عصرُ المؤامرة
«هذا هو عصرُ المؤامرة، عصرُ الروابط والصِّلات والعلاقات السرية.» وردَت هذه العبارة على لسان إحدى شخصيات رواية «ركض الكلب» لدون ديليلو. وظهر هذا الاقتباسُ في عددٍ هائل من الكتب والمقالات التي تتناول نظريات المؤامرة المعاصرة؛ حيث تعكس اعتقادًا ترسَّخ لدى قطاعٍ عريض من الباحثين والأشخاص العاديين على حدٍّ سواء؛ أن نظريات المؤامرة لم تكن تحظى برَواجٍ مثل الآن. وكما يقول أحد الباحثين: «القرون الأخرى كانت تُجرب المؤامرة فحسب، شأنها في ذلك شأن الهواة. أما قرننا الحاليُّ فقد رسَّخ المؤامرة باعتبارها نظامًا في التفكير ونهجًا في العمل.»
ثَمة كمٌّ وفيرٌ من التكهنات بشأن العوامل التي أدَّت إلى اعتبار هذا العصر هو العصرَ الذهبيَّ المزعوم للمؤامراتية. المتهم الأول، في نظر الكثيرين من مثقَّفي القرن الحادي والعشرين، هو ظهور الإنترنت. فقد استهل اختصاصيُّ العلوم السياسية جودي دين مقالة نُشرت عام ٢٠٠٠ بقوله: «مع تشابك الشبكات العالمية للعصر المعلوماتي على نحوٍ متزايد، يُهيمن على الكثيرين منا حالةٌ من اللايقين تُؤثر فينا تأثيرًا شديدًا.» ويُعتقد أن الأمور لم تتفاقم إلا منذ ذلك الحين؛ فقد أطلقت دراسةٌ أُجريت عام ٢٠١٥ حول انتشار نظريات المؤامرة على شبكات التواصل الاجتماعي على هذا العصر اسمَ «عصر التضليل».
ويُشير مثقَّفون آخرون بأصابع الاتهام إلى أحداث مادية ملموسة. فيرى الصحفي جوناثان كاي أن انهيار برجَي مركز التجارة العالمي فتح الباب أمام «تصدُّعٍ مُناوئ للثقافة على أقل تقدير.» أو بعبارة أخرى: ثَقبٌ أسودُ فكري من نوعٍ ما ابتلع «مجموعة كبيرة من المرتابين السياسيين.» ويتعقبُ آخرون الجذورَ التاريخية للمؤامراتية. فربما تكون قد بدأَت في سبعينيَّات القرن العشرين، بأزمة ثقة في الحكومة أعقبَت الكشف عن رئاسة ريتشارد نيكسون المشوبة بجنون الارتياب. أو ربما ستينيَّات القرن العشرين، والفقدان الجمعي للبراءة الذي حدث مع مقتل جون إف كينيدي وتصاعد الفشل في فيتنام. أو ربما تكون قد بدأت مع بارانويا الحرب الباردة المُتسللة في فترة الخمسينيَّات من القرن العشرين.
وحتى وقتٍ قريب، فإن هذا النوع من التكهُّن الغامض كان كلَّ ما بحوزتنا. لكن في عام ٢٠١٤، اضطلع اختصاصيَّان في العلوم السياسية، هما جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت، بمشروعٍ ابتكاريٍّ وطَموح للبحث عن إجابات مدعومة بأدلة.
لا يتضح على الفور كيفيةُ قياس صعود وهبوط التفكير القائم على نظرية المؤامرة على مدًى زمني طويل. ففي عصرنا الرقمي، الحصول على فكرة عمَّا يتحدَّث الناسُ عنه أصبح أمرًا سهلًا مثل معرفة أي وسمٍ حقَّق تداولًا أو عدد مرات «الإعجاب» التي تحصل عليها إحدى صفحات «فيسبوك». والأقل وضوحًا من ذلك أن نُحدِّد إلى أي مدًى كان الناس يتحدَّثون عن المؤامرات منذ قرن. لكن أوسينسكي وبيرانت أدركا أن أسلافنا غير الرقميِّين تركوا خلفهم كَنزًا ثمينًا من البيانات: رسائل إلى المُحرر. فصفحة الرسائل بالجريدة عادةً ما تُهمَل، وأحيانًا يُنظَر إليها باعتبارها مُتنفَّسًا للعواطف والانفعالات. لكن المُحلِّلين الاجتماعيِّين أثبتوا أن هذه الرسائل التي تُرسَل إلى المُحرِّر هي مقياس جيد للرأي العام على نطاقٍ أوسع؛ ومن ثَم تُعَد أداةً بحثية قيِّمة.
ومن ثَم شرع أوسينسكي وبيرانت في تحليل رسائل إلى المُحرِّر تُغطي مدةً تَزيد على قرن من الزمان، وقد نُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز». فقد جمعوا عينةً من ألفِ رسالة كلَّ عام، في المدة من ١٨٩٠ إلى ٢٠٢٠، أي أكثر من مائة ألف رسالة إجمالًا. وبعد ذلك، قام فريقٌ من المساعدين البحثيِّين المدربين جيدًا (الذين آمُل أن يكونوا قد تلقَّوا مقابلًا ماديًّا جيدًا أيضًا) بفحص كل رسالة بعناية، لاكتشاف أي نظريات مؤامرة قد تشتملُ عليها. ولم يكن يَعنيهم ما إذا كان الخطاب يُروِّج لنظريةِ مؤامرة أو يكشف زيفها؛ فقد رأى أوسينسكي وبيرانت أنه في كلتا الحالتَين، تُظهر الإشارة إلى النظرية أو ذِكرها أن كاتب الرسالة اعتبرها جديرةً بالمناقشة، وأن المُحرر اعتبرها مهمةً بالقدر الكافي للجميع بحيث ارتأى نشرها.
ومن بين المائة الألف رسالة أو نحو ذلك، أتت ٨٧٥ رسالة على ذكر المؤامرات. وبالرغم أن ذلك لا يُمثِّل سوى أقلَّ من ١٪ من إجمالي العينة، وهي نسبة ضئيلة على ما يبدو، لكن، كما يُوضح أوسينسكي وبيرانت، صفحة الرسائل مفتوحة لأي موضوعٍ يطرحه الناس. فليس مُستغرَبًا أن ينتجَ عن التركيزِ على موضوعٍ معيَّن، سواءٌ كان المؤامرات أو الكوميديا أو الطهي، شريحةٌ صغيرة نسبيًّا من الكعكة ككلٍّ.
وفيما يتعلَّق بالمزاعم القائلة بأن كُتَّاب الرسائل كانوا يتخبَّطون وحسب، اكتشف الباحثان بعض المعلومات المهمة. فكان من بين المُتَّهمين الذين أتَوا على ذكرهم جميع المتهمين المعتادين مثل الرؤساء والشركات الكبرى ووسائل الإعلام، إضافةً إلى مجموعة مذهلة من المتَّهمين الذين قلما يُشار إليهم مثل أصحاب مزارع الألبان وموظَّفي مكاتب البريد وشركة والت ديزني. وفي مدة التسعينيَّات من القرن التاسعَ عشر، شعر الناس بالقلق من أن يكون ثَمة تآمرٌ بين إنجلترا وكندا لاستعادة الأرض من الولايات المتحدة، أو من أن يكون هناك تلاعبٌ بالانتخابات من جانب جماعة المورمون لصالح الجمهوريِّين. وعلى مدار العقود القليلة الأولى من القرن العشرين، اشتملت النظريات عادةً على مصالحَ مالية تُحاول الإطاحة بالديمقراطية. وفي المدة من ثلاثينيَّات إلى أربعينيَّات القرن العشرين، انطوَى الكثير من المكائد المزعومة على شيوعيِّين. وعلى مدار الخمسين عامًا الأخيرة أو ما شابهَ، اتجهت بوصلةُ الشك إلى الحكومة الأمريكية نفسِها، لا سيما وكالاتها الاستخباراتية.
إذن ماذا عن الأسئلة المطروحة؟ هل شهد الحديثُ عن المؤامرات منذ الحرب العالمية الثانية تزايدًا؟ وهل اكتسب زخمًا باغتيالِ كينيدي أو فضيحةِ ووترجيت أو هجماتِ الحادي عشرَ من سبتمبر؟ هل بلغ ذروته منذ ظهور شبكة الإنترنت؟ يُشير أوسينسكي وبيرانت إلى أنه «بالرغم من كل الضجيج»، فإن الإجابة عن كل هذه الأسئلة هي النفيُ القاطع.
