نَجحَت الثورة المصريَّة، سوف تستمرُّ وتحقِّق أهدافها كلها
طال بي العمر لأعيش ثورة الشعب المصري، من ٢٥ يناير ٢٠١١م حتى لحظة كتابة مقالي صباح الأحد ٣٠ يناير، شَهدتُ ثورة الشعب التونسي من خلال الشاشة والنت والصحف، لكن فرقٌ كبير بين أن تشهد ثورة من خلال الإعلام، وبين أن تعيش الثورة لحظةً بلحظة مع الثائرات والثائرين المصممين على إسقاط النظام القائم حتى آخرِ نفس. أمشي بين صفوف الشباب والشابات فوق قدمَين قويتَين، استعاد جسمي وروحي قوة الشباب، عدتُ إلى العشرين من عمري، ضاعت آلام الزمن والقهر العام والخاص. ذابت الجموع في الفرد وذاب الفرد في الجموع، ذابت الدموع في العرق، زال برد يناير وصقيع المنفى في حرارة الأنفاس ودفء التلاحُم، وجوه الشباب في ٢٠١١م هي وجوه مصر المستقبل، تُنادي بالحرية والكرامة والعدالة والاستقلال، شعارات الشعب المصري الموحَّد، لا تمييز بينهم على أساس الدين أو الجنس أو الطبقة أو اللون أو غيرها، تذكرت المظاهرات منذ طفولتي بالمدرسة الابتدائية في نهاية الثلاثينيات، ثم مدرسة حلوان الثانوية في الأربعينيات، ثم كلية الطب جامعة القاهرة في الخمسينيات، ثم مظاهرات الستينيات بعد الهزيمة الكبرى ١٩٦٧م، طالبنا عبد الناصر بالتغيير دون جدوى، ثم جاء أنور السادات لتعود مصر إلى الوراء في كل المجالات. ثم ثورة الخبز يناير ١٩٧٧م (انتفاضة الحرامية بلغة السادات)، تدهورت الأحوال وزاد الطغيان حتى مذبحة سبتمبر ١٩٨١م، خرجنا من سجن السادات ذي القضبان لنعيش سجنًا أكبر بدون قضبان تحت اسم الديمقراطية في عصر مبارك. رأيت الشباب المصري يكتب على دبابات الجيش المصري «يسقط مبارك» ويمزقون صوره بمقار الحزب الحاكم. تذكرت مظاهرات التلاميذ والتلميذات في نهاية ١٩٥١م وبداية ١٩٥٢م، دسنا بأقدامنا صورة فاروق الأول، هتفنا يسقط الملك، أجهض القصر والإنجليز ثورة الشعب بحريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م، تمَّ نهب وحرق أكبر المحلات والفنادق بالقاهرة لضرب الثورة المصرية التي قادها الشباب والشابات، والفدائيون الذين عادوا من الحرب الشعبية في القنال ضد جيش الاحتلال البريطاني. طاردتِ الحكومة المصرية مع الإنجليز فلول الفدائيين، منهم طالب الطب أحمد حلمي، وكان أحمد المنيسي طالب الطب أيضًا قد قُتل في القنال برصاص الإنجليز، ومئات الفدائيين من طلاب الجامعات قُتلوا أو طاردهم الإنجليز مع السلطة الحاكمة، أجهض بلطجية الحكم الثورة الشعبية بالحرائق والنهب والسلب وترويع المواطنين، كما يحدث اليوم. هذه هي مؤامرة أي حكمٍ فاسد قبل سقوطه، يحرق البلد ليحرق مستندات إدانته وسرقاته وتعاونه مع الاستعمار الخارجي، ليُوهم الناس أنه الحامي لهم، بأمل أن يثور الناس ضد الشباب الثائر. نجحت مؤامرة الملك والإنجليز في إخماد الثورة الشعبية ستة شهور فقط لتهب ثورة الجيش المصري في يوليو ١٩٥٢م، وتطرد الملك والإنجليز. يتمتع الجيش المصري بتاريخٍ وطني مشرِّف، ها هو اليوم يحمي الثورة الشعبية من بلطجية الحكم والحرائق والنهب والسلب.
الساعة الآن الرابعة إلا دقائق من يوم الأحد ٣٠ يناير ٢٠١١م، من بيتي في شبرا (وأنا أكتب مقالي الأسبوعي هذا للمصري اليوم) أسمع فجأة هدير الطائرات الحربية تدوِّي في سماء القاهرة، طائرات حربية نفاثة بأسرع من الضوء كما يبدو، تكاد تشبه الغارة الإسرائيلية الجوية على القاهرة يوم ٥ يونيو ١٩٦٧م، ماذا يحدث الآن؟ هل هي طريقةٌ جديدة لترويع الناس وإجهاض الثورة الشعبية؟ يبدو أن طرق الترويع التقليدية من نهب وسلب وحرق قد فشلت تمامًا؛ لأن الشعب المصري بدأ حماية نفسه بنفسه من البلطجية. تكونت لجانٌ شعبية في كل شارع (حتى شارعنا الصغير في شبرا) لحماية البيوت والممتلكات الخاصة والعامة، كانت قوى الأمن والشرطة قد اختفت من الشوارع، لم يبقَ إلا الناس يحمون أنفسهم بأنفسهم، ظهرت طبيعة الشعب المصري العريق الحضارة، لمحني بعض الشباب وأنا أخرج من بيتي هذا الصباح، اقبلوا نحوي يبتسمون، أهلًا يا دكتورة نوال هل تريدين توصيلة لميدان التحرير، قلت لهم: «شكرًا سآخذ تاكسي، لجانكم الشعبية دليل الوعي والتنظيم، مبروك نجحت الثورة.» كانوا يحملون مختلف الأسلحة لضرب البلطجية، من العصا الخشبية إلى سكين المطبخ، أحدهم طفل كان يحمل ماسورةً حديدية صغيرة، ابتسم وقال لي بلغة الكبار: «آجيب لك تاكس يا دكتورة؟» سألته: عمرك كام؟ قال بفخر كبير: «سبع سنين.» كأنما هي سبعة آلاف عام، حضارة مصر.
