سحابة صيف في أعالي جبل لبنان
وجدتُ نفسي في بيتٍ صغير جميل في أعالي جبل لبنان، في هذا الشهر أغسطس ٢٠١٠م، في القاهرة كانت درجة الحرارة ٤٠، الصهد والحر والتراب والضجيج والأرض، والفساد العام والخاص يغرق الصحف، والحزن يغرقني. خيانات الأصدقاء والصديقات والأقرباء والقريبات، في العائلة والدولة والعالم. لكن الأوفياء أكثر على المدى البعيد، ولحظات الحب والصداقة العميقة تغمر قلبي، رغم الحزن العابر. كل شيء يعبُر حياتي مثل سحابة صيف، مثل قطرات الماء تنزلق على ظهر الإوزَّة. ويبقى التفاؤل والضحك والفرح هو الأصل، وهو الباقي معي إلى نهاية العمر. يسألونني دائمًا: من أين يأتيكِ هذا التفاؤل والفرح رغم سواد الدنيا؟ رغم ما يمر بحياتك من مصائب؟ أضحك وأقول لهم: رب ضارةٍ نافعة، كما سمعتُ من أبي في طفولتي. وكان يقول: الإبداع هو تحويل الضار إلى نافع. وكان يقول أيضًا، وهو يضحك: كلمة مصيبة هي مؤنث مصيب أي صائب يعني صحيح، كل المصائب تنقلب في حياة المبدع أو المبدعة إلى الشيء الصائب الصحيح، ولا يصح إلا الصحيح، يعود إليَّ صوت أبي وهو يضحك، فيغمرني الضحك والفرح والتفاؤل.
رنَّ جرس التلفون وجاءني صوته من بيروت: نوال عاملة إيه في حر أغسطس في القاهرة؟ إيه رأيك تيجي إجازة على جبل لبنان. لم أتعرف على صوته، قال: أنا زياد، قلت: زياد؟ لا أذكر أحدًا اسمه زياد، أنت مصري أم لبناني؟ يا ست نوال أنا زياد اللي عمل معاكي حوار في التلفزيون اللبناني من عشر سنين، أجمل حوار عملته في حياتي، لا يمكن أنساه لا يمكن، وانتي نسيتيني؟ قلتُ: يا زياد لا أتذكر الأمس فما بال عشر سنوات؟ وأنا أنسى دائمًا حواراتي فيما يُسمى الفضائيات، لأنها لا تعجبني. لا لا يا ست نوال هذا الحوار كان غير أي حوار، إيه رأيك تيجي على بيروت نعمل حوار جديد وتقضي إجازة أسبوع في جبل لبنان، بنتي رانيا قرأت كل كتبك ونفسها تشوفك، قلتُ: طبعًا أحب أشوف بنتك أنا باشجع كل الشباب والشابات، لكن تدفع كام على حوار التلفزيون يا زياد؟ أنتم تجنوا الملايين من الفضائيات وإحنا الكاتبات والكتَّاب نجني الألم واللكمات؟ قال: ندفع لك يا دكتورة اللي تقولي عليه، قيمتك في الدنيا أكبر من أي مصاري (مصاري يعني الفلوس باللغة اللبنانية).
ودَّعَني ابني وابنتي في المطار، يُلوِّحان لي من بعيد، ماما لا تغيبي عنا، ارجعي بعد أسبوعٍ واحد. لمحتُ الدموع في العيون مثل وميض الضوء، هل ألقاهما مرةً أخرى أم إنه اللقاء الأخير؟ مهما كبرا في عيون الآخرين هما في عينيَّ طفلاي. غبتُ عنهما سنوات المنفى والغربة والمعاناة والسجن والمطاردة الدائمة، ابتلعت دموعي في البئر الغائرة في أعماقي. لا أبكي أمامهما منذ طفولتهما، تحمل أمهما من أجلهما الجبال، وتمشي وتمشي إلى آخر الدنيا، من أجلهما يمكن أن تُضحِّي بحياتها وموتها في الدنيا والآخرة.
في مطار بيروت استقبلَني زياد وابنته رانيا وباقة وردٍ أحمر. عدتُ إلى الوطن برائحة الورد، على حضن الأم، أعانق رانيا كأنها ابنتي، وزياد أيضًا ابني. لي في كل بلاد العالم بنات وأبناء، هذه هي المكافأة الوحيدة للكاتبة، مهما ارتفع ثمن الكتابة، مهما كانت المعاناة والألم ونزيف الدم تظل المكافأة أكبر وأعظم.
