اختلال المناسيب
بمرور السنين، اتُّهم ٨٢ شخصًا — وهم أشخاص حقيقيون لهم أسماء وحياة وسمعة ومشاعر — من قِبل أصحاب نظريات المؤامرة بأنهم أطلقوا الرصاصَ على الرئيس جون كينيدي. وبأخذ كل شيء بعين الاعتبار، فإنه وفقًا لباحث الاغتيالات فينسنت باجليوسي، وُصمت ٤٢ جماعةً أو منظمة و٢١٤ فردًا بالتآمر.
بطبيعة الحال، كانت الرواية الرسمية تقول إن رجلًا مضطربًا يُدعى لي هارفي أوزوالد هو المسئولُ الوحيد عن عملية الاغتيال. كان أوزوالد في السابق أحدَ أفراد البحرية الأمريكية وقد سافر إلى الاتحاد السوفييتي عام ١٩٥٩ وقضى هناك مدَّةً قصيرة ليعودَ من جديد إلى أمريكا في عام ١٩٦٢. وبعد انقضاءِ عامٍ ونصف من ذلك الوقت، وتحديدًا في ٢٢ نوفمبر ١٩٦٣، أطلق ثلاثَ رصاصات على الرئيس كينيدي من نافذةٍ بالطابق السادس في ديلي بلازا في دالاس بولاية تكساس. ولم تُصِب الرصاصة الأولى الهدف. أما الرصاصة الثانية فقد أصابت كينيدي في الظهر (وواصلت طريقها لتُصيب حاكم ولاية تكساس جون كونالي الذي كان جالسًا أمام الرئيس كينيدي). أما الرصاصة الثالثة فقد أصابت الرئيسَ في الرأس، ليتأكد بذلك مقتله ولتتلطَّخ سمعة أوزوالد.
هناك الكثيرُ من الأدلة التي تربط بين أوزوالد وعملية الاغتيال. فقد عمل في مستودعِ كتبِ مدرسة تكساس؛ حيث عُثر على بندقيةٍ وثلاثة خراطيش مستهلكة ووكرٍ هيَّأه بنفسه لإصابة هدفه منه. لقد كان الموظف الوحيد الذي لم يرَ بعدُ الحادث، وقد أُلقي القبض عليه بعد مضيِّ ساعات قلائل من عملية الاغتيال لإطلاقه النارَ على أحد ضباط الشرطة، ويُدعى جيه دي تيبيت، الذي كان يبحث عن رجلٍ تنطبق أوصافُه على أوصاف أوزوالد. كذلك هناك الحقيقة القائلة بأن أوزوالد كان قد حاول قبل ذلك بسبعة أشهر اغتيالَ شخصيةٍ بارزة أخرى في السياسة الأمريكية، وهو الجنرال إدوين ووكر، اليمينيُّ المناهض للشيوعية.
لكن الاستبيانات التي أُجريت على مدارِ سنواتٍ تُشير إلى أن هذه الرواية للأحداث لم تُقنع كثيرًا عمومَ الناس في واقع الأمر. فسرعان ما أُثيرت الشكوك. فقد أظهَر استطلاعُ رأي أُجري خلال الأسبوع الذي أعقب حادثة الاغتيال أن ثلث الأمريكيين فقط هم مَن يعتقدون أن لي هارفي أوزوالد هو مَن ارتكب الجريمة وحده؛ فأكثرُ من نصف المشاركين في الاستطلاع أكدوا بحسمٍ أن ثمَّة مؤامرةً في الأمر، في حين أن الباقين قالوا إنهم غيرُ متأكدين. وهذه الرأي السائد لم يتأثر كثيرًا بخروج تقرير لجنة وارين إلى النور وقد نُشر في عام ١٩٦٤، وتوصَّل إلى أن أوزوالد قد ارتكب جريمته بمفرده؛ ففي عام ١٩٦٦ عبَّر ثلثا المشاركين عن تشككهم في الرواية القائلة بتورطِ هذا الشخص وحده في الجريمة. وبحلول عام ١٩٧٦، ازدهرت نظرياتُ المؤامرة التي حيكت حول اغتيال كينيدي، وأصبحت الرواية المؤامراتية هي الرواية الافتراضية؛ فقد وجدَت استطلاعاتُ الرأي في المدة من منتصف السبعينيَّات إلى بداية القرن الحادي والعشرين أن قرابة ثمانية من ١٠ أمريكيِّين يعتقدون أن ثمَّة مؤامرةً وراء حادثة الاغتيال. والآن، بعد مرور ٥٠ عامًا من حادثة الاغتيال، لا يزال الأشخاصُ الذين يعتقدون أن ثمَّة مؤامرةً تقف وراء مقتل كينيدي يُمثِّلون أغلبيةً واضحة في الولايات المتحدة، وأقليةً لا بأس بها في الأماكن الأخرى من العالم.
واستنادًا إلى مستوياتِ الشك هذه، فليس من المستغرَب أن الكثير من نظريات المؤامرة طُرِح على مرِّ السنين لتفسير عملية الاغتيال. فبالرغم من كلِّ الأدلة التي تضع أوزوالد في مشهد الجريمة، لم يُصوِّره سوى عددٍ قليل على نحوٍ لافتٍ من نظريات المؤامرة على أنه تواطأَ بهمَّة مع مجرمين أو مخطِّطين آخرين. فقد اعتبرته هذه النظريات في أغلب الأحيان أنه كان مغفلًا؛ مجرد كبشِ فداء يمكن إلصاقُ التهمة به بسهولة. إذن مَن قتل كينيدي في حقيقة الأمر؟
متَّهَمون غير مألوفين
عملاء الحكومات السريُّون، سواءٌ أكانوا أجانبَ أم محليِّين، يلعبون دور الشرير في الكثير من النظريات. إحدى الروايات تقول إن ثمَّة خُطةً وضعها السوفييت الذين أغضبَهم الإذعان إلى مطالب كينيدي في أزمةِ الصواريخ الكوبية. وتتمحور هذه النظريةُ حول تجنيد أوزوالد من جانب وكالة الاستخبارات السوفييتية (كيه جي بي). غير أنه في عام ١٩٦٤، انشقَّ عميل الاستخبارات السوفييتية نفسه، وغادر إلى الولايات المتحدة بعد أن كان قد تولَّى مسألةَ انشقاق أوزوالد ومغادرته إلى الاتحاد السوفييتي. أخبر هذا العميلُ ويُدعى يوري نوسينكو وكالةَ الاستخبارات الأمريكية عن رأي وكالة الاستخبارات السوفييتية في أوزوالد: لا يُعوِّلون عليه كثيرًا؛ حسب وصفه. وإدراكًا منهم أن أوزوالد شخص «عاديٌّ، لا يُثير الاهتمام، ولا نفع منه.» والأرجح أنه شابٌّ غيرُ متَّزِن عقليًّا، لم يُحاول السوفييت تجنيدَه خلال إقامته التي استمرت عامين ونصفًا. (ومكافأةً له على ذلك، حُكم على نوسينكو بالسجنِ غيرِ القانوني من جانب وكالة الاستخبارات الأمريكية، وكان حبسُه انفراديًّا لمدة ثلاثة أعوام ونصف.) في حقيقة الأمر، عندما وصل أوزوالد للمرة الأولى إلى موسكو وأعلن عن رغبته في التخلي عن جنسيَّتِه الأمريكية، حاولت الحكومة السوفييتية طرده إلى بلاده. ولم تُصدِر له تأشيرةَ إقامة إلا عندما حاول الانتحارَ بقطعِ شرايين يده في غرفةٍ بالفندق، وذلك قبل ساعاتٍ من اصطحابه إلى المطار لمغادرة البلاد. فقد اعتقد مَن تولَّوا شأنه أن السماح له بالإقامة أسهلُ من المخاطرة بدعاية سيئة حول موت سائحٍ أمريكي على مرأًى ومسمَعٍ منهم.