ثَمة مجموعةٌ من السنوات شهدت فيها نظرياتُ المؤامرة زيادةً هائلة، لكنها ليست السنوات التي قد تخطر ببالك. لقد ازداد عدد الرسائل التي تتحدَّث عن مؤامرةٍ في منتصف التسعينيَّات من القرن التاسعَ عشر، عندما تصاعدت المخاوف بشأن الشركات التِّجارية الكبرى، وفي عام ١٩٥٠، عندما بلغ الخوفُ الأحمر ذروتَه. لكنَّ أمدَ هذا التصاعد لم يدُم طويلًا، وسرعان ما تراجع عدد الرسائل إلى المستوى المعتاد. ولم تحدث أيُّ زيادة أُسية على مرِّ السنين. بل إن الناس ربما يتحدثون عن المؤامرات أقلَّ قليلًا من المعدل الذي اعتادوا أن يتحدثوا به من قبل. وقد رصد الباحثان تراجعًا طفيفًا في عدد الرسائل التي تحدثت عن المؤامرة كل عام، في المتوسط، خلال العقود الخمسة منذ اغتيال كينيدي مقارنةً بالعقود السبعة التي سبقَت اغتيالَه. لكنَّ الثباتَ الطويلَ الأمد كان الاتجاهَ العام. فكان الحديث عن المؤامرات، في أغلب الأحيان، لا يعدو كونه همهماتٍ ثابتةً في الخلفية، تتعلَّق في الأساس بالأحداث السياسية والاقتصاد والتطورات التي شهدتها تكنولوجيا الاتصالات.
وقد اختتم أوسينسكي وبيرانت بالقول: «تُشير البيانات إلى حقيقةٍ كاشفة. نحن لا نعيش في عصر نظريات المؤامرة ولم نعِش فيه منذ فترةٍ من الوقت.» لذا، إذا كان انشغالنا الحالي بالمؤامرات ليس بالأمر الجديد، فمنذ متى بدأ هذا الانشغال؟ يتبيَّن لنا أن هذا يعود إلى زمنٍ بعيد جدًّا.
في زمن احتراق روما
كان ١٩ يوليو من عام ٦٤ ميلادية يومًا صيفيًّا حارقًا في روما، حسبما يصفه المؤرِّخ ستيفن داندو-كولينز. فقد كان عشيَّة الألعاب الرومانية السنوية التي كانت تَحْظى بشعبية هائلة وعُرفت باسم «ألعاب على شرف انتصارِ القيصر» (لودي فيكتوريا سيزاريس). كان «السيرك العظيم» (سيركوس ماكسيموس)، وهو استادٌ ضخم يسَع ربعَ مليون متفرج، قد تأهب بالفعل، وأخذ الزائرون يتدفَّقون في حشود إلى المدينة. ذاك المساء، أوقدَت مطاعم الوجبات السريعة المنتشرة في الشوارع الضيقة المحيطة بالاستاد أفرانها؛ حيث كانت منشغلةً في الاستعداد لإطعام حشود الفجر. يستحيل أن نُحدِّد أين بالضبط اندلع الحريق، لكنه حدث في مكانٍ ما قريبٍ من الاستاد. لم تكن الحرائقُ أمرًا نادرَ الحدوث في روما القديمة، لكن هذا الحريق أثبت أنه كان مختلفًا. فقد زادت الريح القوية من لظاه، وسرعان ما امتدَّ لهيبه عبر الشوارع الضيقة الملتوية، ليأتيَ على المباني المتلاصقة. هذا الحريق، الذي أصبح معروفًا بحريق روما الكبير، استمرَّ في تأجُّجه قرابة أسبوع. لقيت أعدادٌ لا تُحصى من الناس حتفَهم جرَّاء تلك النيران، وأصبح نصف سكان المدينة بلا مأوًى. وقد صار ثلثا المدينة حطامًا ورمادًا.
بدأت نظرياتُ المؤامرة في الانتشار حتى قبل أن تبرُد الجمرات المحترقة. فسرعان ما اتجهَت بوصلة الشك إلى الإمبراطور نيرون. ووفقًا للمؤرخ الروماني تاسيتس، الذي عايش ذلك الحريقَ في طفولته، «لم يجرؤ أحدٌ على مكافحةِ ألسِنة اللهب. فقد منعت عصاباتٌ تُهدِّد وتتوعَّد أيَّ محاولات للقيام بذلك. كما كانت تُلقى المشاعلُ علانيةً لتأجيج النيران بواسطة رجالٍ كانوا يصيحون قائلين إنهم يفعلون ذلك امتثالًا للأوامر.» وبالنِّسبة إلى نيرون، يُشير تاسيتس إلى أنه كان على مسافةِ ستةٍ وثلاثين ميلًا من مكان الحريق، في أنتيوم، مسقط رأسه، عندما اندلع الحريق. وعندما عاد إلى المدينة، سرعان ما وفَّر المأوى والغذاء للحشود المُشرَّدة. ومع ذلك، لم تشفع له جهودُه الإغاثية لدى الجماهير. فقد كانت الشائعات تنتشر بالفعل أنه بينما كانت المدينة تحترق، كان الإمبراطورُ الشابُّ غيرُ الناضج والمنشغلُ بذاته في أنتيوم يتلقَّى درسًا في الغناء.
ظل تاسيتس على الحياد فيما يتعلَّق بتورُّط نيرون في الحريق، وأشار إلى الشائعات دون أن يُصرِّح بتأييدها. أما المؤرخون الآخرون فكانوا أقلَّ تحفُّظًا. فسويتونيوس الذي وُلد بعد الحريق بخمس سنوات، كان في وقتٍ من الأوقات مؤرخًا موقَّرًا، يُمكنه الاطلاع على الأرشيفات الرسمية لروما دون قيود. ولكن بعد إساءته إلى الإمبراطور أدريان، ربما بسببِ وجودِ علاقةٍ عاطفيةٍ بينه وبين الإمبراطورة، مُنع من الاطلاع على تلك الأرشيفات. ونتيجةً لذلك، فإن السيرة التي كتبها لنيرون بعد الحريق بخمسين عامًا، كانت تستند في الأساس إلى القيل والقال. كتب سويتونيوس يقول: «متظاهرًا بالاشمئزاز من مباني روما الضيقة الكئيبة وشوارعها الملتوية، أشعلَ نيرون بصفاقةٍ النيرانَ في المدينة. وبالرغم من أن مجموعةً من قناصله السابقين شاهدوا أفرادَ بطانته، المُسلَّحين بمشاعلَ [متأججة] ومتوهِّجة، المتعدِّين على ممتلكاتهم، لم يجرُءوا على التدخُّل.» ويضيف سويتونيوس، في إيماءةٍ درامية، أنه بعد وصوله عائدًا من أنتيوم، «راقب نيرون الحريقَ من برج مايكيناس شاعرًا ببهجةِ ما وصفه ﺑ «جمال ألسِنة اللهب»، ثم لبس عباءة التراجيديا وغنَّى «ذا ساك أوف إليوم» من بدايتها إلى نهايتها.»
عزم نيرون على تنفيذِ ما ظلَّ دائمًا رغبةً أكيدةً بداخله، وهو أن يضع نهاية للمدينة بأكملها خلال حياته … ومن ثَم، فقد أرسل رجالًا تظاهروا بأنهم في حالةٍ من السُّكْر أو منخرطون في أنواعٍ أخرى من الأفعال الشريرة، ودفعهم لإشعال النار أولًا في واحدٍ أو اثنين أو حتى في عددٍ من المباني في أجزاء مختلفة من المدينة، بحيث أصابت الناسَ حيرةٌ شديدة، وعجزوا عن تحديد المكان الذي بدأ منه الحريق، ولم يتمكنوا من القضاء عليه … وفي حينِ كانت تلك هي الحالة الذهنية التي أصابت السكان بأكملهم، وأخذ الكثيرون منهم، بسبب الجنون الذي أصابهم بفعل الكارثة، يقفزون في ألسِنة اللهب، صعد نيرون إلى سطح قصره حيث تأتَّت له رؤيةٌ أفضلُ للجزء الأكبر من الحريق، ولبس عباءةَ عازف القيثارة، مُنشدًا أغنية «أَسْر طروادة» (كابتشر أوف تروي) على النحوِ الذي صاغها هو بنفسه، رغم أن ما كان يحدث، في عيون المُتفرجين، هو أسرُ روما.
