أين العدالة الاجتماعيَّة أيُّها السادة؟
الوجوه في الصورة المنشورة، تحت المانشيت، بالبنط العريض إنشاء المجلس الوطني، اجتمعت القوى السياسية من كافة الفئات والأطياف وكل قوى ثورة يناير المجيدة في مؤتمر مصر الأول الذي ضم ٤٣٠٠ شخص، تحت شعار: الشعب يحمي ثورته، وتشمل أهداف المجلس الوطني إصدار وثيقة الثورة، والتقدم بقائمة موحدة لمرشحي مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية المقبلة، الوجوه تشبه الوجوه في النظام السابق، الطبقة ذاتها، والنخبة التي تكتب وتنشر في كل العهود، مع بعض التعديلات التجميلية، اللغة هي اللغة السابقة، بدلًا من حرب أكتوبر المجيدة يقولون ثورة يناير المجيدة، خيالهم يعجز عن إبداع كلمات جديدة، إنهم الناشطون مثل آبائهم في بورصة السياسة والمال والسوق الحرة والإعلام الحر والمنظمات الحقوقية، الحكومية وغير الحكومية، لا يزيدون عن خمسة آلاف، نخبة الحكم والمعارضة الشرعية، كلهم من الرجال العجائز. قد نرى في الصورة شابًّا أو اثنَين، أو امرأةً شابَّة أو اثنتَين الصفوف وراء الصفوف، ونرى رجالًا منتبهين متحفِّزين في كراسيهم القطيفيَّة الخضراء أو الحمراء، ينتهزون الفرصة للانقضاض على السلطة والثروة، وإلا فما هذا التكالُب بالمناكب على الوصول إلى العرش، هذا التنافس الرهيب بين مرشَّحي الرئاسة على الكرسي، وكلهم يقسمون أنَّهم سوف يضحُّون بآخر قطرة من دمهم من أجل الفقراء والمساكين وسكَّان القبور. يتشدَّقون بالعدالة الاجتماعيَّة، يسبُّون اللصوص السابقين، نهبوا أموال الشعب، وكلهم (إلا القليل النادر) كانوا هناك حاضرين في حفلات الرئيس والهانم والوزير، حاصلين على جوائز مبارك وفاروق حسني وجابر عصفور، وغيرهم.
أتأمَّل وجوههم، أسمع كلامهم، وأتعجَّب، أبتهج لأنني لست منهم، أزداد ثقة في نفسي، أنني أسير في الطريق الصحيح. وكيف تجتمع كل فئات الشعب وأطيافه دون وجود الشعب ذاته؟! دون حضور الأغلبيَّة الساحقة المسحوقة، نساءً ورجالًا وشبابًا وأطفالًا؟ المنبوذون والمنبوذات الذين إن خرجوا يطالبون بالخبز أو الشرف والكرامة لأطفالهم، يضربوهم بالرصاص، أو وصموهم بالعار. مطالبهم فئويَّة وليست نبيلة، يخونون الثورة المجيدة، ثورة الطبقة الوسطى الأصيلة، ليست ثورة الجياع الرعاع، ساكني القبور والعشوائيَّات وأطفال الشوارع غير الشرعيِّين، أولاد الحرام. تبرز العضلات السياسيَّة والماليَّة والدينيَّة والثقافيَّة والصحفيَّة والأدبيَّة التي نمت وترعرعت في ظلِّ النظام السابق، يعرفون كيف يغازلون كل القوى في الساحة، السلفيِّين والإخوان والأقباط والعلمانيِّين والشيوعيِّين ورجال الأعمال والبورصة. يسار ويمين ووسط، وكل شيء، يردِّدون كلمة العدالة الاجتماعيَّة لإفراغها من معناها.
