مدينة أثينا – ولاية أوهايو
رأيتُ صورتها فوق شاشة الإنترنت، صورة بدور، الوجه المضيء بالأمل في المستقبل، يُشبِه وجهي حين كنتُ طفلة في عمرها، منذ ستين عامًا وأكثر، حين أمسكَتْني أربع نساءٍ من الفتوَّات، ذوات الأصابع الحديدية، قبضن على ذراعي وساقي، كتَّفْنَني مثل الدجاجة قبل الذبح، ثم قَطعنَ بالموسى الصدئة العضو الآثم الملعون، المخلوق بالطبيعة بين فخذيَّ.
كانت أمي واقفةً وراءهن ترمُقني بابتسامةٍ مريرة، تعرف أنهن يبتُرن من جسدي ما بتَرْنه من جسدها وهي طفلة. تعرف أنها لم تعرف في حياتها معنى السعادة، أو اللذة الجسمية، أنها تزوَّجَت وأنجبَت تسعة من البنات والأولاد، دون أن ترتعش فيها خليةٌ واحدة باللذة، التي كانت تغمر زوجها وتجعله ينتفض بالنشوة. وكانت تحسُده، وفي أعماقها تلعن أمها وأباها وجميع أفراد العائلتَين الكبيرتَين في الريف والمدينة، الذين تعاونوا معًا من أجل حرمانها من السعادة.
ويقول لها الرجال ممن يخطبون في الراديو والمساجد، وأطباءُ وطبيباتٌ من أتباع الخطباء، وضعوا الحجاب على عقولهم: «إن السعادة لا علاقة لها بذلك العضو الآثم الملعون، بل السعادة التخلُّص منه، والتفرُّغ لخدمة الزوج والأطفال، والصوم والصلاة وزيارة قبر الرسول قبل الموت.»
وماتت أمي في ربيع شبابها. قبل أن تموت قالت لي: «اغفري لي يا ابنتي، لقد فعلتُ بك ما فعلوه بي دون أن أدري، عشتُ حياتي داخل الخوف والجهل، وأموت اليوم بالخوف والجهل.»
كلماتُ أمي كانت كالضوء، نزعَت الغشاوة عني، لم أعُد أصب اللعنات على أمي، ولا أبي ولا الخطباء في المساجد، ولا الأطباء أو الطبيبات. حوَّلْتُ الغضب في أعماقي إلى طاقةٍ جديدة للكتابة، لكشف ريف الخطباء والأطباء، وتخلُّف الموروثات. أصدرتُ كتابًا يفضح عمليات الختان، يكشف جرائمها ضد البنات، ومضارَّها للجسد والنفس، ومخاطرها للفرد والمجتمع.
كان ذلك في منتصف القرن الماضي. وما إن صدر الكتاب حتى انتشر رجال البوليس في الشوارع يجمعونه، قالوا عنه كتابٌ من وحي الشيطان. قالوا إن غُدَّة الشيطان تُفرِز هذه الأفكار المعادية للدين والأخلاق. وكان وزير الصحة، مثل غيره من الأطباء، يعيش الجهل والخوف، فأصدر قرارًا بإعدام الكتاب، وعقاب المؤلِّفة بالفصل من عملها، وتشويه صورتها في الصحف والإعلام، باعتبارها خارجةً عن تعاليم الطب السليم والدين الحنيف.
إلا أن عمري امتد وطال طويلًا، لأعيش وأقرأ أن وزير الصحة يُصدِر قرارًا يُحرِّم ختان البنات، بسبب أضراره الخطيرة على صحة الجسم والنفس والمجتمع. بل أغربُ ما أشهَد في حياتي أن يعلن مفتي الديار في مصر أن ختان البنات حرام، أن الله حرَّمه تحريمًا كبيرًا. لم يكن الحبر قد جَفَّ بعدُ عن فتاوى رجال الدين الأحياء والأموات، وأصواتهم الزاعقة في الأبواق ومُكبِّرات الصوت: «إن تَرْك هذا العضو الآثم في أجساد النساء إثمٌ وضلالٌ وتشجيعٌ على الفسق والانحلال.»
أكان يجب أن تموتي يا بدور حتى يتسرب بعض الضوء إلى العقول المظلمة؟ أكان يجب أن تدفعي حياتك الغالية ثمنًا حتى يتعلم الأطباء شيئًا بديهيًّا؟ أكان يجب أن تنزفي آخر قطرة من دمك الطاهر الطفولي حتى يتعلَّم رجال الدين أن الدين الصحيح لا يقطع أعضاء الأطفال بالموسى، حفاظًا على العفة والأخلاق؟ أن يعرفوا أن الأخلاق سلوك في الحياة اليومية يتدرب عليه الإنسان منذ الطفولة، وليس مشرطًا يقطع أعضاءه؟
وكم من طفلةٍ وطفلٍ نزفًا على يد حلَّاقي الصحة والدايات في الريف، وعلى يد الأطباء والطبيبات في المدن؟ إلا أن موت الأطفال الذكور والبنات يندثر في العدم، ولا يصل إلى الإعلام كما وصلَت حالة بدور وكشفَها الناس. وهل تنتظرون أيها السادة موت طفلٍ ذكر في عملية ختان حتى تُحرِّموا ختان الذكور؟
منذ سنينَ كثيرة أرسلتُ إلى وزير الصحة رسالةً طويلة، ورسالةً إلى نقابة الأطباء وإلى أصحاب العقول والضمائر في بلادنا، أوضحتُ فيها مخاطر ختان الذكور، جسديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا. نشَرت بعض الصحف رسالتي، وصدر لي كتابٌ منذ سنوات يشمل فصلًا عن هذا الموضوع، وصدرَت لي ولغيري كتبٌ أخرى تفضح مضارَّ تقطيع أجزاءٍ من جسم الطفل الذكر أو الأنثى، تحت دعاوى دينيةٍ جاهلة أو تبريراتٍ طبية أكثر جهلًا، وقد تمَّ تحريم وتجريم عمليات الختان للبنات بعد موتِ بدور، إلا أن الأمواس والمشارط ما زالت تُقطِّع في أجساد الأطفال الذكور في القرى والمدن في ظل حماية القانون.