وسواءٌ وقفَت وراء الحريق أيدٍ داخليةٌ أو لا، وسواءٌ غنَّى نيرون ابتهاجًا بما حدث أو لا، فما نعرفه بالفعل هو أنه لم يكن سعيدًا بأن يكون موضوعًا لنظريات مؤامرة. ففي سبيل إسكات الشائعات، توصَّل إلى نظريةِ مؤامرةٍ خاصة به. فكما يقول المؤرخ تاسيتس: «عزَا نيرون ما حدث من شرور إلى طبقةٍ كُرهت بسبب بشاعاتها، طبقة يعرفها عامةُ الناس بالمسيحيين، وصبَّ جامَ غضبِه عليها.» وانتُزعت الاعترافات الزائفة من بعض المسيحيين، وعلى أساسها أُسِر المزيدُ منهم. ويشير تاسيتس إلى أنهم أُدينوا «لا بجريمة حرق روما بقدْر ما أُدينوا بجريمةِ كراهيتهم للبشرية.» وقد تعامل نيرون مع كِباش الفداء تعاملًا وحشيًّا. يقول تاسيتس: «لقد مارسَ ضدهم كلَّ أشكال الامتهان بجانب قتلهم. فكانوا يُغطَّون بجلود البهائم، ويُلقَون إلى الكلاب لتمزِّق أجسادهم فيموتوا، أو يُصلَبون أو تُشعل النار في أجسادهم، ليكونوا مصدرًا للإضاءة الليلية، عندما يزول ضوء النهار.»
لم يكن حريق روما الكبيرُ الحدثَ الوحيدَ في التاريخ الروماني الذي أدَّى إلى نشوء نظريات المؤامرة. فهوس روما بالمؤامرة يعود إلى بدايات الإمبراطورية. فيُقال إن رومولوس، أحدَ مؤسسي المدينة وأولَ ملوكها، اختفى في ظروفٍ غامضة. وثارت شائعاتٌ تقول إن مستشاريه السياسيِّين، أعضاءَ مجلس الشيوخ، قد اغتالوا زعيمهم في محاولةٍ لزيادة نفوذهم. وقد وصف كاسيوس ديو هذا الفعلَ بأسلوبه الصادم المُميَّز؛ حيث كتب يقول إن الشيوخ المتعطِّشين للسلطة أحاطوا برومولوس بينما كان يُلقي خطابًا، وقطَّعوا «أوصاله إربًا» على أرضية مجلس الشيوخ. وأضاف ديو إضافة غريبة؛ إذ زعم أن فَعْلتهم هذه قد وارتها «عاصفةٌ قوية وكسوفٌ للشمس؛ أي الظاهرة نفسها التي حدثَت عند ميلاده. تلك كانت نهاية رومولوس.» وعلى حدِّ وصف المؤرخة فيكتوريا بيجان، فإن تاريخ روما القديمة بأكمله يعجُّ بقصص عن مكائدَ يُشتبه بها. كثير من هذه القصص كانت تستند إلى الحقيقة؛ اغتيالات وغير ذلك من المكائد الشنيعة في السياسة الرومانية القديمة. لكن الكثير منها أيضًا — مثل شائعات هوَس نيرون بالحرق أو الانهيار الدراماتيكي لرومولوس — انطوى على كثيرٍ من المبالغة والإسهاب أو كان مفبركًا تمامًا.
لم يقتصر الأمرُ على روما. فالعالم القديم كان يعجُّ بالمؤامرات ونظريات المؤامرة. وبالعودة على الأقل إلى القرن الخامس قبل الميلاد، يوضح جوزيف رويسمان أن عمل الخُطباء المشهورين والمؤلفين المسرحيِّين في أثينا القديمة كان يعج «بأخبار المكائد والمؤامرات التي اكتنفَت كل جانب من جوانب الحياة في أثينا. فقد كانت هناك مكائدُ تستهدف حياةَ الناس وممتلكاتهم ووظائفَهم وسمعتهم، وأيضًا المصلحة العامة والنظام والشئون الخارجية.» ولم يكن أحدٌ بمنأًى عن أن يُتَّهَم بالضلوع في مؤامرة، بَدءًا من الساسة ورجال الأعمال وصولًا إلى المهاجرين والعبيد، وكان الحُكَّام والجماهير على حدٍّ سواءٍ يأخذون هذه القصص والأخبار على محمل الجِد.
واستمر هذا الافتتانُ بفكرة المؤامرة طيلةَ العصور الوسطى. وكما كان الحال قبل ذلك، راجت نظريات المؤامرة بين الجماهير والمؤسسة الأرستقراطية الحاكمة على حدٍّ سواء. ففي كثيرٍ من الأحيان لم يكن ينظر المزارعون إلى ما يُعانونه من شدائدَ على أنها «ناجمة عن الطقس السيئ أو طرقِ التوزيع السيئة، بل ناشئة عن الأفعال الشائنة للمضاربين.» على حدِّ قول باري كوارد وجوليان سوان، في حينِ كانت النخبة الحاكمة تعزو كثيرًا التغييرَ غير المرحَّب به إلى «مكائد رجال البلاط أو الوزراء أو المقربين أو المهرطقين أو الماسونيين.» وبالرغم من تغيُّر الأسماء والتواريخ، ظلت فكرةُ المؤامرة قائمةً على مرِّ القرون. يوضح كوارد وسوان قائلَين: «فمثلًا، في كثيرٍ من الأحيان، اعتمد أعضاء البرلمان الإنجليزي، في القرن السابع عشر على تاسيتس والتاريخ الروماني لتفسيرِ سياسةِ عصرهم.»
ويُعدُّ حريق لندن الكبير الذي اجتاح المدينةَ طيلةَ أربعة أيام عام ١٦٦٦، مثالًا جليًّا على أن التاريخ يُعيد نفسه وعلى أن فكرة المؤامرة لا تموت. فحتى قبل أن يخمد الحريق، أشار صمويل بيبس في مذكراته إلى أن الشائعات كانت قد بدأت تنتشر بأن «ثمَّة مكيدة وراءه.» كان هناك مَن اعتقدوا أن الحريق نشأ من الداخل، بأمرٍ من الملك تشارلز الثاني نفسِه؛ بل إن البعض عقَد «مقارنة مقيتة بين جلالة الملك ونيرون»، وفقًا لأحد التقارير المعاصرة. وذهب آخرون إلى الاعتقاد بأن الحريق كان هجومًا إرهابيًّا من جانب المتآمرين الكاثوليكيين أو الأعداء الأوروبيين لإنجلترا. وسُرعان ما أُلقي القبض على أحد الفرنسيين ويُدعى روبير هيوبير، وقد اعترف بأنه هو مَن أشعل الحريق بالتآمر مع عصابةٍ من جواسيس كاثوليكيين. لكن اعترافه هذا لم يكن متسقًا. فعلى سبيل المثال، ادَّعى في البداية أنه أشعل الحريق في وستمينستر. وعندما أُبلغ بأن الحريق كان قد بدأ في بودينج لين، ولم يصل قط إلى وستمينستر، تغيَّرت روايته. وبصرف النظر عن ذلك، انتهز اللندنيون — والسلطات أيضًا — الفرصةَ لعزو الحريق إلى أحد كِباش الفداء الذي كان لديه الاستعدادُ لتحمل اللوم. فباعترافه المُثير للريبة الذي عُدَّ الدليلَ الوحيد ضده، نُفِّذ حُكم الإعدام في هيوبير في ٢٧ أكتوبر ١٦٦٦، أمام حشدٍ من المتفرجين الفرحين.
وكما يتجلَّى من هذا السَّرد التاريخي المختصر، بدأ العصر الذهبي لنظريات المؤامرة منذ آلاف السنين، وليس هناك أيُّ دلائل على اضمحلاله. وتتشابهُ بعض النظريات القديمة تشابهًا لافتًا مع نظريات المؤامرة المعاصرة. لكنَّ هناك عددًا من الاختلافات بينهما تجدر الإشارة إليها. فبالنِّسبة إلى مُنظِّري المؤامرة الكلاسيكيين، كانت المكائد المزعومة تتعلق على وجه العموم بقضايا محلية، منفصلة، وكانت الدوافعُ وراء المكائد الظاهرية تافهةً وشخصيةً إلى حدٍّ كبير. كما تجدر الإشارة إلى أنه حتى بالرغم من أن الكثير من تلك النظريات انطوى دون شكٍّ على شيء من الإسهاب والتنميق، لم تكن جميعها مُستبعَدةَ الحدوث. وعندما كان الأباطرة والملوك يمتلكون سلطةً مطلقة، كثيرًا ما كان ترويج الشائعات ضدَّهم هي الطريقة الوحيدة لإحداثِ تغييرٍ مهم.
وبمرور الزمن، أصبحت الشواغل المؤامراتية لدى الناس أوسعَ نطاقًا. فكان هناك تحوُّلٌ من نظريات حول مؤامرات محلية وتافهة تهدف إلى المصلحة الذاتية إلى نظرياتٍ أكبر تأثيرًا. فقد أصبحت المكائد المزعومة أكثرَ غموضًا وتدميرًا وشمولية. وأصبح يُتصوَّر أن المتآمرين يعملون لتحقيق غاياتٍ أكثرَ مكرًا وأقلَّ جِلاءً.