في أعالي جبل لبنان، أكتب هذا المقال، أتطلع إلى السماء، أدرك لأول مرة أن الكتابة المبدعة تعلو إلى رسالات السماء؛ فالإبداع هو قمة الصدق، قمة ما ينتجه العقل الواعي وغير الواعي معًا، الواقع والخيال معًا، الظاهر والباطن معًا، المعلن والخفي، العلم والفن، الطب والأدب، السياسة والدين والتاريخ والمستقبل. يُذيب الإبداع الفواصل الموروثة بين الأشياء، يُلغي الثنائيات والازدواجيات الزائفة منذ العبودية. ينتشل الإبداع الأجيال الجديدة من الجهل وسوء التعليم والردة الأخلاقية، ينير أمامهم الطريق إلى الصدق والكرامة والاعتزاز بالنفس.
الكلمة هي الشرف، منطوقةً ومكتوبة، شفهيَّةً وتحريرية. من لا كلمة له لا شرف له. من يخُن كلمته يخُن نفسه قبل أن يخون غيره.
أتأمل الجبل الشاهق وأفكر، أدرك أن مشكلة التعليم في بلادنا هي أننا لا نتعلم كيف نفكر. يملئون الدماغ بمعلوماتٍ تطير بعد الامتحان وتختفي مثل سحابة الصيف. لكن الإبداع يُعلِّمنا كيف نفكر. بدلًا من أن تعطيني سمكة علِّمني كيف أصطاد. علِّمني كيف أفكر بعقلي أنا وليس بعقول الغير.
آه يا جبل لبنان، يا أجمل جبال العالم! يا صوت فيروز وأسمهان! يا ذكريات الحب والجمال والصدق والحرية والعدل!
أتطلَّع إلى الجبل والبحر والسماء، وتنهمر دموعي من روعة الشجن.
ذكريات بيروت تتدفَّق. منذ ثلاثين عامًا وأكثر، جئتُ إليها لأقيم فيها أيام الحرب، كنت أحمل لقب مستشارة بالأمم المتحدة، بمنظمة الأكوا (اختصار اللجنة الاقتصادية لبلاد غرب آسيا) مركزها بيروت. تحمل اليوم اسم الإسكوا (اختصار اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لبلاد غرب آسيا، أضيف المجال الاجتماعي للاقتصادي).
لقب مستشار بالأمم المتحدة كان يعني لا شيئًا، يمكن للمستشار ألا يعمل أي شيء، وهذا هو المطلوب، حتى يستريح ويريح. إن اشتغل وأخذ المسألة بجدية فهو يكشف الفساد الكامن تحت السطح، يسرع الجميع للتخلص منه.
لا يختلف الموظَّفون في هذه الهيئة الخطيرة عن غيرهم في الحكومات العربية. كنت أشعر بالاختناق داخل مكتبي فأهرب منه إلى الشارع حيث رصاصات القناصين تنطلق من النوافذ العالية الخفية.
أقطع شوارع بيروت، لا أهاب الموت، يعجز العقل البشري عن إدراك موته. يدرك موت البشر جميعًا إلا هو. أكسبني الجهل بالموت شجاعةً منقطعة النظير. أمشي على شاطئ الروشة أدندن بأغنية فيروز أو أسمهان. أتذكر طفولتي على شاطئ الإسكندرية، أسبَح في البحر كالسمكة وراء أمي، يحملني أبي فوق رأسه ثم يلقي بي فوق الأمواج.
حنيني للوطن والأهل يزيد بازدياد البعد، فإن اقتربت وتلاشت المسافات تبدَّد الحنين، وبدأتُ أحلم بالرحيل. أيكون الفراق هو شرط الحب؟ هذا السؤال خطر لي في العاشرة من عمري، حين غمرني الحب لأبي وأمي يوم سافرتُ بعيدًا عنهما.
أكبر حب في حياتي كان في العاشرة من عمري، إنه حبي الأول والأخير، عشت العمر كله أبحث عنه دون جدوى. أقترب من الثمانين عامًا من عمري وما زلتُ أبحث عنه.
شيء في ارتفاع الجبل يُقرِّبني من الحب المستحيل، العدل المستحيل، الحرية المستحيلة. اتساع الأفق وامتداد البحر إلى اللانهائي، اللامنتهي، يجعلان قلبي يخفق كما كان قلب الطفلة يخفق، ترجُّ الخفقة كيانها والجبل والبحر والسماء والأرض.
في الوطن، الأرض مستويةٌ دون ارتفاع، أحنُّ إلى الجبل والقمم الشاهقة تغطيها الثلوج، لكن صوت المذيع يأتيني من تحت الأرض، إسرائيل في عدوانٍ جديد على لبنان، أهبط من قمة الجبل وأصحو على صوت الرصاص.