سارة بالين وجواري القرن الواحد والعشرين
سمعتهم في أمريكا يقولون إن القرن الواحد والعشرين هو قرن المرأة، فهل هذا صحيح؟ وأيَّ امرأة يقصدون؟ أنجيلا ميركل؟ هيلاري كلينتون؟ سارة بالين؟ هل يكفي أن يكون المرءُ امرأة ليحكم بالعدل والديمقراطية الحقيقية والأخلاق؟ هل هذه القيم الإنسانية العليا صفةٌ بيولوجية تتعلق بالهرمونات؟ أم إنها تربية ضميرٍ عادل نزيه للولد والبنت منذ الطفولة، وسلوك وأخلاق مستقيمة يتعود عليها الإنسان، وفكر مستنير وعقل مبدع يتحدى التخلف، وعمل مخلص نابع من الإيمان بالعدل والحرية واحترام حقوق الغير؟
لماذا تفوَّقَت مارجريت تاتشر على الرجال (رغم كونها امرأة) في ظلمها ودمويتها وقهرها للفقراء والنساء؟ ولماذا نجحَت نساءٌ من نوع أنجيلا ميركل أو سارة بالين في هذه السنين الأخيرة؟
لماذا أصبحَت نساء الأعمال والمذيعات والممثلات في المقدمة؟ وتراجعَت المفكرات وصاحبات الخلق المستقيم والعقل المبدع إلى الوراء؟ لماذا طغت عقلية السوق، والبيع والشراء، والمكسب والخسارة، والأنوثة والخضوع والنفاق، على قيم الصدق والسعي نحو العدل والكرامة؟
أصبح الإعلام الأمريكي يقود العالم. طغت صورة المرأة المزخرفة التاجرة في الإعلام المدعوم بأموال السوق والسلاح. تنتمي سارة بالين للجناح المسيحي اليميني المحافظ في الحزب الجمهوري. تُبالغ في التديُّن والمحافظة على التقاليد، مع المبالغة في الأنوثة والمراوغة وليِّ الحقائق. تلعب في السياسة وموسم الانتخابات بكونها امرأة، إن فشِلَت الأنوثة أمسكَت السلاح بيدٍ والكتاب المقدَّس بيدها الأخرى. تَتهدَّل خصلة شعرها فوق جبينها لتُخفي نصف عينها اليمنى أو اليسرى، حسب حركات رأسها وهي تُلقي خُطبها. سمعتُها تخطُب في معركتها الانتخابية ضد باراك أوباما ٢٠٠٧م، ألصقَت به تهمة الإسلام، دين أبيه الأفريقي، مع أنه مسيحي على دين أمه الأمريكية، ادَّعَت أنه عربيٌّ إرهابي ضد السامية مع أنه يدعم إسرائيل بالكامل. اتهمَتْه بأنه ضد البيض لأنه أسود اللون مع أنه غير ذلك. سمِعتُها من فوق المنصة تُعبِّئ الشعب الأمريكي للحرب العسكرية ضد الشعوب في القارات الخمس، وكلِّ من يهدد مصالح إسرائيل وأمريكا. تفاخَرَت بأنها تنام في الليل محتضنةً سلاحها تحلُم بالقتل. أصبح للإعلام في أمريكا والعالم الدور الرئيسي في السياسة والانتخابات. يملِك الإعلام أصحاب الأموال والشركات والبنوك والسوق والسلاح. يمكن لأضواء التلفزيون أن تجعل من شخصٍ غائب العقل نجمًا أو نجمةً سياسية تحصد الأصوات في الانتخابات. أصبحت سارة بالين زعيمةً في موسم الانتخابات عام ٢٠٠٧م، اليوم هي تتربع على عرش الإعلام والسياسة الأمريكية. تراجعَتِ الحركات الشعبية والنسائية المناضلة ضد الحروب والفقر والسوق. استطاعت سارة بالين أن تتسرب إلى بيوت الملايين عَبْر الشاشة الصغيرة، أنوثتها التجارية المصنوعة أصبحَت المثل الأعلى لنساء أمريكا وكل البلاد، ومنها بلادنا.
أصبحَتِ المرأة المثالية هي المرأة المتناقضة المزدوجة الشخصية، الأنثى الخاضعة اللينة، والمرأة السياسية الصلبة المتمردة، عينٌ منكسرة ناعسة وعينٌ مفنجلة متحدية، توارت قيم الصدق والصراحة والنزاهة والشهامة والإخلاص في العمل والقول. بَرزَت قيم التسلُّق والانتهازية والنفاق والتديُّن السطحي والمتاجرة بالأخلاق. تم تغييب جمال العقل والروح والشخصية وإبراز الجسد الأنثوي والشفاه المكتنزة. أصبح ذكاء المرأة هو قدرتها على تحقيق طموحها عن طريق الرجال، كلٌّ حسب قدرته، تجعل الحب تجارة من أجل المكاسب؛ المال أو الشهرة أو النجاح. تخلع رداء العقل والجدية والتحدي خارج البيت لترتدي رداء الأنوثة في البيت والمراوغة والخضوع. تُمسِك قلم الحواجب مع قلم الكتابة، يتحوَّل القلم في يدها إلى حربايةٍ تتلوَّن مع حركتها من مكان إلى مكان.
