في البرلمان الأوروبي في مدينة بروكسل
جئتُ من مصر، من أفريقيا، هناك من يُطلِق علينا اسم العالم الثالث، لكن نحن نعيش في عالمٍ واحد وليس ثلاثة عوالم، عالمٍ واحد رأسمالي طبقي أبوي، تحكمه القوَّة العسكرية والاقتصادية وليس العدل. العدل غائب عن عالمنا هذا، في الغرب والشرق، والشمال والجنوب، يكفي أن نشهد الدماء المُراقة من الشعب العراقي والفلسطيني، كيف يموت الآلاف والملايين بالحرب العسكرية والاقتصادية، من أجل تراكم الأموال والأرباح لتجار السلاح والشركات المتعددة الجنسيات، أرباح السوق الحرة، وهي حرية الأقوى للبطش بالآخر الأقل قوة.
في مصر خلال الشهر الماضي أصدر الأزهر قرارًا بتحويلي إلى المحاكمة أمام النائب العام في القاهرة، بتهمة ازدراء الأديان ونقد الذات الإلهية، لماذا؟ لأنني كتبت مسرحية باللغة العربية عنوانها: «الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة»، هذه المسرحية عملٌ إبداعي خيالي للمسرح، كتبتها عام ١٩٩٦م، ولم تُنشر إلا في يناير ٢٠٠٧م، نشرها ناشرٌ مصري بالقاهرة، تلقى أمرًا من الأمن العام بإعدامها، فأعدمها، وبالطبع تم منعُ تداوُل هذه المسرحية في معرض القاهرة الدولي للكتاب ٢٠٠٧م، مع أربعة كتبٍ أخرى لي، تمت مصادرتها.
لا شك أن تدخُّل الأزهر أو رجال الدين في الحكم على الأعمال الإبداعية وحرِّيَّة الفكر والتعبير، أمرٌ يتعارض مع الدستور المصري، الذي ينص على حرِّيَّة التعبير والفكر، كما أنه يتعارض مع المنطق.
إن الذي يحكم على أي كتابٍ أدبي هم القراء والقارئات، أو على الأقل الأُدباء والأديبات، ونُقَّاد المسرح والسينما والفن وليس رجال الدين أو الأزهر.
إن جميع الأعمال الإبداعية التي لعِبَت دورًا أساسيًّا في تقدُّم البشرية قد أُدينت بواسطة رجال الدين في جميع أنحاء العالم. لقد تقدمَت الإنسانية ضد إرادة رجال الدين من جميع المذاهب والعقائد، سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية أو غيرها.
أما تاريخ مؤسسة الأزهر فهو معروفٌ لدينا. وقد ساند الأزهر قوى الاستعمار الخارجي، والحكومات المصرية المتعاقبة، ضد مصالح الشعب المصري، نساءً ورجالًا. وفي بداية الخمسينيات من القرن الماضي حين كنا نتظاهر ونحن تلاميذ وتلميذات ضد الملك والاحتلال البريطاني كانت مؤسسة الأزهر تساندهما وتدعو للملك أن يحكم مصر إلى الأبد، بل أن يكون خليفةَ المسلمين.
هناك ردَّةٌ سياسة وفكرية خطيرة في العالم كله، وليس في مصر وحدها؛ هي حركةٌ سياسية رجعية تتخذ من الدين وسيلة للسيطرة على عقول النساء والرجال؛ هذه التيارات الدينية السياسية الرجعية قد تصاعدَت في جميع البلاد، وجميع الأديان، بتشجيع من الاستعمار الأمريكي الدولي، والحكومات المحلية التابعة لهذا الاستعمار؛ وذلك لضرب القوى التقدُّمية المستنيرة في العالم، التي تناضل ضد القهر الطبقي الرأسمالي الأبوي.
إنها ليست حركةً إسلامية فقط، كما يُصوِّرها البعض، بل هي تشمل الأديان جميعًا. يعتمد جورج بوش في قوته على التيارات المسيحية الأصولية المتخلِّفة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شجَّع والده «جورج بوش الكبير» التيارات الإسلامية، وبن لادن، وتنظيم القاعدة، لضرب الاتحاد السوفييتي خلال الثمانينيات من القرن الماضي.
في المسرحية التي كتبتُها أردتُ أن أكشف عن هذا الترابُط الوثيق بين القوى السياسة والقوى الدينية في عالمنا المعاصر، وكيف يُستخدَم الله لتبرير الحرب والظلم وقهر الفقراء والنساء.
