الثورة المصريَّة تضع قيمًا وعقدًا اجتماعيًّا جديدًا
عشتُ لأشهد وأشارك في الثورة المصرية، من ٢٥ يناير ٢٠١١م حتى اللحظة التي أكتب فيها مقالي هذا (صباح الأحد ٦ فبراير ٢٠١١م). ملايين المصريين والمصريات، مسلمين ومسيحيين ومن كل الاتجاهات والعقائد، توحَّد الشعب المصري تحت راية الثورة الشعبية التلقائية، ضد النظام القائم المستبد الفاسد، من قمَّته إلى قدمَيه، من فرعون المقدس الأعلى (يتمسك بكرسي العرش وإن أراق دماء الشعب كله) وحكومته الفاسدة وحزبه الحاكم الذي يؤجر البلطجية لقتل الشباب، وبرلمانه المزوَّر المزيف، نواب الأراضي والنساء والمخدرات والرشاوي، ونخبته (يسمونها النخبة المثقفة) التي باعت أقلامها وضميرها، أفسدَتِ الثقافة والتعليم والتربية والأخلاق العامة والخاصة، وضلَّلتِ الرأي العام الجماعي والفردي، من أجل مصالح آنيَّة ومناصبَ في الحكم كبيرة أو صغيرة. انطلق الشباب والنساء والرجال والأطفال تلقائيًّا من بيوتهم، يقودون أنفسهم بأنفسهم، يحمون أنفسهم بأنفسهم، بعد أن سقطَتِ الشرطة ورجال الأمن، وسقطت النخبة المسيطرة على الإعلام والثقافة، ولجان الحكماء الواصلة إلى قمة الثروة والسلطة، والقيادات الحزبية الانتهازية التي ساندت هذا النظام الحاكم، سرًّا وعلنًا، على مدى نصف قرن. سقطَت الانتهازية والقيم الأخلاقية المزدوجة المراوغة، التي أفسدَتِ الدولة والأُسرة والأفراد، وأشاعت الفوضى تحت اسم الأمن، والدكتاتورية تحت اسم الديمقراطية، والفقر والبطالة تحت اسم التنمية والرخاء، والبغاء والخيانة الزوجية تحت اسم الأخلاق وحرية الاختيار، والمهانة والخضوع الذليل للاستعمار الأمريكي-الإسرائيلي تحت اسم المعونة والشراكة والصداقة أو عملية السلام، وحبس أصحاب وصاحبات الأقلام الصادقة المفكرة المبدعة داخل الزنازين أو عزلهم وتشويه سمعتهم، أو طردهم إلى المنفى خارج الوطن وداخله.
خرج الملايين من المصريين والمصريات، إلى الشوارع من كل المحافظات، من القرى والمدن، من أسوان إلى الإسكندرية والسويس وبورسعيد وكل شبر من أرض الوطن. في العاصمة القاهرة عسكرنا في ميدان التحرير، أحد عشر يومًا ليلَ نهارَ حتى الآن، أصبح ميدان التحرير هو أرضنا، هو معسكرنا، نرابط فيه فوق الإسفلت وداخل الخيام كتلةً واحدة صلبة من البشر رجالًا ونساءً، لا نغادر مكاننا وإن هجم علينا البوليس متنكرًا في ثيابٍ مدنيَّة، وإن اقتحم الميدان (كما حدث يوم الأربعاء ٢ فبراير) عصاباتٌ مأجورة من النظام، أخذ كلٌّ منهم رشوة (خمسين جنيهًا وفرخة كنتاكي للجندي الصغير ورشاوى أكبر تزيد بازدياد الرتبة). اقتحموا علينا الميدان راكبين الخيول والجمال، مُسلَّحين بكل أنواع الأسلحة حمراء وصفراء وبيضاء، كاد أحد الأحصنة يدوسني وأنا واقفة في الميدان مع الشباب، حملوني بعيدًا عن قافلة الهجانة الهمجية، رأيتهم بعيني، راكبي الخيول والجمال، يبرطعون في الميدان، يطلقون النيران في كل مكان، وسط الغبار والدخان الذي غطى الميدان والمباني من حوله، رأيتُ كُرات النار تتطاير في الجو، وشباب يسقط ودماء تُراق، نشبت معركةٌ شبه حربية بين مأجوري النظام وبين الشعب المصري المسالم يُنادي بالحرية والكرامة والعدالة، لكن لجنة الدفاع من الشباب الثوري استطاعت أن تنتصر على البلطجية، وأن تقبض على بعض الأحصنة والجمال، وعلى مائة من المأجورين، بكل بطاقاتهم الشخصية، منهم ضباط أمن دولة، أمن مركزي، أمناء شرطة، بعضهم ليس لهم عمل، بلطجية من عصابات الشوارع والسجون، بعضهم اعترف بأخذ ٢٠٠ جنيه ووعد ﺑ ٥٠٠٠ جنيه لو فرَّقوا الشباب في الميدان وقضَوا عليهم بالسنج والسيوف والمولوتوف (قالوا عن شباب الثورة «العيال اللي عاملين الشغب») بلغة كبار رجال مبارك الذين أعطَوهم الأوامر مع الأموال.
