لم يَرَ واحدًا منهم له عينٌ واحدة
فتاةٌ — طفلة عمرها ١٨ سنة — زوَّجها أبوها رغم إرادتها لرجلٍ يكبرها بأربعين عامًا، لكن الزواج لم ينجح بالطبع، فكيف لطفلة — فتاةٍ صغيرة — أن تُنتهَك جسديًّا ونفسيًّا من قِبل رجلٍ عجوز من عمر جدَّها وضد إرادتها، ربَّما قاومَتْه الفتاة أو حاولَت الانتحار وفشِلَت وبقِيَت معه على مَضَض وكُره ثم حاولَت الهرب، فذهب إلى المأذون وطلَّقها بإرادته المنفردة. أمسكها وأوسَعَها ضربًا وركلًا، ثم أعادها إلى أبيها يتهمها بسوء السلوك، الحجَّة الجاهزة السهلة لأي رجلٍ معدوم الضمير يُطلِّق زوجته، العيب فيه أو العجز أو الرغبة في الانتقام منها لعدم قبولها الذل والهوان. المهم أنَّ الأب المعدوم الضمير، منذ البداية، أمسك ابنته الصغيرة الضعيفة العاجزة عن المقاومة، كبَّل يدَيها الصغيرتَين بحبلٍ متين، يساعده رجالُ الأسرة، أعمامها وأشقَّاؤها، لفُّوا حول فمها وأنفها شرائط لاصقة «البلاستر»، وألقَوا بها حيَّة في النيل، نشَرَت صحف القاهرة يوم ٢١ أبريل ٢٠١١م خبر العثور على جثَّتها وانتشالها من الماء، وقرَّر الطبيب الشرعي أنَّ سبب الوفاة أسفيكسيا الخنق.
كم منَّا قرأ هذا الخبر، وقد نُشر في عدد من الصحف منها الأهرام والمصري اليوم وغيرهما؟ الآلاف قرءوا الخبر ثم قلبوا الصفحة ليقرءوا الأخبار الأهم في نظرهم عن تنافس المرشَّحين على كرسي الرئاسة. الوعود للشعب بالعدالة الاجتماعيَّة، المُراقة بالحبر على ورق الصحف، المُذاعة بالأبواق على الجماهير. الوعود بالعدالة الاجتماعيَّة تختفي مع انتهاء الانتخابات والصعود إلى العرش. هل تألَّم أحد المرشحين المتحمِّسين للعدالة الاجتماعيَّة لخبر مقتل هذه الفتاة؟ حلبة الصراع على السلطة والثروة تتكرَّر في كل انتخابات وكل عهد، بالطريقة نفسها، وكيف تتغيَّر والنظام لم يتغيَّر بل تغيَّرت الوجوه فقط. لا زالت القيم العنصريَّة والقوانين الأبويَّة الطبقيَّة هي التي تحكم العلاقات داخل الدولة والعائلة. الجميع (إلا القليل النادر) قلبوا الصفحة ونسوا الفتاة الطفلة البريئة المقتولة تحت اسم الدفاع عن شرف العائلة، كلمة الشرف ينطقها الأب والأعمام والأشقاء بصوت جهوري يهتزُّ له وجدان المحقِّقين والقضاة ورجال الحكم والدين. يتكتَّل الجميع في قوَّةٍ متينة من أجل شرف الرجال وكرامتهم ضد الفتاة الطفلة، ليس لها شرف ولا كرامة، ليس لها أحد في هذه الغابة، حتى أمُّها المسكينة ترتعد لكلمة الشرف، تساعد الرجال في قتل ابنتها أو على الأقل تسكت وتتستَّر على الجريمة، وكم من بناتٍ صغيرات تمَّ قتلهنَّ في بلادنا من أجل الشرف دون عقاب القتلة، أو عقابٍ مخفَّف تعاطفًا مع الرجال المدافعين عن شرفهم. نعم، ما زال مفهوم الشرف في بلادنا يرتبط بسلوك البنات الصغيرات أكثر من سلوك فطاحل الرجال في بورصة السياسة والمال والإعلام.
بعض الغارقين لآذانهم في حلبة التنافُس على الرئاسة قد يسخرون من اهتمامي بفتاةٍ صغيرة لا وزن لها في غابة السياسة والمال وتوازن القوى، ومن يحترم حق إنسانة أو إنسانٍ مصري ليس له قوَّة؟ وهل احترموا ملايين الشعب المصري إلا بعد ثورةٍ جماعية مليونيَّة أسقطت رءوس النظام وانتزعت حقَّها بقوَّة التنظيم والاتِّحاد؟ رفعت الثورة شعار الكرامة والحرِّيَّة والعدالة للجميع، بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطبقة، لكن سرعان ما تكتَّلت القوى المسيطرة في السوق، القوى الأبويَّة الطبقيَّة التي تتمتَّع بالصوت العالي في الإعلام، والقوى الدينيَّة التي تُوظِّف الدين في السلطة الحاكمة لتُرعب من لا يخضع ويُطيع.