حين أنظر إلى صور نساء السياسة والأعمال (البيزنس) أراها تُشبه صورة سارة بالين، حتى طريقة الكلام وإلقاء الخطب. تختلف اللغة من الإنجليزية إلى العربية، لكن نبرة الصوت تكاد تكون واحدة. تسريحة الشعر، الثوب يكشف عن الركبتَين وجزء من الفخذَين المضمومتَين. القدمان المقوَّستان فوق الكعب العالي المدبب. البحَّة أو الشهقة والابتسامة الأنثوية، ثم الشخطة الذكورية والصرامة. بشرة الوجه المشدودة بمشرط التجميل متوردةٌ ناعمة كأنما لطفلة أو فتاةٍ مراهقة، مع نظرة العينَين الغارقة في الكحل والزمن والتجاعيد. تكشف العينان العمر الحقيقي للإنسان رغم مشارط الجراحين، رغم استبدال الجفنَين العجوزَين بغيرهما، رغم تركيب الرمشَين الغزيرَين الصناعيَّين. تبدو الواحدة منهن مثل دميةٍ متعددة الألوان، متعددة الأصوات، متعمقة في شئون السياسة والاقتصاد الحر والسوق، وشئون البيت والطبخ وطاعة الله والزوج، قد تلفُّ رأسها بحجابٍ حسب الموضة، أو تُعرِّي أجزاءً من جسدها حسب الموضة أيضًا. تجلس المتغطية بجوار المتعرية، جنبًا إلى جنب في انسجامٍ كامل، ترفعان شعار التعدُّدية والحرية الشخصية. تُصفِّق الجماهير المحتشدة في ساحة الإعلام.
أصبحَتِ الإعلانات التجارية والإعلام السطحي يُشكِّلان الرأي العام، في أمريكا، وبلاد العالم، ومنها بلادنا. لفِظَتِ الحركات النسائية الجادة أنفاسها تحت سطوة اليمين الديني المتصاعد. ماتت النخب النسائية المناضلة ضد النظام الرأسمالي الأبوي، توارت في بيوتها بسبب الشيخوخة أو الاكتئاب أو المطاردات، تمَّ إفساح الساحة للجواري من النساء المحجَّبات أو المتعرِّيات، وأقرانهن من رجال الأعمال والسياسة، أصبحت السياسة بيزنس. يعمل الوزراء والوزيرات بالبيزنس، يحدُث التزاوُج بين السلطة والثروة، تتركَّز الأموال في يد القلة من أصحاب المناصب، في الدولة والقطاع الخاص. تتسع الهوة بين الفقراء والأغنياء. تشتد النعرات الدينية الداعية إلى الزهد والعفة. يطغى الفساد حتى يعُم الحياة العامة والخاصة.
أليس هذا هو حال بلادنا والعالم في هذا القرن الواحد والعشرين؟ يقولون عنه قرن النساء، لكن أي نوع من النساء؟ ألم تُصبِح صورة المرأة الجارية (مُتعرِّية أو مُتحجِّبة) هي الصورة السائدة؟ ألم تعكس المسلسلات التلفزيونية في مصر خلال شهر رمضان، أغسطس ٢٠١٠م، هذه الحال البائسة؟ الإعلام المرئي والمسموع هو مرآةٌ عاكسة للواقع الفاسد، في ظروف الردَّة التي نعيشها يتدهور الإعلام والفنون الدرامية مع تدهور السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق، تعكس النساء هذا التدهور أكثر من الرجال، بحكم وضعهن الأدنى. تمارس القوى الصاعدة السياسية الدينية قهرها للنساء قبل الرجال. يظهر القهر على جسد المرأة، يفرض عليها التغطية طاعة لله، أو يفرض عليها التعرية طاعة لأوامر السوق الحرة وزيادة توزيع البضائع.
يلعب الإعلام في بلادنا اليوم دورًا رئيسيًّا في تغييب العقل أو تزييف الوعي، في مضاعفة الأرباح لرجال ونساء الأعمال الشاغلين للمناصب العليا في الدولة، المتحكمين أو المالكين لقرارات السياسة والتجارة والسوق والأحزاب والانتخابات والقوانين والشرائع والدستور، أصحاب السلطة والثروة القادرين على رفع شعار التغيير لصالح أعمالهم وأرباحهم، المالكين للقنوات الإعلامية الأرضية والفضائية، المسيطرين على الدراما والفنون، على المنتجين والمخرجين والممثلين والممثلات. يكسبون الملايين من الإعلام والقنوات التلفزيونية. تدخُل جيوبَهم أرباحُ الإعلانات التي يدفعها الشعب الفقير المغيَّب الوعي، الجالس أمام الشاشة فاتحًا فمه، متأملًا أجساد النساء العارية، حالمًا بالجنة والحوريات بعد الموت. يتجاوب مع قيم الاستهلاك والفساد، يُصاب بالانفصام في الشخصية. يفرض على زوجته الحجاب وخضوع الجواري، ويذهب إلى صندوق الانتخاب ليكتب اسم سارة بالين المتعرية، أو شبيهتها المذيعة نجمة التلفزيون والمرشَّحة في الانتخابات المصرية.