الشباب أقاموا الخيام على أرض الميدان ليستريحوا بضع ساعات الليل، أمهاتٌ بأطفالهن الرضَّع افترشوا الأرض في البرد تحت المطر، مئات البنات الشابات لم يتحرش بهن أحد، يسرن رافعات الرءوس، يشعرن بالحرية والكرامة والمساواة بينهن وبين زملائهن. الأقباط يشاركون في الثورة جنبًا إلى جنب مع المسلمين، حوطني بعض شباب الإخوان المسلمين. قالوا لي: «نختلف مع بعض كتاباتك لكننا نحترمك ونحبك لأنك لم تنافقي أي حكم أو قوة في الداخل أو الخارج.» طوال سيري في الميدان يقبل عليَّ الشباب نساءً ورجالًا من كافة الاتجاهات، يأخذونني بالأحضان يقولون: «يا د. نوال نحن الأجيال الجديدة التي قرأت كتبك واستلهمت الإبداع والتمرد والثورة من أفكارك المنشورة.» ابتلعت الدموع، قلت لهم: «هذا عيد لنا كلنا، عيد الحرية والكرامة والعدالة والإبداع والتمرد والثورة.» قالت إحدى الشابات اسمها رانيا رفعت: «نحن نطالب بدستورٍ جديد مدني لا يفرق بين الشعب على أساس الدين أو الجنس أو العقيدة أو العرق أو غيرها.» وقال شابٌّ مسيحي اسمه بطرس داوود: «نريد قانون أحوالٍ شخصية مدنيًّا موحدًا لجميع الشعب دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو الملة أو الطائفية.» وقال شاب اسمه طارق الدميري: «الشباب صنعوا الثورة وعلينا أن نختار حكومتنا الانتقالية ولجنةً وطنية لتغيير الدستور.» وقال شاب اسمه محمد أمين: «نريد حل مجلس الشعب والشورى وعمل انتخاباتٍ نزيهة لاختيار رئيسٍ جديد ومجالسَ شعبيةٍ جديدة.» وقال شابٌّ اسمه أحمد جلال: «نحن ثورةٌ شعبية تضع عقدًا اجتماعيًّا جديدًا، ليس مجرد مطالب، شعار ثورتنا: مساواة حرية عدالة اجتماعية، من صنع الثورة هو من يضع قواعد الحكم الجديد، يختار الحكومة الانتقالية، يختار اللجنة الوطنية التي تُغيِّر الدستور، يشكل لجنة حكماء الثورة، حتى لا يفرض علينا الانتهازيون (أصحاب الثروة والسلطة) لجان حكماء لم تشارك معنا في الثورة، تأتي الآن إلينا بالطائرات من أوروبا أو أمريكا، من المصريين الذين عاشوا حياتهم خارج الوطن أو داخله، يأتون الآن ليصبحوا قيادة الثورة، نحن نقول: الذين قاموا بالثورة هم الذين يقودون الثورة، من بيننا حكماء من الشباب عمرهم ثلاثون سنة أو أربعون أو خمسون سنة. عندنا كفاءات في كل المجالات العلمية والسياسية والاقتصادية وغيرها، نحن من نُشكِّل لجنة حكمائنا وحكومتنا الانتقالية، واللجنة الوطنية لتغيير الدستور والقوانين.» وقال الشاب محمد سعيد: «أشعر بالفخر لأول مرة في حياتي لأني مصري. راح اليأس والاكتئاب، تحولتِ الهزيمة إلى نصر، دفعنا ثمن الحرية بدم شهدائنا ولا تُوجد قوة تُعيدنا إلى الوراء أبدًا.»
تحوَّل الميدان إلى مدينةٍ كاملة بمرافقها، والمستشفى الملحق بها يرقد فيه المصابون والجرحى، تطوَّع الأطباء والممرضات من جموع الشباب، تطوع الأهالي بالبطاطين والأدوية والقطن والشاش والأطعمة والماء. شيء يشبه الحُلم والخيال، أعيش مع الشباب والشابات ليلَ نهار، تكوَّنت لجان منهم تتولى كل الأعمال من كنس الميدان إلى نقل المصابين إلى المستشفى، إلى توفير الطعام والأدوية، إلى تولي الدفاع عن الميدان والرد على أكاذيب النظام في الإعلام، إلى ترشيح أسماء الحكومة الانتقالية ولجنة الحكماء وغيرها. تلاشت جدران البيوت والمؤسسات والتابوهات التي فرقت بين المواطنين، النساء والرجال والمسلمين والمسيحيين، أو غيرهم، أصبحنا شعبًا واحدًا لا انقسامات على أساس الجنس أو الدين أو غيرهما، الكل يطالب برحيل مبارك ومحاكمته ورجاله في الحزب والحكومة، على الدماء المراقة يوم الأربعاء ٢ فبراير وكل الأيام منذ ٢٥ يناير، والفساد والاستبداد على مدى ثلاثين عامًا من الحكم. وللحديث بقيَّة.