على أي حال، يُشير المزيد من النظريات بأصابع الاتهام إلى الداخل أكثر. وتلعب وكالة الاستخبارات الأمريكية دورًا بارزًا في بعض أكثر النظريات انتشارًا. وبإضافة عنصر المعقولية إلى الفكرة القائلة بتورطِ وكالة الاستخبارات الأمريكية، نعلم الآن أن الوكالة كانت قد وضعت، في واقع الأمر، خططًا لاغتيال زعماء أجانبَ بارزين في بدايات ستينيَّات القرن العشرين، وكان أهم هؤلاء الزعماء فيدل كاسترو. لكن هل كانت الوكالة لِتستخدمَ التكتيكات المشبوهة ذاتَها ضد رئيسِها؟ تزعم نظريات المؤامرة أن قادة وكالة الاستخبارات الأمريكية استاءوا من كينيدي بسبب الطريقةِ التي تعامل بها مع الفشل الذريع لعملية «غزو خليج الخنازير»، وأن كينيدي نفسَه استاء بشدةٍ من ذلك الفشلِ لدرجةِ أنه كان يُخطِّط لإعادة هيكلة وكالة الاستخبارات الأمريكية، على نحوٍ يجعلها غيرَ قادرة على أداء مهامها. وفي محاولةٍ منهم لئلا يدَعوا الحقائق تقف في طريق اختلاقهم قصةً جيدة، يتجاهل أصحابُ نظريات المؤامرة الحقيقةَ المزعجة القائلة بأنه بمجرد انتهاء عملية «غزو خليج الخنازير»، كان كينيدي قد أصبح على علاقةٍ وثيقةٍ على نحوٍ استثنائي مع وكالة الاستخبارات الأمريكية؛ حيث زاد من ميزانيتها، بل وحتى عمل على حمايتها من الخضوع للتحقيق في مواجهةِ مزاعم سوءِ التصرف من جانبها.
كما تُشير أصابعُ الاتهام إلى العُقدة العسكرية الصناعية المزعومة. فلعل القادة العسكريِّين وشركات تصنيع الأسلحة كانت مستاءةً من فقدان عوائدهم نتيجةً لرغبة كينيدي في سحب جميع القوات الأمريكية من فيتنام، ودبَّروا مكيدة للتخلص منه. وإذا كان الأمر كذلك فقد حققت الخطةُ الغرضَ منها على ما يبدو؛ فقد زاد ليندون بينز جونسون نائب الرئيس كينيدي وخليفته، من عدد القوات الأمريكية في حرب فيتنام بشكل كبير. ولا يهمُّ الحقيقة القائلة بأنه وقت الاغتيال، لم يكن كينيدي قد عبَّر عن رغبته في سحب القوات الأمريكية من هناك، ولم يكن جونسون قد صرَّح بأي رغبةٍ في زيادة عدد تلك القوات. وفي ٢ سبتمبر ١٩٦٣، كان كينيدي قد قال في مقابلة: «في نهاية المطاف، تلك حربهم [يقصد الفيتناميين]. هم مَن يتعيَّن عليهم الفوز أو الخسارة. لكنني لا أتفق مع مَن يقولون إننا يجب أن ننسحب من هناك. هذا سيكون خطأً كبيرًا.» (يوضح باجليوسي أن أوليفر ستون أدرج الجملتَين الأُوليَين من هذا الاقتباس في فيلمه «جون إف كينيدي»، لكنه حذف الجملة الثانية؛ إذ من الممكن أن تُضعِف بدرجةٍ ما أو بأخرى، من نظرية المؤامرة المتمحورة حول العقدة العسكرية الصناعية التي طرحها الفيلم.)
وتُلقي نظرياتٌ أخرى باللَّوم على عصابات المافيا، التي لم تهتمَّ — وهو أمرٌ مفهوم بالقدْر الكافي — بتضييق الخناق على الجريمة المنظَّمة من جانب إدارة كينيدي. وبينما كان يُنقل أوزوالد من مقرِّ الشرطة إلى سجن المقاطعة في ٢٤ نوفمبر، برز رجلٌ مُسلَّح من وسط حشود المتفرجين وأطلق على أوزوالد رَصاصة في الصدر. هذا الرجل كان يُدعى جاك روبي، وهو صاحبُ ملهًى محليٍّ عُرف عنه تقلبُه المزاجي وبحثه الدائم عن الاهتمام والاحترام. ويزعم أصحاب نظريات المؤامرة أنه كان أيضًا أحدَ أفراد العصابة وقد حان دوره عندما كلَّفه رؤساؤه المجرمون بإسكات ذلك الأبلهِ الذي جنَّدوه لقتل كينيدي. بل إن شخصيةً مثل جيه روبرت بلاكي، كبير مستشاري لجنة التحقيق في الاغتيالات، خرج من التحقيق وهو على يقينٍ من أن عصابات المافيا أداروا عمليةَ اغتيال كينيدي، وأن قتل جاك روبي لأوزوالد قدَّم دليلَ الإدانةِ القاطعَ.
هذه النظريات لديها على الأقل قدرٌ من المعقولية. وهناك نظريات أخرى أبعدُ ما يكون من أن تُصدَّق. فبعد عملية الاغتيال بوقتٍ قصير، عُثر على ثلاثة رجال مشردين داخل إحدى عربات قطار على بُعد عدة بنايات من حديقة ديلي بلازا. وقد التُقطت صورٌ لهم وألقت الشرطة القبض عليهم، لكنهم اختفَوا تمامًا بعد ذلك على ما يبدو. وقال بعض أصحاب نظريات المؤامرة إنه من الواضح أن السلطاتِ أخفَت هُوياتهم عمدًا من أجل إخفاءِ دَورهم في عملية الاغتيال. ولم يسَعْ أصحابَ نظريات المؤامرة هؤلاء سوى أن يُقدِّموا ما تتطلبه الرواياتُ من تفصيلات؛ إذ زعموا أن أحد هؤلاء الأشخاص قاتلٌ مأجور والاثنين الآخرَين هما فرانك ستيرجيس وإي هوارد هانت من لصوصِ ووترجيت. لكنه اتضح لاحقًا أن إدارة شرطة دالاس، كانت قد سجَّلت أسماءَ هؤلاء الأشخاص عندما أُلقي القبض عليهم. هؤلاء كانوا هارولد دويل وجاس أبرامز وجون جيدني، وعندما أجرى مكتبُ التحقيقات الفيدرالي تحقيقًا بشأنهم في بدايات التسعينيَّات، اتضح أنهم لم يكونوا سوى ثلاثة مشردين يركبون القطار.
ووفقًا لأكثر النظريات بُعدًا عن المعقولية، لا تحتاج إلا إلى أن تبحث في موكب كينيدي نفسِه لتعثرَ على القاتل. فربما كان العقل المدبِّرُ للمؤامرة يستقلُّ سيارةً خلف كينيدي، ويُلوِّح بلطفٍ للحشود: ولا أحد سوى جونسون، نائب الرئيس الذي، دبَّر، وفقًا لأصحاب نظرية المؤامرة، خطةً لقتله كي يحلَّ محله في البيت الأبيض. وتُصر رواية أخرى على أن مَن أطلق الرصاصة القاتلة المروعة على رأس كينيدي هو عميل المخابرات السرية جورج هيكي، الذي كان يستقلُّ السيارة التي كانت تسير خلفَ سيارة كينيدي مباشرة، وتزعم أنه أطلقها بالخطأ. وبطبيعة الحال، تآمرَت لجنة وارين للتستُّر على الخطأ القاتل لهيكي.
