتبة حرة مستقلة لا أتبع أي حكومة أو نظام. يتكلمون لغتهم التي تبدو كالصينية أو الهيروغليفية، إلا فتاةً صغيرة تكلمَت بعض الإنجليزية، حملَتْني إلى الفندق «راديسون» في سيارةٍ سوداء كالشبح عليها علم يرفرف، مثل فرخةٍ مذبوحة تفرفر.
في الفندق خمسة نجوم أصابني تسممٌّ غذائي. قضيتُ الليلة الأولى أتقيأ ما أكلتُ. أول نتائج المؤتمر رفيع المستوى والانفتاح على أمريكا وأوروبا؟ كل شيء في الفندق يلمع، ويبرق، صحون الطعام، وجوه الجرسونات، الملاعق الفضية والنجفات الكريستال. تحت البريق والأضواء يتخفى تلوُّث الطعام، يحدث هذا في معظم بلاد العالم منها بلادنا. هذا إيجاز بليغ للانفتاح على الرأسمالية تحت اسم الديمقراطية وحرية السوق. يختبئ التسمم الغذائي تحت شعار الثورة الخضراء والأمن الغذائي، جاءوني بأطباء كثيرين. أقول لهم هذه سموم دخلت المعدة، يهزون رءوسهم غير فاهمين، المترجم لا يفهم، الأطباء حائرون مذعورون، يحاولون حملي إلى المستشفى، أعترض: لن أذهب، إذا كان الفندق خمسة نجوم بهذا الحال فكيف يكون المستشفى؟ تشبثتُ بقوتي الباقية. طردتُ الطعام كله من معدتي. ألقيت علب الأدوية في صفيحة القمامة. طلبتُ عصير الليمون، والكمون، والكاموميل، وكمياتٍ كبيرة من الماء النقي، ثم نمتُ نومًا عميقًا. صحوتُ في الصباح مشرقة مع الشمس، أخذوني إلى المؤتمر لألقي كلمتي، نلتُ التصفيق الكثير، رغم نقدي للديمقراطية الزائفة والخصخصة والسوق الحرة. لكني أشدتُ بالتعليم الجديد القائم على الحرية والتعددية والنقد وإثارة الجدل. مرافقتي فتاةٌ كردية الأصل اسمها «نارينا»، تجولَت معي في المدينة. سكانها سبعمائة ألف نسمة، تزيد قليلًا عن قريتي في حضن النيل، لكن الشوارع واسعةٌ نظيفة. البنات يلعبن في الحدائق سعيدات على ضفاف نهر «إيسيل»، يرتدين ملابس الصيف الخفيفة. لا أحد من الرجال يتطلع إلى النساء، لم أرَ امرأة واحدة ترتدي الحجاب، رغم أن الأغلبية من المسلمين، المسجد له قبةٌ ذهبية، فيه قليل من المصلين. لم يعترض أحد على تجولي فيه برأسي العاري. يختلف الإسلام في كازاخستان عن أي بلادٍ أخرى، لا يؤمنون بحجاب المرأة. تتغير القيم الدينية بتغير المكان والزمان. تتعدد الأديان هنا والمذاهب والأعراق. القوانين في كازاخستان كلها مدنية، بما فيها قانون الأحوال الشخصية القائم على العدل والمساواة بين الجميع، بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطائفة. حين يصل المواطن إلى الثامنة عشرة من العمر يحق له أن يغير اسمه واسم أبيه أو عائلته، ويختار ما يريد من الأسماء أو الأديان أو المذاهب. الدين غير مفروض بالوراثة أو التربية أو التعليم. في مدارس كازاخستان يدرُس التلاميذ والتلميذات جوهر كل الأديان وليس الإسلام وحده. تسود فكرة التعددية في الفكر والسياسة والتعليم والثقافة. كازاخستان دولةٌ مدنية سكانها ١٨ مليون نسمة.
تحت حكم الاتحاد السوفييتي، كان التعليم بالمجان لكل فئات الشعب، لكن مناهج التعليم كانت محكومة بالفكر الشيوعي وحده. بعد الاستقلال، والانفتاح على أوروبا وأمريكا، أصبح التعليم بالفلوس، لم يعُد للفقراء قدرة على التعلم. تحرَّرَت المناهج من التحكم الشيوعي. أصبحت أكثر حرية وتعددية، لكنها خضعَت للقيود الطبقية. إنها حرية مَن يملك المال، حرية السوق، على غِرار ما يحدث في البلاد الرأسمالية. تزداد الهوة بين الطبقة العليا والطبقات الأدنى، لكن الحريات الشخصية والفكرية تزيد.
قلتُ لنارينا: ألا يمكن أن تأخذوا إيجابيات الرأسمالية والاشتراكية وتتركوا سلبياتهما، مثلًا أن يكون التعليم حرًّا متعددًا ومفتوحًا للفقراء والأغنياء على السواء؟ ألا يمكن التحرر من القيود الطبقية مثل التحرُّر من القيود الجنسية والدينية؟ ضحكَت نارينا وقالت: يا ريت يا دكتورة، لكن الرجال يحكموننا بالعقلية التقليدية، شيوعية كانت أو رأسمالية، النساء المسلمات هنا متحرِّرات، لكن الرجال يحتكرون السلطة في الدولة والعائلة.