ثمَّة محطتان رئيسيتان تُمثِّلان علاماتٍ فارقةً على الطريق من النظريات القديمة التافهة إلى النظريات الحاليَّة، التي جاء أولها تقديرًا لشابٍّ ألماني من أنصار المثالية ويُدعى آدم فايسهوبت.
فزَّاعة التنويريين
في عام ١٧٧٢، وسيرًا على خُطى كلٍّ من أبيه وعرَّابه، أصبح آدم فايسهوبت أستاذًا للقانون في جامعة إنجلوشتات في بافاريا. وبرغم ذلك، لم يكن القانون شغَفَه الحقيقي. ففي سن الرابعة والعشرين، كان فايسهوبت مُتململًا ومثاليًّا في تفكيره. وبسبب خيبة أمله من تعليمه اليسوعي الآليِّ الصارم، وبدافعٍ من التنوير المُزدهر، نما لديه طموحٌ جامحٌ لتحسين المجتمع باستخدام قوة العقل والمنطق لدحض الخرافات الدينية. كما كان أيضًا «انتقاديًّا ووصوليًّا وعديمَ الضمير وكاذبًا» حسبما كتب المؤرخ جون روبرتس الذي قال عنه أيضًا: «جميع أدلة هذه المرحلة من حياته المِهنية تكشف أنه يُمثِّل خطرًا مألوفًا من مخاطر الحياة الأكاديمية والجامعية: فقد كان ماكرًا ومُشاكسًا ومُستغرقًا في التفكير وسئمًا يعشق خداع الذات.»
ووفقًا لروبرتس، كانت المكيدةُ هي الشغفَ الحقيقي لدى فايسهوبت. فمنذ سنٍّ مبكرة، استولى على تفكيره المجتمعاتُ السرِّية مثل «الأخوية الفيثاغورسية». فقد انضم إلى إحدى الجمعيات الماسونية في عام ١٧٧٤، لكنه شعر بالإحباط بسبب افتقار الماسونيين إلى التطلعات السياسية أو السرِّية الحقيقية، كما خيَّبت آمالَه الرسومُ الباهظة للحصول على عضويتها. ومن ثَم فقد قرَّر بدء جمعية سرية خاصة. وانعقد الاجتماع الافتتاحي لتلك الجمعية في ١ مايو ١٧٧٦، بحضور فايسهوبت وأربعة من طلابه فقط. وقد أطلق عليها جمعية «مذهب التنويريين».
التحمَت الشخصية المزدوجة لفايسهوبت بنسيج التنويريين. وكانت فلسفته مثاليةً إلى حدِّ السذاجة. ووفقًا للَّائحة التي وضعها فايسهوبت، كان الهدف الوحيد لهذا النظام هو «أن يُبصِّر الإنسانَ بأهميةِ مثاليةِ العقل وسَمْته الأخلاقي … أن يُعارض الخطط الخبيثة في هذا العالم، وأن يُساعد في محاربة الظلم الذي يُعانيه التعساء والمُضطَهدون، وأن يُشجِّع الأكْفاء، وبوجهٍ عامٍّ، أن يُيسِّر سبل المعرفة والعلم.» ومن جهة أخرى، فإنه نظرًا إلى كون فايسهوبت الزعيمَ الأعلى لجمعيته السرية هذه، فقد مكَّنه هذا من إطلاق العِنان لرغباته المدفوعة بالاهتمام والخداع. فانتقى بعنايةٍ هالةً من الغموض تُحيط بطائفته. فقد طلب من المبتدئين أن يتَسمَّوا بأسماءٍ زائفة وأن يتعلموا مفرداتٍ سرِّية، وأن يُمارسوا مجموعةً مُنمقة من الطقوس الاستهلالية، كما أمرَهم بقطع علاقاتهم وروابطهم مع أُسَرهم وأصدقائهم. ولتعيين أعضاءٍ جددٍ، طلب فايسهوبت من أعضاء جمعية «مذهب التنويريين» أن يندسُّوا في الجمعيات الماسونية وأن يستقطبوا أعضاءها. وقد وضع فايسهوبت نظامًا هرَميًّا مُتقنًا، وأخفاه عن الجميع سوى أقدمِ الأعضاء. والترقِّي على سُلَّم هذا النظام الهرمي كان يتطلب إذعانًا تامًّا وطاعةً عمياء. وكان النقابُ يُكشف تدريجيًّا عن الأهداف الحقيقية للنظام — التحوُّل السلمي للمجتمع — كلما ترقَّى العضو على هذا السُّلم الهرمي.
ومع بدايات الثمانينيَّات من القرن الثامن عشر، كان قد انضم لهذا النظام نحوُ ثلاثمائة عضوٍ موزَّعين في أنحاء أوروبا. لكن هذا التوسُّع جاء على حساب السرية. فقد أثارت شخصية فايسهوبت المُتسلِّطة والمتحذلقة غضبَ بعض المُجنَّدين. وأفشى بعضُ الأعضاء أسرارَ النشاط التنويري إلى أشخاصٍ ليسوا بأعضاء، وكثيرًا ما كان ذلك مصحوبًا بمبالَغات مزعجة. وبحلول عام ١٧٨٤، وصلت الشائعاتُ التي أحاطت بهذا النظام إلى السلطات. وأصدرت الحكومةُ البافارية مرسومًا يحظر الجمعيات غيرَ المرخَّص لها، وعلَّق فايسهوبت اجتماعات جمعيته. واستمرت التسريبات، وتزايد نشرُ الشائعات البذيئة على يدِ الصحفيين كما لاكَتْها ألسِنةُ الوعاظ، الذين اتهموا جمعيته «بالكفر وعصيان الأسرة الحاكمة والاحتيال السياسي والفساد الأخلاقي.»
وفي محاولةٍ أخيرة لتبرئة نظامه، دنا فايسهوبت شخصيًّا من تشارلز تيودور، أحد أعضاء المُجمع الانتخابي في بافاريا وأخبره بأغلب أسرار جمعية «مذهب التنويريين». وفي ٢ مارس ١٧٨٥، أصدر تيودور مرسومًا آخر، يُدين التنويريين على وجه التحديد. وفرَّ فايسهوبت من بافاريا. وبدأت التحقيقات وتمَّت الاعتقالات، ونُشر الكثير من الوثائق السرية للتنويريين، بما فيها خطابات فايسهوبت الشخصية، ليطَّلع عليها الجميع. وهكذا كانت نهاية التنويريين — لكنهم لم ينسَوا.
إن اكتشاف جمعية سرِّية حقيقية بتطلُّعات سياسية حقيقية، إضافةً إلى الكثير من الشائعات الشنيعة المنمقة عن نشاطها الدنيء الهدام، كان مصدرًا لكثير من الارتباك والانزعاج. وبالفعل، أُشيع أن جمعية فايسهوبت السرِّية استمرَّت في العمل، وكلُّ ما هنالك أنها باتت تعمل في الخفاء. وبعيدًا عن الوجود على أرض الواقع بكل إزعاجه، نما التنويرُ في خيالات نقاده المُتململين بأبعادٍ أسطورية؛ ليس فقط في بافاريا وإنما في جميع أنحاء أوروبا، وصولًا إلى الولايات المتحدة المستقلة حديثًا. وقد شوَّه اكتشاف جمعية فايسهوبت سمعة الماسونيِّين أيضًا. فقد كان المتنورون قد اندسُّوا بالفعل في بضع جمعيات ماسونية ولم يكن أحدٌ يعرف ما إذا كانوا قد اعتُقلوا أو لا. وأصبحت المكائد التآمرية للجمعيات السرية الهدامة تفسيرًا ممكنًا للأحداث المثيرة للقلق على نحوٍ متزايد. ثم اندلعت الثورة الفرنسية.
يشير روبرتس قائلًا: «من السهل جدًّا اليوم التقليل من شأن الصدمة العاطفية للثورة الفرنسية.» ويُتابع قائلًا: «فقد استهلت حقبةً للثورة ما زلنا نعيش فيها، واعتدنا على فكرة الثورة بطريقةٍ لم يعتَدْها الناس في القرن الثامن عشر.» فعلى مدار عشر سنوات من العنف والفوضى، ما بين عامَي ١٧٨٩ و١٧٩٩، حلَّ المجتمع العلماني الجديد القائم على المساواة محلَّ الامتياز الأرستقراطي الوراثي المتداعي بعد أن دام وقتًا طويلًا. وبدأت الأفكار الثورية تنتشر عبر أرجاء أوروبا، وسرعان ما مُنح ملايينُ الناس حقوقَ الإنسان الأساسيةَ التي لم ينعموا بها من قبلُ قط، في حين وجد الأرستقراطيون أنفسَهم على حينِ غرة يفقدون نفوذَهم وثراءهم. كان هذا تحوُّلًا عميقًا وغير مسبوق؛ بزوغ سريع لواقعٍ سياسي جديد تمامًا. وبطبيعة الحال، جاهد الناسُ من أجل استيعابه. كتب روبرتس يقول: «إن حجم وعنف التغييرات … استنفدَت على ما يبدو جميع قوائم التفسيرات التقليدية والمألوفة.» وتابع: «ظهرت الحاجة إلى بُعدٍ ما جديدٍ للفهم.»
