هل يمكنهم إجهاض الثورات الشعبيَّة؟
وجدتُني جالسة أمام الكاميرا في مدينة واشنطن، تحاورني مذيعة اسمها كريستيان أنانبور، امرأةٌ متوسطة العمر، سمراء، نحيفة، شعرها أسود، ملامحها إيرانية، لهجتها أمريكيةٌ متنمرة، يقولون عنها مشهورة جدًّا من خلال برنامجها التلفزيوني الأسبوعي في قناة «أ. ب. س.» قالوا حاورَت رؤساءَ دول منهم الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ورؤساءَ آخرين فيما يُسمُّونه الشرق الأوسط (أسألهم: الأوسط بين من ومن؟) لا يعرفون الجواب، قالوا إنها متخصصةٌ في شئون بلادنا (الشرق الأوسط)، وإنها أشهر وأهم في نظر الأمريكيين من أي رئيس دولة فيما يُسمُّونه العالم الثالث. ينتفض في رأسي عصبٌ من أعصاب الغضب حين أسمعُهم يقولون عنا العالم الثالث، أسألهم: ومن هم العالم الأول؟ لا يعرفون الجواب، يخجلون من القول: أمريكا؟ يعرفون أنها تقتل الشعوب لتنهب مواردها وبترولها تحت اسم الديمقراطية أو التنمية، وتُسلِّح إسرائيل وتساندها مائةً في المائة ضد إرادة العالم تحت اسم السلام. وتحت اسم الشراكة والتعاون تُسانِد الدكتاتوريات القامعة والحكومات الفاسدة والتيارات الدينية المتطرفة، مسيحية أو يهودية أو إسلامية أو غيرها، ما دامت تخدم مصالح الإمبراطورية الأمريكية. ساءت سمعة أمريكا في العالم كله، وتزيد سمعتها سوءًا باستخدامها الفيتو في الأمم المتحدة، لضرب أي محاولة لإنصاف الشعب الفلسطيني، ثم تتشدق بعد كل ذلك بالمبادئ والإنسانية والحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان بل وحقوق المرأة!
جلست السيدة المذيعة أمامي متنمرة منتفخة بغرور الجهل في عصر الكاميرا والفضائيات. يتحول الجهلاء إلى نجوم مثل لاعبي كرة القدم، ترى في عينيَّ نظرة ماكرة تقول لها: كلما زاد الإنسان علمًا وثقة بالنفس زاد تواضعًا وبساطة. كانت تغطي وجهها بالمساحيق وتبربش برموشها الصناعية وتهز شعرها المصبوغ بلونٍ أسود من الليل، وأنا جالسة أمامها غير عابئة بشكلي أو شعري الذي طيره الهواء وابتل برذاذ المطر والثلج الهاطل من سماء واشنطن. كنت مستريحة داخل جلدي كما يقولون باللغة الإنجليزية عن الشخص الواثق من نفسه غير المبالي بالدنيا والآخرة. تصورتِ المذيعة أنها سيدة الموقف لأنها تملك القناة أو تملك طائرةً خاصة أو أرصدة في البنوك تزيد عن أرصدة رئيسِ أي دولة مخلوع أو في طريقه للخلع بثورةٍ شعبية عارمة. قلتُ لها قبل بدء البرنامج إن باراك أوباما ربما يصبح رئيسًا مخلوعًا عاجلًا أو آجلًا، بعد انتقال عدوى الثورة المصرية الشعبية العظيمة إلى الشعب الأمريكي في ولاية وسكونسن، ومنها سوف تنتقل الثورة إلى كل الولايات المتحدة، وغير المتحدة. هزَّت شعرها ورموشها غير مُصدِّقة، قلت لها إننا نعيش في عالمٍ واحد (وليس ثلاثة عوالم) يحكمه نظامٌ أبوي طبقي واحد موروث منذ العبودية. لم تكن تنصت لما أقول مثل كافة المذيعين والمذيعات في كل بلاد العالم، كانت تنظر في المرآة لتعدل خصلة الشعر المتحركة مع رأسها هنا وهناك. ثم بدأ البرنامج، وهي تلهث تنتقل من سؤال إلى سؤال بسرعة البرق لا تسمع الإجابات، شيء يجعل أعصاب الغضب تنفجر في أي رأسٍ إلا رأسي، لقد تعوَّدتُ على تفاهة البرامج التلفزيونية في كل بلاد العالم، على رأسها بلادنا العربية، أحافظ على هدوئي الكامل لأصوِّب إجابتي بكلمةٍ محددة مختصرة، كطلقةِ رصاصٍ واحدة تُصيب الهدف. تُدوِّي الطلقة في رأسها، تَتجمَّد في مقعدها، تتلعثم لا تعرف ماذا أقول، تُكشِّر عن أنيابها كالنمرة الحائرة، تخرج عن النص الذي حفِظَته عن ظهر قلب. تسألني عن معنى ما أقول، أُعيد عليها ما قلتُه: نعم أيتها المذيعة الشهيرة، أقول لكِ إن جورج بوش وأسامة بن لادن توءمان. تُبربِش مرةً أخرى تُردِّد «تَوءمان؟ كيف هذا؟» أفتح فمي لأشرح لها العلاقة بين الاستعمار الأمريكي الجديد والتيارات الدينية السياسية، لكنها تنتقل إلى سؤالٍ آخر، وينتهي البرنامج دون توضيح أي شيء.
