فقاعات هواء في الفضائيات
منذ أيامٍ قليلة، جاء إلى بيتي المذيع المتأنق، من البلد الشقيق، من خلفه تابعه يحمل له بذلة الشغل وعدة النصب. وعددٌ كبير من الفنيين والعمال، يحملون الكاميرات وأجهزة البث السريع، المرئي والصوتي والحركي. المذيع متسلط سليط اللسان، برميل من النفط الخام. الكرافتة والدبوس والحذاء اللامع يعكس الضوء. كل شيء فيه يلمع إلا العينَين، إنهما منطفئتان خاليتان من البريق، يتحدث نصف الفصحى، الخليجية البدوية، جسد مدكوك باللحم والدهن، خالي الذهن، منفوخ بالهواء، ملسوع بالأضواء، يخطف الكلام، بشرته مسلوخةٌ نصف محروقة، يعطي التوجيهات للعمال من حوله، شباب مصر الحزين، عيونهم منكَّسة، وجوهم ضامرةٌ ممصوصة، ضحايا الاستبداد والبطالة والبورصة والخصخصة والفساد والاستعمار والسوق الحرة والعولمة وأوبئة العصر. لم أرَ حزنًا في العالم يعلو على حزن الشعب المصري. أهبط من المطار إلى أرض الوطن لينوء قلبي بالهموم، الحزن والقهر المتراكم في العيون طبقةً فوق طبقة، آلاف الطبقات ومئات القرون، شباب وشابات لم يعرفوا مرح الطفولة أو تمرُّد المراهقة، لم يدركهم الوعي بكرامة العقل وسمو الذات. ولدوا عجائز من رحمٍ مقهورة حزينة، أكثرهم حزنًا شابٌّ من قرية العبيد في جبل الصعيد، عيناه غائرتان في قاع الجمجمة، عظام خديه نتوءاتٌ حجرية، أخاديدُ مدببة تحت الجلد، منحوتة بإزميل في صخور الجبل، يحمل صندوقًا مزخرفًا يفوح منه العطر، علب الماكياج وأدوات عملية التجميل، زراعة وجوهٍ جديدة للمذيعين والمذيعات وضيوف الفضائيات.
الأطباء الإسبان، منذ ثلاثة شهور (مارس ٢٠١٠م) في مستشفى «فال دي هيبرون»، في مدينة برشلونة، نجحوا، لأول مرة في العالم، في إجراء عمليات الجراحة لزرع وجهٍ كامل، بدلًا عن الوجه المحروق أو المحطم في حادثٍ ما، يزرعون عضلاتٍ جديدة للوجه، وجلدًا وأنفًا جديدًا، شفاهًا جديدة، عظامًا جديدة للفكَّين والحنك والأسنان والخدَّين والجبهة والذقن والأذنَين.
ينظر الإنسان إلى نفسه (في المرآة) فلا يعرف وجهه، والآخرون لا يعرفونه بالطبع. رجال المباحث والبوليس لا يعرفونه. تقدمٌ علمي جديد يخدم المصابين في الحوادث، كما يخدم عشاق الجريمة وأضواء الشاشة الصغيرة. مثل كل اكتشافٍ علمي جديد، الطاقة الذرية والنووية قد تنقل الطب إلى مرحلةٍ أعظم، وقد تُدمِّر العالم في حربٍ كونية، وطب زراعة الأعضاء قد يخدم البشرية، وقد يتحول إلى تجارة وقرصنةٍ دولية. أصبح للمذيع وجهٌ جديد يتألق بريقًا وبياضًا مثل ورق الألومنيوم المفضض. قلتُ له ضاحكة: وجهك السابق كان أفضل يا أستاذ؟ أصابه إحباط: أعرف أنكِ ضد الماكياج يا دكتورة، الماكياج أصبح ضرورة كالماء والهواء، لماذا تسبحين دائمًا ضد التيار؟ «لأن السمك الميت هو الذي يسبح مع التيار يا أستاذ.»
كان في جعبته الكثير من أسئلة استخرجها من «النت»، أراد أن أرُدَّ عليها كلها، أول سؤال: كيف تعتبرين الرجل الذي يمارس تعدد الزوجات خائنًا أو فاسدًا أخلاقيًّا، رغم أنه يمارس حقه الوارد في القرآن؟ أتعترضين على أمر الله؟
لم يمنح الله هذا الحق يا أستاذ؛ لأنه يتنافى مع العدل والإخلاص الزوجي، والحفاظ على صحة الأسرة والمجتمع. هناك دولٌ إسلامية منعَت تعدُّد الزوجات، و… و… و… و…
وانهالت الأسئلة المكرَّرة المملة: تقبيل الحجر الأسود أليس من أركان الإسلام؟ لماذا تقولين عنه عادة وثنية؟ كيف نخاطب الله بالضمير غير المذكر «هو»، لماذا أنت ضد النقاب؟ هل أنت ضد الحرية الشخصية؟ لماذا تطالبين بتسمية الأطفال غير الشرعيين باسم الأم؟ ألا يشجع ذلك على فساد النساء؟ و… و…
قاطعتُه قائلة: بل يقضي ذلك على فساد الرجال.
