مليونيَّة الشباب والشابَّات، يوم المرأة العالمي
كان هدف الثورة المصرية تحقيق الحرية والكرامة والعدالة بين كل فئات الشعب، بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الطبقة، لهذا ساند شباب الطبقة الوسطى مظاهرات الفقراء والعمال والعاطلين عن العمل. عارض هذه المظاهرات ذوو المال والنفوذ في الحكومة الانتقالية، ونخبهم الثرية المسيطرة على الصحف والإعلام والثقافة، قالوا عنها «فتنٌ فئوية أو طبقية» تشقُّ وحدة الثورة الشبابية العظيمة، التي نادت بالحرية الليبرالية ولم تتعرض لمطالبَ فئويةٍ طبقية تُهدِّد الأمن والاستقرار. هاتان الكلمتان «الأمن والاستقرار» هما الغِطاء الموروث منذ العبودية لضرب الثورات الشعبية.
حاول نظام مبارك ضرب ثورة ٢٥ يناير. حاول مبارك لأكثر من أسبوعَين، تحت اسم الحفاظ على الأمن والاستقرار، كان يمكن القضاء على الثورة والثوار (عملاء القوى الأجنبية كما أشاع الإعلام) لولا الصمود الشعبي الهائل وقوة التنظيم والوعي. أثبت الشباب الثوري أنهم أكثر حرصًا على مصالح الملايين من المقهورين والمقهورات، أكثر إدراكًا بين السلطة الأبوية المطلقة والسلطة الطبقية، أكثر وعيًّا بأن قضية تحرير النساء (نصف الشعب) لا تنفصل عن قضية تحرير الوطن داخليًّا وخارجيًّا.
إن علاقتي بالأجيال الجديدة من الشباب والشابَّات لم تبدأ في ميدان التحرير أيام الثورة، بل هي مستمرةٌ منذ سنينَ طويلة، أغلبهم من عمر أولادي وأحفادي، من مختلف فروع المعرفة، يتردَّدون على بيتي في مجموعاتٍ صغيرة أو كبيرة، للتحاور والجدل في الأدب والإبداع والتمرُّد وشتى العلوم والفنون، أدهشَني اتساع أُفقهم وحبهم للجدل (رغم ما أشاعه النظام الحاكم أن الجدل من الشيطان، وتم إلصاق تهمة «مثير للجدل» لكل مفكر أو مبدع من الرجال أو النساء). أدهشني إبداع الشباب الثائر، قدرتهم على كسر الحدود، والربط بين العلوم الإنسانية والطبيعية، الربط بين حقوق الإنسان وحقوق النساء وحقوق الفقراء. هذا هو الشباب الجديد الواعي الذي أبدع وتَمرَّد وصنع الثورة العظيمة. نَجحَت الثورة هذه المرة بسبب قوة الوعي وتفتح العقل على القيم الإنسانية الرفيعة، الحرية، الكرامة، العدالة، للجميع، نساءً ورجالًا، عمالًا وفلاحين وفقراءَ وعاطلين. ظهَرَت هذه القيم النبيلة في ميدان التحرير. تلاشت الفروق الطبقية والجنسية والدينية، تساوى المسلم مع المسيحي، تساوى العامل مع الدكتور، تساوت المرأة مع الرجل، تساوى الطفل مع الكبير، تساوى الجميع أمام قانون الثورة الجديد في مجتمع ميدان التحرير، في النضال الثوري وفي الحياة اليومية خارج الخيام وداخلها، في الأكل والشرب والجوع والعطش والبرد والكنس والتنظيف والتمريض. سقطَت القيم الطبقية الأبوية وتقسيم العمل على أساس الجنس والطبقة. لم يعُد التمريض أو التنظيف من اختصاص النساء أو الخدَم الفقراء، تساوى الجميع في الأعمال والمسئوليات، في الحياة، وفي الموت بالرصاص الحيِّ، تساوى الجميع في الرقص وفرحة الانتصار، ثم مواصلة الثورة حتى تحقيق الأهداف كلها.