وفي نهاية الثورة الفرنسية، تحديدًا في عام ١٧٩٧، نشر مؤلفان، في الوقت ذاتِه تقريبًا، كتابَين قدَّما هذا البعد الجديد. أما المؤلف الأول فهو أوجستين دي بارويل. كان بارويل من النبلاء الفرنسيين، وكان كاهنًا يَسوعيًّا، ومُجادلًا أيضًا. وكان قد حقَّق بالفعل بعضَ النجاح الأدبي لمنشوراته التي انتقد فيها الفلسفة التنويرية بِناءً على آرائه الدينية القوية. ففي عام ١٧٨٩، وهي السنة التي اندلعت فيها الثورة الفرنسية، نشر بارويل كُتيبًا يُلقي فيه باللائمة على الثورة باعتبارها المسئولةَ عن أيديولوجية التنوير الفاسدة وضعف الكاهن الفرنسي. لكن بحلول عام ١٧٩٧، عندما نشر الطبعتَين الأوليَين من «مذكرات تُسلِّط الضوءَ على تاريخ اليعقوبية»، أصبح بارويل على قناعةٍ بأن كلَّ ما يجري كان يُحاك بعناية من خلف الكواليس. كتب بارويل يقول: «حتى أكثر الأفعال بشاعةً التي اقتُرفت إبَّان الثورة الفرنسية، كل شيء كان متوقَّعًا ومخطَّطًا ومدروسًا ومرسومًا. كلُّ ما جرى جاء من رحم دناءة مُبيَّتة.» ونسب هذه الدناءةَ إلى الفلاسفة التنويرين والماسونيين واليعاقبة. لكن بارويل استدرك قائلًا إن هذه المجموعات لم تكن سوى «الأشرار الظاهرين في مكيدة كبيرة عكف واضعوها وعُملاؤها عليها وقتًا طويلًا، وهم أكثر انتشارًا بكثير مما يُعتقد.» وقال بارويل إن خلف كلِّ هؤلاء، ومن يُنسق هذه الخطة بأكملها، كان عدوًّا شريرًا أكثرَ قوة ومكرًا: جمعية آدم وايسهوبت الشنيعة التي «لا يقتصر هدفها على تدمير المملكة الفرنسية بل الدمار العام، الإطاحة بالمجتمع والدين ذاتِه.»
الفكرة ذاتُها تبنَّاها سكوتسمان جون روبيسون، أستاذ الفلسفة الطبيعية بجامعة إدنبرة. فقد نشر كتابه بعد بارويل بوقتٍ قصير، تحت عنوانٍ لاذع: «أدلةٌ مُستقاة من مصادرَ موثوقةٍ على المؤامرة التي تُحاك ضد جميع أديان وحكومات أوروبا داخل الاجتماعات السرية للماسونيين والمتنورين والمثقفين … إلخ.» ورغم اختلاف روبيسون مع بارويل حول عددٍ من التفاصيل، لم تختلف فرضيته. فقد اعتقد أن المتنورين هم مَن يقفون وراء الثورة الفرنسية، وأن ما حدث هو مجرد خطوة نحو إثارة الفوضى العامة على مستوى العالم. ووفقًا لروبيسون، فإن زعماء المتنورين «يكفرون بكل كلمة تخرج من أفواههم، وكل مذهب يُلقنونه لغيرهم … فمقصَدُهم الحقيقي هو القضاء على الدين بكامله، والإطاحة بكل حكومة، وإشاعة الفوضى في العالم وتدميره.» وحتى يضمن أن قراءه قد أصابهم الانزعاجُ والقلق بما يكفي؛ حذَّر روبيسون من أن المتنورين «لا يزالون موجودين ويعملون في الخفاء … فمبعوثوهم يسعَون لنشر مذاهبهم المقيتة بيننا.»
ويشير روبرتس إلى أن ما قاله كلٌّ من بارويل أو روبيسون ليس صحيحًا على الإطلاق. فحتى منذ السنوات الأولى من الثورة، انتشرت شائعات بأن الماسونيين أو طائفةً سرية أخرى كانت ضالعةً في الأحداث. وعبقريةِ كلٍّ من روبيسون وبارويل لا تكمن في الابتكار وإنما في التكامل. فقد أخذا جميع نظريات المؤامرة الحاليَّة ونسَجوها معًا لتخرج في صورةٍ نظريةٍ واحدة كبيرة. ونظريتهما هذه لم تُعطِ تفسيرًا فحسب للثورة الفرنسية بأكملها، ولكنها قادرة كذلك على تفسيرِ كلِّ شيء حدث ويحدث وسيحدث في العالم. ونظرية المؤامرة الواضحة الشاملة التي أفصح عنها بارويل وربيسون انسجمَت تمامًا مع المخاوف والاحتياجات الآنيَّة. وبالرغم من احتواء الكتابَين على الكثير من الأخطاء الوقائعية والزلَّات المنطقية، فسُرعان ما أُعيدت طباعتهما وترجمتهما وتصديرهما إلى جميع أنحاء أوروبا وعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا وُضعت الأساسات التي تقوم عليها المؤامراتيةُ الحديثة. فالمكائد التافهة التي ارتُئيت في القرن الثامن عشر وما قبله تطوَّرت لتصبح رؤيةً سياسية شاملة وكاسحة.
ولكن مع أخذِ كلِّ شيء بعين الاعتبار، لم تدُم فزَّاعة المتنورين وقتًا طويلًا. فمذهب فايسهوبت الذي اعتُقد في وقتٍ من الأوقات أنه المسئول عن الثورة الفرنسية، تراجع دوره ليقتصر على إدارة الحياة المهنية لنجوم موسيقى البوب. فقد أُطلق على موسيقيين أمثال جاي زي وليدي جاجا وكانييه وست وكيشا «عرائس المتنورين» واتُّهِموا «بإفساد شباب العالم بعروضهم المُضلِّلة الصادمة.» وحتى نكون مُنصفين، فإن بعض الموسيقيِّين لديهم على ما يبدو ولعٌ بالرمزية الغامضة. فمثلًا، تعكس إيماءة جاي زي بيده الهرمَ الماسونيَّ والعين التي تُبصر كل شيء. لكن هذا الاتجاه بلغ مداه في أوائل عام ٢٠١٥، عندما طرَحَت مادونا أغنيتها «إلوميناتي» (وتعني بالعربية «متنوِّر»). وعندما سُئلت عن هذا في المقابلات التي أُجريت معها، كشفت مادونا قائلةً: «أعلم مَن هم المتنوِّرون، ومنشأ هذه الكلمة.» وزعمَت أن الكلمة تعني في الأساس مجموعةً من الأشخاصِ الأذكياء، وأن رسالة أغنيتها هي «إذا كنت تعتقد أنني متنوِّر، فشكرًا جزيلًا لك على هذه المجاملة لأنني أرغب بشدةٍ في أن أكون جزءًا من هذه الجماعة؛ المتنورين الحقيقيين.»
وبرغم كل شيء، فإن السبب الذي يقف وراء الاضمحلال السريع للمتنورين هو أن أيَّ نظريةِ مؤامرة ناجحة تتطلب عنصرَين، على حد زعم اختصاصيَّي علم الاجتماع سيمور ليبست وإيرل راب. أما العنصر الأول فهو «المكيدة الغامضة» التي يُعتقد أنها تقف وراء ما يجري من أحداث. وأما العنصر الثاني فهو «مجموعة مُستهدَفة أقلُّ غموضًا وأكثرُ جِلاءً لها علاقة بهذه المكيدة.» فنظريةُ مؤامرة عن مكيدة بابوية لن تقومَ لها قائمة ما لم يكن هناك عددٌ من المهاجرين الكاثوليك الذين يمكن أن يكونوا سُفراءَ يُجسِّدون التهديد، ما يجعله شيئًا ملموسًا. كانت فضيحة المُتنورين الحقيقية لا تزال عالقةً بأذهان الناس عندما كانوا يبحثون عن تفسيراتٍ للثورة الفرنسية. لكن في غضون بضع سنين، أصبح المتنورون مجردَ ذكرى.
أما المرحلة الرئيسة الثانية في تطور نظرية المؤامرة الحديثة فقد أتت مع اختلاقِ مكيدةٍ غامضة جديدة. فعلى العكس من جمعية وايسهوبت التي كانت مُدانة بوجودِها الفعلي، على الأقل، كانت المكيدة الجديدة وهميةً بالكامل. لكنَّ سفراءها تعساءَ الحظِّ كانوا حقيقيين جميعًا.
