جدَّتي الفلاحة المصرية وفرجينيا وولف الكاتبة البريطانية
في العاشرة من عمري، رأيتُ جدتي، ذات صباح، جالسةً على عتبة دارها في القرية، تتطلع إلى الأفق البعيد، تُوجِّه كلماتٍ غير مفهومة إلى السماء، عيناها متسعتان تكسوهما دمعةٌ تروح وتجيء فيما يشبه الرجفة، أول مرة في حياتي أرى الرجفة في هاتَين العينَين الجسورتَين، لم يرفَّ لهما جفن وإن سقطت السماء على الأرض، وإن هددها العمدة بالحبس أو القتل، أو الملك فاروق أو إمبراطور الإنجليز، أو العفريت الأزرق ظهر لها في الليل. سألتها: بابا مات؟ تصورت أن الكارثة الوحيدة التي ترجفها هي موت أبي، ابنها الوحيد، روح قلبها ونور عينها وكبدها وطحالها، تدعو له بطول العمر، أن يأخذها الله قبل أن يأخذه.
أخيرًا اعترفَت لي بالسر الدفين: أنا قتلت جدك أبو أبوكِ يا بنت ابني، العمدة جاء يقبض عليَّ، اوعي تقولي لأبوك أو أمك.
قتلتيه؟ إزاي؟ ليه؟ إمتى؟ ده جدي مات قبل ما اتولد يا جدتي!
تحكي لي الحكاية وهي غائبة في شرودها نحن السماء: كان راجل ندل زي أبوه، يمشي مع النسوان ويكذب ويسرق وينافق ربنا ويصلي ويصوم، ويحج كل سنة وربنا يمسح ذنوبه، كرهته وقلت يا رب تاخده، لكن ربنا أخد أحسن الرجال، وجدك عايش زي الهم ع القلب، ما يقعد ع المتاود إلا شر البقر يا بنت ابني.
وبعدين يا جدتي؟ ولا بعدين فكرت أرمي نفسي في النيل وأستريح منه، لكن قلت لنفسي، تموتي ليه يا حمارة؟ هو اللي يستاهل الموت، مسكت الفاس وضربته ضربةً واحدة على راسه، راح فيها، بعدما دفنوه سخنتُ صفيحة مية وغسلتُ شعري ولبستُ جلابيتي الجديدة وزغرَدْت.
لم أنم ليلتها بجوار جدتي، خفتُ أن تضربني بالفأس على رأسي. من شدة الخوف حكيتُ لأمي وأبي، ضحكت أمي وقالت إن جدتي صاحبة خيالٍ واسع، وإنها رغم جسارتها وقوتها فهي إنسانةٌ شديدة الرقة ولا تقتل بعوضة. أبي أكد ما قالته أمي، وأضاف: أمي لو تعلَّمَت القراءة والكتابة لأصبحت كاتبةً مبدعة مثل مي زيادة وفرجينيا وولف، هي عاقلةٌ جدًّا ومجنونة جدًّا مثل كل المبدعين والمبدعات.
أصبحتُ أتطلع إلى جدتي بعيونٍ جديدة، أريد أن أتأكد من عقلها أو جنونها، أستدرجها لتحكي لي عن زوجها أو جدي الذي مات قبل أن أُولد، سألتها هل أحبته؟ شوَّحَت بيدَيها الكبيرتَين السمراوَين وصاحت: حبه برص وعشرة خرس! ليه اتجوزتيه يا جدتي؟ جوزوني يا بنت ابني وعمري عشر سنين، جوازتي كانت جنازتي! كان لازم أقتله لأجل أعيش.
لم تكن جدتي نائمة تحلم، كانت صاحية واعية تمامًا، بل أخذَتْني معها إلى العمدة، تطلب منه القبض عليها، لكن الرجل صرفها برقة قائلًا: ده هو اللي قتلك يا حاجة مبروكة؟ صاحت فيه جدتي: ده كان يخاف من خياله ما يقتل نملة.
لم أفهم جدتي إلا بعد تعمُّقي في دراسة الطب النفسي، ومعاشرة النساء القاتلات في سجن السادات. تقتضي القدرة على القتل القدرة على الحنان والرقة في أحيانٍ كثيرة. أحسستُ من قوة شخصية جدتي ورقة قلبها أنها يمكن أن تقتل، امرأة جسورة لا تهاب الموت، تقود أهل القرية ضد العمدة والملك والإنجليز، ربطَت بطنها بالحزام لتُوفِّر لابنها مصاريف التعليم العالي.
