ذكرياتي وراء المحيط في إندونيسيا وبلادٍ أخرى
عواصف وأمطار تنهمر سيولًا فوق غابة الأشجار. أتأملها من خلال النافذة الزجاجية الكبيرة، أين أنا؟ في أطلانطا؟ غابة جورجيا؟ في جنوب أفريقيا؟ في أوغندة، إثيوبيا، السنغال، إندونيسيا، الهند، إيران، البرازيل، كندا، أستراليا، النرويج، اليابان، كوريا، طشقند، السودان؟ تبدو البلاد والأشجار والأمطار متشابهة. لا أكاد أعرف أين أكون حتى أنظر إلى مفكرتي اليومية. منذ طفولتي أحتفظ بمفكرةٍ سرِّية، أُسجِّل فيها أين أذهب بعيدًا عن الأنظار، وما يخطر لعقلي من أفكارٍ محرمة. مفكرتي هي صديقتي الدائمة الأبدية. لم تعُد لي أسرار الطفولة الآثمة، أصبحتِ الفضيلة إثمًا، والإثم فضيلة. تطور عقلي مع مرور الزمن واكتشفتُ الخديعة. كم يحطمون عقولنا ويقتلون البديهة، ليس في بلادنا فقط بل في العالم كله. سافرت إلى كل البلاد، في القارات الخمس، أدركتُ أن الخديعة هي قانون الأرض والسماء، منذ جدَّتي حواء أصل الخطيئة، حتى أمي المقتولة في ريعان الشباب بالفضيلة.
١٩ نوفمبر ٢٠٠٦م كنتُ في إندونيسيا، ألقيتُ كلمة الافتتاح للمؤتمر الدولي للمسرح النسائي في جاكرتا. قضيتُ ثلاثة أيام فقط (١٩ إلى ٢١ نوفمبر). بعد أن ألقيتُ الكلمة هزَّني التصفيق في القاعة الواسعة، مئات النساء والرجال من كافة البلاد وقفوا يُصفِّقون حتى فاضت دموعي، وهجمَت عليَّ الشابات الإندونيسيات يغمُرنني بالقبلات. هناك حركةٌ شعبية في إندونيسيا كبيرة يقودها الشابات والشباب ضد فرض الحجاب على المرأة الإندونيسية، وضد أسلمة الدستور الإندونيسي. رئيسة المؤتمر كاتبةٌ مسرحية اسمها «راتنا» لها ابنةٌ فنانة ممثلة في المسرح وموسيقية، اسمها باللغة الإندونيسية «أنا أحلم بالحرية». دعانا حاكم جاكرتا إلى حفل عشاء وغناء ورقص، شارك الحاكم في الرقص والغناء كواحد من الشباب، ثم دعاني للرقص معه. رقصتُ على إيقاع لحن أغنيةٍ إندونيسية تقول: «ارقصي معي رقصتي الأولى والأخيرة يا نور العين.» قلتُ للحاكم الإندونيسي وقدماه تدبَّان على الأرض بالإيقاع الموسيقي: ولماذا الأخيرة ونحن في ربيع العمر؟ ضحك الحاكم وجميع المشاركين والمشاركات في حلبة الرقص. كنتُ في الخامسة والسبعين من عمري تلك الليلة الإندونيسية، لكني رقصتُ ساعة ونصف الساعة مثل شابَّة في العشرين، أهي السعادة بالحرية تعيد إلينا الشباب؟ أم ماذا؟
تجولتُ اليوم التالي مع راتنا في شوارع جاكرتا، زحام وحر ورطوبة وعرق وتراب، كأنما أسير في شوارع القاهرة في أغسطس. العيون ذابلة، الوجوه شاحبة، حزينة، مرهقة، ممصوصة، تشبه وجوه الناس في بلادنا. تغيَّرَت الوجوه حين اقتربنا من الميدان وتغيرت العيون، لم تعد ذابلة حزينة بل متقدة بالحماس والأمل، آلاف الرجال والنساء والشباب والشابات، يسيرون صفوفًا صفوفًا، يسدون الشوارع والميدان، رافعين اللافتات والشعارات باللغة الإندونيسية، يهتفون ضد جورج بوش وأمريكا الاستعمارية، وإسرائيل الصهيونية، وقالت راتنا: هذه المظاهرات بسبب زيارة جورج بوش لنا، انظري، الجماهير تقذف موكبه بالبيض الفاسد. سألتُها مندهشة: جورج بوش هنا في جاكارتا؟ قالت: جاء في زيارة لإندونيسيا بالأمس، لم نسمع الأخبار بسبب انشغالنا في المؤتمر، قلت: مصادفةٌ سعيدة، يأتي جورج بوش إلى جاكرتا وأنا هنا، لأستمتع برؤية الشعب الإندونيسي يقذفه بالبيض الفاسد والطماطم. وقالت راتنا: الشعب هنا واعٍ غير مخدوع بالإعلام، نحن نتمتع بحريةٍ سياسية واجتماعية أيضًا. المرأة الإندونيسية تفوَّقَت في المسرح والموسيقى، والإبداع في كل المجالات بسبب الحرية. أطلقت على ابنتي اسم «أنا أحب الحرية». القانون هنا يعطي الأم الحق في أن تعطي ما تشاء من الأسماء لأطفالها، لا تحمل ابنتي اسم أبيها ولا اسم أمها، بل تحمل اسمًا آخر أجمل يؤكد حبنا للحرية. ابنتها رشيقةٌ جميلة، ترقص على المسرح وتغني وتعزف الموسيقى، يصفق لها الجمهور طويلًا، تفخر الأم بابنتها المسماة «أنا أحب الحرية» أجمل اسم سمعتُه في حياتي. هل يأتي يوم تحظى فيه الأم المصرية بحرية الأم الإندونيسية؟ إندونيسيا تتمتع بقدْر من الحريات السياسية والدينية أكبر مما هو في بلادنا، سكانها أكثر من ٢٣٥ مليون نسمة، متعددة الأديان والأعراق، أغلبيتهم يؤمنون بالإسلام (حوالي ٩٠٪). دخلها الإسلام في القرن الأول الهجري في عهد عثمان بن عفان، عَبْر التجار والملاحين العرب. خضعت إندونيسيا للاحتلال الهولندي ثم الاحتلال الياباني، وناضلَت للتحرر حتى نالت استقلالها عام ١٩٤٥م. أول رئيس لإندونيسيا أحمد سوكارنو حارب التطرف الديني السياسي، أصر على دستورٍ مدني يجعل الوطن للجميع، لا يُفرِّق بين المواطنين على أساس الدين؛ لهذا رفض سوكارنو أن تكون الشريعة الإسلامية مصدر التشريع في الدولة. هكذا توحَّدَت الدولة وتطوَّرَت، لكن القوى الاستعمارية الخارجية وأعوانها في الداخل أطاحوا بحكم سوكارنو وجلبوا حكم سوهارتو الذي شجَّع التصاعُد الديني لتقسيم الشعب الإندونيسي. في عام ١٩٩٨م ظَهرَت على الساحة عشرات الأحزاب السياسية الدينية، بما فيها الأحزاب والجمعيات الإسلامية التي أغرقَتِ الناس في صراعاتٍ طائفية وجهل وتعصُّب، وساعدتها الانتخابات غير الحرَّة في ظل عدم الوعي السائد على كسب ٤٥٪ من الأصوات في انتخابات ٢٠٠٤م، إلا أن تزايُد الوعي وتطوير التعليم غير الديني والمقاومة الشعبية المدنية ضَربَت هذه القوى الدينية السياسية في انتخابات ٢٠٠٩م، فهَبطَت نسبةُ ما جمعوه من الأصوات إلى ٣٠٪، ويزداد الوعي يومًا وراء يوم لتحرير إندونيسيا من براثن الدين والاستعمار معًا.
أصبح الدين الوجه الآخر من الاستعمار الجديد في القرن الواحد والعشرين.