بل إن البعض يرى أن قاتل كينيدي كان معه في السيارةِ نفسِها. فالرجل الذي كان يقود سيارةَ الليموزين التي يستقلُّها الرئيس، وهو عميل المخابرات السرية ويليام جرير، يمكن أن يُرى في فيلم زابرودر وهو يلتفتُ التفاتةً سريعة إلى الرئيس في اللحظة ذاتِها التي أُطلقت فيها الرصاصتان الأُولَيان. ثم، إذا كان يصعب عليك الاقتناع، وبشيء من التخيل، يبدو الأمر كما لو أن الرجل أخرج مسدسه وأطلق الرصاص مباشرةً على رأس كينيدي. أو ربما، وفقًا لإحدى النظريات، كان القاتل هو آخِرَ شخص يخطر على بال أحدٍ، وهو الشخص الجالس عن يمين كينيدي: زوجته على مدار ١٠ سنوات، جاكلين بوفير كينيدي. وهذه النظرية تزعم أن جاكي، كانت قاتلةً مدرَّبة بشكلٍ جيد، دون علم زوجها، وابتُزَّت لقتل الرئيس باستخدام بندقية من نوعٍ خاص أخفَتها في حقيبةِ يدها كُحليَّةِ اللون.
المتَّهم المألوف
أعتقد أن هذا كافٍ. فهدفي هنا ليس إثباتَ أو دحضَ هذه النظريات أو أيٍّ من النظريات الأخرى الكثيرة. وسبب ذكري لهم، ولاستطلاعات الرأي التي تُبيِّن أن أغلبية الناس يُصدِّقون نسخةً مؤامراتية من نوعٍ ما لعملية الاغتيال، أن أُوضِّح إلى أيِّ مدًى نظريات المؤامرة المتعلقة باغتيال كينيدي رائجةٌ وكثيرة ومنمَّقة. فالتكهن المؤامراتي لم يتوقَّف ولم يتراجع. يُفصِّل تيموثي ميلاي الباحثُ في نظريات المؤامرة هذا الأمرَ بإسهاب؛ إذ يقول إن الاغتيالَ كان موضوع «تحقيقَين فيدراليَّين ذوَي نطاقٍ واسع للغاية؛ وتحقيقاتٍ أضيقَ نطاقًا أجْرَتها وكالاتُ الولاية والوكالات الخاصة والفيدرالية، وعدة آلافٍ من المقالات والكتب، وعشرات الروايات والأفلام والمسرحيات، وعددٍ لا حصر له من الأخبار، وعددٍ لا حصر له من المناظرات والسِّجالات والبرامج الإخبارية التليفزيونية الخاصة.»
وعلى سبيل المقارنة، تأمَّل إطلاق الرصاص على رئيسٍ آخر. ففي ٣٠ مارس ١٩٨١، أطلَق جون هينكلي الابن ستَّ رصاصات على الرئيس رونالد ريجان من مسافة ١٠ أقدام فقط. ولم تُصِب الرصاصاتُ جميعُها الرئيسَ، لكن رصاصة منها ارتدَّت عن السيارة الليموزين المانعة للرصاص وأصابته في الصدر، محدِثة ثَقبًا في رئته، ولم يفصل بينها وبين قلبِه سوى بوصةٍ واحدة. كادت حياة ريجان أن تنتهي لكن الأطباء نجَحوا في إزالة الرصاصة ووقفِ النزيف الداخلي، منقذين بذلك حياةَ الرئيس بأعجوبة. قالت الرواية الرسمية إن هينكلي كان مختلًّا عقليًّا، وإن إطلاق الرصاص كان محاولةً لإبهار الممثِّلة الشابة جودي فوستر. فقد ظل يتعقَّبها لسنوات، ويتَّبع خُطاها ويتصَّل بها ويُرسل لها الخطابات. وفي نهاية المطاف، وفي ظلِّ تأثُّرِه بفيلم «تاكسي درايفر» (سائق التاكسي)، الذي كانت بطلتُه فوستر وظهرَت فيه شخصية ترافيس بيكل (دورٌ لعبه روبرت دي نيرو) الذي كان يُخطِّط لاغتيال سيناتور أمريكي، قرَّر هينكلي أنَّ أفضلَ طريقةٍ لإبهار فوستر أن يقتل الرئيس. فقد كتب لها رسالتَه متوسلًا، صبيحةَ يوم إطلاق النار على ريجان: «جودي، كنتُ لأتخلى عن فكرةِ قتلِ ريجان على الفور لو أنني فزتُ بقلبك وعِشتُ بقيةَ حياتي معك.» قضية محسومة.
لكن أصحاب نظريات المؤامرة يُمكن أن يجعلونا نُصدِّق أن … حسنًا، في واقع الأمر لا تكاد تكون هناك نظريات مؤامرة حول محاولةِ اغتيال ريجان. فلم يكن هناك سِوى مزاعمَ مؤامراتيةٍ واهيةٍ ظهرت بين الحين والآخر على مرِّ السنين؛ يمكنك أن تجد مواقعَ إلكترونية غامضةً تزعم أن هينكلي كان عميلًا لإحدى الجهات الأجنبية الشريرة التي تلاعبت به وتحكَّمت في عقله. ليس هناك وجهٌ للمقارنة بين اغتيال كينيدي ومحاولة اغتيال ريجان. فنظريات المؤامرة عن كينيدي، أصبحت اتجاهًا سائدًا، في حينِ أن نظريات المؤامرة حول ريجان لم تُحقِّق رَواجًا يُذكر.
ما سبب تلك الحالةِ من عدم التوازن بين رواج نظرياتِ كينيدي ونظرياتِ ريجان؟ ثَمة اختلافاتٌ كبيرة بين الحدَثين. فكينيدي كان من الديمقراطيين، في حين أن ريجان كان من الجمهوريِّين. وكان كينيدي يبلغ من العمر ٤٦ عامًا، في حين كان ريجان يبلغ من العمر ٧٠ عامًا. وكان أوزوالد مفتونًا بالماركسية في حينِ كان هينكلي مهووسًا بإحدى نجمات السينما. لكن الاختلاف الأبرز هو الحقيقة البسيطة القائلة بأن أحد القاتلين نجح والآخَر فشل. ونتيجةً لذلك، كان اغتيالُ كينيدي حدثًا جَللًا يفوق بكثيرٍ محاولةَ اغتيال ريجان. فالرئيس كينيدي كان يتمتَّع بشعبيةٍ كما كانت له كاريزما، ومقتلُه غيَّر مَجْرى التاريخ إلى الأبد. أما محاولة اغتيال ريجان، فيُمكن أن تُوصف، بدرجةٍ ما أو بأخرى، بأنها لم تكن ترقى لأن يُطلَق عليها حدثٌ من الأساس. فقد عاش رئيسًا ذا شعبيةٍ ويتمتَّع بكاريزما ليُواصل حكمه للبلاد. وربما كان رَواجُ نظرياتِ المؤامرةِ المتعلقة بمحاولةِ اغتيال ريجان ليصبح بلا شكٍّ مختلِفًا تمامًا، لو كان هينكلي بارعًا في إصابة هدفه؛ وكذلك الحال لو أن الرَّصاصة الأخيرة التي أطلقها أوزوالد لم تُصب كينيدي ولم يتعرَّض إلا لجروح.
قد يبدو هذا بديهيًّا، لكن السبب وراءه يكمن في سمةٍ غريبة مهمة تتَّسم بها آليةُ عملِ أدمغتنا. فهناك طريق عقلي مختصر يُوجهنا يُطلَق عليه التحيُّزُ النِّسبي. فنحن نريد أن يكون هناك توافقٌ بين عِظمِ الحدثِ وعِظمِ السببِ الذي يقف وراءه، أيًّا كان ذلك السبب. وعندما تكون النتيجة المترتِّبة على حدثٍ هائلةً وعميقةً ومهمةً بطريقةٍ ما أو بأخرى، نميل إلى الاعتقاد بأن شيئًا ما هائلًا وعميقًا ومهمًّا يقف وراءها. وعندما تكون النتائج أقلَّ وقعًا، تبدو الأسباب المتواضعة أكثرَ وجاهةً ومعقولية. ببساطة، نحن نعتقد أن الأشياء الكبيرة تُسبِّبها أشياءُ كبيرةٌ مثلُها.