وقد ارتفعَت أصواتُ بعض الأطباء ورجال الدين تتهمني بالكفر، بعد أن نشرتُ مقالاتي، وطَلبتُ منع ختان الذكور، بمثل ما اتُّهِمتُ بالكفر ومعاداة الإسلام منذ أكثر من نصف قرن، حين طالبتُ بمنع ختان البنات، مع أن ختان الذكور أو الإناث لم يَرِد في القرآن، ولم يَرِد في الإنجيل أيضًا. هناك فقط آيةٌ في التوراة تُوجِب ختان الذكور على بني إسرائيل، لماذا؟ مقابل الأرض الموعودة (أرض كنعان أو أرض فلسطين) التي منحها الله لهم، مقابل بتر غُرلة الذكر بالموسى؛ هذا هو العهد القديم بين بني إسرائيل وبين ربهم في السموات العليا. أيُّ عهدٍ دموي؟! أيُّ ربٍّ متعطش لإراقة الدماء البريئة؟!
واليوم لم يعُد أحدٌ عاقل في العالم يُقدِم على ختان أطفاله البنات أو الأولاد. حتى بنو إسرائيل كَفُّوا عن إجراء هذه الجراحات الضارة لأطفالهم. إنهم يخالفون النص في التوراة حرصًا على صحة أولادهم وبناتهم؛ لأن المصلحة تتغلَّب على النص. وعندنا مدرسةٌ عريقة في الإسلام تقول: «إذا تعارض النص مع المصلحة غُلِّبتِ المصلحة على النص لأن المصلحة متغيرة والنص ثابت.»
أخذ بنو إسرائيل هذه الفكرة اللامعة عن الطوفي الحنبلي، أحد أسلافنا المستنيرين، أما نحن فلا نأخذ إلا الأفكار المتخلفة من أسلافنا الرجعيين، في العصور المظلمة، وأحدهم توفَّاه الله منذ سنينَ غير كثيرة، هذا الشيخ الذي قال إن قطع بظور النساء واجبٌ ديني. لماذا يا فضيلة الشيخ؟ أجاب في الصحف والإعلام: لأن بظر المرأة إن لم يُقطَع يَحتكَّ بظهر الدابة حين تركبها المرأة فتُثار جنسيًّا.
من تُثار جنسيًّا يا سيادة الشيخ، الدابة المركوبة أم المرأة الراكبة؟ ردَّ الشيخ: المرأة طبعًا. أذكر أنني كتبتُ مقالًا بمجلة «المصور» أردُّ على هذا الكلام الخارج عن العقل، وقلت: يحتكُّ عضو الرجل أيضًا بظهر الدابة فهل نقطع أعضاء الذكور بمثل ما نقطع بظور النساء، منعًا للإثارة الجنسية؟ وقلتُ أيضًا إن ركوب الدواب قد انقرض بعد اكتشاف العجلة والسيارة والطيارة. وقلتُ أيضًا إن الإثارة الجنسية في الإنسان مصدرها العقل في الرأس أساسًا، وليس احتكاك العضو بين الفخذَين بظهر أي شيء. وقلتُ الكثير في ردِّي على فضيلة الشيخ الذي اتهمني بالكفر، وأنني أعمل مع الشيطان، أما هو فضيلته فيعمل مع الله. وتساءل الكثيرون كيف يعمل مع الله، كيف يتصل بالله؟ بالتلفون أم الفاكس أم الإيميل؟
من هذه المسافة البعيدة يا بدور، من وراء البحار والمحيط الأطلنطي، أقول لك: أجل كان يمكنك، لو لم تتعرضي لعملية الختان، أن تصبحي كاتبةً عظيمة أو موسيقيةً مبدعة أو عالمة ذرة أو فضاء، أو باحثة عن علاج للأمراض المستعصية في بلادنا، أو أي عملٍ آخر تختارين، لكنهم يا بدور أمسكوكِ وكتَّفوك كالدجاجة، وذبحوكِ بالموسى أو المشرط، قدَّموكِ قربانًا لخزعبلاتهم، وجهلهم وخوفهم ورعبهم من ذلك العضو الصغير في جسدك، الذي يُهدِّد عروشهم الذكورية الواهية، وأفكارهم المريضة التي يُسربلونها تحت سحابات الدخان والمباخر، وقداسة التلاوات والتمتمات والبربشات.
وأطلب من أُسرة بدور أن يجعلوا من دم ابنتهم المراق شعلة تضيء العقول، ألا يركنوا إلى الصمت والنسيان، تحت إغراء أو تهديد، أن يرفعوا أصواتهم عاليةً إلى السماء، ألَّا يركنوا إلى النوم أو الراحة، حتى تكون قضية بدور هي القضية، ليست أقل من قضية تحرير الأرض والوطن؛ لأن وطنًا بلا عقل يندثر في التاريخ، وأي أرضٍ بلا إنسانية أو ضمير، تذهب وتضيع.