ألا نتحرَّر من عبوديَّة تقديس الفرد؟
لماذا نشعر بالحنين إلى حكم الفرد في الدولة أو الدين أو العائلة أو المدرسة أو العمل أو أيِّ شيء؟ لماذا لم يلعب الطبُّ النفسي أو الثقافة العامَّة دورًا لتحرير العقل المصري من الخضوع لعبوديَّة السلطة الفرديَّة؟ هل الخضوع للعبوديَّة مرض سياسي يتحوَّل مع طول الزمن إلى مرض نفسي؟ بمعني عدم الرغبة في الشفاء من العبوديَّة، أو الخوف من الحرِّيَّة والمسئوليَّة؟ والحنين إلى الخضوع والهوان؟ هل يتدرَّب الطفل على الطاعة وقبول الإهانة من المدرِّس أو الناظر؟ هل تعشق الفتاة الرجل الفحل الحمش؟ هل يستعذب العاشق عذاب الحب؟ وإلا فلماذا هذه النكسة التي تصيب أي محاولة للتحرر من حكم الفرد؟ إن خلعنا رأس الدولة خلقنا رأسًا آخر نعبده ونقدِّسه في المؤسَّسات العامَّة والخاصَّة.
استطاعت الثورة المصريَّة الأخيرة في يناير ٢٠١١م التخلُّص من رئيس الدولة السابق وبعض أعوانه، إلا أنَّها لم تتخلَّص من القيم الموروثة التي تكرس حكم الفرد الواحد وسلطته المطلقة في حياتنا العامَّة والخاصَّة، في بيوتنا ومدارسنا ومعاهدنا العلميَّة والدينيَّة، وأحزابنا السياسيَّة، وجميع المؤسَّسات الثقافيَّة والفكريَّة والتعليميَّة والإعلاميَّة والصحافيَّة وغيرها.
عبوديَّة تقديس الفرد مرضٌ مزمن في النفوس والعقول البشريَّة، لا يمكن اقتلاعه بثورةٍ مهما عظُمت، إنَّه يحتاج إلى ثورات وثورات، ليست سياسيَّة فقط أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة، بل ثورات فكريَّة ونفسيَّة لاقتلاع جذور العبوديَّة من أجساد وعقول البشر، رجالًا ونساءً وأطفالًا. تقديس الفرد الواحد مرضٌ عالمي ومحلِّي، شرقي وغربي، منذ العصر الحجري وقبل الحجري، تجلَّى في مصر القديمة تحت الحكم الفرعوني، الفرعون الإله الجالس على عرش الحكم فوق الأرض وفي السماء، يملك حياة البشر وموتهم حين يريد، إن خالفوا أوامره أو رفضوا ظلمه، هو قادر على قتلهم وإبادتهم دون سؤال أو محاسبة، لأنَّه فوق المساءلة أو المحاسبة، ألم يتكرَّر ذلك في بلادنا حتى اليوم؟
ما هذا التقديس للفرد الواحد الأوحد الجالس على قمَّة أي شيء في مصر، وإن كان «كوم زبالة»؟ أو تراكُم تعليمٍ رديء، أو سياسة وأحزابًا رديئة؟ أو صحافة وإعلامًا أكثر رداءة؟ بالطبيعة أنا متفائلة، الأمل قوَّة واليأس ضعف، لكن مجرَّد قراءة الصحف المصريَّة (مثلًا) تقتلع الأمل من أي طفل أو طفلةٍ متفائلة مثلي، حين يسألونني عن سر شبابي في الثمانين من العمر أقول لهم إنَّ الطفلة المتفائلة في أعماقي لم تمُت، عجزت جميع القري العظمي (في الدولة والعائلة والخارج والداخل) عن قتل الطفلة في أعماقي. نعم أيُّها السادة ما زلت طفلة في العاشرة من عمري أحلم بالثورة، الثورة الحقيقيَّة التي تقتلع السلطة الفرديَّة المطلقة في أي مكان، يتشدَّق السياسيون دائمًا بحكم الشعب، يقولون الديمقراطيَّة تعني حكم الشعب، لكن ما إن يتولَّى أحدهم رئاسة مؤسَّسةٍ ما، وإن كانت لتربية الدواجن (أو لنشر مقالات للناس) حتى يصبح فرعونًا. الإله لا يقبل الجدل أو النقاش، كلُّنا نعرف كيف تتحكَّم السلطة الفرديَّة المطلقة في التعليم والثقافة والإعلام، هذه المؤسَّسات الثلاثة التي تُشكِّل العقل المصري.