هذه ليست دائمًا قاعدةً خاطئة. ففي كثيرٍ من الأحيان، نجد أن أسبابًا جسامًا تقف في واقع الأمر وراء أحداث جسام. فإذا التقطتَ صخرة ورميتها برِفق، فلن تندهشَ كثيرًا عندما تجدها لا تبعُد عنك كثيرًا. لكنك إذا استجمعت كلَّ قوَّتك وألقيتَ بها، فستصل إلى مسافةٍ أبعدَ بكثير. وربما إن فعلت ذلك، تكسِر شيئًا أو تُصيب شخصًا ما. فنحن نعلم أن الجهد الأكبر يُولِّد تأثيرًا أكبر. وبالمثل، في عالم الأحداث العالمية المعقَّدة، الأشياء المهمة غالبًا ما تتطلَّب الكثيرَ من الجهد. فعلى سبيل المثال، جاء تطوير القنبلة الذرِّية — وهو حدثٌ جَلل استنادًا إلى النتيجةِ الماديةِ للانفجار والتبعات الجيوسياسية — كنتيجةٍ لمشروع منهاتن، وهو جهدٌ ضخمٌ شارك فيه ١٣٠ ألفَ شخصٍ على مدار سبع سنوات، بتكلفةٍ تُعادل ٢٦ مليار دولار أمريكي، بحساباتنا اليوم.
لكن ليس صحيحًا دائمًا أن حجمَ السبب يتوافقُ مع حجم النتيجة. فأحيانًا يمكن أن يُغيِّر التواءٌ بسيط في الظروفِ مسارَ حياتنا. فمثلًا يمكن أن يُحدِث شخصٌ يبدو تافهًا تأثيرًا ضخمًا في مسار التاريخ. ويقودنا التحيُّزُ النِّسبي نحو التغاضي أو التخلي عن فكرةِ أن الأسبابَ البسيطة يُمكن أن تولِّد آثارًا ضخمة في بعض الأحيان، ومَن يدفعنا نحو الاعتقاد بوجود مؤامرات شريرة ضخمة بالرغم من الأدلة الكثيرة التي تدعمُ النقيض. لكن هذا النوع من التفكير اللاعقلاني لا ينطبِق على نظرياتِ المؤامرة وحدَها. فالتحيُّز النِّسبي يؤثِّر بخفاءٍ في الطريقةِ التي نرى بها أنواعَ الأشياء كافةً طَوال الوقت.
التَّوافق في الجسامة
تخيَّل أنك ترمي حجرَ النَّرْد. أولًا، أريد منك أن تحاول الحصولَ على رقمٍ منخفض؛ لنقل واحدًا أو اثنَين. تخيَّل أنك تفعل ذلك دون اكتراث. ربما تهزُّ حجَر النَّرد قليلًا وتنفخ فيه طلبًا للحظ. والآن ألقِه. حسنًا، الآن تخيَّل أنك تُلقي حجر النرد من جديد، لكن هذه المرة تُحاول أن تحصلَ بحقٍّ على رقمٍ كبير، لنقل خمسة أو ستة. هل كان هناك فارقٌ في طريقة رميِك له؟ ضعْ هذا في حسبانك؛ فسوف نعود إليه بعد قليل.
الآن دَعْنا نفترضْ أن حجر النرد يميل إلى الإذعان لقوانين الطبيعة والاحتمال، وليس الاستجابة لآمال الرامي ورغباته. نتيجةُ أيِّ رمية شيءٌ من قبيل الصدفة وليس المهارة. لكننا أحيانًا لا نستطيع أن نمنعَ أنفسَنا من التظاهر بأننا مسيطرون على الأمور؛ أو بعبارةٍ أخرى، الشعور بأن الطريقة التي نُلقي بها حجرَ النرد قد تُؤثِّر في الرقم الذي سيظهر.
في عام ١٩٦٧، أثبتَ جيمس هنسلين هذا بأكثرِ طريقةٍ واضحةٍ ومنطقية ومباشرة؛ إذ كان يتظاهرُ بأنه سائقُ سيارةِ أجرةٍ ويتسلل بين مجموعةٍ من سائقي سيارات الأجرة في سانت لويس عندما كانوا يجتمعون في باحاتِ وقوفِ السيارات في الساعات الأولى من الصباح بين نَوبات العمل، للانخراط في مقامرةٍ محظورةٍ قانونًا. (يستمتع علماء الاجتماع أيَّما استمتاع.) كانت اللعبة التي اختاروها هي لعبة «كرابس» التي يُلقي فيها اللاعبُ زوجًا من أحجار النرد، ويُراهن على النتيجة. كان هنسلين مهتمًّا بالطقوس الخرافية التي استخدمها المقامرون في محاولةٍ للتحكُّم في حظوظهم في لعبةٍ تعتمد على الصدفة، وقد وجد مجموعةً معقَّدة من الطقوس. المثال الأول كان الاعتقادَ بأن اللاعبَ يُمكن أن يؤثِّر على نتيجة الرمية عن طريقِ ضبطِ درجة الشدة التي يُلقي بها حجرَ النرد. فسائقو سياراتِ الأجرة كانوا يُلقون برفقٍ عندما يرغبون في الحصول على رقمٍ منخفض، وبقوةٍ أكبر عندما يريدون الحصولَ على رقمٍ مرتفع. وكان اللاعبون يوبِّخون أنفسهم من وقتٍ لآخر لعدم الالتزام بالقاعدة؛ يذكر هنسلين ما قاله لاعبٌ يُدعى ليتل جو لنفسه، وهو ينتحب: «لقد ألقيتُ بها بقوةٍ أكثرَ من اللازم هذه المرة.»
هل فعلتَ شيئًا مشابهًا عندما تخيَّلتَ نفسك وأنت ترمي حجر النرد منذ قليل؟ لقد فعلتُ بالتأكيد ذلك عندما كنتُ ألعب لعبة «السُّلَّم والثعبان» وأنا طفل. فإذا أردتُ رمْيَ حجر النرد بحيث يظهر لي رقمٌ منخفض للسير بحذرٍ على مربعٍ أو مربعَين والوصول إلى سُلَّم، كنت أهزُّ حجر النرد برفقٍ وأضعه برفقٍ على المنضدة. وإذا أردت أن أرميَ حجر النرد بحيث يُظهر لي رقمًا مرتفعًا وأجتاز مجموعةً من الثعابين الشريرة، كنتُ أرمي الحجرَ بقوة على المنضدة. لم يُعلمني أحدٌ هذه الاستراتيجية؛ فقد جاءتني الفكرةُ تلقائيًّا، كما كان الحال بالنِّسبة إلى سائقي سانت لويس؛ وبالنِّسبة إلى المقامرين ولاعبي الطاولةِ في أنحاء العالم. الرمية الأكثرُ قوةً يُتوقَّع أن تؤدِّيَ، بطريقةٍ ما أو بأخرى، إلى رقمٍ أعلى. فالرقم الكبير يحتاج إلى حركةٍ أقوى. والفكرة القائلة بأن سرعةَ حجر النرد تؤثِّر بدرجةٍ ما أو بأخرى على الرقم الذي يظهر تُبيِّن التحيُّز النِّسبي في الأفعال، الأمر الذي يُوجِّه أفكارَنا وسلوكياتنا بشأنِ نتيجةٍ ما، هي في واقع الأمر عشوائيةٌ تمامًا.