في الطائرة، خلال عودتي إلى القاهرة، قرأتُ خبرًا في الصحف المصرية، مفاده أن وزير الثقافة (فاروق حسني) متهم بالخروج عن المعلوم من الدين، بسبب تصريحه أنَّ حجاب المرأة ليس من الإسلام. تعود مصر إلى الوراء تحت اسم الإسلام، يتعاون النظام الحاكم مع الاستعمار الجديد والدين لضرب القوى الشعبية وإغراق الناس في الجهل. يتلهى الناس في مصر بقضية الحجاب عن قضية تحرير البلاد من السيطرة الأمريكية الإسرائيلية، وأعوانها في السلطة الحاكمة المصرية. هل سبقَتْنا إندونيسيا على طريق التحرُّر والاستقلال من براثن التوءمَين الخبيثَين: الاستعمار الجديد والدين؟
غربتي في الوطن تشتد يومًا وراء يوم، ما إن أعود إلى القاهرة حتى أُفكِّر في الرحيل. لم يمضِ يومان على عودتي من إندونيسيا حتى وجدتُ نفسي في الطائرة. سأُلقي كلمتي في المنتدى الاجتماعي الدولي في روما (٢٤ إلى ٢٧ نوفمبر ٢٠٠٦م). تمر المضيفة الإيطالية بعربة المشروبات: ماذا تشربين يا سيدتي؟ قلتُ: أي مشروب يعالج الغربة.
أثناء الإقلاع جلسَتِ المضيفة في المقعد أمامي، ابتسمَت لي، سألتُها:
أنت من إيطاليا؟
وُلدتُ في روما، لكن ليس لي وطن، حياتي في الطائرة، في الجو، فوق الجميع الأوطان وطني في كل مكان وفي لا مكان، مثل الله، لهذا لا أشعر بالغربة.
ارتجَّتِ الطائرة ارتجاجاتٍ عنيفة في تلك اللحظة فقالتِ المضيفة وهي تشير إلى السماء: لا يعجبه كلامي لهذا يُهدِّد بإسقاط الطائرة، لكن لا تقلقي يا سيدتي فأنا أقول هذا الكلام منذ عشرين عامًا، ولم تسقط مرةً واحدة.
وأنا أُحلِّق فوق السحب، فوق البحر الأبيض، تذكرتُ كلماتِ هيجل عن الغربة: نشعر بالغربة أو الاغتراب حين نفقد القدرة على تغيير مصيرنا أو التأثير في مجرى الأحداث. وقال ماركس: الاغتراب حالةٌ عامة في ظل النظام الرأسمالي الذي يهبط بالعامل إلى مستوى السلعة. تزداد غربته بازدياد قوَّة إنتاجه وحجمه لأنه لا يعمل من أجل نفسه بل من أجل غيره.
ماكس فيبر قال: إن الاغتراب سمةٌ عامة للمجتمعات الرأسمالية حيث تتحكم قوًى غير إنسانية بجميع نواحي الحياة. وقال هايدجر: الاغتراب حالة الإنسان الذي يشعر أن وجوده غير أصيل؛ لأنه لا يصنع قراراته بنفسه. وقال سارتر: الاغتراب شعور الإنسان حين يعجز عن تأكيد حريته.
أبي قال: الغربة عن الوطن يشعر بها الفقير المطحون أو المتمرد الثائر أو المفكِّر المطارَد، وقالت أمي: تشعر المرأة بالغربة في بيت أبيها وزوجها. وقلتُ لنفسي: المرأة لا وطن لها في ظل النظام الأبوي الطبقي الديني، وهو العالم الذي نعيش فيه، ألهذا أشعر بالغربة في كل مكان؟
٣٠٠ مليون سكان البلاد العربية، شعوبٌ مغتربة، عاجزة أمام سلطة الدولة، والدولة عاجزةٌ أمام سلطة القوى الخارجية. يستخدم أصحاب السلطة الأديان لتعمية الناس عن الحقيقة.