حكماء صِهْيَون
«بروتوكولات حكماء صِهْيَون» كُتيبٌ صغير عدد صفحاته ثمانون صفحةً أو نحو ذلك. لكنَّ صِغَر حجمه لا يعكس هول الأسرار التي يكشفها. هذا الكتيب يُلخِّص مؤامرةً مُروعة، يعود تاريخها إلى مراحلَ طويلةٍ من الزمن، وتقترب شيئًا فشيئًا من الاكتمال على نحوٍ مروعٍ ومثير. وهذا ليس مجردَ فضحٍ أخرقَ لأسرارٍ من جانب طرف خارجيٍّ ما. وإنما هو اعتراف أملاه المتآمرون أنفسُهم؛ وقائع اجتماع سري للمجلس الأعلى لليهودية العالمية، أو ما يُعرف باسم حكماء صِهْيون. كان المُخطَّط له أن يطلع اليهود وحدهم دون سِواهم على وقائعِ المحاضرة، بطبيعة الحال، لكنَّ نسخةً طُبعت بطريقةٍ ما في روسيا بعد بدء القرن العشرين بوقتٍ قصير. وكانت المحاضرة قد وصلت إلى مسامع جاسوسٍ روسي على ما يبدو؛ أو بِناءً على الشخص الذي تستمع إليه، صُودرت من أحد الحضور، أو سُرقت من أرشيفٍ صِهيوني سري أو حتى استولت عليها مَحظيَّةُ عاشقٍ من هؤلاء الحكماء.
والبروتوكولات ذاتُها عبارة عن أربعٍ وعشرين خُطبةً قصيرة، ألقاها كبيرُ الحكماء على أسماع زملائه المنتبهين، أفصحَ فيها بتفاصيلَ مروعةٍ، عن خطتهم للهيمنة التامة على العالم. ويلخِّص البروتوكول الأول المبادئ الأخلاقية التي تستند عليها الخُطة. وقال كبير الحكماء إن «الأغيار» (غير اليهود) هم بربريُّون لا عقل لهم، يعوزهم الذكاء والوعي والحكم السديد ورِباطة الجأش، تلك الصفات التي تُميِّز اليهودَ عن سواهم. ونتيجةً لذلك، فإن تَرْك الناس يحكمون أنفسَهم بأنفسهم كتركِ شخصٍ أعمى يقود أعمى. وذهب إلى أن الشكل الوحيد الممكن للحكم هو الديكتاتورية العالمية الاستبدادية التي يتزعمها اليهود.
وتُقدم البروتوكولات اللاحقةُ دليلًا مفيدًا عن الكيفية التي يمكن بها تدمير الحكومات والتعجيلُ بزوالها. وتُوعز البروتوكولات إلى أن اليهود، في جميع أرجاء العالم، يجب أن يَنثروا بذورَ الشِّقاق، وأن ينشروا الكراهية بين مختلِف الأجناس والطبقات والأمم. كما يجب أن يسيطروا على وسائل الإعلام ويتلاعَبوا بالسياسة، ويُقللوا من شأن الدين عن طريق الاستعاضة عنه بالمادية القاسية (نظرية التطور من صنع اليهود، على ما يبدو). وهذا في أفضل الظروف. أما عندما يستدعي الأمرُ اتخاذَ تدابيرَ أكثرَ صرامة وقسوة، فإنهم سوف ينشرون الأوبئة والمجاعات، ويتسببون في الركود ويغتالون رؤساء الدول ويبدَءون حروبًا لا طائل من ورائها. ويجب بثُّ الرعب والعجز في نفوس الشعوب وإكراههم على الاستسلام والخضوع. ويقول الكتيب أيضًا، إن الخدعة أن تفعل كلَّ هذا بينما تظل في الخفاء إلى أن يفوت الأوان ويُصبح الأغيارُ عاجزين عن فعل أيِّ شيء. وبمجرد أن تُرخى قبضتهم على المجتمع بالقدْر الكافي، ينتهز اليهود الفرصةَ وينتزعون السلطة. وفي ظل حكمٍ للحكماء، سوف يتجسَّس المواطنون الموالون بعضُهم على بعض. وسوف يُمارس الطغاة سيطرةً مطلقة على كل جانبٍ من جوانب حياة المواطنين، وسوف يتصدَّون لأي معارضة على الفور ودون رحمة. وسوف يُعدَم على الفور أيُّ شخص يتصرَّف أو يتحدث أو حتى يفكر في أي شيء يُناهض النظام اليهودي.
استولى هذا البيانُ الشيطانيُّ على اهتمام الناس. فالكتيب نفسه غامضٌ بما فيه الكفاية، إذ يُلخِّص الاستراتيجيات العامة للحكماء الذين يسعَون إلى غزو العالم، لكنه أغفل أي أسماء أو تواريخ أو مواقع محدَّدة. هذا معناه أن الكتيب مناسبٌ تمامًا. وكما يقول ريتشارد ليفي، فإن الكتيب يقدِّم «مفتاحًا أشبهَ بحجرِ رشيد، يكشف كلَّ الألغاز المحيرة في العالم الحديث.» فأي شيء يحدث في العالم يمكن تفسيره على أنه ناتجٌ عن المكيدة السرية لحكماء صهيون. فالقراء الواعون ليسوا بحاجةٍ سوى أن يذكروا أيَّ علة مجتمعية ليُلصقوها باليهود. الثورتان الفرنسية والروسية؟ أدارها حكماءُ صِهيون. الحربان العالميتان الأولى والثانية؟ الشيء نفسُه. الانهيار الاقتصادي في عام ١٩٢٩ والكساد الكبير؟ يمكنك تخمين السبب. الحرب في كوريا وفيتنام وأفغانستان ولبنان والخليج العربي؟ حكماء صِهيون، حكماء صهيون، حكماء صهيون. والأمر لا يقتصر على مجرد الوقوف وراء تلك المساعي الكبيرة مثل إشعال الحروب والثورات. فوفقًا لبعض أنصار الكُتيب، لدى حكماء صهيون رغبةٌ شديدة في الإدارة التفصيلية. فقد اتُّهموا بكل شيء بدءًا من الترويج لموسيقى الجاز (وبالأخص النغمات المثيرة حسيًّا والرقص الداعر الذي تُشجِّع عليه) وتوزيع اللبان (في سعيٍ لجعل النساء أكثرَ انحلالًا) وصولًا إلى التحريض على الدَّعارة ومُعاقرة الكحوليات بل وحتى، لسببٍ ما، مَعارض الكلاب.
والأسرار الصادمة التي كُشف عنها في الكُتيب، إضافةً إلى قدرته على تفسير جميع الأمراض المجتمعية وكل اضطرابات العالم، جعلت له مكانًا في التاريخ. فلقد طُبع الكتيب وأُعيدت طباعته في جميع أنحاء العالم، في كتبٍ بعناوينَ تتراوح بين عُنوان لطيف على غِرار «أسرار حكماء صهيون» وعناوين مقلقة على نحو «اليهودية الدولية: مشكلة العالم الكبرى» (تعقيب نشَره هنري فورد في الولايات المتحدة)، وصولًا إلى عناوينَ مُروعة مثل «اليهودي عدو المسيح وبروتوكولات حُكماء صهيون» (عنوان طبعة نُشرت في ألمانيا النازية عام ١٩٣٨). وقد بِيعت ملايينُ النسخ أو وُزِّعت. وفقًا لتقديرات أحد الباحثين في عام ١٩٣٩، فإنه فيما يتعلَّق بالتوزيع، احتل الكُتيب المرتبة الثانية بعد الإنجيل.
في واقع الأمر، هناك إشكالية بسيطة. ليس هناك حكماء. فكتيب «بروتوكولات حكماء صهيون» مجردُ زيف. بل إنه زيفٌ يفتقر إلى البراعة. يقول المؤرخ نورمان كون، الكتيب عبارة عن «هُراء رجعي كُتب بطريقة بشعة.» إنه تزييفٌ وضيعٌ فجٌّ، سُرق بعشوائية ودون اكتراث من عدة مصادر أكثرَ غموضًا. فقصة تأليف الكتيب أسطورة من أساطير المكائد المؤامراتية في حدِّ ذاتها. لكن الكتيب لم يختلق خرافةَ مؤامرة اليهود العالمية وحده. فلقد نُسجت خيوط هذه الخرافة على مدارِ قرون.