•••
هذا مجردُ مثالٍ واحد نبدأ به. فالتحيُّز النِّسبي له تأثير أعمق بكثيرٍ من مجرد توجيهنا بشأن الكيفية التي نرمي بها حجر النَّرد. إنه يُشكل الطريقة التي نُفكر بها في الحياة والكون، بل وكل شيء تقريبًا. فعندما تحدثُ أشياءُ كبيرةٌ لنا، نبحث عن أسبابٍ كبيرة. لعلك وجدتَ نفسك تُفكِّر على هذا النحو في أحداثٍ تقع في حياتك. فإذا حدث شيء مهم، مثل فوزك بمبلغ ٥٠ ألف دولار بورقة يانصيب، أو التقيتَ بمعشوقك الأبديِّ مصادفةً، لا يُمكنك أن تمنع نفسك من التفكير في أن هناك سببًا كبيرًا وراء ما حدث. فربما كان الفوزُ مكافأةً إلهيةً لك على فعلٍ من أفعال الخير أديتَه. وربما جلَب القدَرُ لك معشوقَك. وبالمثل، عندما نُواجه مأساةً شخصية، يكون من المغري أن نعتقدَ أن ما حدث تدبيرٌ سماوي أو عمل شيطاني.
حتى إذا كنا لا نؤمن بالأقدار أو بالآلهة أو بالشياطين، لا يستطيع أغلبنا أن يمنع نفسَه من أفكارٍ كتلك التي تطرأ على عقولنا من وقتٍ لآخر. وهذا ينطبِق بوجهٍ خاص عندما تخرج الأحداثُ عن نطاق سيطرتنا ويكون لها تَبعاتٌ تُغيِّر مجرى الحياة، حسبما توصَّل مايكل لوبفر وإليزابيث لايمان. فلا يُرضينا مطلقًا أن نركنَ إلى الاعتقاد بأن حظَّنا الجيد أو العاثر ليس أكثرَ من مجردِ صدفةٍ عمياء، أو أننا التقينا بمحبوبنا الأبدي ليس بسبب خطةٍ كونية، ولكن لمجرد أننا أفرَطْنا في الشراب وتقيَّأنا مصادفةً على حذاء شخصٍ غريب جذَّاب.
حتى الباحثون الذين يجب أن يتحلَّوْا بالعقلانية والموضوعية يكونون عرضةً للتحيز النِّسبي. فيزعم الكثيرُ من المؤرخين أن الأحداث التاريخية الكبرى مثل الحرب العالمية الأولى لم يكن هناك مفرٌّ منها. هم يقولون إن أوروبا كانت على استعدادٍ للنزاع، وحتى إذا لم تقع الأحداث بالطريقةِ نفسِها التي وقعَت بها، ربما كان شيءٌ ما ليبدأ هذا النزاعَ الدولي. لكن هل هذه فكرةٌ لها أسانيدها التي تُبرِّرها؟
الحدث الأبرز الذي أشعل فتيلَ الحرب العالمية الأولى كان اغتيالَ الدوق النمساوي فرانس فرديناند خلال زياراته الرسمية إلى ساراييفو. فتنظيم راديكالي أطلقَ على نفسه «اليد السوداء» تآمرَ للتخلُّص من الدوق. وقد اختبأ ستةُ قتَلة على جانب الطريق وكانوا يحملون القنابلَ لإلقائها على موكبِ فرديناند عند مروره. ارتبك اثنان من القَتَلة ولم يستطيعا تنفيذ المهمة. أما الثالث فقد ألقى القنبلةَ على سيارة فرديناند، لكنه شاهدها ترتدُّ لتنفجر أسفل سيارة أخرى. وابتلع القاتل المُفترض حبةَ سيانيد كان قد زُوِّد بها وألقى بنفسه في نهرٍ قريب. ولسوء حظِّه، لم تكن الجرعةُ كافية؛ إذ لم تُصبه إلا بنوبات حادةٍ من التقيُّؤ، ولم يكن النهرُ أعمقَ من نصف قدم. وهجم عليه فورًا حشدٌ من المصطفِّين على جانبَي الطريق وألقَوا القبض عليه، في حين أن القتَلة الآخرين اختفَوا بهدوء وهم يجرُّون أذيالَ الهزيمة. غير أن فرديناند لم ينزعج كثيرًا بما حدث وقرَّر الاستمرار في زيارته. وفي وقتٍ لاحقٍ من اليوم، سلك جزءٌ من موكبه منعطَفًا خاطئًا وتوقَّف للحظاتٍ للَّحاقِ ببقية الموكب. وبالصدفة كانت سيارة فرديناند قد توقَّفت أمام المقهى الذي كان قد دخله أحدُ القَتلة المحبَطين ويُدعى جافريلو برينسيب، ليتحسرَ على فشله. كان برينسيب خارجًا من المقهى ليجد نفسَه على بُعد خطواتٍ قليلة من الدوق، ولم يُضِع الفرصة. فأخرج بندقيته وأطلق رصاصتَين على السيارة، ما أدَّى إلى مقتل فرديناند وزوجتِه.
من السهل أن تتخيَّلَ كيف أن تغييرًا بسيطًا في تتابُع الأحداث كان من الممكن أن يُنجِّي فرانز فرديناند من الموت. فلو أن فرديناند كان قطعَ زيارته، ولو أن قائدَ سيارته لم يسلك الطريقَ الخطأ، ولو أن برنيسيب لم يختَرْ ذاك المقهى أو لم يخرج في اللحظةِ ذاتها التي توقَّف فيها الموكب، لم تكن عمليةُ الاغتيال لتتمَّ أبدًا. من الأصعب أن تتخيَّل إلى أي مدًى كان هذا التغييرُ البسيط في التاريخ ستكون له انعكاساتٌ أوسعُ نطاقًا. فهل لم تكن لتندلع الحربُ بأكملها؟ وفقًا لدراساتٍ أجراها اختصاصيُّ العلوم السياسية ريتشارد ليبو، كثيرًا ما يرفض باحثو التاريخِ أو العلوم السياسية فكرةَ أن شيئًا تافهًا على ما يبدو — كسلوك قائد سيارة مهمل الطريق الخطأ — يمكن أن يُؤدِّيَ إلى تغييرٍ جذري في الطريقة التي تتكشَّف بها أحداث العالم. لكن منطقهم يشوبُه التحيُّز النِّسبي. فسعيًا منهم إلى المواءمة بين حجم السبب وحجم النتيجة، يجدون صعوبةً بالغة في الإقرار بأنَّ حدثًا بسيطًا يمكن أن يُؤدِّيَ إلى تغيير مسار التاريخ تمامًا. صحيحٌ أن أوروبا كانت على استعدادٍ للنزاع، لكن دون شرارةِ الاغتيال التي أدَّت إلى اندلاع النزاع، كان من الممكن أن تنحسرَ العداوات وتُتَجنَّب الحرب.
أزمةٌ (أُحبطت)
رأينا كيف أن التحيُّز النِّسبي يُمكن أن يؤثِّر على سلوكنا كما يؤثِّر على تفسيراتنا للأحداث التي تقعُ في حياتنا أو الأشياء التي حدثَت بالفعل في العالم. لكن هل يُؤثِّر على الطريقة التي نُفسِّر بها الأحداثَ التي تقع في العالم من حولنا؟ بما أن لِجانَ الأخلاقيات لا تستحسنُ عمومًا ما يفعله علماء النفس من صياغةٍ خفيةٍ للأحداث العالمية الكبرى فقط لمعرفة الكيفية التي يستجيبُ بها الناس؛ فقد استقرَّ الأكاديميون الذين يدرسون التحيُّز النِّسبي على اختلاقِ رواياتٍ وحسب. فالتمسُّك بالخيال يسمح للباحثين بالتلاعب منهجيًّا بالتفاصيل، جاعلين كلَّ شيء على حاله فيما عدا النتيجة. في أغلب الدِّراسات، قرأَت مجموعتان منفصلتان من الأشخاص القصةَ ذاتها، لكن أُعطيت نهايةُ قصةٍ مختلفة لكلِّ مجموعة. فكانت قصة المجموعة الأولى تنتهي بانفجار، والنتيجة كانت كارثيةً. أما قصة المجموعة الثانية فكانت تنتهي بتذمُّرٍ ضعيف لم يترتَّب عليه نتائجُ جسيمة.
