دروس في التاريخ
صحوتُ من النوم على صوت هتافٍ يأتي من بعيد، من الناحية الأخرى من مدينة أطلانطا، قُرب الساحل الشرقي للمحيط الأطلنطي جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تكون العشوائيات من ذوي البشرة السوداء، والبعض من ذوي البشرة البيضاء الفقراء، من المهاجرين ومن غير المهاجرين الذين يحملون الجنسية الأمريكية.
الحقيقة التاريخية أن جميع سكان أمريكا، شمالًا وجنوبًا، هم من المهاجرين الذين استوطنوها بعد إبادة السكان الأصليين الذين حملوا اسم الهنود الحمر، رغم أنهم لم يكونوا هنودًا ولم يكونوا حمرًا. جاء المستعمرون البيض من أوروبا إلى القارة الأمريكية الجديدة بسلاحهم ولغتهم وكنيستهم التي تؤمن أن النظام العبودي أو الطبقي الأبوي هو قانون السماء. جاءوا باسم الرب الأعلى وقتلوا الشعب الآمن المستقر، واستولَوا على الأراضي وعلى الأنهار والبحار والأشجار والمزارع والبيوت والفنون والاقتصاد والثقافة والإعلام والسلاح وكل شيء، بالضبط كما يفعل المستعمرون في كل مكان وزمان، بالضبط كما فعل الإسرائيليون بالتعاون مع الاستعمار الأوروبي الأمريكي منذ منتصف القرن العشرين، وأبادوا الشعب الفلسطيني واستولَوا على أرضه وأنهاره وثقافته واقتصاده، تحت اسمِ آيةٍ في الكتاب المقدس. فوق الجدار في غرفة نومي صورة لبعض الطالبات والطلاب في الجامعة من ذوي البشرة السمراء تكاد تشبه بشرتي، يُلوِّحون بقبضة أياديهم في غضب، أفواههم مفتوحة في هتافٍ لم أسمعه في الصورة، وإن سمعتُه منذ أكثر من أربعين عامًا في أول رحلة لي لأمريكا، كانوا يهتفون ضد جونسون (رئيس أمريكا حينئذٍ) وضد الحرب في فيتنام، مشيتُ معهم في المظاهرات في شوارع نيويورك وواشنطن، أقول معهم: يسقط جونسون ويحيا الشعب الفيتنامي.
خرجَت أمريكا من فيتنام منهزمة عسكريًّا وأخلاقيًّا، كما يحدث لها اليوم في حرب العراق. مات جونسون منذ سنين وعاش الشعب في فيتنام، وسوف يموت جورج بوش ويحيا الشعب العراقي، هذا الدرس في التاريخ لا يحفظه الحكام والملوك والأباطرة في كل زمان ومكان.
أتأمل الوجوه في الصورة، يشبهون زملائي وزميلاتي في جامعة كولومبيا في نيويورك عام ١٩٦٥م، عايشوا خلال الستينيات من القرن الماضي زعيمهم الأسود مارتن لوثر كينج، الذي وُلد هنا في مدينة أطلانطا (يسمونها المدينة السوداء) وتعلَّم في جامعتها الصغيرة وقاد حركته الكبيرة لتحرير الزنوج من الجنوب إلى الشمال، حتى تم اغتياله غدرًا وهو واقف على المنصة يخطب في الجماهير خطبته الشهيرة التي بدأها قائلًا: عندي حُلم. أصبح يوم ميلاد مارتن لوثر كينج عيدًا قوميًّا يحتفل به الشعب كله والحكومة الأمريكية، تتعطل المدارس والجامعات والأعمال والشركات والمكاتب، يكاد يشبه الاحتفال بميلاد المسيح؛ الكريسماس.
وهذا أيضًا درسٌ من التاريخ يؤكد أن من يناضل من أجل العدل والحق يبقى خالدًا وإن مات، وأن الذي يقترف الظلم والكذب يموت وإن عاش.
إن الشجاع الصادق لا يموت إلا مرةً واحدة، والكاذب المنافق الجبان يموت في اليوم الواحد آلاف المرات.
هذه هي كلمات أبي وأمي وجدَّتي الفلاحة، انحفَرَت في خلايا الأذن والعقل الظاهر والباطن منذ كنتُ في الخامسة من العمر. كلمات جلبت لي المتاعب والمشاق في حياتي كلها من الطفولة حتى تجاوزتُ السبعين من العمر، كلمات أصبحت جزءًا من جسمي، لا تفارقني وإن أشرفتُ على الهلاك أو الموت.
