الثورة المصرية مستمرَّة حتى تحقِّق أهدافها كلها
اكتسب الشعب المصري ثقته بنفسه بعد نجاحه يوم ١١ فبراير في إسقاط حسني مبارك عن رئاسة الدولة، رغم كل المحاولات المضنية، المضحكة والمحزنة، والمناورات المعلنة والخفية في الداخل والخارج لإجهاض الثورة، وما قام به مبارك وأعوانه للترويع والتجويع، وإشاعة الفوضى وإراقة الدماء، لاستمرار مبارك وأعوانه في كراسي الحكم. نجحَت الثورة بسبب الوحدة الشعبية الكاملة، أزالت الفروق الجنسية والدينية والعنصرية والطبقية المفروضة علينا، بسطوة الحكم الطبقي الأبوي منذ العبودية. نجحت الثورة بسبب التنظيم والوعي، والإحساس بالمسئولية الوطنية التاريخية، والاستعداد الكامل والإحساس بالمسئولية الوطنية التاريخية، والاستعداد الكامل للتضحية حتى الموت، دفاعًا عن الحرية والكرامة والعدالة واستقلال الوطن. ثار الشعب المصري كله، رجالًا ونساءً من كل الفئات والأعمار والعقائد والمهن والطبقات، هذه الوحدة الشعبية الثورية الواعية السلميَّة هي قوَّة أكبر من أسلحة الحكم الاستبدادي. ثورة الملايين المتَّحدة الواعية هي أكبر من قوى البوليس أو الجيش أو الإعلام الكاذب، الذي حاول تشويه الصورة الوطنية المضيئة للشعب الثائر، وإشاعة الأكاذيب. واصل إعلام مبارك وسوزان مبارك وأنس الفقي (كانت وزارات الإعلام والثقافة تتبع السيدة الأولى ضمن وزارات وهيئات وجمعياتٍ حكومية تسمَّى غير حكومية) دأب هذا الإعلام الهابط على تزييف وعي الجماهير وتصوير الثوار والثائرات على أنهم خونة وعملاء لقوى خارجية، كنت أؤمن بقوة الشعوب على زلزلة العروش من قراءة التاريخ، لكنَّ الفرق كبير بين أن تقرأ وأن تعيش الثورة يومًا بيوم ولحظةً بلحظة حتى يسقط العرش ويتهاوى.
كان شعار الثورة المصرية «إسقاط النظام» فهل سقط النظام فعلًا؟ ما أراه الآن أن رأس النظام سقط، لكن جسد النظام لا زال قائمًا متجسدًا داخل الحكومة التي شكَّلها مبارك قبل أن يتنحَّى. المطلوب الآن حكومةٌ انتقالية جديدة ممن شاركوا في الثورة من وجوهٍ وطنية مخلصةٍ أمينة لم تجمع البلايين أو الملايين، ولم تسكت على الفساد والدكتاتورية. مطلوبٌ أن يكون نصف وزراء هذه الحكومة من الشباب (رجالًا ونساءً) الناضج الواعي. قابلتُ منهم في ميدان التحرير عددًا كبيرًا، الكفاءات بين الشباب والشابات كثيرة من مختلف التخصصات، حصلوا على أعلى الدرجات والخبرات، لماذا لا يشاركون في الحكومة الانتقالية، ولجنة تغيير الدستور والقوانين العامة والخاصة في الدولة والأُسرة، وجميع اللجان التي ستعمل على تغيير النظام تغييرًا جذريًّا من البيت إلى الشارع، من التعليم والثقافة والإعلام والقيم الأخلاقية والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة وغيرها، لا يمكن للثورة المصرية الشعبية التي أسقطَت رأس النظام أن تعود إلى بيوتها وتفقد قوتها الجماعية الكبرى، بل هي مستمرة بقوتها واتحادها حتى يحكم الشعب نفسه بنفسه؛ فهذه هي الديمقراطية الحقيقية. أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ذلك، وأكد أن الجيش سوف يُسلِّم الحكم للشعب كله، لكن الملايين أرادوا جدولًا زمنيًّا من الجيش لتسليم الراية لحكومةٍ مدنية من كل فئات الشعب، وليس لفئة أو شلة أو حزب أو تيارٍ ما، بل للشعب كله لا فرق بين المواطنين على أساس الجنس أو الدين أو الطبقة أو غيرها، تريد الثورة ضمانات لتحقيق كل مطالبها دون نقصان أو تأجيل.
