الدكتوراه الفخريَّة والتعدُّديَّة والنسبيَّة
سافرتُ لاستلام درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة المكسيك يوم ٢٣ سبتمبر ٢٠١٠م، تسلَّمتُ خلال السنوات الماضية عددًا من هذه الدكتوراهات الفخرية من جامعاتٍ مختلفة، منها جامعة ألينوي بأمريكا، وجامعة ترومسو في النرويج، وجامعة يورك في إنجلترا، وجامعة بلجيكا (الفرنسية)، وجامعة بلجيكا (الهولندية)، وجامعة سانت أندروس في اسكتلندا وغيرها. لم تنشر صحيفةٌ مصرية خبرًا واحدًا عن هذه الدكتوراهات الفخرية، رغم أن الخبر نُشر في صحفٍ عربية وأجنبية.
منذ نصف قرن وأكثر، لم تنشر صحيفةٌ حكومية في مصر خبرًا عن أعمالي الأدبية أو الفكرية، فما بالُ الجوائز الأدبية أو الدكتوراهات الفخرية التي أحظى بها من الجامعات في العالم؟ هذا يحدث لكلِّ مَن يعتبر حرية الرأي أهمَّ من السلطات الحاكمة وثرواتها وجوائزها. في طريقي من القاهرة إلى باريس ثم مدينة المكسيك أكثر من ست عشرة ساعة في الجو. في الطائرة قرأتُ الصحف المصرية والعربية والأجنبية، تستولي أخبار فوز السيدة زوجة رئيس الدولة بالدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة على الصحف المصرية جميعًا، والمقالات الطويلة عن إنجازات السيدة الأولى المتعددة في كافةِ الميادين المرموقة. يتبارى الكُتَّاب والكاتبات في ترديد مآثرها وأفضالها على الشعب المصري، خاصة الفقراء من النساء والأطفال والمحتاجين. إحدى الكاتبات البارزات في الصحافة المصرية، تتأرجح بين المعارضة والحكومة، بين اليسار واليمين والوسط، كتبت تقول إنها ابتهجت كثيرًا بهذه الدكتوراه الفخرية للسيدة الأولى، ليس رياءً لها، لا، حاشا لله كما قالت، بل لأن السيدة الأُولى امرأة، ونادرًا ما تُكرَّم النساء في بلادنا، وهي (السيدة الأُولى) تستحق هذا التقدير عن جدارة لأعمالها العظيمة. وتفاخرت الكاتبة بشجاعتها وباعتبار نفسها معارضةً صادقة لا تنافق السلطة؛ لأن النفاق ليس من طبعها. اتصلت بي هذه الكاتبة (قبل سفري إلى المكسيك بأيامٍ قليلة) لتخبرني أن أحد الشيوخ المتاجرين بالدين في الفضائيات قد أغرقَني بالشتائم، وأنَّها استاءت منه جدًّا لأنه أنكر كفاحي الطويل لتحرير النساء في بلادنا، وأنها هي شخصيًّا قد أخذَت من أفكاري في كتاباتها، وعرفَت حقوق المرأة لأول مرة في حياتها من كتبي المنشورة. قالت عني رائدة الرائدات، ليس في مصر بل في العالم العربي كله، قالت لي: تحرَّرَت على يدك أربعة أجيال على الأقل من النساء والرجال. ثم أضافت بحماسٍ شديد: اسمعي يا نوال، هذا الرجل المُعمَّم يُشوِّه صورتك بطريقةٍ بشعة، يجب أن تردِّي عليه، وترفعي عليه قضية سبٍّ وقذف في المحكمة.
قلتُ لها: بدلًا من أن تمدحيني سرًّا، من خلال أسلاك التلفون، لماذا لا ترُدِّين عليه علنًا في الإعلام، ولكِ مساحاتٌ في الصحف والفضائيات؟ أليس الواجب عليك وعلى جمعيتك النسائية أن تُدافعن عن حقوقي المهدورة كما دافعتُ عن حقوقكن المهدورة كما ذكرتِ يا سيدتي؟
سَكتَت طويلًا ثم قالت: صحيح يا نوال، أنا مقصِّرة، والحركة النسائية المصرية كلها مقصِّرة في حقك، وسوف أنشر خبر حصولك على الدكتوراه الفخرية من جامعة المكسيك، كما سوف أكتب مقالًا عن روايتك الأخيرة «زينة»، لقد قرأتُها وأعجبتني جدًّا، هذه الرواية لم يكتب عنها أحد من النقَّاد، كلهم مُوظَّفون في الحكومة كما تعرفين.
بالطبع لم تنشر شيئًا، لا الخبر ولا المقال، بل قرأتُ مقالها (وأنا بالطائرة) تكيل المدح لجامعة القاهرة؛ لأنها مَنحَت الدكتوراه الفخرية للسيدة الأولى، كما عبَّرَت عن استيائها من تلك القلة المنحرفة (بلغة السادات) التي اعترضَت على هذا التقدير الذي يذهب لمن تستحقه.