فمثلًا شملت دراسةٌ أُجريت عام ٢٠١٠ تحت إشراف عالِمة النفس آنا إيبل-لام رواياتٍ عن انفجارٍ في مخزن الشحن بإحدى الطائرات. في إحدى تلك الروايات، ناضلَ الطيارُ من أجل الاحتفاظ بزِمام السيطرة والهبوط الطارئ، لكن الطائرة تحطَّمَت في نهاية الأمر، ما أدَّى إلى مصرعِ جميعِ مَن كانوا على متنِها. وفي روايةٍ أخرى، كان الفارق الوحيد هو أن الطيار، هذه المرةَ، كان قادرًا على جعلِ الطائرة تهبِطُ بنجاحٍ. وعندما أُعطي الجميعُ قائمةً بالأسبابِ الممكنة كي يختار من بينها، نزَع الأشخاص الذين قرَءوا الرواية التي تنتهي بالموت والدمار إلى افتراضِ أن الانفجار لا بد أن يكون قد حدث نتيجةَ مَكيدةٍ إرهابية أو سوءِ تصرفٍ متأصل من جانب فنيِّي شركة الطيران. أما الأشخاص الذين قرَءوا الرواية التي تنتهي نهايةً أخفَّ وطأة، فكانوا أكثرَ ميلًا إلى عزو الانفجار إلى سببٍ عادي أكثر مثل الماس الكهربي. ومن الأهمية أن نُشير إلى أن نتيجة القصة — سواءٌ كانت تحطُّمَ الطائرة أو هبوطَها — كان مآلُها إلى أفعالِ الطيار وليس الانفجار نفسه. فليس هناك سببٌ في أن تكون النتيجةُ قد أثَّرت على أحكامهم بشأن ما أدَّى إلى وقوع الانفجار. ومع ذلك، كلما كانت النتيجةُ أكبر، كان السبب وراءها أكبرَ، حسَب تفسيرهم.
في دراسةٍ أخرى، اختلقَت إيبل-لام وزملاؤها روايتَين اكتسحت فيهما نوبةُ تفشٍّ لأحد الأمراض مكتبًا للمحاسبة. ووفقًا لكلتا الروايتَين، أُصيب عشراتُ الموظفين بالعدوى وتطلَّب الأمرُ نقلَهم إلى المستشفى. بالنِّسبة إلى مجموعةٍ من القرَّاء، انتهت الرواية بأن كلَّ موظف تَماثل للشفاء تمامًا وعاد إلى عمله؛ ولم يحدث أيُّ مكروه. لكن بالنِّسبة إلى المجموعة الأخرى، انتهت الرواية بإشارةٍ أكثرَ قتامة، إلى أن المرض فتَك بالكثيرين من الأشخاص الذين أُصيبوا بالعدوى. ومن جديدٍ، قيَّم القراءُ مدى أرجحية الأسباب المحتملة. بعض هذه الأسباب كانت كبيرة؛ لعل التفشِّيَ كان بسبب الحرب البيولوجية، أو نتيجة عامل مُمرِض فائقٍ شديدِ العدوى على نحوٍ غيرِ مألوف. أما الآخرون فكانوا أكثرَ اعتدالًا في تقييمهم؛ ربما كان سببُ التفشي هو عدوى بكتيريةً عادية، أو نتيجةَ التقاطِ أحد الموظفين فيروسًا عندما كان مسافرًا بالخارج. وكما كان متوقَّعًا، اعتبر الأشخاص الذين أُخبروا بأن نوبة التفشِّي كان لها تداعياتٌ خطيرة أن أسبابًا كبيرة كانت أكثرَ أرجَحيةً، في حينِ أن الذين أُخبروا بأن النتائج كانت أخفَّ وطأةً اعتبروا الأسباب العادية نسبيًّا أكثرَ وجاهة.
بل إن مبدأ المواءمة بين حجم الأسباب وحجم النتائج يمتدُّ ليشملَ تفضيلًا للأسباب الأكبرِ ماديًّا بالنِّسبة إلى الأحداث الجسيمة. ففي الدراسة المفضَّلة لديَّ شخصيًّا عن التحيُّز النِّسبي، اختلقَت روبين ليبوف ومايكل نورتون قصةً عن تفشِّي مرضٍ غيرِ مألوف بين الحيوانات في إحدى حدائق الحيوان. وفي إحدى الرِّوايتين، انتشرت العدوى في الحديقة، مما أدَّى إلى نُفوق معظم الحيوانات قبل أن تتمَّ السيطرةُ على العدوى. وفي الرواية الأخرى، تمكَّن القائمون على حديقة الحيوان من السيطرة على المرض بسرعة، بحيث لم يَمُت سوى عددٍ قليل من الحيوانات التعيسة الحظ. وعُزي مصدر الوباء إلى عامِلَين؛ إما أرنب صغير انضمَّ مؤخرًا إلى الحديقة، أو دبٍّ ضخم وُضع فيها مؤخرًا. وعندما أُخبر القراء بأن أغلبَ الحيوانات قد نفقَت، كان السبب الأكبر حرفيًّا — الدُّب الضخم — أكثرَ أرجحية وراءَ تفشي المرض. لكن عندما لم يَمُت سوى عددٍ قليل من الحيوانات، اتهَم أشخاصٌ أكثرُ الأرنبَ.
تُشير دراساتٌ أخرى إلى أن الأشخاصَ يُفضِّلون الأسباب الجسيمة لتفسيرِ الجرائم الجسيمة، مثل عمليات القتل الوحشية والكوارث الطبيعية المدمِّرة للغاية، مثل الأعاصير والحوادث المدمِّرة مثل تحطُّمِ طائرةٍ أدَّى إلى مصرعِ عددٍ كبير من الأشخاص. أما الجرائم الأقلُّ وطأةً والكوارثُ الأقلُّ حدَّة والحوادث التي لا يُقتَل فيها أحد فتُعزى إلى أسبابٍ عاديةٍ أكثر. ومن المثير للاهتمام أن نُشير إلى أن أنواع القصص التي استخدمها الباحثون تتعلَّق على نحوٍ دقيق بنوعيات الأحداث — الكوارث والأمراض والجرائم — التي تُؤدي إلى إطلاقِ بعضِ أكثرِ نظريات المؤامرة رَواجًا. فيزعم أصحابُ نظريات المؤامرة أن فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب/الإيدز سلاحٌ بيولوجي، وأن تقنية التلاعب بالطقس هي السبب في إعصار كاترينا، وأن حوادثَ إطلاقِ النارِ الجماعيِّ مثل مدرسة ساندي هوك كانت من تدبير الحكومة، وأن الرحلة رقم تي دبليو إيه ٨٠٠ أُسقِطَت بسبب خللٍ بسيط في أنبوبِ إمداد الوقود ولكن بتدبيرٍ من الجيش الأمريكي. والدراسات التي ذكَرناها إلى الآن لم تسألِ الناس مباشرةً عما إذا كانوا يعتقدون أن ثمَّة مؤامرةً تقف وراء ما حدث؛ لكنَّ دراساتٍ أخرى سألتهم عن ذلك سؤالًا مباشرًا.
