صديقتي الأمريكية أديل
الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق، أصحو من النوم على مهل، أتمطَّى في الفراش الدافئ، أُبعث من الموت إلى الحياة، أنتقل من اللاوعي إلى الوعي بنعومة دون عجلة، لا شيء يجعلني أقفز من السرير هلعًا لأن الوقت فات؛ فاليوم هو الأحد. لا مواعيد ولا حصص في الجامعة ولا محاضرات؛ الإجازة الأسبوعية المقدَّسة المفروضة علينا، بحكم القانون المسيحي السائد. يستريح الأمريكيون والأمريكيات في البيوت بملابس النوم، يتناولون فطورًا دسمًا ملغمًا بالزبدة والعجائن ودهن الحيوانات، كل المحرمات. يخرج بعضهم للصلاة في الكنيسة إن لم تتلبَّك أمعاؤهم، إن آمنوا بوجود الله والمسيح، أغلبهم لا يؤمنون، وإن آمنوا بالقلب لا يؤمنون بالعقل. يكتفون بشكر الله والمسيح في عيد الشكر، الخميس الأخير من نوفمبر كل عام، أو ثلاث مرات في اليوم قبل الأكل. يُتمتِمون بكلماتٍ من الكتاب المقدس، مع ابتلاع أقراص المهضِّمات، وطرد الشياطين من الأمعاء مع الغازات.
قلبي يخفق مع اليقظة الكاملة، في انتظار حدثٍ مجهول، أتوقع دائمًا خبرًا سعيدًا منذ طفولتي، أو كارثةً تقع، لحظة الإفاقة من النوم لا يميز قلبي بين خفقة الفرح وخفقة الفزع، شحنة الدم الساخنة المندفعة داخل الصدر هي الشحنة، جفاف الفم والحلق وانقطاع النفس إلا شهقة الدهشة. لم تفارقني الدهشة الطفولية بلا سبب، أو لمجرد الصحيان في الصبح، أو سقوط أبي فجأة إلى الأرض بقامته الفارعة القوية لحظة الموت، أو شهقة أمي الأخيرة المندهشة، ممسكةً يدي بيدها تفارق الدنيا، أو خيالي الجامح يخلق الكوارث التي لم تحدث بعدُ، والتي أعرف أنها ستحدث حتمًا، مثل أن يسقط شخصٌ عزيز ميتًا بسرطان الدم أو يُصاب بسكتهٍ قلبية أو جلطة في المخ. لم أكن أعرف من الكوارث إلا أخفَّها، المرض والموت، وكان الفرح يطغى على الحزن.
أرمق جهاز التلفون الصامت بجوار سريري كأنما سيرنُّ فجأة بالخبر السعيد أو النبأ المشئوم. إن لم يرنَّ الجرس أحزن لضياع الفرح، وإن جاء الجرس أرتعد من الحزن. كلاهما، الفرح والحزن، يدفعان حرارة الدم إلى جسدي، فأشعر بلذةٍ غامضة مجهضة تشبه نشوة الحب أو الاكتئاب المفاجئ يغمر الإنسان والحيوان، عقب قمة الجنس.
الشمس غائبة وراء السحب في سماء مدينة أطلانطا. منذ يومَين كانت الشمس مشرقة، تتألق الشمس دائمًا في «عيد الشكر» كما يقول «كريس» أستاذ التاريخ، لمجرد مشاكستي؛ فهو مثلي لا يؤمن بحكاية الأيام الستة، أو نظرية الخلق الواردة في الكتاب المقدس. بشرته الخمرية سمراء بلون طمي النيل، القلب الممتلئ دفئًا من قلب قارتنا الأفريقية، الأنف الروماني المسحوب إلى أعلى من شمال البحر الأبيض المتوسط، الوسامة والقامة الممشوقة يتميز بها أصحاب وصاحبات الدماء المختلطة، من أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية. تُذكِّرني قامته الفارعة بأبي وابني، عيناه العسليتان بأمي وابنتي، حين يكسوهما البريق القوي أتذكر الحب الأول في حياتي، قبل الزواج الأول، قبل أن أشهد أول ميت في حياتي، قبل أن تهرب الدماء من وجهي ويصبح لونه مثل الكفن أو ملاءة السرير، وأنا في عمر الورد.