لم أكن أفتح التلفزيون المصري في العهد السابق، حرصًا على الوقت الثمين، من أن يُهدر في الاستماع إلى الأكاذيب، تغيَّرت بعض الوجوه القديمة، إلا أنَّ السلطة الفرديَّة ما زالت موجودة، تغيَّرت الأكاذيب واتَّخذت شكلًا جديدًا، في المدارس أيضًا وفي الثقافة، وفوق أعمدة النور في الشوارع. تمَّ نزع صور الحاكم القديم وحرمه وابنه، وتمَّ تعليق صور أخرى لأصحاب السلطة الفرديَّة المطلقة الجديدة. في الصحافة تمَّ تغيير بعض الوجوه واستبقاء البعض دون أي معاييرَ مفهومة. بعض المنافقين ذهبوا، ليأتي آخرون أكثر نفاقًا. السلطة الفرديَّة المطلقة ظلَّت تحكم الصحافة، وتسلِّط الضوء على وجوه بعينها. كُتَّاب وصحافيُّون ومثقَّفون كانوا حماة الدكتاتوريَّة وحكم الفرد الإله منذ الملك والجمهوريَّة الأولى، أصبحوا من أبواق ديمقراطيَّةٍ دكتاتورية جديدة، يسيطرون على التعليم والثقافة والإعلام والصحافة. بالطبع هناك بعض وجوهٍ شابَّة جديدة ظهرت بعد الثورة هنا وهناك، دون معاييرَ مفهومة، كل الاختيارات تتم في الخفاء دون أن نعرف كيف ولماذا، نُفاجأ كل يوم بمجلسٍ جديد أو اتحادٍ جديد أو جمعيَّةٍ جديدة للشباب أو الرجال أو النساء، وأحزابٍ جديدة تظهر فجأة، وقياداتٍ ثوريَّة نضاليَّة تهبط بالطائرات، لا نعرف لها أي تاريخٍ نضالي. يسألني الشباب والشابَّات: هل تعرفين فلانًا الفلاني الذي يتكلَّم عن الثورة في كل الإذاعات ويُشكِّل الحزب الجديد الكبير ويُرشِّح نفسه للرئاسة؟ أقول لهم: لا أعرفه والله العظيم ولا أعرف له تاريخًا في بلادنا (ربما كان بطلًا في بلادٍ أخرى وراء البحار). يسألونني: ما رأيك في هذا الإله الذي يتربَّع على عرش الصحافة اليوم ويُقدِّسه المنافقون وريما يرشِّحونه للرئاسة؟ أقول لهم: أعرف تاريخه جيِّدًا منذ مائة عام ولن أنتخبه وإن تكحَّل بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. يسألونني: ومن تنتخبين يا دكتورة؟ أقول لهم: لا أحد، هذه الانتخابات السريعة القادمة للرئاسة أو للبرلمان لن تنتج إلا فراعنةً آخرين ودكتاتوريِّين جُددًا، لا بُدَّ من تأجيل الانتخابات بكل أنواعها، حتى نُغيِّر الدستور والقوانين لتصبح كلها عادلة لا تفرِّق بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس أو الطبقة أو غيرها. جميع القوانين غير عادلة تكرس الحكم الطبقي الأبوي، تكرس حكم الفرد أو السلطة الفرديَّة المطلقة، من قمَّة الدولة حتى الأُسرة وسفح المجتمع الأسفل. لن تكون هناك انتخابات حرَّة تعكس إرادة الشعب دون وجود لسلطة الشعب، والعدالة السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في الدستور والقانون، دون القضاء على عبوديَّة تقديس الفرد في الثقافة والتعليم والإعلام.
هذه بديهيَّاتٌ بسيطة تَرِد لأيِّ عقلٍ سليم، لكنَّ عقولنا تعرَّضَت لعمليَّات قمعٍ ومسخ، تحت حكم السلطة المطلقة الفرعونيَّة الإلهيَّة، الطاعة أو الموت ماديًّا أو معنويًّا، تجمَّدَت عقولنا منذ العصر الحجري، نتمسَّك بقيم وأفكارٍ انقرضت منذ قرون، منها تقديس سلطة الفرد حيًّا وميتًا. لم نتعلَّم القيادة الجماعية في البيت أو المدرسة أو الدولة؟ ننتظر الكاتب الواحد الأوحد أو المفكِّر الواحد الأوحد أو الحاكم الواحد الأوحد ليحكمنا ويشكمنا، لنخضع ونستكين ونهدأ، ليكف فينا الحنين إلى العذاب والذل والعبوديَّة.
شهِدتُ في عيادتي النفسيَّة كثيرًا من هذه الشخصيَّات؛ رجلًا ضخم الشاربَين يشكو من رئيسته لأنَّها طيِّبةٌ رقيقة وليس لها سلطة على المرءوسين، زوجةً قويَّة الشكيمة تشكو زوجها لأنَّه رخو لا يشكمها ويتركها تخرج على حريتها، تلميذًا بليدًا لا يحترم مدرِّسه لأنَّه لا يمسك العصا ويضرب. هذه نماذج كيفيَّة ترسُّب قيم العبوديَّة في العقول. كيف أصبح عشق السلطة الفرديَّة المطلقة مرضًا ينخر في النفوس؟ قال أحدهم لي: تصوَّري يا دكتورة أحيانًا أشعر بالحنين لمبارك رغم أنَّه وضعَني في السجن وخَلعَ عين ابني في التحرير.