تاريخ كذبة
يرجع تاريخ الخرافات الموجهة ضد اليهود والتحامُل عليهم إلى أوائل سنواتِ المسيحية. فالقديس يوحنا ذهبيُّ الفم، وهو أحد الوعَّاظ الذين كانوا مثارَ إعجابٍ واسع النطاق لبلاغته وفصاحته، أبانَ في التنديد باليهود باعتبارهم عبَدةً للشيطان يقتلون الرضَّع. وفي عام ١٢١٥، عبَّر البابا إنوسنت الثالث عن أن المسيحيين ربما يجدون أنفسهم قد انخرَطوا من غير قصدٍ ودون وعي في علاقات مع اليهود. وكان الحلُّ الذي تبنَّاه هو أن يجعل اليهود يرتدون ملابسَ تُميزهم عن غيرهم، ما أدَّى إلى «شارة العار» الصفراء التي كان يتعيَّن على الكثير من اليهود في جميع أنحاء أوروبا ارتداؤها خلال العصور المظلمة؛ وتحت حكم النازية مرةً أخرى. وبعد مرور بضعة عقود من الزمان، أسَّس البابا جريجوري التاسعُ محاكمَ التفتيش، كمسعًى رسميٍّ لملاحقة المهرطقين المناهضين للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، الأمر الذى أدَّى في نهاية المطاف إلى الإعدامات الجماعية لليهود، بين مهرطقين آخَرين متهمين، والإحراق الجماعي لكتبهم المقدسة.
ووفقًا للمنطق الديني لدى بعض اللاهوتيين في العصور الوسطى؛ فإن التلمود اليهودي كان تجديفيًّا وفي الوقت ذاتِه — وهذا من سبيل المفارقة — شاهدًا على صدق التعاليم المسيحية. فمثلما أن الشيطان يعلم صدقَ المسيحية لكنه مصرٌّ على إنكارها وتدمير مَن يؤمنون بها، فإن اليهود لا يختلفون عنه بأي حالٍ من الأحوال على حدِّ زعم العلماء المسيحيين. وصار الناس يعتبرون اليهود متآمِرين مع الشيطان، بحيث يملكون معرفةً سرية وسحرًا أسود، وتملؤهم كراهيةٌ غير متناهية للمسيحيين. وقد شاعت المزاعمُ القائلة بأن اليهود كانوا يُدبِّرون مكائدَ ضد المسيحيين.
وذهبت إحدى النظريات الرائجة في هذا الصدد إلى أن اليهود اعتادوا تسميم الآبار التي يشرب منها المسيحيون. فعندما ضرب الطاعونُ الأسود أطنابَ قارة أوروبا إبَّان القرن الرابعَ عشر، كثيرًا ما كانت تُعزى نوباتُ التفشي إلى مؤامرة اليهود لتسميمِ آبارِ الشرب على مستوى العالم. وفي بعض الأحيان، استُخدم أسلوب التعذيب لإرغام عددٍ من اليهود المشتبَه بهم على الاعتراف، وبناءً على ذلك، أُعدم آلافٌ آخَرون أحياءً. وقد وقعت أكثر المذابح المدبَّرة في ستراسبورج. فقد قرَّر السكان المحليون الذين أصابهم الهلع، والذين يئسوا من منعِ الطاعون من الوصول إليهم، أن يُبادروا على سبيل الوقاية بذبح يهودِ المدينة. (بعض نبلاء المدينة كانوا أيضًا مَدينين بأموالٍ لمقرضين يهود، وربما وجدوها فرصةً للتخلص من ديونهم.) وحاولت سلطاتُ المدينة التدخُّل، لكنها عجزت عن منع المحتشدين. وإجمالًا، لقي قرابة تِسعمائة يهوديٍّ حتفهم حرقًا، وتم تعميدُ الباقين أو طردُهم. ومع ذلك، سرعان ما اكتسح الطاعونُ المدينة بأكملها، مخلفًا وراءه ١٦ ألفَ حالة وفاة.
كانت هناك أيضًا «فرية الدم»؛ وهو زعمٌ يرى أصحابُه أن اليهود اعتادوا قتلَ المسيحيين وتصفيةَ دمائهم، بحيث يستخدمونها في إعداد وجبة عيد الفُصح اليهودي، وتحضير أدوية لعلاج عيوبهم الخلقية، وأداء طقوسهم الشنيعة. وقد ظهرَت هذه الخرافة في القرن الثاني عشر، عندما عُثر على صبيٍّ مسيحيٍّ صريعًا على حدود بلدة نوريتش في إنجلترا، وذلك قبل عيد القيامة بيوم واحد. قدَّم توماس مونماث، وهو كاهن بنديكتي صار محققًا هاويًا، تفسيرًا معقَّدًا. فقد زعم أن التعاليم اليهودية تحثُّ اليهود على أنه يتعين عليهم إهراقُ الدم المسيحي لاستعادة وطنهم. ومن ثَم، فإن المجلس السرِّي للنخب اليهودية يجتمع مرةً في كل عام لاختيار الطفل المسيحي الذي سيُقدَّم قربانًا. وراجت فكرة مونماث. فلقرونٍ تاليةٍ، عندما كان يُفقَد طفل مسيحي، أو يُعثر عليه صريعًا، كثيرًا ما كانت تشير أصابعُ الاتهام إلى اليهود أولًا.
شاعت هذه المخاوف المُحفَّزة بدوافعَ دينيةٍ على مدارِ قرونٍ. وفي الوقت ذاتِه، حُرم اليهود في مناطقَ كثيرة من حقِّ المواطنة وحقوق الملكية، واقتصر وجودهم على أحياء يهوديةٍ معزولة، وكانوا يُطردون خارج المجتمع المسيحي تمامًا. وقد بدأ هذا الوضع يتغير في أعقاب الثورة الفرنسية، عندما مُنح الكثير من اليهود حقوقهم البشرية وبدَءوا يخرجون من عزلتهم. وبطبيعة الحال، مالَ اليهود إلى تأييد السياسات الليبرالية والديمقراطية التي شكَّلت آمالهم في مزيدٍ من الحرية. ونظرًا إلى أنهم ظلُّوا مُستبعَدين من الوظائف التقليدية، سافر الكثيرون منهم إلى مدنٍ وأبدعوا طرقًا جديدة لكسب أقواتهم. وفي حين ظل الكثيرون منهم مُعدِمين ومعزولين، أصبح عددٌ منهم بالغَ الثراء.
وقد تمخَّض كلُّ هذا عن توتراتٍ اجتماعية جديدة. فلم يتحمَّس الكثير من الناس للتغيرات الراديكالية التي تحدث من حولهم. فبالنِّسبة إلى البعض منهم، أصبح انخراط اليهود حديثًا رمزًا مُميزًا للعالم الحديث. والتحامل الذي طال أمَدُه وأدَّى إلى ظهور خرافتَي فِرْية الدم وتسميم الآبار بُثَّت فيه الروح لكنه تجلَّى في ثوبٍ جديد ليعكسَ التوترات والاستياءات الحديثة. فلم يَعُد اليهود أعداءَ الإله بل أعداء الإنسان. وفي عام ١٨٧٩، ظهر مصطلح جديد هو معاداة السامية، ليعكسَ الحقيقة القائلة بأن ما كان يُعد يومًا مجموعة من الخرافات البدائية المرتبطة بالقرون الوسطى أصبح أيديولوجية سياسية كاملةَ الأركان.
•••
وقد استغلَّ كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون» هذا التوجُّهَ السياسي الجديد القائم على معاداة السامية على أفضلِ نحوٍ. لكنه لم يُصِب الهدف على الفور. فقد نُشر للمرة الأولى في صورةٍ مختصرة وذلك في صحيفة «زناميا» الروسية (ويعني الاسم بالعربية «اللافتة») في عام ١٩٠٣. فناشرُ الصحيفة، ويُدعى بافيل كروشيفان، كان عضوًا في حركة «بلاك هاندردز»، التي كانت ترفع شعار «اقتل اليهود، وأنقِذ روسيا». وظهر الكُتيب مرةً أخرى في عام ١٩٠٥، كملحقٍ للطبعة الثالثة من كتابٍ نُشر على يد مُتطرفٍ ديني غريب الأطوار يُدعى سيرجي نايلوس. أعاد نايلوس نشر الكتاب مراتٍ عديدة على مدار العقد التالي، مُسلِّطًا بذلك مزيدًا من الضوء على الكُتيب. وبالرغم مما بُذل من جهود حثيثة، لم يُحقِّق الكُتيب النجاحَ المرجوَّ بسبب غموضه النِّسبي. وفي عام ١٩١٣، شكا نايلوس إلى أحد أصدقائه قائلًا: «لا يمكنني إقناع الجمهور بأخذِ كُتيب البروتوكولات على محمل الجِد، وبالقدر الذي يستحقه.»