مررتُ على مستشفى معهد ناصر لأطمئن على صحة بعض الشباب الذين أُصيبوا في المظاهرات، لم يكن مدير المستشفى هناك، تطوع أحد الأطباء الشباب لمرافقتي، صعدنا في غرفة ٧٢٣ وغرفة ٦٢٠، قالوا زيارتك أراحت قلوبنا، لم يزرنا أحد ليكتب عنا، قلت أنا أزوركم اليوم كطبيبة، ولأطمئن أنَّ خدمات المستشفى لكم كافية، وسوف أكتب عنكم في مقالي الثلاثاء القادم بالمصري اليوم، أحضروا لي عصير برتقال، سألتهم عن أكل المستشفى قالوا كويس، والعلاج؟ كويس، لكن نريد أن يسمع الوطن أصواتنا عبر الصحافة، أوَّلهم اسمه «وائل محمد محمود» فقد عينه اليسرى تمامًا بسبب قنبلةٍ مطاطية أصابت عينه مباشرة عن عمد لإفقادها البصر، هو خريج كلية التربية قسم إنجليزي جامعة عين شمس، لا ينتمي لأي تيارٍ سياسي، جاءته الدعوة للمشاركة في المظاهرة عبر الفيسبوك. كان ينادي بالحرية والكرامة والعدالة، قال وائل: «فقدت عيني اليسرى من أجل تحريرنا من العبودية، والحرية لها ثمن، أنا غير نادم أبدًا.» إلى جواره كان يجلس رجل على طرف السرير، قال: «أنا والد وائل وأنا مدير عام المحاكم التأديبية بمجلس الدولة وسوف أرفع دعوى أمام محكمة القضاء الإداري دائرة الأفراد، ضد نظام الحكم من رئيس الدولة إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية ومحافظ القاهرة ومدير أمن القاهرة، بسبب فقدان ابني عينه اليسرى برصاصةٍ مطاطية.» وقال زميل وائل الراقد على سرير بجواره: «اسمي أحمد سيد عبده بالمعهد العالي للدراسات التعاونية، كنت أسير بجوار وائل في المظاهرة نهتف حرية عدالة كرامة حين رأيتُ بعيني ضابطًا فوق مدرعة الشرطة يُصوِّب مثل القناص بالقنبلة في اتجاه عين وائل مباشرة، نقلوني بعد إصابتي إلى هنا مع وائل.» وقال محمود محمد أمين: «بعد إصابتي في شارع رمسيس بقنبلة أفقدتني عيني اليمنى أخذوني إلى مستشفى الهلال الأحمر حيث استقبلنا الأمن وليس الأطباء، ساعدني طبيبٌ شهم للهرب من الباب الخلفي للمستشفى؛ لأن الأمن كان يحمل المصابين إلى السجون ويضربهم، بعضهم يموت.» وكشف محمود عن جسمه، كانت شظايا القنبلة قد تركت علامات على ذراعه وصدره، وكسرت أسنانه في الفك السفلي. كريم سامي إبراهيم، عمره ٢٢ سنة، حاصل على ليسانس آثار جامعة القاهرة، فقد عينه اليمنى بقنبلةٍ مطاطية، كانت أمه تبكي إلى جواره، تمسح دموعها وتقول: «أنا فخورة بابني كريم، قرَّة عيني، خلعوا له عينه اليمنى لكن عينه اليسرى بخير ولن يسكت الشعب المصري على الذل، إحنا شعبٌ مسالم ابني وزمايله في المظاهرة كانوا يلموا الزبالة والحجارة من الشوارع بعد المظاهرة في أكياس نايلون بيضا، أولادنا بيحبوا يا دكتورة.»
أحد المصابين اسمه محمد مجدي محمد، أصابه عيارٌ ناري في بطنه، عمره ٢٠ عامًا، الشرطة أطلقت علينا الرصاص الحي. حمادة عبد الله كسروا عظام فكِّه الأيسر بضربة عصا، وغيره وغيره، أغلبهم فقد الإبصار في عينه، لخصوا جبروت النظام قالوا: «عشنا القهر منذ وُلدنا في التسعينيات من القرن العشرين والآن في القرن الواحد والعشرين يُفقدوننا البصر نحن مستقبل مصر.»