إصابةُ الهدف وعدم إصابته
هبْ أنك في المرة القادمة التي تُقلِّب فيها في هاتفك المحمول، قرأتَ عنوانًا رئيسًا لخبرٍ مهم يقول: «رجلٌ يُطلق الرصاصَ على الرئيس ويُرديه قتيلًا.» استنادًا إلى هذا العنوان وحدَه ودون أيِّ شيء آخر، ما احتمالاتُ اعتقادك أن الرجل المسلَّح لم يكن يعمل بمفرده؟ الآن هبْ أنك قرأتَ عنوانًا رئيسًا مختلفًا بدرجةٍ طفيفة يقول: «رجلٌ يُطلق الرَّصاصَ على الرئيس، لكن لم يُصبه.» هل ستصبح أكثرَ ميلًا إلى الشعور بوجودِ مؤامرة أو أقلَّ ميلًا؟ إذا كنت على شاكلةِ عيِّنات الاختبار الذي أُجري ضمن دراسة عالِمَي النفس كلارك مكاولي وسوزان جاك عام ١٩٧٩ — وهي واحدة من أولى الدراسات السيكولوجية التي بحثَت مسألة الاعتقاد في نظريات المؤامرة — فثَمة احتماليةٌ أكبر لأن تعتقد أن عملية الاغتيال الناجحةَ كان سببُها مؤامرةً، وأن المحاولةَ غيرَ الناجحة كانت عملًا فرديًّا من جانب الرجل المسلَّح.
ثم، بعد مرور ثلاثةِ عقود، كرَّر عالِما النفس باتريك ليمان وماركو سينيريلا بجامعة لندن التجرِبةَ ورصَدا النمط نفسَه. لكنهما أقرَّا تفسيرًا بديلًا للنتائج. فلعل الناس كانوا يُفكرون ببساطةٍ في أن الشخص الذي حاول قتْل الرئيس لكنه فشل كان يعمل على الأرجح بشكلٍ منفرد، وكان أخرقَ يتَّسم بالحماقة؛ فبالتأكيد المؤامرات الشريرة لديها ممارساتٌ أكثرُ صرامةً عند تجنيد أشخاص. إذا كان هذا صحيحًا، فإن نمطَ النتائج قد يكون أقلَّ ارتباطًا بالتحيُّز النِّسبي اللاشعوري من الاستدلال المنطقي العقلاني. في واقع الأمر، كان مكاولي وجاك قد وجَدا أدلةً تُشير إلى أن الوضع ربما يكون على ذلك النحو. فعندما سألا ببساطةٍ المشاركين في الدراسةِ إلى أيِّ مدًى هم يتوقَّعون من الشخص الذي يعمل لصالحِ مؤامرةٍ ما أن يكون فعَّالًا في أداء المهمة، قالوا إنه لا بد أن يكون على قدْرٍ كبيرٍ من الفعالية. ومن ناحيةٍ أخرى، توقَّعوا أن يكون المُسلحُ الذي يعمل منفردًا أقلَّ كفاءة. هذا الفارق وحدَه يُمكن أن يُفسِّر الحقيقةَ القائلة بأن الاغتيال الناجح كان سببُه على الأرجح مؤامرة.
بوضعِ هذا في الحسبان، أضاف ليمان وسينيريلا سيناريوهَين جديدَين. في أحدهما، كان قد ذُكر أن الرئيس أُصيب برصاصةٍ من جانبِ أحدِ القَتَلة، لكنَّه نجا بمعجزة؛ فبالصدفة البحتة، على حدِّ قول إحدى المقالات الإخبارية إن الرصاصة كادت أن تُصيب قلبَ الرئيس، لكن هذا لم يحدث ولم يُصَب إلا بجرحٍ بسيط في جسده. وفي مقالةٍ أخرى، لم تُصِب الرصاصةُ التي أطلقها القاتلُ هدفها، لكن بعد وقتٍ قصير من محاولة الاغتيال، تُوفِّي الرئيس بسببِ أزمةٍ قلبية. في هذه السيناريوهات الجديدة، ليس هناك صلةٌ بين المصير النهائي للرئيس وكفاءة القاتل. لكن بالرغم من كسر العلاقة السببية بين القاتل والنتيجة، لا تزال تبدو أفكارُ الناس حول القاتل متأثرةً بالتحيُّز النِّسبي. فعندما مات الرئيس، حُكِم على القاتل المزعوم بأنه طرفٌ في مؤامرةٍ على الأرجح، حتى بالرغم من أن رصاصته لم تُصِب الهدف (وذكر التقرير الإخباري تحديدًا أن الأزمة القلبية كان سببها ازدحامَ أجندة الرئيس وليس محاولةَ الاغتيال). وعندما نجا الرئيس، اعتُبر القاتل على الأرجح بأنه مسلَّح يعمل منفردًا، حتى بالرغم من أنه صوَّب طلقته بدقةٍ ولم يجعله يُخفق في أداء مهمته سوى الصدفةِ البحتة.
وفي دراسةٍ أخرى، وضعت روبين ليبوف ومايكل نورتون (وهما الباحثان نفسُهما اللذان أجرَيا دراسةَ تفشي مرضٍ في إحدى حدائق الحيوان) سيناريوهَين من سيناريوهات الاغتيال استُبعِدت فيها أكثرَ الحلْقةُ السببيةُ بين القاتل والنتيجة. فقد اختلقا مزيدًا من التقارير الإخبارية الوهمية، التي تزعم هذه المرةَ أن صحيفةً بريطانية كانت قد انتقدت رئيس دولة أجنبية غيرِ محددةٍ اغتِيل مؤخرًا؛ ومن ثَم أثارت هجماتٍ إرهابيةً ضد بريطانيا. وكان لإحدى الروايات تداعياتٌ رهيبة؛ إذ أشارت إلى أن بريطانيا كانت قد أعلنت الحربَ ضد هذه الدولة نتيجةَ الهجمات. وفي الرواية الثانية، كانت النتائجُ بسيطة: استجاب رئيسُ الوزراء البريطانيُّ بسلمية؛ ومن ثَم تجنَّبت البلادُ الهجمات. وهكذا حددَت استجابةُ رئيس الوزراء العواقبَ المترتبة على الاغتيال. وبالرغم من عدم وجود ارتباطٍ مباشرٍ بين الاغتيال المبدئي وحجم العواقب النهائية المترتبةِ عليه، اعتقد المشاركون أن الاغتيالَ كان مؤامرةً على الأرجح عندما كان حجمُ العواقب كبيرًا. وعندما كانت العواقبُ محدودة نسبيًّا، مال المشاركون إلى الاعتقاد بأن الاغتيالَ كان عملًا فرديًّا.
تجرِبةٌ أخرى أجْرَتها ليبوف ونورتون، اعتمَدا فيها على سيناريوهاتٍ تخيُّليةٍ لرؤساءَ تعرَّضوا للاغتيال، ولكنهما ذكرا صراحةً جون كينيدي. فقد أخبَرا القراءَ بأحد سيناريوهين؛ إما أن مقتل كينيدي قد أدَّى إلى إطالةِ أمدِ حرب فيتنام، ما أدَّى إلى مقتل ٤٠ ألف جندي أمريكي إضافي، وإما أن عملية الاغتيال لم يكن لها تأثيرٌ مطلقًا على الحرب أو عدد الضحايا. حتى دون ذِكر شيء عن عدد الضحايا الإضافيين، أيد ٦٤٪ من المشاركين في التجرِبة الرأيَ القائلَ بوجودِ نظرية مؤامرة وراء الاغتيال. غير أنه عندما صُعِّدت العواقب، ارتفع عدد أصحاب نظريات المؤامرة ليُمثل ٧٥٪ من المشاركين. توضح ليبوف ونورتون أن النتائج التي توصَّلا إليها تُبيِّن أن الأمرَ لا يقتصرُ على مسألةِ ما إذا كان نجاحُ أو فشل عملية اغتيال يُحدِّد مدى جسامة العواقب، ولكنه يشمل أيضًا التداعياتِ الأوسعَ نطاقًا بالنِّسبة إلى المجتمع.