بين اليقظة والنوم لم أعرف من أين يأتي الهتاف، يذكِّرني بالمظاهرات الطلابية وأنا تلميذة بجامعة القاهرة خريف ١٩٥١م وشتاء ١٩٥٢م قبل قيام حركة الجيش في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م وسقوط النظام الملكي، الذي بدا لي نظامًا من عند الله لا يسقط أبدًا. أذكر أنني وجدتُ نفسي أمشي في الشارع وسط الآلاف الذين نزلوا إلى الشوارع يهتفون: تحيا الثورة، تحيا مصر حرة.
غمرني وأنا في سريري إحساسٌ بالدفء، كأنما أعود شابة في العشرين من عمري في بيتي في مدينتي القاهرة، لم أعُد كهلةً تعيش المنفى في مدينة أطلانطا، عاد إليَّ الإحساس بالشباب والحماس، حتى فتَحتُ عيني ورأيتُ التاريخ ٤ أكتوبر ٢٠٠٨؟
هل انقضى ستة وخمسون عامًا في نصف دقيقة ما بين النوم واليقظة؟ أيلعب الزمن لعبته المراوغة معي منذ الولادة حتى نهاية العمر؟ يرتدي الزمن قناعًا خادعًا مثل الزوجَين في شهر العسل، حتى مرحلة النضوج الأخيرة، يسقط فيها القناع عن الزمان والمكان والوجوه.
فتحتُ النافذة المطلة على الأشجار الداكنة الخضرة المبللة بمطر الهوريكين، تحمل الهوريكين اسم امرأة دائمًا من كاترينا إلى كارولينا إلى إيكا، مثلما تحمل المراحيض أسماء أمل وهدى ونهاد فوق أحواضها الناعمة من السيراميك الصيني أو الإيطالي أو الفرنسي أو الإنجليزي أو الأمريكي، قد تختلف البلاد في الثقافات أو الحضارات أو الأديان أو العلوم أو الفنون، إلا أن نظرتها للنساء تكاد تكون واحدة. قد تصعد المرأة إلى المنصب رئيسة دولة أو رئيسة حكومة أو برلمان أو وزيرة خارجية أو وزيرة حربية إلا أن أغلب النساء في بلادهن لا يحظين أبدًا بالحقوق الإنسانية المتساوية مع حقوق الرجال. لا تزال المرأة الأمريكية تناضل لتحصل على الأجر المتساوي مع الرجل عن العمل المتساوي. أما الحرية الجنسية السائدة دون الحريات الأخرى الاقتصادية والأخلاقية فهي تؤدي إلى تعاسة النساء الأمريكيات في الحب والزواج والعمل وفي كل شيء.
كان الهتاف يأتي من بعيد من ناحية الجنوب، لم ألتقط الكلمات أو اللغة، فارتديتُ ملابسي وخرجتُ إلى الشارع، يجذبني الهتاف الجماعي منذ طفولتي إلى الخروج إلى الشارع، إلى السير بين الآلاف المؤلفة، إلى كسر القيود والانطلاق إلى الأفق المفتوح إلى ما لا نهاية، كانت شمس الصباح دافئة في شهر أكتوبر، الخريف أجمل الفصول، راح حر الصيف ولم يأتِ بعدُ برد الشتاء. أشعة الشمس تلامس وجهي كأنامل أمي، أشم رائحتها في نسمة الخريف الحنون، أعود إلى الوطن دون مشقة السفر؛ لأن أمي هي الوطن في حياتها وموتها، في حضورها وغيابها.
سِرتُ في الشارع مارتن لوثر كينج حتى تقاطعه مع شارع الجامعة، رأيتُ المظاهرة وهي تسير مع دقات الطبول والموسيقى واللافتات المرفوعة، أكثرها ارتفاعًا تقول: يسقط جورج بوش وجون ماكين وسارة بالين.
حشد من الشباب من جميع الأشكال والألوان، سود وبيض وصفر وسمر وخضر وزرق، من الجنسين، الذكور والإناث، ومن الجنس الثالث. تذوب الأنوثة في الذكورة، والجنس الرابع لا يذوب في أي جنس أو جنسية أو هوية، والجنس الخامس يتعرى إلا ما يستر العورة، والجنس السادس يعتبر كل ما فيه عورة حتى الوجه والكفان.
نعم، رأيتُ بعض الشابات يرتدين النقاب الأسود الكامل وبعضهن بالحجاب أو الإيشارب الذي يغطي شعر الرأس فقط، لا يتدخل أحد هنا فيما لا يعنيه، وإن تعرَّت فتاة أو تغطت فلا أحد ينتبه للعُري أو التغطية، وإن غاب اثنان منهما في قبلةٍ شهوانية طويلة أو ما هو أكثر من القبلة، اثنان وليس فتاة وفتى؛ إذ قد يكون الاثنان من جنسٍ واحد أو جنسٍ مختلف، لا أحد يتدخل.