لماذا قامت الثورة المصريَّة؟ ألم تقم من أجل العدالة والحرِّيَّة والكرامة؟ ألم تقم من أجل هذه الفتاة وغيرها من الملايين المقهورات والمقهورين، من الشعب الفقير؟ هل انطفأت روح الثورة الإنسانيَّة العظيمة وعادت ريما لعادتها القديمة؟ عدنا إلى حلبة الصراع على السلطة والثورة بالطرق القديمة، فقدنا الإنسانيَّة الثوريَّة التي ترعى الضعفاء والأغلبيَّة المظلومة، عُدنا حيواناتٍ سياسيَّة لها عضلاتٌ انتخابيَّة بارزة وأبواقٌ إعلاميَّة زاعقة، وأموالٌ غزيرة من أرباح السوق الحُرَّة أو المناصب العُليا منذ عقود، والوعود التي لا تتحقَّق أبدًا حتى يموت الحاكم أو يُضرب بالرصاص أو يُسجن في الزنزانة. زهقنا من الوعود الزائفة التي تمرَّست بها النظم السابقة الساقطة، والتغنِّي بالكلام المعسول عن رفع الأجور وعدالة توزيع الثروة والسلطة، وكل عمليَّات النصب السياسي في الانتخابات الحرَّة المزيَّفة منذ العهود البائدة.
هل يتوقَّع عاقل أنَّ هذه الانتخابات القادمة خلال شهور للرئاسة أو للبرلمان سوف تقدِّم لنا حكَّامًا جددًا أو نظامًا جديدًا؟ على أي أساس يأتي الرئيس الجديد أو نائب البرلمان الجديد؟ والدستور قديم لم تتغيَّر فيه إلا القشور، والقوانين كلُّها، العامَّة والخاصَّة، قديمة، طبقيَّة أبويَّة مزدوجة عنصريَّة، تُطلق سراح الجاني الأقوى، وتعاقب الضحيَّة من الفقراء والنساء والأطفال؟ لماذا لم يتغيَّرِ الدستور والقوانين قبل الترشيحات؟ لماذا هذه السرعة والهرولة إلى الانتخابات؟ لماذا لا نتأنَّى ونُصدر قوانينَ جديدة عادلة تفرز عناصرَ شعبيَّة ثوريَّة من الرجال والنساء والشباب والشابَّات، من خارج تلك النخبة القلَّة المسيطرة على سوق السياسة والمال والبورصة والشاشة؟ كيف تتحقَّق الكرامة والعدالة والحرِّيَّة للشعب كله وليس لهذه الطبقة المميزة في كل العهود؟ النخبة من السياسيِّين والأحزاب الشكليَّة ورجال الأعمال ونساء الإعلام والماكياج؟ هؤلاء نما أغلبهم وترعرعوا في حضن النظم السابقة الفاسدة وصمتوا على فسادها السنين والسنين؟ يغيِّرون جلودهم ويطلُّون علينا بوجوهٍ جديدة ووعودٍ جديدة لا تتحقَّق.
هذه النخبة هي أعمدة النظام السابق، هي التي أفسدته وبرَّرت له الفساد وأوصلته إلى سجن طرة، ثم تخلَّت عنه بسرعة، نفضت عنه يدَيها وعادت إلينا بوجوهٍ مغسولة بريئة ترشِّح نفسها في كل الانتخابات المحلِّيَّة والعربيَّة والدوليَّة. وإن اعترض الشعب عليهم يقولون دون حياء: «كلنا عايشنا النظام السابق، كلنا كنا العبد المأمور، كلنا لم نستطع تَجاوُزَ الخطوط الحمراء وإلا تعرَّضنا للسجن أو النفي أو الطرد من المنصب أو تشويه السمعة أو … أو …» لكنَّ هناك قلَّة قليلة من الرجال والنساء كانت ذات شجاعة وضمائر حيَّة تعرَّضت لكل هذه الأنواع من الأذى، من أجل أن تقول كلمة صدق، فلماذا لا تُخلونَ الطريق أمام هؤلاء المخلصين والمخلصات؟ لماذا تحتلُّون كما كنتم، كل الأماكن وكل المساحات في صحف الحكومة والمعارضة، اليمين واليسار والوسط والإخوان المسلمين والمسيحيِّين والسلفيِّين والصوفيِّين، وكل القوى والمناصب في الدولة والدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام وكل شيء؟ المخلصون والمخلصات من الشعب المصري لا يتكالبون على المناصب ولا التنافُس في تمثيليَّة الانتخابات المُتكرِّرة في كل عهدٍ برتوش، وماكياجٍ جديد.
هذه النخبة تُفسد كل شيء، حتى شباب وشابَّات الثورة الشعبيَّة ذات المبادئ الإنسانيَّة الرفيعة راحت تفسدهم، وتبذر الخلافات بينهم لتتقسَّمهم، فَرِّقْ تَسُد، اختارت منهم ما يتواءم معها ويتكيَّف مع مبادئها المطَّاطة المراوغة. تمَّ تغييب الأغلبيَّة من الشباب والشابَّات الذين صمدوا وضحَّوا بحياتهم ودمائهم وقلوبهم وعيونهم. قال لي شابٌّ فقد عينه اليمنى برصاص قنَّاصة: «كل شباب الثورة اللي بيظهروا في التلفزيون لابسين حلو وعينيهم الاتنين حلوين، ما شفتش واحد منهم له عين واحدة!»