منذ السادسة من عمري سمعتُ جدتي الفلاحة المصرية تقول «ربِّنا هو العدل عرفوه بالعقل.» وقال لي والدي الذي تخرج في الأزهر «الله هو العدل وليس كتابًا يخرج من المطبعة.»
ويدور الحوار في المسرحية حول الإله رمز العدل، والإله الآخر الذي يتمسك به رجال الدين، الإله «النص» المطبوع في كتاب، والذي يختلف في تفسيره رجال الدين، ويتقاتلون، بسبب اختلاف هذه التفسيرات. ينتصر في مسرحيتي إله جدتي، وهو الإله رمز العدل والحرية والمساواة والحب والسلام، أما الإله الآخر إله الحرب والظلم فإنه يقدم استقالته.
وأنا أشكركم لدعوتي اليوم للتحدُّث إليكم تحت قبة البرلمان الأوروبي، في مدينة بروكسل، وأشكر كل أصحاب وصاحبات الضمائر الذين تضامنوا معي في الحرب ضد الظلم، وضد التجارة بالأديان في حلبة السياسة والاقتصاد، وأنا لم أهرب من مصر خوفًا من المحاكمة، كما ردَّدَت بعض الصحف، وأنا مستعدة أن أُقدَّم للمحاكمة الفكرية والفلسفية، وليس للمحاكمة على أيدي رجالِ دينٍ متعصبين يحاولون تكفير أي شخص لا يُفكِّر مثلهم.
وهناك فكرةٌ يقترحها بعض الأدباء والأديبات هنا في بروكسل، وهي أن تُقام محكمةٌ دولية في بروكسل خلال مارس ٢٠٠٨م؛ أي بعد عامٍ واحد، للحكم الأدبي على مسرحية «الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة»، وأن يكون القضاة من أصحاب وصاحبات الفكر الإبداعي، والفلاسفة، ونُقَّاد الأدب والمسرح والسينما، والفنانين والفنانات.
إذا أُقيمت هذه المحكمة الدولية فإنني أقبل حكمها، ولكني لا أقبل حكم رجال الأديان من أي مذهب أو عقيدة، أو تحت سيطرة أيِّ حكومة في الشرق أو في الغرب.
نحن نعيش في مرحلةٍ خطيرة؛ إذ يُسفك دم المفكرين من ذوي الرأي الحر، ودم المفكرات وذوات الفكر الحر، واليوم هو يوم المرأة العالمي، وأنتهز هذه الفرصة لأقول إن حقوق النساء هي حقوق الإنسان؛ فالمرأة إنسانة كاملة العقل والجسد والروح. إن حقوق المرأة عالميةٌ إنسانية لا تخضع لما يُسمُّونه الخصوصيات الثقافية، أو الهوية الأصلية، أو النسبية الثقافية أو المذهب الديني أو العقيدة والإيمان.
حقوق المرأة هي حقوق الإنسان كاملة بصرف النظر عن الدين أو الهوية أو العِرق أو الطبقة أو الجنسية أو الجغرافيا أو التاريخ أو غيرها.
أصبحَت المرأة ممزقة بين التغطية تحت اسم الدين، أو التعرية تحت اسم السوق الحرة والاستهلاك، وقد رأيت في القاهرة وبروكسل شاباتٍ يغطين رءوسهن (تحت اسم الأسلمة) ويُعرِّين بطونهن في الجينز الأمريكي (تحت اسم الموضة)!
منذ ثلاثةِ أعوامٍ جئتُ إلى بروكسل لأشارك في المحاكمة الدولية لجرائم الحرب في العراق، وقد تمَّت إدانة جورج بوش في تلك المحكمة، إلا أن القرار ظل حبرًا على ورق، لماذا؟ لأن القوة هي التي تحكم وليس العدل. والسؤال الآن هو: كيف نُغيِّر العالم ليحكمه العدل وليس القوة؟
إن الأمل قوة، وعندي أمل أن تغيير العالم ممكن، بل ضروري، حتى نعيش في سلام وحرية وديمقراطية حقيقية. وقد بدأت شعوب العالم تتلاقى وتتحد معًا وتهتف معًا: عالمٌ آخر ممكن بل ضروري.
إن قوة الشعوب الواعية المنظَّمة المتحدة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا هي الأمل الوحيد في تغيير العالم وجعله أكثر إنسانية وعدلًا وحرية وسلامًا وحبًّا.