تمَّت إذاعة البرنامج دون أن أراه؛ حيث إنني لا أفتح التلفزيون إلا نادرًا ولا أحفظ مواعيد البرامج التي أشارك فيها، لكن جاءتني الرسائل عبر البريد الإلكتروني تقول إن السيدة المذيعة حذفَت جزءًا من كلامي المتعلق بجورج بوش وبن لادن؛ مما يعني أن الإعلام الأمريكي، مثل الإعلام في بلادنا، يخضع لمقص الرقيب! هذه هي الديمقراطية الأمريكية! لا أعرف كيف اكتشفوا ذلك، لكن الأمر كان سهلًا لمن يتابعون البرامج في الإنترنت، وانتشر الخبر عن الإلكترونيات في الأقمار الصناعية، يا لها من تكنولوجيا فاضحةٍ خطيرة، أخطر من ويكيليكس! تنتشر الفضائح عبر الأثير في كل أركان الأرض والسموات السبع، تبتهج قلوب الشعوب بهذه الفضائح التي تكشف زيفَ ما يُسمُّونها الدول الديمقراطية. كم تشدَّق باراك أوباما وهيلاري كلينتون بهذه الكلمة التي تساقطَت كما تتساقط ورقة التوت عن الجسد العاري!
لكنْ هناك امرأةٌ أمريكية اسمها إيمي جودمان، تختلف عن هذه الكريستيان أنانبور، أصبحَت إيمي جودمان معروفة في أمريكا والعالم ببرنامجها التلفزيوني والإذاعي «الديمقراطية الآن» (ديمقراسي ناو). قلتُ لها ما قلتُه لكريستيان أنانبور وأكثر، كانت إيمي تستمع ثم تردُّ في هدوء. إيمي جودمان حاورَتْني بحريةٍ كاملة، لم تقاطعني، لم تحذف حرفًا واحدًا، حكيتُ لها عن مقص الرقيب أنانبور، قالت برنامجنا مختلف، نُحاوِل كشف الحقائق داخل الديمقراطية الزائفة تحت حكم الرأسمالية الاستعمارية الإمبرياليَّة. سألَتْني عن الثورة المصرية الشعبية، دَوْر النساء فيها، ماذا أتوقع لمستقبل مصر الحرة المستقلة الجديدة، هل هناك مخاوف من نشوء ثورةٍ مضادة؟ قلتُ لها: كل الثورات الشعبية تتعرض لمحاولاتِ إجهاضٍ من القوى الخارجية والداخلية، لكن ثقتي كبيرة في وعي الشبابِ والشاباتِ الذين صنعوا الثورة، نجحوا في إسقاط رأس النظام، وسوف ينجحون في إسقاط الجسد أيضًا، بسبب اتحادهم ووعيهم وعدم قبولهم التنازُل عن مبادئهم الأساسية. شاركَت النساء مع الرجال دون تفرقة في الثورة، كان عدد الشباب في مسيرة اليوم العالمي للمرأة أكثر من عدد الشابات، حمَلوا معهن الشعارات التي تؤكد على المساواة والعدالة والكرامة والحرية للجميع، دون تفرقة على أساس الجنس أو الدين، خرجَت الملايين من كافة فئات الشعب من كل محافظة، من أسوان إلى الإسكندرية، حتى الأطفال شاركوا في الثورة، وما زالت الثورة مستمرة حتى تحقق كل أهدافها.
يعمل مع إيمي جودمان شابٌّ مصري اسمه شريف عبد القدوس، حفيد السيدة روز اليوسف. سألَتْني إيمي جودمان عن روز اليوسف. قلتُ: امرأةٌ عظيمة كان لها دورٌ كبير في الفن والسياسة والثقافة، أصدَرَت مجلتها روز اليوسف التي لعِبَت دورًا هامًّا في التصدي للاستعمار البريطاني والحكم الملكي قبل ثورة ١٩٥٢م، صنَعَت روز اليوسف حينئذٍ مدرسةً جديدة للصحافة المصرية، تدرَّبت فيها أجيالٌ من الشباب والشابات. أشرق وجه شريف عبد القدوس بابتسامةٍ جميلة، تنمَّ عن الفخر بجدَّته، من منا يشعر بالفخر بجدَّته أو أمِّه؟ سؤال دار في رأسي وما زال يدور: لماذا يختفي اسم الأمهات والجدَّات في التاريخ رغم جهودهنَّ العظيمة؟