كشفت الثورة الشعبية عن عراقة وصلابة الشعب المصري. سر صمود الشعب في ميدان التحرير (من ٢٥ يناير حتى اليوم) أنه شعب عانى الجوع والبطالة والقهر البوليسي، فلم يعُد يهمه التجويع والترويع، رأيتُ أُسرة بكاملها داخل خيمتها تنام الليل في الميدان في البرد وتحت المطر، الأم ترضع طفلها والأب يكنس الخيمة، والأطفال يكتبون بقلمٍ أسود فوق اللافتة من القماش الأبيض: «مش هنمشي هو يمشي.» يوم الأربعاء الدامي ٢ فبراير شارك الأولاد الصغار والبنات مع الشباب في مطاردة الجمال والأحصنة التي أرسلها رجال مبارك لضرب الثورة، نجحوا في القبض على ثلاثة أحصنة، رأيتها مربوطة عند مدخل الميدان، قال لي أحد الأولاد (عمره ١٣ عامًا) إنهم لم يقبضوا على الجمال لأنها عالية جدًّا فلم يستطيعوا القبض على راكبها فهربت الجمال بمن فوقها، كشفَت الثورة أيضًا عن أصالة الشعب وأخلاقه المستقيمة، لم تحدث سرقةٌ واحدة رغم أن حقائب السيدات والبنات كانت مُلقاةً على الأرض داخل الخيام وخارجها. في الممرات بين الخيام، لم يحدث تحرشٌ واحد بأي فتاة. تقاسم الجميع الطعام القليل، رأيت شابًّا يتخلى عن نصيبه من الطعام لأم تحمل طفلها الرضيع وقال لها إنها تحتاج للطعام أكثر منه لأنها ترضع طفلًا يبكي من الجوع. رأيت البنات والأولاد يكنسون الميدان وينظمون جمع القمامة ويبنون المراحيض وينقلون الجرحى ويكتبون القصائد والأغاني والمسرحيات. هذا هو سر صمود الثورة ونجاحها، وسوف تستمر حتى تُحقِّق كل أهدافها، وليس فقط إسقاط حسني مبارك، الهدف ليس تغيير وجوه النظام بل إسقاطه وخلعه من جذوره.
كشفَت الثورة أن الشخصية المصرية قوية وليست رخوة كما قال واحد من النخبة التي أحاطت بمبارك وحرمه: السيدة الأولى «التي طأطأت لها هامات النخب المنافقة لكل سلطةٍ حاكمة.» خضعوا لأوامر السيدة الحاكمة في الدولة رغم استبدادهم بزوجاتهم في البيوت، وتشدُّقهم بالإخلاص لله والوطن رغم خياناتهم المتكررة لزوجاتهم. ضربَت النخبة المصرية المثقفة مثلًا سيئًا للشخصية المصرية، زيفَتِ الوعي وأفسدَتِ الرأي العام. الأدباء والأديبات والصحافيون والصحافيات الذين يهرولون إلى كل حكمٍ جديد، من الحزب القومي إلى حزب مصر (الساداتي) إلى الحزب الوطني (المباركي) يكيلون المدح لكل حاكم، فإن مات أو سقط يكيلون القدح له والذم، نراهم اليوم يسارعون لضرب مبارك بعد أن سقط، يتملقون شباب الثورة الفتيَّة الجديدة بمبالغةٍ تصل إلى حد التقديس، لا يشعرون بالخزي أو الخجل من نفاقهم الواضح المكشوف، يتصورون أن الشعب الثائر ينسى ما كتبوه بالأمس، والجوائز التي منحها لهم مبارك. أحد الذين حصلوا على جائزة مبارك في الأدب قال إنَّه سوف يرفض الجائزة أو يطلب تغيير اسمها، هذا المثقَّف العظيم الحاصل على جميع جوائز الدولة التقديرية، تولَّى رئاسة الثقافة المصرية، وخدم مبارك وحرمه ضد الأدباء والأدبيات الثائرين والثائرات، كنت واحدة من هؤلاء الأديبات اللواتي بطش بهنَّ هذا الزعيم الثقافي إرضاءً لأصحاب الحكم، وبطَش بكل من عارضَه أو نقدَه أو رفض العمل معه.
كشفَت الثورة عن وجوه المنافقين في كل عصر وعهد. الشباب المصري الواعي يعرفهم ويكشفهم، وإن تَستَّروا تحت الأدب أو الإبداع والفلسفة، وإن تنكروا تحت وجوهٍ جديدة، وإن قدَّموا أنفسهم لخدمة السلطة الجديدة أو لترشيح أنفسهم للرئاسة أو مجلس الشعب أو المناصب الأخرى. لن ينتخب الشباب إلا واحدًا منهم شارك في ثورتهم، عانى البطالة والفقر والقهر، أُريقت دماء أخيه أو أخته أو زميله في ميدان التحرير، أحد شباب الثورة الشعبية (أو إحدى شابَّاتها) سيصبح رئيسًا للجمهورية المصرية الجديدة، لا يملك فيلَّا أو قصرًا، لا يملك شركة أو رصيدًا في البنوك.