لم تكُن جدَّتي تستسلم للقدر، إن كرهَت زوجَها وأرادته ميتًا فلن تنتظر القدر ليُخلِّصها منه. سوف تقتلُه بيدها. هكذا قال أبي، لكن جدَّتك كانت تُحِب جدَّكِ وتخاف عليه من الهوا الطاير، وقالت أمي إن جدتي ضرَبَت شيخ الخفر بالعصا الخيرزان حين شتم جدِّي، وصرفَت على جدي من عَرَق جبينها حين رقد مريضًا، أرهقَه المرض ومات موتة ربنا وهي في عز شبابها، جاءها رجالٌ كثيرون يطلبون الزواج منها، رفضتهم كلهم وأقسمَت ألا تتزوج بعد جدي. قالت أمي: لم تشأ أن يلمسها رجل بعد جدِّكِ من شدة حبها له، تمتمَت جدتي بصوت لم يسمعه سواي: من شدة كُرهي له كرهتُ كل الرجال.
أصبحَت الحقيقة مراوغةً شديدة الغموض، مثل روايةٍ أدبية جميلة تستولي علينا فلا ننام الليل. اسأل نفسي: هل صحيحٌ قتلَت جدَّتي زوجها أم إنه مات من المرض؟ لكنه مات شابًّا وكان قوي الجسم كما سمِعْتُ، لا بد أنها قتلَتْه، لكن كيف قتلَتْه؟ خيالي يَسبَح في السموات السبع، هل لجدتي شخصيتان يعني مزدوجة الشخصية؟ أصبحتُ معلَّقة في الفراغ لا أعرف الحقيقة من الخيال، هل تمنَّت جدتي موت زوجها حتى تخيلَت أنها قتلَته؟ حتى أصبحَت تحلم كل ليلة أنها قتلَتْه، وتحوَّل الخيال إلى حقيقة في عقلها الباطن؟
كنتُ أقرأ فرجينيا وولف، الكاتبة البريطانية، وأشعر أنها كَرِهَت زوجها وأرادت أن تقتله، لكنها لم تملِك الشجاعة فقتلَت نفسها، هل الانتحار أو قتل الذات لا يقتضي شجاعة قتل الآخر؟ هل كانت جدتي أشجع من فرجينيا وولف، فأقدَمَت على قتْل زوجها وليس قتْل نفسها؟
هل جدَّتي قتلَت زوجها في الحقيقة أم في الخيال؟
سؤالٌ لم أعرف الإجابة عليه حتى ماتت جدتي ومعها السر، لم تعترف لأحدٍ غيري، أو هي لم تعترف بالمعنى الصحيح للاعتراف، بل كانت تتذكر الحادث، تُكِّرره وهي تتطلَّع إلى الأفق. تُكلِّم نفسها ولا تُكلِّمني، تندم على جريمتها، تطلب من الله أن يغفر لها. تذهب إلى العمدة وتطلب العقاب، لكن العمدة كان مثل أبي وأمي يُؤكِّد أن جدتي تمزح، أو تخلط الواقع بالخيال نتيجة الشيخوخة، أو أنها أَحبَّت زوجها إلى حد الموت. كانت تموت فيه وهو يموت فيها. هناك علاقة في أذهان الناس بين الحب والموت أو القتل.
أو ربما كانت جدَّتي روائيةً مبدعة، تعيش الخيال كالحقيقة، تستعذب لذة المغامرة، تغلبها رغبة الفضول والاستطلاع، تُحقِّق لها قصة قتل زوجها متعةً كبيرة في الخيال كأنما الحقيقة، تنفصل عن ذاتها القاتلة المتنمرة على القضاء والقدر، إلى ذاتها الأخرى الهادئة المستسلمة للقدَر وإرادة الله. كانت جدَّتي تؤمن بالله وعذاب الآخرة بعقلها الوادع المستكين، وتتمرد عليهما بعقلها الآخر المبدع.
هناك علاقة بين الإبداع والتمرد، بين الإبداع والجنون، لكنه جنون العقل حين يتحوَّل اللاوعي إلى وعي، أو ما يُسمَّى الوعي الأعلى، حين يلتحم العقل الواعي بالعقل الباطن، والحقيقة بالخيال والجسد بالروح بالنفس بالعقل، ويصبح الإنسان كائنًا كليًّا مجنونًا وعاقلًا في آنٍ واحد.
في طفولتي حين كان أبي أو أمي يرفضان خروجي للعب مع أولاد الجيران كنت أحلم بموتهما. وأحيانًا، من شدة الكُره والحب، أخنقهما في النوم بحبل الغسيل، أما حبي الوحيد، الرجل الذي لم أتزوَّجْه، فكان، مثل جدي، يتعرض للقتل كل ليلة وأنا نائمة.