ثم جاء السؤال: لماذا تُشبِّهين الزواج بالبغاء المقنع؟ لماذا ترفضين المهر والنفقة؟ لماذا تقولين إن عذرية البنت ليست مقياسًا للشرف الحقيقي؟ لماذا تعترضين على مفاهيم الأنوثة والرجولة؟ ما علاقة الإبداع بالتمرد؟ و… و… و… و… و…
من أجل تبديد الملل، قلتُ: نحن نُضيِّع وقتنا على الهواء، في الوقت الذي تسعى بلادٌ أخرى لاكتشاف الكواكب والسماوات السبع. كوكب المريخ يكتشفونه اليوم ويصورونه بدقة. الزهرة تبدأ دورةً جديدة تمر خلالها بين الشمس والأرض في ٥ يونيو ٢٠١٢م، ثم بعد أكثر من مائة عام، بالضبط في سنة ٢١١٧م، يقترب القمر من الزهرة، يمكن أن نراهما بالتلسكوب على شكل نجمة داخل الهلال، ثم تمر الزهرة من وراء القمر فلا نراها.
بدأ كوكب الزهرة في الاقتراب من كوكب الأرض في بداية هذه السنة ٢٠١٠م. تظهر الزهرة اليوم على شكل قمرٍ صغير يبعد عن الأرض ٢١٠ ملايين كيلومتر فقط، في صباح ٢٠ أغسطس القادم تصبح الزهرة قريبة من الشمس، تبعد عنها ١٠٥ ملايين كيلومتر فقط. وفي ٢٩ أكتوبر المقبل تمر الزهرة بين الشمس والأرض، وتختفي وراء القمر لتطل من ورائه بعد فترة من الزمن. كل ذلك سينقل علم الكون الجديد إلى آفاقٍ أكبر. نحن نتكلم يا أستاذ عبر أقمارٍ صناعية اكتشفها غيرنا، لم نكتشف شيئًا في العلم منذ ألف عام. اشترينا بأموال النفط وأموال الفقراء الجوعى مئات المحطات الفضائية، للثرثرة الفارغة، والتسلية والترفيه، أنا لست ضد الترفيه يا أستاذ، لكن بعد الإرهاق في العمل والإنتاج، ليس الترفيه عن الراحة والكسل والاستهلاك. أنت جئتَ من بلدك كل هذه المسافة لتدافع عن حقِّك في تشريد أُسرتك؟ لماذا تريد الزواج بأربع نساء يا أستاذ؟ ألا تكفيك واحدة؟
انتقل إلى سؤالٍ آخر بسرعة البرق: كيف تقولين إنَّ حجاب المرأة ليس في الإسلام؟ مع أن الحجاب ركن من أركان الإسلام مثل الصلاة والزكاة والحجِّ وتقبيل الحجر الأسود. كل الفقهاء يؤكدون على أن حجاب المرأة فريضة مثل الصلاة، وضروري لحماية المرأة من عيون الرجال في الطريق.
سألتُه: هل تنظر إلى المرأة في الطريق؟ ردَّ المذيع: نعم أنا رجل ينجذب إلى المرأة بالطبيعة الرجولية، قلت: ليست الطبيعة الرجولية. الرجل المستقيم الأخلاق هل ينظر إلى النساء في الطريق؟
تصبَّب العرق قطراتٍ تلمع فوق جبينه تحت الأضواء، أشار بطرف إصبعه إلى الشاب المصري العجوز. أسرع فأخرج من الصندوق مناديلَ ورقٍ شفافةً معطرة، مسح بها عرق المذيع، ثم غطَّى وجهه بطبقة من البودرة ولمساتٍ خفيفة لأحمر الخدود.
أخيرًا قلت: الناس في بلادٍ أخرى يتنبئون بما يحدث في الكون بعد مائة عام، ونحن غير قادرين على تحليل الظواهر من حولنا اليوم. نَجتَرُّ أسئلة القرون الوسطى. يلعب التعليم والإعلام والقنوات الفضائية دورًا في تدمير العقل، في بث الخرافات والإثارة السطحية، كان يمكن خلال الساعة الماضية أن نقيم حوارًا عميقًا يفتح الأذهان، يشجع الناس على البحث عن الحقيقة في العلوم والتاريخ والفن والأدب.
ألا تشعر بالخسارة يا أستاذ؟ ابتسم في سعادةٍ بلهاء وقال: بالعكس كان حوارًا رائعًا يا دكتورة.
وابتسمتُ في حزن لا يعالجه شيء.