لم أندهش لسلوك هذه الكاتبة الصحفية المرموقة (فهي تمثل أغلبية الكاتبات والكُتَّاب في الإعلام والثقافة والأدب) تحظى بلقب «الكاتبة الكبيرة» وتذهب إلى جميع المؤتمرات النسائية والثقافية، داخل مصر وخارجها. يعتبرونها من صاحبات الرأي، ينشرون رأيها في كل المناسبات العظيمة، وسوف تحظى قريبًا بجائزة مبارك، أو جائزة الدولة في الأدب أو الإعلام أو الثقافة أو غيرها.
هي من جيلٍ أصغر مني، تربَّت في ظل الانفتاح ودولة رجال ونساء الأعمال. لا ألومها ولا غيرها من النساء أو الرجال. نعيش عصرًا انقَلبَت فيه القيم، المال والربح والمصالح فوق الصدق والأمانة والوفاء بالوعد. النفاق أصبحَ حصافةً وذكاءً اجتماعيًّا. الخيانة الزوجية أصبحت وجهة نظر أو حريةً شخصية مثل النقاب والعباءة. الصدق أصبح تهورًا وقلة حكمة. التعبير عن الرأي أصبح كفرًا بالله والوطن والرئيس. التمسك بالعدل والمساواة أصبح نوعًا من الجهل وتبسيط الأمور المعقدة العميقة. أصبحَت الفهلوة فوق الموهبة، وامتلأت الساحة الثقافية والأدبية والفنية بالمهرجين والمهللين لمن يملك السلطة أو الثروة.
استعرضتُ التعليقات عن مقالي السابق في «المصري اليوم» بعنوان «فبركة الصورة لإخفاء الحقيقة المؤلمة». نقدتُ في مقالي النفاق والكذب والتغطية على الحقيقة، اتهمني أحد المتشنِّجين دينيًّا بالكفر وعدم احترام أوامر الله؛ لأن الله أمر بالستر، يعني إخفاء الحقيقة المؤلمة، فلماذا أعارض أمر الله؟ اتهمَتْني امرأة بأنني أدعو إلى السفور وكشف المستور، وهذا ضد الإسلام. قالت إن الله أمرنا بأن نظهر محاسننا، أظهروا أحسن أعمالكم والله أدرى بالسرائر.
بالطبع جاء عددٌ غير قليل من التعليقات لرجال ونساء يفضلون الصدق والصراحة والمكاشفة على الكذب والنفاق والتغطية على الحقيقة. لكني دُهشت لهذا المنطق المغلوط السائد في بلادنا لمعنى الأخلاق؛ لم تعد القيم الإنسانية العليا، مثل الصدق والعدل والحرية والوفاء بالعهد، تندرج تحت بند الأخلاق، بل أصبح كل شيء نسبيًّا، حسب نظرية أينشتاين أو تعليمات الماركسية. يمكنك أن تقول نصف الحقيقة أو الربع أو السدس، حسب اللحظة التي تمر بها. يمكنك أن تنافق رئيسك لتحافظ على موقعك وراتبك الشهري. يمكنك أن تتملَّق الحاكم حتى تأمن السجن أو النفي. يمكنك أن تخون زوجتك سرًّا حتى تستغل مواهب الاثنتَين، الزوجة والعشيقة. يمكنك أن تعقد صفقة تكسب فيها الملايين من وراء الستار. هذه كلها أمورٌ نسبية ووجهاتُ نظرٍ مختلفة ومتعددة في عالمٍ متعدِّد تسوده شركات رأسمالية، تسرق حسب قانون السوق، القانون الطبقي الأبوي الاستعماري، التعددية وحرية السوق وحرية البطش بالأضعف، الاحتلال العسكري للدولة الأصغر، التي لا جيش لها، نوويًّا أو غير نووي (مثل السلطة الفلسطينية، سلطة بلا قوة، بلا جيش، أمام قوةٍ عسكرية نووية في إسرائيل وأمريكا).
تابعتُ من المكسيك أخبار المفاوضات الهزلية بين ممثل السلطة الفلسطينية (محمود عباس) المطأطئ البطيء الخطوة، وممثل إسرائيل وأمريكا، الثنائي نتانياهو وأوباما. يسيران بخطوةٍ سريعة رشيقة، يقفزان مثل فهدَين، من ورائهما جيوشٌ نووية وأسودٌ ذرية، وأممٌ متحدة متخفية، ومحكمةُ عدلٍ دوليةٌ منقبة، وحكوماتٌ عربية متعاونة سرًّا أو علنًا. والفاتيكان والأزهر والأرض والسماء تشهد في صمت. من يَقدِر على تحدِّي القوى النووية، والبلايين من الدولارات الأمريكية؟ وكل شيء حسب الواقعية والأخلاق النسبية وارد ومباح في ظل القانون والشرع، فهل نلوم كاتبةً مصرية لا تملك أَمرَها، وحياتُها وخُبزُها في يد زوجها أو الدولة؟