هذه هي الحرية الوحيدة هنا تقريبًا، وهي تحدث تحت اسم حرية الاختيار، حرية اختبار ملابسي ورفيقي أو رفيقتي في السرير، حرية اختيار لون الروج الذي ألون به شفتي، أحمر أو أزرق أو بنفسجي، حرية اختيار العملية الجراحية التي أُخفي بها تجاعيد وجهي لأجعل أنفي أصغر أو ثديي أكبر أو جفني أوسع. وماذا عن حرية الحصول على عمل؟ وماذا عن حرية البقاء في عملي وعدم التعرض للطرد في أي وقت؟ في شهر سبتمبر الماضي ٢٠٠٨م طرد من وظائفهم مائة وثمانون ألفًا من النساء والرجال دون خطأ فعلوه.
خرجَت المظاهرة من شارع مارتن لوثر كينج ثم دخلَت إلى شوارعَ صغيرة، حيث يتكدس الفقراء في عشوائياتٍ أشبه بعشوائيات الوطن، لم أشعر بالغربة وأنا أمشي داخل هذه الأزقَّة، تشبه الحواري بجوار بيتي في شبرا. تتعثر قدماي في أكياس القمامة وبراز الكلاب؛ فالفقراء هنا يتشبهون بالأغنياء في اقتناء الكلاب، لكنها كلابٌ هزيلة جرباء تعني نقصان الغذاء، تشبه أطفالهم وعجائزهم، كيف يصبح وجه الكلب شبيهًا بوجه صاحبه؟ مثل وجه الزوجة أو الزوج يصبح كلٌّ منهما شبيهًا بالآخر من طول الزمن معًا تحت سقفٍ واحد.
بالأمسِ رأيتُ كابوسًا في النوم بعد أن قرأت عن الحرائق في الوطن، كأنما حريق شب في بيتي، أو هوريكين متوحشة خطيرة جاءت من المحيط واخترقت السقف، الليلة السابقة قبل الأمس انتفضتُ من نومي واقفة فوق القدمَين الاثنتَين. كنتُ أمشي على قدمٍ واحدة طوال الأسبوع الماضي، بعد أن رأيتُ إعلانًا في التلفزيون عن نوع من أمراض العظام الخبيثة، انقضَّ السرطان على قدمي اليمنى أثناء نومي، وأصبحتُ أعرج في مشيتي حتى رأيتُ الحريق في المسرح القومي فانتفضتُ واقفةً فوق القدمَين، شُفيتُ من سرطان العظام، فالسمُّ لا يعالج إلا بسمٍّ أشد.
أصبحَت المظاهرة في حديقةٍ كبيرة خضراء تُشبه هايد بارك في لندن، وقام أحد الشباب واقفًا فوق صندوقٍ خشبيٍّ كبير يخطب في الحشد المتجمع، شعره أسودُ أكرت، بشرتُه سمراء ليست سوداءَ تمامًا، يرتدي قميصًا أسود عليه صورة باراك أوباما بألوان زاهية.
