شهرزاد جديدة أكثر تحرُّرًا
كم من رجالٍ كتبوا عن شهرزاد، من وحي أحلامهم، في اليقظة والمنام. الأُسطورة المرأة انتصَر ذكاؤها الأنثوي المراوغ على بطش الذكورة الأعمى. عَرَفنا مسرحية توفيق الحكيم «شهرزاد». تَجسَّد فيها خيال المؤلف، أشد ذكورية من المؤلف الأصلي. كثيرون من المبدعين في الشرق والغرب وقعوا تحت سحر شهرزاد، كتبوا عنها بعد أن غزت خيالهم، تصوَّر كلٌّ منهم نفسه الإمبراطور شهريار، الذكر المتعطش للدماء، ارتبطَت اللذة الجنسية في خياله بلذة العنف والقتل. ألَمْ يقتلِ العصفورة في طفولته رغم تغريدها له كل صباح؟ ألم يَصطَدْ اليمامات البريئات بالنبلة؟ ألَمْ يُمزِّق جسد القطة المولودة بالمطواة لمجرد المتعة؟
كثيرون أيضًا كتبوا عن «إزيس» الإلهة المصرية القديمة منهم توفيق الحكيم (١٩٧٦م). لم يعرفوا عنها سوى أنها زوجة أوزوريس. لم يكن لها كيانٌ في عقلهم إلا من خلال زوجها، مع أنها كانت إلهةَ الحكمة والإبداع الفكري، انتَشرَت فلسفتُها في مصر وانتقلَت إلى أوروبا وبقيت حتى القرن السادس ميلادي، رغم حروب الإبادة التي أرادت دفنها في التاريخ. أغلب المبدعات من النساء تم دفنُهن بيد مؤرخي النظام العبودي الطبقي الأبوي، من الإلهات القديمات، نوت وإنانا وإزيس ومعات، إلى الشخصيات النسائية الخلَّاقة في عصرنا الحديث، تم دفنهن جسديًّا وأدبيًّا وفكريًّا، وهُنَّ على قيد الحياة. تمَّت سرقة أفكارهن وأُعطيت للمؤلفين من الرجال التابعين للسلطة الحاكمة. نال الرجل جوائز تحرير المرأة والمجد والشرف، على حين توارت المؤلفة الأصلية عن الأنظار، أو اتُّهمَت بالشذوذ والنشاز، أو تم اختزال شخصية المرأة المفكرة، لتصبح الزوجة الوفية أو الأم المثالية، تلد الذكور ولا تلد الإناث، كل المبدعات في التاريخ الطبقي الأبوي أنجبن الابن، وليس البنت. إزيس ولدت ابنها حورس، السيدة مريم ولدت ابنها المسيح، شهرزاد أنجبت لزوجها شهريار ثلاثة أبناء كلهم ذكور، ليست فيهم بنتُ واحدة. عجز الخيال الذكوري في الماضي والحاضر عن تصور ابنة للإلهة إزيس، بدلًا من ابنها حورس، أو أن السيدة مريم ولدت بنتًا أطلقت عليها اسم «بنت الله» بدلًا من ابنها المسيح ابن الله، أو أن شهر زاد أنجبت ثلاث بنات بدلًا من ثلاثة ذكور، أكان شهريار يقتلها؟ كم من الرجال كتبوا عن شهرزاد؟ طه حسين نشر كتابه «أحلام شهرزاد» أول إصدارات «اقرأ» بدار المعارف (١٩٤٣م). عبد الرحمن الخميسي كتب عن شهرزاد، وأندريه جيد الفرنسي، وجوته الألماني، وغيرهم كثيرون من أدباء الشرق والغرب. في الأزمنة القديمة والحديثة، تأثروا بحكاياتها المبدعة، استلهموا منها السحر والخيال، لكن أحلامهم الأبوية الطبقية أعجزتهم عن إدراك شخصيتها النسائية الأصلية، بعضهم صورها على نحوٍ أكثر تقدُّمًا من الآخرين. اعتبروها محررة المرأة، انتَصرَت لبنات جنسها، أَخضعَت الإمبراطور الدموي شهريار لسحر حكاياتها. ألقى سلاحه وركع عند قدمَيها عاشقًا مستسلمًا. استطاعت بالدهاء والمكر أن تنقذ نفسها وغيرها من البنات.
لكن التحرُّر الإنساني الحقيقي يقوم على الصدق والمواجهة، لا على المراوغة والتحايل والمكر. التحرر الإنساني الحقيقي يقوم على مقاومة الطغيان في المجتمع كله، لا ضد الزوج الطاغي فقط، بل ضد النظام الذي يُنتِج هذا العنف الذكوري الدموي في الأُسرة والدولة.