في مؤتمر روما دافعت أليساندرا الماركسية عن حرية المرأة في ارتداء الحجاب، أو الميني جيب. أخذ الحوار عن الحجاب وقتًا أكثر من الحوار حول الحرب في العراق وأزمة الرأسمالية. أخذتُ الكلمة وقلتُ «تغطية المرأة بالحجاب مثل تعريتها في السوق الحرة، التعرية والتغطية وجهان لعملةٍ واحدة، الحرية الزائفة لحرية السوق، حرية الأقوى للتحكُّم في الأضعف تحت اسم الحرية.»
يوم الجمعة أول ديسمبر، ركبتُ الطائرة من القاهرة إلى باريس، مرت المضيفة بعربة الصحف والمجلات العربية والأجنبية. مانشيت كبير في جريدة "الأهرام" المصرية الصادرة بالأمس ٣٠ نوفمبر ٢٠٠٦م:
تعديلاتٌ تاريخية في الدستور قبل ٢٤ أبريل القادم تبدأ بالمادة ٧٦.
لا أحد يُصدِّق الصحف في بلادنا، أهل قريتي يطلقون على أي أكذوبة لقب «كلام جرايد»، ثم خبر يقول: رسالة إلى الرئيس مبارك من خادم الحرمين الشريفين. سألتَنْي فتاة فرنسية جالسة في المقعد المجاورة لي: من هو خادم الحرمين الشريفين؟ قلت: أحد أباطرة النفط. سألت: أين هما الحرمان الشريفان؟ قلتُ: أحدهما في البيت الأبيض في واشنطن، والثاني؟ أين يكون؟
خبرٌ آخر يقول: رئيس نادي القضاة في مصر يصدر تصريحًا ضد تولي المرأة منصب القضاء. لماذا يا سيدي؟ لأن القضاء يقتضي العقل والحكمة والذكورة. لكنَّ القاضيات النساء نجحن وتفوَّقن على القضاة الرجال في ١٣ دولةً عربية؟ في تونس والمغرب تزيد القاضيات عن ٢٥٪ من القضاة، وتحتل المرأة في مصر منصب الوزيرة، فهل ينقُص عمل الوزارة عن عمل القضاء؟ يقول رئيس نادي القضاة: الدولة المصرية تحكمها تقاليدُ وعاداتٌ ليس من الضروري توافُقها مع المساواة. لماذا لا تُغيِّرها يا أستاذ؟ وقد تغيَّرت فعلًا. عندنا في مصر اليوم امرأتان قاضيتان فلماذا تقف في وجه التقدُّم وتنضم إلى التيارات السلفية؟ وفي التاريخ الإسلامي تقلَّدَت المرأة منصب «المفتي» كانت المرأة مفتية تُصدِر الفتاوى، فهل عمل المفتي أقل من عمل القاضي؟
من جُدَّة خبر يقول: مليون ونصف من الحجَّاج يرمون الشيطان بالجمرات في خمس ساعات فوق جسر الممرات بمساعدة ٩٠٠٠ من رجال البوليس السعودي.
في طفولتي سمعتُ جدتي تقول، قبل أن يسافر جدِّي للحج: يمكنه أن يرجم الشيطان هنا ويُوفِّر نفقاتِ السفر إلى مكة، لو أنه امتنع عن شرب الخمر وزيارة بيوت العاهرات.
خبر من واشنطن يقول: بوش والمالكي يبحثان معًا وسائل وقف العنف في العراق، وخبر من العراق يقول: الاحتلال الأمريكي يُشعِل الحرب الأهلية بين السُّنة والشيعة والأكراد، لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام، حسب مبدأ الاستعمار «فرِّق تسُد».
خبر من فلسطين: حكومة مبارك تحمل لقب «سمسار» بين إسرائيل والفلسطينيين، لحساب الأمريكان.
خبر من مصر: زراعة القطن أَصبحَت عبئًا ثقيلًا على الفلاحين المصريين، اختفت فرحتُهم وغناؤهم في مواسم الجني: نورت يا قطن النيل يا حلاوة عليك يا جميل. زادت ديون الفلاحين بسبب زراعة القطن، وقرَّروا التوجُّه إلى القاهرة في مظاهرةٍ احتجاجية.