وتساوى الجميع في الإحساس بخيبة الأمل حين تشكَّلَت اللجنة لتعديل الدستور وليس تغييره من جذوره الأبوية الطبقية، حين تشكَّلَت اللجنة من رجال القانون فقط، رغم أن الدستور عقدٌ اجتماعي يشمل كل نواحي الحياة العامة والخاصة، لا فصل بين السياسة والاجتماع والدولة، والأُسرة نواة المجتمع. تشكَّلَت اللجنة من الرجال فقط، وتمَّ إقصاء النساء عنها، المدهش أن الشاب الثائر الواعي غضِبوا أكثر مما غضبتِ النساء الأستاذات في الجامعات. قرَّر الشباب تشكيل الاتحاد النسائي المصري مع الشابات، بل أعلن الشباب قبل الشابَّات عن مسيرة مليونيَّة للنساء في اليوم العالمي للمرأة ٨ مارس، قالوا إن الحرية والعدالة والكرامة التي طالبَت بها الثورة تشمل حقوق الشعب كله، النساء والرجال والأطفال. غضب الشباب والشابَّات حين تمَّ الإعلان عن الإبقاء على المادة ٢ من الدستور وليس حذفها، قالوا: هذه المادة تُفرِّق بين المسلمين والأقباط، يجب أن يكون الدستور مدنيًّا بالكامل منعًا للفتن الطائفية؛ يجب فصل الدين عن الدستور والدولة والقوانين كلها، العامة والخاصة، لابد أن يكون قانون الأحوال الشخصية مدنيًّا موحدًا لكل المسلمين والمسيحيين، يجب أن نكون كلنا سواء أمام القانون في الدولة والأُسرة؛ هذه هي العدالة التي نادت بها الثورة، ويجب أن يكون من حق النساء والأقباط الترشُّح في كل الانتخابات بما فيها الرئاسة.
اكتشفتُ أن هذا الرأي يؤمن به كثير من شباب الإخوان المسلمين من الأجيال الجديدة التي تشبَّعَت بقيم الثورة الشبابية، ٢٥ يناير، التقيتُ ببعضهم في ميدان التحرير أيام الثورة، وأدهشَني إيمانهم بالحرية والكرامة والعدالة للجميع، نساءً ورجالًا ومسلمين وأقباطًا.
تشكَّلتِ اللجنة الشعبية لتأسيس الاتحاد النسائي المصري من الشباب والشابات سواء بسواء، قالوا: لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطيةٌ دون عدالة وحرية وكرامة للجميع دون تفرقةٍ على أساس الجنس أو الدين أو الطبقة، يجب تغيير الدستور كله، هذا الدستور الحالي يُكرَّس السلطة الطبقية الأبوية المطلقة؛ دستور يتناقض مع كل مبادئ ثورة ٢٥ يناير. إنه دستور النظام السابق، لا بدَّ أن يسقط هذا الدستور مع سقوط النظام، يجب تشكيل جمعيةٍ تأسيسية من النساء والرجال، مسلمين وأقباط، تقوم بعمل دستورٍ جديد للبلاد يتسق مع مبادئ الثورة الجديدة، يتم الاستفتاء عليه بعد عمل حواراتٍ متعمقة حوله من الشعب كله.
وماذا عن مليونية النساء في اليوم العالمي للمرأة ٨ مارس؟ بدأ الشباب الثائر هذه الفكرة بعد إقصاء المرأة عن لجنة الدستور، تحمَّسَت لها الشابَّات أكثر من بعض عضوات الجمعيات النسائية السائدة، وبعض منظمات المجتمع المدني، أو المنظمات غير الحكومية أو الحكومية، وبعض منظمات حقوق الإنسان التي تنسى أن المرأة إنسانٌ لها حقوق الإنسان، وبعض التيارات السياسية أو الدينية الرجعية التي تعتبر الحركات النسائية مدسوسة من الغرب، هدفها تقسيم صفوف المناضلين. هؤلاء هم الذين اتهموا المطالبين بحذف المادة ٢ من الدستور أنهم عملاءُ للأجانب يشقُّون الوحدة الوطنية لإحداث فتنةٍ طائفية. هؤلاء هم الذين اتهموا مظاهرات العمال والفقراء والعاطلين أنهم يُحدِثون فتنةً فئوية أو طبقية، ويُهدِّدون الأمن والاستقرار، وهم أيضًا الذين قالوا عن شباب ٢٥ يناير إنهم دسيسةٌ أمريكية صهيونية تهدد الأمن والاستقرار، لكن ما إن نَجحَت الثورة وأسقطَت النظام حتى تسابق الجميع إلى تملُّقها، أصبحت هي الثورة المقدَّسة، أعظم ثورةٍ في تاريخ مصر بل في العالم أجمع!