أقول لكم يا زملائي وزميلاتي إن الكارثة التي جلبَتْها لنا إدارة جورج بوش وحزبه الجمهوري ليست اقتصاديةً فقط، ليست فقط انهيار سوق العقارات وسوق الأموال والبورصة والبنوك والشركات الكبرى، بل هي أيضًا كارثةٌ سياسة واجتماعية وأخلاقية. إننا نشهد مرحلةً تاريخية هامة يتغير فيها النظام العالمي تغيُّرًا جذريًّا. إن القوة العظمى الأمريكية تتهاوى، هذه القوة التي تصاعدَت بعد الحرب العالمية الثانية. نحن نشهد اليوم تساقُط الإمبراطورية الأمريكية، هزيمتها الكبرى العسكرية في العراق وأفغانستان، وهزيمتها الاقتصادية، سقوط نظامها الرأسمالي وسوقها الحرة. ما نشهدُه اليوم هو أخطر من ضربة ١١ سبتمبر ٢٠٠١م التي أسقطَت بُرجَي التجارة العالمية في نيويورك. يقولون لنا إن جشع وول ستريت هو سبب الكارثة، لا، لا، ليس الجشع بل النظام الذي يمنع السيطرة على الجشع، التسيُّب والفساد وإطلاق العنان للربح دون حدود، دون قوانينَ تسري على الجميع، الكبار والصغار بالتساوي. لقد بطش الكبار وأصحاب الأموال بنا، سمحَت لهم الحكومة بذلك من خلال قوانينَ مزدوجة، تُفرِّق بين الأثرياء والفقراء، تحمي الأثرياء وتجعلهم يضاعفون أرباحهم على حساب مصالح الملايين. جميع الإمبراطوريات في التاريخ صعدَت إلى القمة، ثم هوت واندثَرت بسبب الطموح العسكري المريض والديون الخارجية؛ هذا بالضبط ما حدث للإمبراطوريات البريطانية والعثمانية والرومانية، وهذا ما يحدث لنا اليوم. إنها أكبر أزمةٍ اقتصادية نمرُّ بها بعد الأزمة الكبرى في الثلاثينيات من القرن الماضي. خسِرَت بلادنا في هذه الأزمة أكثر من تريليون دولار، الديون الخارجية بلغت عشرة تريليون دولار، العجز في الميزانية الفيدرالية تضاعف إلى نصف تريليون دولار، خمسة ملايين شخص أصبحوا تحت خط الفقر، مائة وثمانون ألف شخص فقدوا وظائفهم خلال الشهر الماضي سبتمبر، سبعة ملايين شخص بدون تأمين صحي، وها هو بوش وماكين وحزبهما الجمهوري يُحوِّلون عبء الضرائب وعبء الأزمة من فوق كاهل الأثرياء إلى فوق كاهلنا نحن الفقراء الكادحين. إنهم يحاولون إنقاذ أصحاب الأموال والسوق والبنوك والشركات الخاسرة على حسابنا نحن، على حساب حياتنا وصحتنا، وعلى حساب حماية البيئة وتطوير التعليم وتدعيم البناء التحتي الأساسي للمجتمع الأمريكي. لقد أنفقنا في حرب العراق وأفغانستان ٧٠٠ بليون دولار، وقُتل من جنودنا أربعة آلاف شاب، وجُرح ثلاثون ألفًا، غير الملايين من أرواح الشعبَين العراقي والأفغاني، فكيف نستمر في حربٍ خاسرة؟ كيف نضاعف ميزانية الحرب ونحن نعاني أكبر كارثةٍ اقتصادية؟ كيف نستمر في إنفاق عشرة بلايين دولار كل شهر في حرب العراق؟ أليس ذلك هو جنون الأباطرة ورعبهم قبل السقوط؟ أثناء حرب فيتنام لم تتدهور صورة أمريكا في نظر العالم كما هي تتدهور اليوم. الأمل الوحيد أمامنا هو أن ننتخب باراك أوباما في نوفمبر، رغم تنازلاته الأخيرة، رغم أخطاء حزبه الديمقراطي المتكررة، رغم أنه جزء من النظام السائد إلا أن كل شيء نسبي، وهو أفضل بكثير من جون ماكين، الذي هو امتداد لسياسة جورج بوش، وحزبهما الجمهوري الذي سلبنا الأمان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. هذه الحكومة الإرهابية التي ترهبنا تحت اسم الحرب ضد الإرهاب، حكومة تستمد قُوتها من العنف والتجسُّس والتعذيب، إنها وصمة في جبيننا أن يتم القبض على الأبرياء لمجرد الشبه وتعذيبهم في السجون، في غوانتنامو أو في سجون العراق أو هنا داخل أمريكا؛ هذا السقوط الأخلاقي أضاع كرامتنا في العالم، أصبحَت صورتنا مثل الوحوش في الغابة.
تتابعَت الكلمات والخُطب من الشابات والشباب، بعضهم يؤيد ما قِيل والبعض يعارض، أغلبهم ضد حرب العراق لكنهم ليسوا ضد الحرب في أفغانستان أو باكستان أو أي بلدٍ آخر للحفاظ على مصالح أمريكا، أو للقبض على الإرهابيين، على رأسهم أسامة بن لادن، بعضهم من التيارات الاشتراكية اليسارية الذين يعارضون التسليح النووي المتصاعد في العالم بسبب التسلُّح الأمريكي النووي وغير النووي، ميزانية الحرب في أمريكا وحدها تبلغ ٧٠٠ بليون دولار، ما يساوى ميزانيات الحرب في جميع بلاد العالم. أما الأسلحة النووية الأمريكية فهي تمثل ٩٥٪ من الأسلحة النووية في العالم مع أسلحة روسيا النووية. أما إسرائيل فهي الدولة الوحيدة المسلحة نوويًّا في الشرق الأوسط. يعارض الجناح الاشتراكي داخل الحزب الديمقراطي مرشَّحه للرئاسة باراك أوباما، الذي يؤيد إسرائيل على طول الخط، ويؤيد النظام الرأسمالي الطبقي الأبوي.