في باريس، ألقيتُ كلمتي في المؤتمر الدولي النسائي يوم ٢ ديسمبر ٢٠٠٦م، مجموعاتٌ مختلفة من الحركة النسائية الفرنسية، وجمعيات المهاجرين والمهاجرات إلى فرنسا، بعضهم من المغرب والجزائر وتونس وتركيا ولبنان وفلسطين وسوريا وغيرها. يدور الحديث حول رويال سيجولين، نَجحَت على منافسيها في الحزب الاشتراكي وصعدَت لخوض انتخابات الرئاسة الفرنسية، هل تكسب الانتخابات الرئاسية؟ قلتُ في كلمتي: لا يكفي أن تكون رويال سيجولين امرأة لتكون ضد القهر الرأسمالي الأبوي. المهم ما في رأسها من أفكار، وما سياستها وبرامجها. إن كسبَت رويال سيجولين الانتخابات وأصبحَت رئيسة فرنسا، هل تنقلب على مبادئها الاشتراكية كما فعل توني بلير في إنجلترا؟
تعرَّضَت سيجولين لكثير من النقد الموضوعي وغير الموضوعي. لمجرد أنها امرأة تعرضَت لسخرية الإعلام الذكوري، خاصة حين حَضرَت مؤتمرًا وهي حامل في الشهر التاسع. رافقَتْها طبيبتُها خوفًا من أن تفاجئها آلام الوضع وهي في المؤتمر، أنجبَت ابنها حين كانت وزيرة البيئة. نُشرت رسوم كاريكاتيرية تسخَر منها، جعلوا لها وجهَ عجوزٍ متأنقة أنثوية من البورجوازية.
داخل حزبها الاشتراكي اتَّحدَت ضدَّها مجموعة من النساء أطلَقْن على أنفسهن اسم: «جمعية ١٤٣ متمردة»، أعلنَّ الاحتجاج على طريقة عملها، وتركيزها على أناقتها وأنوثتها وليس على برنامجها وخُططها للمستقبل.
بعد باريس سافرتُ إلى مدينة غرناطة في إسبانيا، بدعوة من جمعية الثقافات الثلاث، عنوان المؤتمر الدولي: المرأة، السياسة، الإعلام. غرناطة محاطة بالجبال، أشجارها الطويلة الباسقة الرشيقة. من نافذتي بالفندق أُطلُّ على قصر الحمراء، تجوَّلَت داخل القصر في اليوم التالي، في الليل دُعيتُ إلى حفل غناء ورقص وموسيقى.
في الطائرة من برشلونة إلى القاهرة، حضرتُ اجتماع المنتدى الاجتماعي الدولي. يتبارى الكثيرون لإلقاء الخطب الرنَّانة، لا أميل إلى هذه الاجتماعات التي يسودها التنافُس، والتحزُّب، والتشدُّق بكلماتٍ ثورية. تنبأتُ بفشل هذا المنتدى الاجتماعي الدولي الثوري. تسيطر عليه مجموعة أفراد في فرنسا، وفرقٌ أخرى من عددٍ من البلاد. تنفستُ الصُّعَداء بعد انتهاء المؤتمر. أخذتُ إجازةَ يومٍ واحد، تجوَّلْتُ في شوارع برشلونة، أجملها شارع الهمبرا، يقود إلى البحر وتمثال كولومبس. جلستُ في أحد المقاهي المطلة على البحر، أرشف النبيذ الأحمر مع الفول السوداني، وأقرأ الصحف. الشمس دافئةٌ حنونة رغم الشتاء، تشبه الشمسَ في الوطن شهر يناير، نسمة البحر لها رائحة الإسكندرية. طلبتُ صحنًا من السمك المشوي، لكن الأخبار في الصحف بدَّدَت روعة اللحظة الحاضرة. أودُّ ألا أقرأ شيئًا عن عالم السياسة، تفسد السياسة حياة الناس، ولا تكُفُّ الحروب والحرائق والجرائم تحت أسماءٍ بريئة مثل الديمقراطية أو الحرية أو العدل أو الله، كم من دماءٍ تُراق في الحروب الطائفية الاستعمارية الجديدة!