وتبدَّلَت الأمور في أعقاب الثورة الروسية والحرب العالمية الأولى. فعلى حين غِرةٍ، بدا الكُتيب نبوئيًّا. فقد اكتسح روسيا ثم العالم من بعدها. وفي الولايات المتحدة، أصبح هنري فورد من أكبر مؤيدي الكُتيب. فمؤلفاته المُعادية للسامية التي كان ينشرها بنفسه كانت تُوزَّع في وكالات سياراته. وأعلن فورد قائلًا: «التصريح الوحيد الذي أُعنى بالإدلاء به فيما يخص البروتوكولات، هي أنها تنسجم مع ما يجري. فعمرها ١٦ عامًا وما زالت تنسجم مع المشهد العالمي حتى وقتِنا هذا. وهي تنسجم مع ما يجري الآن.» وفي إنجلترا، دعمت صحيفةُ «مورنينج بوست» (لم يَعُد لها وجود في الوقت الحاليِّ) دعمها الكامل لصحةِ ما جاء في الكُتيب في مجموعة من المقالات، نُشرت في وقت لاحقٍ في كتاب بعُنوان «سبب الاضطراب العالمي». كما انطلى الأمر على صحفٍ أخرى شهيرة. فقد نشرت صحيفة «تايمز» اللندنية تقول: «هل هي زائفة. إذا كانت كذلك، فمن أين أتت تلك القدرةُ المذهلة على التنبؤ؟»
وبقدرِ ما اكتسحت البروتوكولات العالم، بقدرِ ما اكتُشف زيفها. ففي وقتٍ مبكرٍ وتحديدًا في عام ١٩٢٠، أوضح الباحث الألماني، جوزيف ستانجيك، التشابهَ المذهل بين الاجتماع الذي ذُكر في الكُتيب وأحد الأعمال الروائية الذي نُشر قبله بخمسين سنة. وكان مؤلِّف العمل ألمانيًّا يُدعى هيرمان جودشه، وهو كاتبٌ وصفه أحد الباحثين بأنه «مروِّجٌ للشائعات وصاحب روايات رخيصة.» وفي أحد فصول روايته «بيريتس» بعنوان «حول مقابر اليهود في براج»، أحيا جودشه (وكان يكتب باسم مستعار هو السير جون ريتكليف) خرافة توماس مونماث عن المجلس اليهودي السرِّي بأسلوبٍ مُهيِّج للمشاعر. فحسبما ذُكر في تلك الرواية، يجتمع أمراء قبائل إسرائيل وعددها عشرون قبيلة، في كنف الظلام كلَّ مائة عامٍ، بعباءات شعائرية تنزلق بلا صوتٍ على العشب وشواهد القبور. وكلٌّ منهم يأخذ دوره في تسليط الضوء على التقدُّم الذي حقَّقته خطتهم القديمة الرامية إلى الهيمنة على العالم. وحسبما يقول هيرمان بيرنشتاين، وهو صحفي أمريكي، إن هذا العمل «عمل روائي أخرقُ يعتمد على الميلودراما المروعة.» وفي عام ١٩٢١، نشر بيرنشتاين كتابًا يُفصِّل فيه التشابه بين كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون» ورواية «بيريتس». وقال بيرنشتاين إن ذلك كان نوعًا من الزيف. وتابع قائلًا: «كل تصريحٍ مهمٍّ احتواه الكُتيب وأسهبَ في تفصيله، تجده في الرواية القصيرة التي كتبها جودشه ريتكليف.»
ثَمة نوعٌ من المفارقة في الحقيقة القائلة بأن الكُتيب سُرق من كتابٍ غيرِ معنيٍّ باليهود على الإطلاق؛ بل كان في واقع الأمر نقدًا عنيفًا للشمولية. وقد أوضح جريفز أن الكتاب الملغز قائمٌ على مقابلةٍ بين اثنين من الشخصيات التاريخية، وهما مكيافيللي الدنيء والفيلسوف الفرنسي الليبرالي مونتسكيو، على شاطئٍ مهجور في جهنم. ويعقب ذلك ٢٥ حوارًا يُلخِّص فيها مكيافيللي بتهكمٍ حاجةَ الزعماء السياسيين إلى استخدامِ أساليبَ قذرةٍ للهيمنة على رعاياهم. هذه الحوارات هي نقد هجائي شبهُ مُستتر لحكم نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا المُستبد خلال خمسينيَّات وستينيَّات القرن التاسعَ عشر؛ حيث لعب مكيافيللي دور نابليون في تلك الحوارات.
وضع جريفز بعض فقرات الإدانة، جنبًا إلى جنبٍ على سبيل المقارنة. وتبيَّن أن فقراتٍ كاملةً من كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون» قد نُسخت حرفيًّا من هذا العمل السابق. أما الفقرات الأخرى، فقد أُعيدت صياغتها على نحوٍ طفيف. يُشير جريفز إلى أن السارقين للعمل الروائي، لم يُرهقوا أنفسهم حتى عناءَ إخفاء آثار جريمتهم. كان الأمر أشبهَ بشخصٍ قلَّب صفحاتِ هذا الكتاب صفحةً صفحة بسرعة، وأعاد صياغة ما راق له منه أو نسَخه. ولم يستطِع جريفز حينذاك أن يعرف مؤلِّف الكتاب الملغز. لكن سرعان ما كُشف عن هويته حيث كان عملًا لفرنسي يُدعى موريس جولي. كان جولي، بجانب عمله في المحاماة، مراقبًا واعيًا للسياسة. وقد أدرك أنه قد يُسجن (أو قد يتعرَّض لما هو أسوأ من ذلك) لو نشر هجومه الاستعاري ضد الإمبراطور في فرنسا باسمه الحقيقي؛ ومن ثَم حاول تهريب عمله عبر بلجيكا. وقد عُثر عليه. وصُودر الكتاب، وقضى جولي مدة من الزمن خلف القضبان. وظل الكتاب مختفيًا إلى أن وقع في أيدي هؤلاء الأشخاص الذين استخدموه لاختلاق البروتوكولات التي وضعوها في كُتيبهم.
لم يستطِع السيد إكس أن يُخبر جريفز بشيء سوى أنه كان قد حصَل على كتاب الإدانة هذا من ضابط سابق في جَهاز الشرطة السرِّية الروسية المعروف باسم «أوخرانا». وفي العام نفسِه، أعطت الأميرة كاترينا رادزيفيل، إحدى المُبعدات الروسيات، التي كانت تعيش في نيويورك، مزيدًا من الخيوط التي قادت إلى حلِّ اللغز. ففي حقبة التسعينيات من القرن التاسع عشر، كانت تربطها صداقةٌ وثيقة مع عملاء سريِّين من الشرطة الروسية «أوخرانا» في باريس. وفي يوم من الأيام، عرَض عليها أحدُ العملاء السريين مخطوطةً كُتبت بخط اليد ولم تكتمل بعد. لم تكن تعرف ماهيتها حينذاك، لكن تبيَّن لها أن تلك المخطوطة هي كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون» عندما كان لا يزال في مرحلة الإعداد. كان الرجل يُخبرها مفاخرًا بأن هذا نوعٌ من التزييف يختلقه من أجل توريط اليهود في مؤامرة عالمية. كثيرًا ما استخدمَت الشرطة الروسية السرية التزييف من أجل تحقيق أهداف سياسية مقيتة، ولم يأخذ أيٌّ من الأشخاص المحيطين بها تلك التزييفات على محمل الجِد؛ على حدِّ قولها. كلُّ ما هنالك أنها تذكَّرت الأمر بعد أكثرَ من عَقدَين لاحقًا، عندما أدركت أن التزييف ذاتَه قد استولى على اهتمام العالم، واعتبره الكثيرون حقيقة.
لذا، بحلول خريف عام ١٩٢١، كانت قد كُشفت الجذور الخسيسةُ لكُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون». فقد أُنتج في باريس، على عجلٍ، بالاستعانة بكتابين سابقين، في وقتٍ ما قبل مطلع القرن، وذلك على يد عملاء سريين تابعين للشرطة السرية الروسية، على أملِ تأجيج الكراهية ضد اليهود في بلدهم. وكان العنوان الذي اختاره هيرمان بيرنشتاين لعرضه الصحفي هو «تاريخ كذبة». وقد نشرت صحيفة «تايمز» اللندنية الأسرارَ التي كشفها جريفز تحت عنوانٍ رئيسي يُعلن أن البروتوكولات محضُ زيف تاريخي. ونُشرت افتتاحية بموازاة مقالاته النقدية، تأمُلُ أن يطويَ النسيانُ خرافةَ بروتوكولات حكماء صهيون. اختتم جريفز قائلًا: «كفانا حديثًا عن هذا الكُتيب!»
ولسوء الحظ، لم تكن هذه نهايةَ كُتيب «بروتوكولات حكماء صهيون».