أما الاستقصاء الأكثرُ استفاضةً للمؤامراتية والتحيُّز النِّسبي إلى الآن؛ فقد أجراه الباحثان الهولنديان جون-فيلم فون بروين وإريك فون دايك. فقد ابتكَرا تقاريرَ إخباريةً تُعطي تفاصيلَ عن مجموعةٍ من الأحداثِ البائسة التي يُفترض أنها ألمَّت برجلٍ يُدعى يايِي جودو. أوضحت التقارير الإخبارية أن جودو كان زعيمًا قويًّا من زعماء المعارضة السياسية في دولةِ بنين الأفريقية، وكان سيفوز بالانتخابات على الأرجح التي كان من المفترَض أن تُجرى الشهر القادم. (بنين دولةٌ حقيقية، لكن جودو والأحداث التي وقعَت كانت بالكامل من مخيلةِ الباحثَين، وقد أوضحا ذلك للمشاركين بعد انتهاء الدراسة.) في الدراسة الأولى، زعم التقريرُ المختلَق أن جودو تعرَّض لحادثِ سيارة. وبالنِّسبة إلى المجموعة الأولى من المشاركين في الدراسة، زعم التقريرُ أن جودو فارق الحياة، وأن الانتخاباتِ الوشيكةَ كانت ستُؤجَّل إلى حينِ إشعارٍ آخر. وبالنِّسبة إلى المجموعة الأخرى، نجا جودو من الحادث بأعجوبةٍ ولم يُصَب إلا بإصابات طفيفة، كما أن الانتخابات ستُجرى في موعدها المخطَّط له. وفي الدراسة الثانية، زعم التقرير أن قائد دراجة بخارية اقترب بدراجته بموازاة سيارة جودو عند توقُّفها في إحدى إشارات المرور وأطلق عليه النار. وكالعادة، كانت هناك نهايتان متوازيتان؛ إمَّا أن جودو أُصيب بالطلقة النارية في رأسه ومات، وإما أنه أُصيب في ذراعه ونجا. وكما قد تتوقَّع الآن، عندما مات جودو، إما في حادثِ سيارة أو نتيجةَ إطلاق النار عليه من قِبَل قائد الدراجة البخارية، كان القراءُ، على وجه العموم، أكثرَ ميلًا إلى تأييدِ تفسيرٍ مؤامراتي.
لكن فون بروين وفون دايك أضافا متغيرًا آخرَ إلى المزيج. فقد اكتشفا أن هناك عاملًا أساسيًّا يتعلَّق بما إذا كان التحيُّز النِّسبي يُؤثِّر على تفكيرنا وهو درجةُ تعاطفنا مع الأشخاصِ الذين تأثَّروا بالحدثِ موضعِ البحث. فعندما طُلب من المشاركين في التجرِبة إعطاءُ حكمٍ موضوعي عن مدى أرجحيَّة المؤامرة، لم يكن لحجمِ العواقب (سواءٌ موت أو نجاة جودو) أيُّ تأثير على مسألةِ ما إذا كانوا على قناعةٍ بنظرية مؤامرة أو لا. لكن عندما طُلب منهم تخيُّلُ أنفسهم مكانَ مُواطن من دولة بنين، أصبحوا أكثرَ ميلًا إلى تفسير الحدث الأكبر بأنه ناتجٌ عن مؤامرة. وفي دراسةٍ أخرى، بدلًا من التلاعُب مباشرة بما إذا كان المشاركون تبنَّوا منظورَ الأشخاصِ الذين تأثَّروا بالحدث، قاس الباحثون القدرةَ الطبيعية لدى كلِّ مشاركٍ في التعاطف مع الآخرين. وقبلَ قراءةِ المقال الإخباري الوهمي، تلقَّى المشاركون اختبارًا حول القدرةِ على تبنِّي المنظور؛ حيث طُلب منهم تخمينُ العاطفة التي يشعر بها شخصٌ ما عند نظرهم إلى صورةٍ لعينَي هذا الشخص مع إخفاء بقية الوجه. وكلما كانت الدرجةُ التي يُحرزها المشاركون أعلى في هذا الاختبار، كانت أحكامُهم أكثرَ ميلًا إلى الاتساق مع التحيُّز النِّسبي.
قبل ذلك، رأينا كيف يُمكن أن يُؤثِّر التحيُّز النِّسبي على الطريقةِ التي نُفسِّر بها الأحداثَ التي تقع في حياتنا. نُحيل الأشياءَ البسيطة إلى الصدفة، لكن عندما يُلمُّ بنا شيءٌ يُغيِّر مسار الحياة، نُحيله إلى القدَر. وما تشير إليه نتائجُ فون بروين وفون دايك هو أنه عندما ننساق وراءَ نظريات المؤامرة بشأن أحداثٍ كبيرة — حتى تلك التي حدثَت في مكانٍ ما يبعُد عنا بكثير وليس لها تأثيرٌ كبيرٌ مباشرٌ على حياتنا — ربما يكون السبب في ذلك هو أننا لا نستطيعُ أن نُحجِم عن تخيُّلِ أنفسنا في مكان الضحايا الحقيقيِّين. وعندما يُطلب منا أن نكون موضوعيِّين، نعتبر المحنةَ التي ألمَّت بشخصٍ ما مجردَ صدفة. وعندما نرى ما حدث هجومًا شخصيًّا، يُلقي التحيُّز النِّسبي بظلالِه على أحكامنا.
الرئيس فارق الحياة
إجمالًا نقول إن هذه النتائجَ تُساعد في تفسير السبب وراء إحاطةِ أكثرِ نظريات المؤامرة رواجًا لبعضِ أكثرِ الأحداثِ جسامةً في التاريخ. فعندما تحدُث أشياءُ كبيرة في العالم — الموت قبل الأوان لشخصية عامة، ثورة غير مسبوقة، كارثة طيران مأساوية، عمل إرهابي صادم، جائحة مرض قاتل جديد — كثيرًا ما لا تُؤثِّر فينا الرواياتُ الرسمية. فعندما يُقال لنا إن موت الأميرة ديانا حدث نتيجةً لحادثِ سيارةٍ عادي، وإن جائحة الإيدز سببها عاملٌ مُمرِض بسيط، وإن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقعَت نتيجةً لعدم كفاءة ١٩ مختطفًا للطائرات، وإن الثورة الفرنسية نجَمَت عن حالاتِ استياءٍ وتطلُّعاتٍ بسيطةٍ كثيرةٍ تجمَّعَت مصادفةً في وقتٍ واحد — لا تَرْقى هذه الأسبابُ إلى حجم العواقب. ونظريات المؤامرة تُتيح لنا إشباعَ رغباتنا اللاشعورية.
وفي مقالةٍ نُشرت عام ١٩٧٥ في مجلة «واشنطن مانثلي»، رصد الصحفيُّ توم بيثيل التناقضاتِ المرتبطةَ بموت الرئيس كينيدي. فقد كتب يقول إن الرواية الرسمية للأحداث تتطلَّب منا تصديقَ أن الاغتيال وجميع عواقبه — بما يشمل، لربما، حرب فيتنام الكارثية — كان عملًا فرديًّا نفَّذَه رجلٌ «نهض، على ما يبدو، من فراشه، وهو متعكِّر المزاج ذاك الصباح، ووجدَ بندقيةً في غرفته. السبب لا ينسجم مع النتيجة.» ويُعبِّر كينيث ران أحدُ المهتمِّين بقضايا الاغتيالات عن المعنى ذاتِه. فقد كتب يقول: «يستحيل تمامًا أن تُصدِّق أن شخصًا بسيطًا جبانًا لديه بندقية قيمتها ١٢٫٩٥ دولارًا أمريكيًّا يُمكنه أن يقتل زعيمَ العالم الحر.» الحقيقة التي تبعث على الارتياح هي أن الأشياء الصغيرة يمكن أن تكون لها عواقبُ كبيرة. فأحيانًا الملوك يُطيح بهم الفلَّاحون البسطاء. وعندما يحدث هذا، لا يُمكننا أن نمنع أنفسنا من التَّوق إلى تفسيرٍ بديلٍ يتناسبُ أكثرَ مع النتيجة. واختتم بيثيل كلامه بالقول: «في حالة اغتيال كينيدي، هذا يعني البحثَ عن مؤامرة؛ ويُفضَّل أن تكون المؤامرة كبيرة.»