بعض الشابات الاشتراكيات دافعن عن أوباما وقالت فتاةٌ متحمسة ترتدي بلوزةً شفافة تكشف عن نهدَيها، بصورة أوباما متربعة على النهد الأيسر فوق القلب مباشرة، هتفَت الفتاة قائلة: أوباما اشتراكي ماركسي أيها الزملاء والزميلات لكنه يستخدم التكتيك في الانتخابات حتى يصل إلى الحكم فيستطيع الوفاء بوعوده الاستراتيجية في التغيير الكامل. انبرت لها فتاةٌ أخرى من الكتلة المسيحية الأصولية تغطي رأسها بإيشاربٍ خفيف جدًا يُطيِّره الهواء، وهتفَت قائلة: لا نريد ماركسيين ملحدين أيها الزميلات والزملاء، نريد جون ماكين المؤمن بالمسيح وبنظريَّة الخلق الواردة في كتاب الله.
وهنا اختلطَت الصيحات، بعضها يؤيد وبعضها يعارض. صعد أخيرًا فوق الصندوق شابٌّ طويل نحيف فوق خده الأيسر حسنةٌ سوداء بحجم حبة زيتون أسود، وألقى كلمة عن خطأ نظرية الخلق الواردة في الكتاب المقدس، التي تقول إن الكون خُلق في ستة أيام، مع أن علم الكون الجديد أثبت أن الكون بدأ منذ خمسة عشر بليون عام نتيجة تصادُم جزيئاتٍ ذرية لا متناهية الصغر لا متناهية السرعة، أضعاف سرعة الضوء. وقد أدَّى هذا التصادُم إلى البيج بانج؛ أي الانفجار الكبير، الذي نتجت عنه سخونةٌ شديدة أضعاف سخونة الشمس ثم حدث التبريد الشديد مئات الدرجات تحت الصفر، وهكذا تكونت المادة الأولى لهذا الكون الذي نعيش فيه. دب الصمت طويلًا والعيون مُبحلِقة تحاول الفهم، ثم وقفَت فتاة ترتدي طرحةً سوداء حول رأسها وتكشف عن الجزء الأعلى من بطنها داخل الجينز الضيق وقرأَت بعض الآيات من الإنجيل والتوراة والقرآن وقالت إن جون ماكين رجلٌ مسيحي مؤمن ومع ذلك هو يرفض نظرية الخلق الدينية ويؤمن بنظرية دارون للتطور؛ فالعلم عنده لا يتعارض مع الإيمان.
بدأتُ أشعر بآلام المفاصل من طول الوقوف على القدمَين، تحت الشمس التي تحوَّلَت من حنان الأم إلى العنف والحرق، وتركتُ المظاهرة تتظاهر وتدخل في مناقشات لا نهائية، أدركتُ أن المظاهرات هي المظاهرات في كل مكان وزمان، قد تنتهي إلى لا شيء إن لم يصحبها عملٌ منظَّم دائم يشمل الأغلبية ويؤدي إلى نتائجَ فعلية تُغيِّر النظام. سِرتُ أمشي في الطرقات، عائدة إلى بيتي، رأيتُ الشوارع مسدودة بالسيارات الواقفة في طوابيرَ طويلةٍ أمام محطات البنزين، الرجال والنساء داخل السيارات المتوقفة ينفخون من الغيظ ويلعنون جورج بوش الذي جلب لهم هذه الكوارث المتلاحقة بما فيها أزمة البنزين. كم رأيتُ مثل هذا المشهد في الوطن، حين يتوقف المرور ساعة أو ساعتَين؛ لأن موكب الرئيس يمر، أو ضيفًا للرئيس أراد الفرجة على هرم خوفو وأبو الهول! ينفخ الناس من الغيظ داخل سياراتهم المتوقفة، تتصاعد أبخرة القيظ مع أبخرة الغيظ مع اللعنات فوق رءوس الرؤساء والملوك والأباطرة وضيوفهم وكل ما ينتمي إليهم بصلة.
تنفَّستُ الصعداء حين وصلتُ إلى بيتي وبدأتُ أتهيَّأ لكتابة الفصل الجديد في روايتي القادمة. أعود إلى نفسي الحقيقية حين أكتب الرواية، أعود إلى الحبِّ الوحيد في حياتي، حين أترك العنان لخيالي. الخيال هو أقصر الطرق إلى الحقيقة، لا يقول الصدق إلا الخيال.