من الليلة التاسعة بعد الألف، تبدأ «شهرزاد طه حسين» حكايتها الجديدة. ينهل طه حسين من أحلامه عنها. رغم تحرُّره العقلي، يظل خياله سجين الوجدان الذكوري، مثل توفيق الحكيم. كانا، مثل غيرهما من المبدعين، نتاج عصرهما الطبقي الأبوي.
كان أبي يحترم أمي، يساعدها في أعمال البيت، لا ينتظر منها أن تخدمه بالنهار، وتسليه بالحكايات في الليل حتى ينام مثل شهريار. في السابعة من عمري اعتبرت الملك شهريار أكثر طفولة مني؛ لأني أنام وحدي دون الحاجة إلى الحكايات السحرية عن الجن والجنيات. أيضًا لم تكن شهرزاد تحظى بتقديري؛ فهي بلا عمل إلا تسلية زوجها، تُلهيه بالحكايات مثل الجواري والإماء، وهو حاكمٌ مستبد، يتمتع بحريةٍ مطلقة لسفك الدماء. تعلمتُ من أبي أن الحرية هي المسئولية وليس الفوضى والاستبداد، لم تكن شهرزاد مَثَلي الأعلى في الحياة. تعلَّمتُ من أمي أن الأنوثة هي الصدق والصراحة وعدم المراوغة أو المكر. لم تُغيِّر شهرزاد من سطوة زوجها الذكورية، فقط امتنع عن قتلها وقتل البنات، وظل مريضًا بالسلطة الأبوية، مُدللًا كالطفل، لا ينام إلا على الحكايات السحرية. أنجبَت له ثلاثة أبناءٍ ذكور لتُشبع ذكورته حتى الثمالة.
أبرز ما يُميِّز شهرزاد هو الدافع الجنسي الأنثوي العبودي، يمنحها المكر والدهاء للسيطرة على الرجل. هنا يكمن الوهم أنها علَّمَت شهريار الإنسانية. الحقيقة أنها علَّمَت النساء المكر والدهاء والمداهنة، كيف يسيطرن على الرجل بالخداع والمراوغة، لا بالصدق والشجاعة والمواجهة. إنه ذكاء الإماء والعبيد لا ذكاء الأحرار من الرجال والنساء.
تخرج الأفكار في قصص الرجال عن شهرزاد من المنبع ذاته الذي يخرج منه شهريار، وهي العبودية الأبوية الطبقية العنصرية؛ فالخادم العبد أسود اللون، محتقَر منبوذ نجس، يقطع الملك رأسه دون سبب، أو لمجرد الشك، كما يقطع رءوس البنات البريئات بعد اغتصابهن ليلةً واحدة، أو نصف ليلة. كان شهريار ضحية امرأةٍ فاسدة شريرة خانته مع الخادم العبد، لكن جاءت من بعدها شهرزاد المرأة الصالحة المخلصة، فأخذت بيده وأرشدته كالأم الطاهرة إلى الطريق الصحيح. هنا يتضح غباء الغطرسة الذكورية الطفولية؛ فالرجل، وإن كبر وشاخ، يظل طفلًا أو ألعوبة في يد الأنثى الشيطانة أو العذراء الملاك؛ أي إن المرأة هي الفاعلة في مجال الشر ومجال الخير، والرجل هو المفعول به، وإن تقمص دور الفاعل. لم يكن لشهرزاد دور في الحياة خارج بيتها. انحصر دورها في تسلية زوجها، التفنُّن في إغوائه والإمساك به من قرنَيه، وإخضاعه لعقلها وذكائها وحيلها الإبداعية. لم يكن لشهرزاد دور في الحياة العامة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية؛ لهذا السبب اعتبرها الرجال نموذجًا للمرأة الصالحة، نموذجًا للزوجة المخلصة المتفانية في خدمة أهواء زوجها، نموذجًا للأم المثالية التي تلد الذكور وليس الإناث. لم يحكم أحد عليها بالمرض النفسي أو الجنون كما حدث لغيرها من النساء، اللائي شاركن في الحياة العامة والفكر والإبداع، اللائي لم يتزوجن ولم يلدن من مثيلات الكاتبة ميِّ زيادة. أي ثمن باهظ تدفعه المرأة الخلَّاقة المفكرة لتحافظ على إبداعها وعقلها في الماضي والحاضر؟!