جمعتني جلسة مع بعض الأطفال غير الشرعيِّين وأمَّهاتهم، هم أطفال الله، أحباب الله كما كانت تسمِّيهم جدَّتي الفلاحة في قريتي كفر طحلة. كانت تقول: «الطفل بريء، أبوه هو المجرم، اغتصب أمه المسكينة وهرب، الأب اللِّي يتخلَّى عن مسئوليته ما لوش شرف، أب غير شرعي.» أنا تعلَّمت الأخلاق الصحيحة والعدالة الاجتماعيَّة من جدَّتي الفلاحة، ليس من شيخ الأزهر أو وزير التعليم أو أساتذة الجامعة والمدرِّسين. كانوا يصلُّون وراء الملك فاروق ويؤيِّدون الاستعمار البريطاني، وطبقة كبار الملَّاك والمضاربين في البورصة. كلمة البورصة ترتبط في عقلي منذ الطفولة بكلمة البرص، السحليَّة، الثعبان الصغير، ومرض البرص لا علاج له. لم يعجبني في عهد عبد الناصر إلا اختفاء كلمة البورصة، أصبحنا نسمع عن الإنتاج الزراعي والصناعي، أن نأكل ممَّا نزرع ونلبس التيل والقطن الذي تنتجه المحلَّة الكبرى من صناعتنا. نفخر بالكتابة باللغة العربيَّة، كانت لغة الخدم. تغيَّر النظام في عصر السادات ثم مبارك، أصبحنا ننتج ما لا نأكل ونأكل ما لا ننتج ونلبس ما لا نصنع. انتشرت مكاتب الاستيراد والتصدير، أصبحنا نستورد خبزنا وملابسنا وتعليمنا، طغت كلمة البورصة على الاقتصاد والسياسة والثقافة والأخلاق. تمَّت خصخصة القطاع العام، وتمَّ إغلاق المصانع لصالح الشركات الأجنبيَّة ووكلائهم من رجال الأعمال المصريِّين أصحاب شركات القطاع الخاص. كسبوا البلايين وملكوا القنوات الفضائيَّة. طغى الإعلام على الثقافة والفكر والأدب، أصبح المذيع أو المذيعة أهم من المفكِّر المبدع. تمَّت مطاردة المفكِّرين من الرجال والنساء في محاكم الحسبة والتكفير، حُكم عليهم بالسجن أو المنفى والتشريد وتشويه السمعة. زاد الأثرياء والحكَّام ثراءً، وعاش نصف الشعب المصري تحت خطِّ الفقر.
تصاعدَت القوى السياسيَّة الدينيَّة الإخوانيَّة والسلفيَّة، والنقاب للنساء تحت اسم الحرِّيَّات السياسيَّة والشخصيَّة. لماذا لا تُطبَّق هذه الحرِّيَّات على جميع فئات الشعب؟ لماذا الفصل بين الحقوق السياسيَّة والحقوق الاجتماعيَّة والاقتصادية والأخلاقيَّة للرجال والنساء والأطفال؟ قالت واحدة من الأمهات المسحوقات، تحمل علي كتفها طفلًا مسحوقًا: «نحن الأمَّهات المطلَّقات الحاضنات ليس لنا حزب أو اتحادٌ نسائي يدافع عن حقوقنا وحقوق أطفالنا، الرجل يطلِّق زوجته غيابيًّا دون علمها، ثم يتهرَّب من مسئوليَّة الإنفاق على ابنه، اشتغلتُ بالبيوت لأُنفق على طفلي وأعالجه، ثم يأتي أبوه يريد خطفه منًي ليحرق قلبي، يتَّفق مع آباءٍ آخرين مثله لعمل مظاهرة للاستيلاء علي حقوق الأم، تحت اسم حق الأب في رؤية ابنه.» لو كان حريصًا على مصلحة ابنه لأرسل له مصاريف الطعام والعلاج، لكنَّه يستخدم ابنه الطفل المسكين ليبتزَّ أُمه المسكينة، ليفرض عليها التنازُل عن النفقة. تنازلت الأم عن نفقتها ونفقة ابنها حماية للطفل من سطوة أبيه، لكنَّه يهدِّدها تحت اسم حقِّه في رؤية الطفل ليأخذ شقَّتها وفلوسها التي تكسبها بعرق جبينها. جاء تعديل قانون الطفل الأخير لصالح الأطفال المساكين، وليس من أجل سوزان أو جيهان أو غيرهما، لكنَّ هؤلاء الآباء الفاسدين يسيطرون على الأمَّهات والأطفال بحكم السلطة الأبويَّة الطبقيَّة. النظام الأبوي الطبقي السائد يقف مع الأقوى ضد الأضعف.
يلعب العرف والشرع والقانون الوضعي دورًا في التحيُّز للرجل، وإن كان مغتصبًا غاصبًا، يستغل حب الأم لطفلها لابتزازها وسلبها حقوقها. تظاهر بعض الآباء أمام مشيخة الأزهر للمطالبة بإلغاء قانون الخلع وقانون الطفل الجديد تحت اسم الثورة المجيدة على قوانين الهانم سوزان أو جيهان، لكنَّ تعديل هذه القوانين القديمة المجحفة بحق الأطفال وأمَّهاتهم جاء بسبب نضال النساء والرجال من ذوي الضمائر الحيَّة، النضال الطويل على مدى القرون، دأب المنافقون والمنافقات على سلب الجهود من المناضلين وإعطائها للحكَّام من النساء والرجال.
وتقول الأم التي داخت في المحاكم لتأخذ حقَّ أطفالها الثلاثة من أبيهم غير المسئول، الرجل الذي يطلِّق زوجته أم أولاده، من أجل شهوته الجنسيَّة، ويعرِّضها لذُّل المحاكم (سعيًا وراء نفقة أطفالها): «هذا الرجل لا يستحقُّ الأبوَّة، ولا يستحقُّ أن يكون له أطفال، أين منظَّمات المرأة وحقوق الإنسان؟ لا نسمع لهم صوتًا إلا الدفاع عن حُريَّة المرأة لارتداء النقاب؟»