رن جرس التلفون، فانتفضتُ وتردَّد ذراعي في الهواء متوجسًا، ثم دفعه الأمل أو الوهم إلى الامتداد حتى رفعت السماعة: ألو، ألو.
رنَّ صوتي في أذني. ليس صوتي، امرأة أخرى تتلقى نبأ موتها أو موت عزيزٍ عليها، أو تهمة كافكاوية غامضة تقودها إلى المقصلة، أو على الأقل إيداعها السجن لعدم تسديدها الديون المتراكمة عليها منذ الولادة. كان يلازمني، منذ الولادة، إحساسٌ دائم أنني لم أُسدِّد ديوني لأمي وأبي. منذ وعيتُ أسمع أبي يقول حين أتمرد: أأشقى من أجلك ليلَ نهار، أشقى لتصبحي ضمن بني آدم، أشقى حتى لا تمسحي البلاط وتأكلي المخلل والعيش الحاف، أشقى لأدفع لك مصاريف التعليم والأكل والملابس، ألا تسمعين الكلام؟ أمَّا أمِّي فكانت ديوني لها أكثر من أبي؛ لأنَّها تشمل الحمل تسعة شهور في بطنها وآلام الولادة والرضاعة والتحميم والتأكيل والتلبيس و… و… و… و… وماتت أمِّي ومات أبي وأنا في مقتبل العمر، قبل أن أُسدِّد ديونهما، هكذا ظلَّ قلبي طوال حياتي ثقيلًا مملوءًا حزنًّا حتى في قمَّة الفرح.
– ألو ألو، ألو مين؟ مين؟
جاءني صوتها يتحدث الإنجليزية باللهجة الأمريكيَّة، لم تتعرَّف على صوتي أوَّل الأمر، سألَتْني: هل أنت مُصابةٌ بإنفلوانزا الطيور؟ قلتُ: لا، الخنازير. ضحكَت.
عرفتُها من ضحكتها المرحة. إنَّها صديقتي الأمريكيَّة الأفريقيَّة «أديل نيوسن هيرست» أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة ميزوري. كانت عميدة كلية الآداب والفنون في هذه الجامعة قبل أن تُقدِّم استقالتها في صيف ٢٠٠٧م. نشأَت المشاكل منذ أعوام بينها وبين إدارة الجامعة، ومنهم الرئيس أو نائب الرئيس، وكان مؤيِّدًا للثالوث اليميني: الحزب الجمهوري وجورج بوش والكتلة المسيحيَّة الأصوليَّة. ولاية ميزوري يسمُّونها «سُرَّة حزام الكتاب المقدَّس». وجدتُ نفسي في قلب هذه السُّرَّة المفزعة في مدينة سبرينجفيلد عاصمة الولاية، فقد دعَتْني العميدة أديل نيوسن هيرست لأُلقي محاضرة في كلية الآداب والفنون عن الإبداع والتمرُّد، يوم ١٧ أبريل ٢٠٠٧م. كانت القاعة مليئةً بحشود من الطلَّاب والأساتذة والموظفين في الإدارة، بمن فيهم الرئيس ونائب الرئيس والوكيل. بعد انتهائي من المحاضرة وقف الجميع يُصفِّقون بضع دقائق، إلا الصف الأول حيث جلس أعضاء السلطة العليا في الجامعة. رأيتهم جالسين ساهمين يرمقونني بعيونٍ حمراء. في مكتب العميدة أديل قالت: الطلبة والطالبات أحبُّوك، هل تقبلين التدريس هنا في هذه الجامعة؟ وقَّعَت معي العميدة عقدًا لتدريس الإبداع والتمرد في الكلية، لكنَّ الإدارة في الجامعة رفضت تنفيذ العقد، واشتدَّ الصراع بين العميدة ورؤسائها في الجامعة إلى أن قدَّمتِ استقالتها من منصب العميدة، وآثرَتْ أن تكون أستاذة فقط في قسم اللغة الإنجليزيَّة. قالت أديل إنَّ العقد معي يمكن أن يُنفَّذ بالقانون عن طريق المحامي، لكنِّي تنازلتُ عن حقِّي القانوني كراهيةً في المحامين والمحاكم. لا أطيق هذه المهن، محامٍ يقودني إلى محكمة أو طبيب يقودني إلى غرفة الجراحة، أو غيرهما من أصحاب المهن الحرة، في السوق الحرة، حرِّية نهب الآخرين تحت اسم القانون أو الطب أو الإنسانيَّة والديمقراطية، والحب. واصلَت أديل حديثها عبر الهاتف، قالت: لا بدَّ أن أُرسل الكتاب إلى الناشر بعد أسبوع، وعندي أسئلة لكِ عن حياتك. قلتُ لها: لكنَّك يا أديل أكملتِ هذا الفصل عن تاريخ حياتي منذ شهور؟ نعم يا نوال لكن عندي بعض الأسئلة الجديدة. مثل ماذا يا أديل؟ السؤال الأول كيف تكتبين؟ والسؤال الثاني لماذا تكتبين؟ أووووهووو يا أديل ألَمْ أردَّ أكثر من مرة على هذه الأسئلة؟ وضحكت أديل، نعم يا نوال لكنِّي لم أدوِّن إجابتك وقتها. أتذكرين؟ كنَّا نأكل اللوبستر المشوي ولم يكن معي دفتر مذكراتي، أوووهووو يا أديل لقد نسيتُ ما قلتُه لك، وانفجرنا في الضحك.
هناك متعة لا شكَّ في أن يتحدَّث الإنسان عن نفسه، خاصة هؤلاء المصابين بالنرجسية، فكيف أن يؤلِّف الآخرون كتبًا عنهم؟ لم يكن هذا أوَّل كتابٍ بالإنجليزية عن حياتي وأعمالي. مع كل كتابٍ كنت أشعر بلذَّة التحقُّق، تشبه لذَّة الإبداع والكتابة ذاتها، ثم تكرَّرت هذه اللذَّة خلال السنين العشرين الأخيرة. في التكرار تضيع لذَّة الأشياء لتصبح عادية مثل الحياة الزوجية. يُولِّد التكرار نوعًا من الملل يشبه الحزن الغامض. دائمًا يراودني الحزن لحظة الفرح، لحظة استلامي الجائزة الدولية أو درجة الدكتوراه الفخريَّة، وأنا أصعد إلى المنصَّة لتلقِّي الجائزة يثقل قلبي بالحزن، أبتلع الدموع خلسة حتى لا يراها أحد. بعض الناس يقولون إنَّها دموع الفرح، لكنِّي أُدرِك في أعماقي أنَّه الحزن، ربَّما لأن أبي وأمي ماتا قبل أن يشهدا نجاحي، أو قبل أن أُسدِّد لهما ديوني، أو ربَّما يساورني الشكُّ في الجائزة أنَّ النجاح ذاته يبدو فشلًا يتنكَّر على شكل النجاح، وحزنًا يتنكَّر على شكل الفرح، أو أنَّ هذا الاحتفال الكبير أو الفوز العظيم ليس إلَّا لحظة خاطفة مصيرها الموت، مثل كل شيء في الحياة. كانت فكرة الفناء المحتوم تتملَّكني، تقبض على روحي، مثل عزرائيل. أوَّل مرَّة في حياتي أسمع اسم عزرائيل من جدَّتي، كنتُ في الخامسة من العمر، أري جدَّتي صاحية في الليل جالسة في السرير، وأسألها لماذا لا تنام؟ تقول جدَّتي: عشان لمَّا عزرائين ييجي يلاقيني صاحية يسيبني ويروح لغيري يقبض على روحهم! ثم ماتت جدَّتي رغم صحيانها ونصاحتها، لكنها ماتت منتصبة بقامتها الفارعة كالشجرة. لماذا تلوح لي جدَّتي دائمًا في الحلم واليقظة وأنا بعيدة عنها بآلاف الأميال في المكان والزمان؟ وكنت أنساها وهي إلى جواري تجلس في السرير؟